نظرة فى "شبح قايين بين إيدِثْ سِيتْوِلْ وبدر شاكر السياب" لعلى البطل
د. إبراهيم عوض

فى كتابه: "شبح قايين بين إيدِثْ سِيتْوِلْ وبدر شاكر السياب" (دار الأندلس/ بيروت/ ١٤٠٤هــــ ـــــــ ١٩٨٤م) يقارن د. علـى البـطـل بـين قصيدة "The Shadow of Cain" للشاعرة الإنجليزية المذكورة وبعض أشعار بدر شاكر السياب، منطلقـا مـن أن الشاعر العراقى قـد قـرأ أعمال سِيتْوِلْ، وبالذات هذه القصيدة، وتأثر بها فى إبداعه الشعرى. وقد خصص لهذه المسألة الأخيرة فصلا كاملا بعنوان "اتصال السياب بشعر سيتول" (ص ۷۱- ٧٥)، تتبع فيه ما قاله الشاعر العراقى عن سِيتْوِلْ وغيرها من الشعراء الإنجليز وقراءته لأشعارها وإعجابه بقصيدتها: "ظل قابيل: The Shadow of Cain، التى نظمتها عام 1948م، وانتهى إلى أن تأثر السياب بسِيتْوِلْ بدأ منذ عام 1951م فى قصيدته: "فجر السلام"، التى يحمل أحـد أناشيدها اسم "ظـل قابيل"، وأنه قد ترجم لهـا بعـض شـعـرهـا عـام ١٩٥٥م، إلى جانب إقراره فى 1956م أنه كان ينظم شعره فى الفترة السابقة متأثرا بها وبأبى تمام من حيث "إدخال عنصر الثقافة والاستعانة بالأساطير والتاريخ والتضمين فى كتابة الشعر".
وهـذ القصيدة هى إحدى ثلاث قصائد نظمتها الشاعرة الإنجليزية لتصوير أهوال الانشطار الذرى كما خَبَرَتْه وخَبَره العالم فى هيروشيما حين ألقت الولايات المتحدة عليها فى نهاية الحرب العالمية الثانية قنبلتها التى أبادت كثيرا من سكانها وشوهت كثيرين آخرين. وفى تلك القصيدة تدين الشاعرة العنف البشرى وترى أنه هو سبب الاضطراب العالمى الذى تعيشه الإنسانية فى عصرنا هذا، كما تعزو الانهيار الذى أصاب العالم فى تلك الكارثة إلى جشع "ديفز: Dives" للذهب وسائر الشهوات المادية، ديفز الذى يمثله الآن تجار السلاح المنتهكون عِرْض السلام (انظر فى المشباك كتاب English" Literature" للكاتب جريــث بنجــامين (W. Benjamin Griffith)، وهو معروض بالاتفاق مع Barron's Educational Series، وكذلك مقال فردريك جليشر (Frederick Glaysher): Poetry in the Nuclear Age، على الرابط التالى: "www.fglaysher.com/NuclearA.htm". وديفـز هـذا هـو الرجل الغنى الذى ورد ذكره فيما ضربه السيد المسيح (حسب رواية لوقا) من مثلٍ للفقير المعذب الذى ابتلاه الله فى كل أنحاء جسده بقروحٍ كانت الكلاب تلحسها، ولم يكن يجد مع ذلك ما يسد رَمَقه، فكان يتطلع إلى الفتات المتساقط من مائدة ذلك الغنى، الذى كان يشمئز منه ويحتقره ويطرده بعيدا عنه دون أن يمكنه من شىء من ذلك الفتات. فلما مات الاثنان وجد الفقير المقروح ملاذا فى نعيم الجنة فى حضن إبراهيم عليه السلام، فى حين لم يلق الغنى المتغطرس القاسى القلب إلا أهوال الجحيم والعطش المهلك دون أمل ولو فى بلة ريق من إصبع ذلك الفقير الذى كثيرا ما ذأمه بعيدا عنه دون أن يحنّ عليه بفتاتة مما يتساقط من مائدته.
والقصيدة الإنجليزية طويلـة معـقـدة تعتمد على كثير مـن المعـارف الجيولوجية والبيولوجية والفلكية والتاريخية والأسطورية والكتابية (نسبة إلى الكتاب المقدس)، ولا تُسْلِم نفسها للقارئ بسهولة ولا بصعوبة، بل تترك مكانا واسعا للتخمينات التى تعصر المخ عصرا ثم لا يصل القارئ رغم ذلك إلى شىء واضح أو مُطَمْئِن. كما تقوم فى أجزاء كثيرة منها على اللمحات السريعة المتباعدة بل المنفصلة التى يصعب جدا جدا أن يلتقطها القارئ أو أن يربط بعضها ببعض بحيث تكون جميعا وحدة واحدة، وكأنها كُتِبَتْ كلها، أو على الأقل: كتبت أجزاء غير قليلة منها، فى غير حالات الصحو الذهنى.
وبالمناسبة كانت الشاعرة، حسبما قرأت عنها، من المسرفات فى الشرب. وبالمناسبة أيضا فكثير من شعرائنا اليوم يَنْحُون هذا المنحى الغريب يُغَطّون به خواءهم الفكرى والفنى متصورين أن هذا من شأنه أن يلقى الرعب منهم فى قلوب القراء. والبلية أن لدينا أيضا فريقا من هؤلاء المسمَّيْن: "نقادا" يرافئونهم على هذا السخف ويُمْلُون لهـم فـيـه (أو بالتعبير العامى: "يُثَخِّنون آذانهم") موهمين القراء المساكين أن مثل هذا الكلام غير القابل للفهم ولا للتذوق هو الفن كل الفن! ومع ذلك كله فإن الدكتور البطل يأخذ فى شرح القصيدة وكأنها قصيدة عادية سلسة يمكن شرحها والعثور على إجابة لكل قضية تثيرها بمنتهى السهولة، فهو حاضر دوما لا يقف حائرا، بَلْهَ أن يكون عاجزا عن فهم شىء فيها. وأغلب الظن أنه قد اعتمد على غيره فى هذا الشرح الذى لا تسعف القصيدة به بسهولة أبدا. ولقد أقر بأن زوجتـه الأسـتاذة المتخصصة فى الأدب الفرنسى قد عاونته، إلا أننى ما زلت أرى أن المعاونة لم تقتصر على السيدة قرينته، وإن لم يذكر شيئا عن ذلك سوى ما كتبه الدكتور إحسان عباس فى كتابه عن السياب مما رأى هو أنه غير كاف وأن دراسته هذه هى الكفيلة بسد هذه الثغرة (ص ۷، ۹).
لنأخذ مثلا ما كتبه بخصوص لعازر (ص 48- ٤٩)، وكذلك سنبلة القمح التى لم تولد وفسرها هو بأنها تعنى عودة السيد المسيح الذى ينتظر العالم مجيئه ثانية (ص 54)، ففيما كتبه هنا وهناك أشياء لا يستطيع أن يكون قد عرفها من تلقاء نفسه لأنها ليست جزءا من ثقافتنا ولا هى مما ينتمى إلى تراث البشرية العالمى الذى يعرفه كل مثقف أيا كانت ثقافته، لكنه مع ذلك لم يذكر أى مرجع استمد منه هذا الذى كتب، على العكس من إشارته فى مواضع أخرى إلى المراجع التى ارتكن إليها. إلا أنه بكل تأكيد أيضا كان فى بعض المواضع الأخرى يتكلم بما فى نفسه بكل ثقة مالئاً الفجوات التى تفصل بين لمحات القصيدة المنفصلة مما أشرت إليه من قبل، فيقع فى الخطإ غير دار أنه قد أخطأ، على الرغم من أنه، فيما هو واضح لى، لم يكن على معرفة كافية بالإنجليزية ولا بشعر الشاعرة، ومع ذلك لم يُعَنِّ نفسه هنا، حسبما أتصور، بالتحقق من صواب ما يقول. وعلى العكس من ذلك فإنه، فى كل معلومة تاريخية أو جيولوجية أو بيولوجية أو أسطورية يوردها، يذكر المرجع أو المراجع التى استند إليها فى ذكر ما يراه هو الشرح السليم لما فى القصيدة من معلومات أو إشارات من ذلك النوع. وقد أورد أسماء هذه المراجع فى آخر الكتاب، وكلها تقريبا دوائر معارف ومعاجم وكتب تاريخ وتراجم أدبية.
ويلفت النظر فى المقارنة التى أجراها د. البطل بين القصيدة الإنجليزية وشعر السياب تكرُّر الحكم على هذه الصورة أو تلك الفكرة أو العبارة من شعر السياب بأنها متخلفة كثيرا عن نظيرتها فى لغة سِيتْوِلْ أو صورها، وهو ما ينبغى أن يكون معناه إتقانه الشديد للغة الإنجليزية من ناحية ولشعر الشاعرة من ناحية أخرى، فهل يا ترى كانت معرفته بهذين الموضوعين ترتقى إلى ذلك المستوى؟ فأما بالنسبة لشعر الشاعرة فإنه لم يتطرق إلى أى شىء فيه سوى القصيدة المذكورة، ولو كان رجع إلى شعرٍ لها غير تلك القصيدة لظهر أثر هذا فى الدراسة التى بين أيدينا أو لقال ذلك على الأقل. أمّا، والدراسة تخلو تماما من أى لفظ عن شىء من ذلك الشعر فيما عدا القصيدة التى اتخذها موضوعا لدراسته، فمعنى ذلك بكثير جدا من الاطمئنان أنه لم يقرأ شيئا من ذلك الشعر سواها.
فكيف إذن تُسَوِّل لواحد منا نفسُه الحكم على ما لم يـَخْبُره، وبخاصة أنه ليس حُكْما عابرا ولا حكما يتعلق بمسألة عارضة، بل هو حكم يتصل بصميم النقد الأدبى والملاحظات الأسلوبية والبلاغية والفنية الدقيقة ومسيرة التطور الإبداعى لدى سِيتْوِلْ وتقويم نتاجها فى جملته؟ إنه، حسبما نستخلص من مراجعه، لم ينظر إلا فى مقال "دائرة المعارف البريطانية" عن إديث سِيتْوِلْ، ومثل هذا المقال لا يمكن أن يُمِدّ الباحث بما يمكّنه من إصدار تلك الأحكام. أما إن كانت تلك الموسوعة قد أمدته بما يحتاجه فى هذا الصدد، أفلم تكن الأمانة العلمية تقتضيه أن يذكر هذا؟
ونبدأ بالترجمة، ففيها (كما أتصور) مفتاح الكلام فى بقية الملاحظات: وأبدأ منها بترجمته كلمة "shadow" فى عنوان القصيدة بـــ "شبح"، مع أن معناها واضح تماما، ولا يوجد فى استعمالها لدى سِيتْوِلْ ما يجعلنا نتنكب معناها الذى يعرفه كل الناس، وهو "الظل". بل إن المترجم ذاته قد ترجمها مرتين فى القصيدة بـــ "الظل" (ص 34، ٩٧). ويؤكد أنها لا تعنى هنا إلا ذلك أن الشاعرة قد كررتهـا فى بيـت واحـد مستعملةً فى المرة الثانية كلمـة "shade"، التى لا يمكن أن تعنى "شبحا" ولو على سبيل المجاز. كما أن السياب قد استعمل كلمة "الظل" فى تأثره بهذه القصيدة كما هو واضح، ولم يقل: "شبح" قَط. بل إنه فى عنوان إحدى قصائده (حسبما يخبرنا الدكتور البطل نفسه) قد استخدم لفظ "ظل" فقال: "ظل قابيل" (ص ۷۳)، فلماذا إذن ترك مترجمنا الصواب هنا إلى الخطإ؟
وبالمثل نرى المترجم قد ترك اسم "قـايين" فى عنوان القصيدة وفى دَرْجها كما هو، وأرى أنه كان يكون أفضل لو قال بدلا من ذلك: "قابيل" حسبما هو معروف عندنا نحن المسلمين. لقد ذكر الدكتور البطل أنها تُكْتَب أيضا فى التراث الإسلامى: "قاين" أو "قـائن" كمـا فى "مروج الذهب" للمسعودى وفى بيتٍ لعلى بن الجهم فى منظومته عن الخليقة (ص 43). لكن فاته أن الشائع (لا "أحيانا" كما قال) هو "قابيل" (فى مقابل "هابيل" وزناً وقافيةً). ولقد راجعتُ "الموسوعة الشعرية" الضوئية فلم أجد من الشعراء أحدا استخدم "قايين" إلا أربعة هم أبو الفضل الوليد وإلياس أبو شبكة وإلياس الصائغ وحماد الباصـونى، أى أن مسلما واحدا فقط من بين الشعراء الذين تضمنتهم الموسوعة المذكورة استخدم كلمـة "قـايين"، وهـو حمـاد الباصـونى (المصرى، وكان مدرسا للغة العربيـة أثنى عليه وعلى أدائه فى التدريس الشاعر على الجارم، الذى كان يعمل آنذاك مفتشا عليه)، ولهذا دلالته، فضلا عن "قاين"، التى استخدمها الشاعر العباسى على بن الجهم 3 مرات لا مرة واحدة كما قد يُفْهَم من كلام الدكتور البطل. بل إن السياب نفسه قد استعمل دائما: "قابيل" لا "قايين". ليس ذلك فقط، بل للسياب (كما يقول الدكتور البطل ذاته) قصيدةٌ من الواضح أنه قد نحا فيها نحو سِيتْوِلْ، إذ جعل عنوانها "ظل قابيل"، لكنه قال: "قابيل" وليس "قايين". أما فى الكتابات النثرية العربية فى الموسوعة المشار إليها فقد لَقِيتُ "قاين" ثلاث مرات لا غير: بواقعِ مرةٍ عند كلٍ من ابن هشام فى "السيرة النبوية"، والإبشيهى فى "المستطرَف"، والشدياق فى "الساق على الساق". لكنى لم أجـد لــ "قائن" أى استخدام فيها: لا فى الشعر ولا فى النثر، بخلاف "قابيل"، التى وجدتها استُعْمِلَتْ تِسْعَ عَشْرَةَ مرةً شعراً فى القديم والحديث، وستّاً وخمسين مرة (فيهما أيضا) نثرا، وهو ما يؤكد ما قلته من أن الذوق العربى يُؤْثِر "قابيل"، وإن كنت لا أخطّئ المترجم لتنكبه ما يفضّله ذلك الذوق، فهو اجتهاد منه أرى أنا أن غيره أفضل، وهذا كل ما هنالك.
وقبل أن أمضى فى رصد بقية الملاحظات المتعلقة بالترجمة لا بد أن أبين أن تراكيب الكلام فى الشعر لا تجرى دائما على طريقتها فى النثر، وذلك بسبب قيود الوزن والقافية والتكثيف الزائد كما هو معروف، علاوة على أن اللغة الإنجليزية تَعْرَى عن الإعراب، الذى كان من شأنه لو وُجِد أن يساعد المترجم على تتبع خيط الكلام على نحو أسهل. فإذا أضفنا إلى هذا وذاك التعقيدَ الذى يسربل القصيدة كلها، وتعمّدَ الإغراب بدافع الحذلقة، والقفزَ من فكرة أو خاطرة إلى أخرى دون رابط واضح مما أشرنا إلى بعضه قبلا، أدركنا مدى الصعوبة التى عاناها المترجم وهو ينقل هذا النص إلى العربية. وأنا ما كنتُ لأَلومه كثيرا لو أنه صارحنا بأن القصيدة صعبة وأن ترجمتها أصعب، وأطْلَعَنا على ما صنعه فى ترجمة هذه العبارة أو ذلك التركيب مثلا، ولماذا تنكب الترجمة المباشرة هنا أو هناك... حتى نكون على بينة مما فعل. لكنه للأسف قد مضى على وجهه وكأن "الأشياء معدن"، على حين أنها ليست كذلك على الإطلاق، ثم لم يكتف بهذا بل زاد ففسر القصيدة دون تلجلج أو تردد، وكأنه فعلا قد وقع على قصد الشاعرة، التى أشك فى أنها هى نفسها كانت تعى تفصيلاته جيدا. وهذا ما دفعنى إلى أن أرفع يدى كـــ "نقطة نظام".
ولا أحب أن أقف طويلا أمام كل شىء فى الترجمة، بل أكتفى بالإشارة إلى بعضها فحسب كترجمته لكلمة "banners" بــــ "بيارق" (وذلك فى قوله: "تحت بيارق هائلة وألوية عظيمة للقُرّ العتيق"/ ص ٢٢)، وكنت أُوِثر لو قال بدلا من هذا: "تحت ألوية البرد القديم وأعلامه"، ابتعادا عن إيحاءات كلمة "بيارق" المرتبطة بالموالد والاحتفالات الشعبية عندنا فى مصر، وكذلك ترجمته لـ"oscillations" بـ"تغييرات" فى قوله: "هنالك كانت تغيرات هائلة فى الطقس"/ ص ٢٢)، على حين أن الترجمة الدقيقة هى "تذبذبات"، وترجمته لـ" born from the needs of our opposing famines" بـــ "نتيجة الاحتياجات المتضادة لمجاعاتنا" (ص ٢٤)، والصواب هو "نتيجة احتياجات مجاعاتنا المتعارضة"، فالتعارض فى المجاعات لا فى الحاجات كما هو واضح من النص الإنجليزى، وترجمته لـ" tremendous spring" بـ"ربيع مروع" (ص ٢٤) لا "ربيع رائع" كما ينبغى أن يكون الكلام، أو ترجمته "Light" بـ"البرق"، مسويا بينها وبين كلمة "Lightening" قبلها بقليل، والصواب: "الضوء"، وترجمته "memory Man" بـ"ذاكرة الإنسان" (ص ۲۸) بدلا من "إنسان الذاكرة" ، أو ترجمته "cataclysm" بـ"طوفان" (ص ۲۸)، وحقها أن تترجم بـ "كارثة/ جائحة"، وترجمته عبارة Rush down the length of the world--away--" away" بـ"مندفعة إلى أسفل حافة العالم- بعيدا - بعيدا" (ص ۲۸)، مع أنه "لا حافة هناك ولا أسفل"، بل كل ما يقصده التعبير الإنجليزى هو أنها كانت تندفع بطول العالم...، وكترجمته "the gulf that was torn across the world" بـ"الخليج المحيط بالعالم" (ص 30)، وصحتها: "الخليج المصدوع بطول الأرض"، فهو لا يحيط بالعالم بل يشقه شقا، وشـتان هذا وذاك، وترجمته أيضا فى ذات الفقرة لعبارة It" stretched its jaws" بـ"فغرت لهاتها" (ص 30، وهل اللهاة تُفْغَر؟ فكيف يا ترى؟ ألا إنه لأمر غريب !)، وصوابها: "مطّت فَكَّيْها"، ثم ترجمته "Life's lepers" بـ"حياة المجذومين" (ص 30)، بينما المراد هو "مجذومو الحياة" كما لا يخفى، وترجمته "The condemned of man" بـ"دينونة الإنسان" (ص ۳۲) عوضا عن "مَدِينى الإنسان" مثلا.
وكذلك ترجمته للمقطع كلـه الـذى وردت فيـه هـذه الكلمـة، وهـو:
They brought to the Tomb
The condemned of man, who wear a,
stigmata from the womb
The depression of the kull as in the lesser
Beasts of prey, the marks of Ape and Dog,
The canine and lemurine muscle... the
pitiable, the terrible,
The loveless, whose deformities arose
Before their birth, or from a betrayal by the
gold wheat ear.
"Lazarus, for all love we knew the great Sun'
Kiss…"
على النحو التالى:
"لقد أحضروا إلى المقبرة
دينونة الإنسان، التى يتقلدها كالندبة منذ الرحم
الجمجمة المدموغة، مثل صغار
الوحشيات، بالعلامات الفارقة للقرد والكلب،
العضلة الكلبية والليمورية... المفجعة، البشعة،
البغيضة، التى بدأت تشوهاتها من قبل الولادة، أو منذ الكشف عن حقيقتها بسنبلة الذهب:
لعازر، بكل الحب عرفنا قُبْلة الشمس العظيمة...إلخ".
على حين أن الترجمة كان ينبغى أن تجىء على مثل النحو التالى، وأرجو أن أكون قد استطعت تتبع خيط الكلام، بغض النظر عما إذا كنت قد فهمت معناه أولا: "لقد أحضروا إلى القبر مَدِيِنى الإنسان وقد انفطست جماجمهم كالوحوش المفترسة الصغرى، وكأنها وَسْم نزلوا به من الرحم، تلك العلامات التى تميز القردة والكلاب، العضلة الكلبية والليمورية... (لقد أحضروا مَدِينى الإنسان) الفِظَاع الذين تدعو حالهم إلى الرثاء، والذين لا يعرفون الحب، والذين نشأت تشوهاتهم من قبل ولادتهم، أو من جراء خيانة السنبلة الذهبية...".
وبذلك يبدو إلى أى مدى ابتعد المترجم عن النص الأصلى، كما يبدو للقارئ مدى الغموض والتفكك الذى يسربل القصيدة.
وبالمثل نرى المترجم قد فقد خيط الكلام فى النص التالى (وهو مقطع كامل من القصيدة وسطر من المقطع الذى يليه):
But Gold shall be the Blood
Of the world... Brute gold condensed to the primal essence
Has the texture, smell, colour of Blood. We must take
A quintessence of the disease for remedy…
فجاءت ترجمته هكذا :
"وسيصبح الذهب دَمَ
العالم... الذهب الأعجم تكثَّف، فصار الماهية الأولى
قله المادة نفسها، والرائحة، والدفء، واللون الذى للدم، وينبغى أن نقبله إن جوهر المرض المنشود علاجه، يتطلب..." (ص ٣٤).
والصواب هو أن نقول مثلا: "لكن الذهب سوف يصبح دم العالم... وهذا الذهب المتوحش المكثف حتى المادة الأولى له قِوَام الدم ورائحته ولونه. ولا بد أن نأخذ خلاصة المرض كعلاج له". وواضح أنه أعاد تركيب جملتى المقطع الأول بما حرّف المعنى، كما أنه فصل المقطع الثانى عن المقطع الأول مع أن الكلام لا يزال متصلا كما هو واضح من ترجمتى. كذلك نجد أن "وجه الإنسان عنـده (فى المقطع الـذى بعـد ذلك) "يجسّد ظـل الإنسان مـرة ثانية..." (ص 43)، بينما الصواب هـو أن ذلك الدواء سيشكّل ثانيـة ظـل الإنسان. فانظر الفرق بين ما قاله هو وما قالته الشاعرة!
ونصل للخطإ الأبلق الذى لا أدرى كيف وقع فيه، ولا كيف فهم من ثَمّ العبارات التى ورد فيها على نحو ما فهمها عليـه: لقـد تـرجـم عـدة مـرات كلمة "Vides" بــــ "السقوط"، فقال: "حينئذ جِىءَ بالسقوط، وتمدد مثل شمس برصـاء تغطيهـا أحـزان العالم" (ص ۳۲)، "بالقرب منـه كـان صـوت ذهبی... يدمغ السقوط" (ص 34)، "صرخنا فى وجـه السقوط" (ص 34)، وهى ترجمة غريبة لا معنى لها، فوق أنه قد ترتب عليها انطماس المعنى الذى أرادته الكاتبة فوق انطماسه الأصلى، وكأنه كان ينقصنا هذا الغموض الإضافى! والصواب هو أن "Vides" كلمة لاتينية تعنى "(الرجل) الغنىّ"، وقد تُسْتَعْمَل اسم علم على الغنىّ فى الـمَثَل الذى ضربه السيد المسيح عليه السلام (حسبما ورد فى إنجيل لوقا) على إمكان ذهاب الفقير المريض المحتقَر بعد موته إلى الفردوس وتمتعه هناك بكل ما يشاء من ألوان النعيم، فى الوقت الذى يَصْلَى فيه الغنىّ المتخم أهوال الجحيم بسبب قساوة قلبه وكبره واحتقاره لأمثال ذلـك المـريض البـائس وعـدم مـده يـد المساعدة نحـوه (انظـر مـادة "Lazarus" فى كل من " The International Standard Bible Encyclopedia"، و"The New Bible Dictionary". وانظر كذلك تفسير الفقرة 19 من الإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقا فى كل منMatthew Henry Complete" "Commentary on the Whole Bible و "Coffman Commentaries on the Old and New Testament"). وكما يرى القارئ لا علاقة لهذه اللفظة بالسقوط من قريب أو من بعيـد. وغريب أن يفهمها المترجم هذا الفهم، وهى موصوفة بالاسم الموصول "who" الدال على العاقل لا على المعانى والأشياء وسائر ما لا يَعْقِل! علاوة على أن الكلام على أساس من ترجمته لا يستقيم ولا يتسق أبدا.
وقد كان مـن جـراء هـذا الخطإ أن انطلق الدكتور البطل فأفاض فى الكلام عن عقيدة الخطيئة والسقوط مخصصا فى صفحتين كاملتين (ص 50 - ٥١). ويرى القارئ الآن كيف نشأ الخطأ الذى قاد إلى كل ذلك دون أن يكون هناك ما يستدعى شيئا منه، علاوة على أن مثل هذا الفهم قد ضاعف غموض القصيدة، ومن ثم زاد القارئ إرهاقـا فـوق ما أصابه من إرهاقها الأصلى. وكعادة الدكتور البطل نراه لا يتوقف ولو للحظة متشككا أو على الأقل متسائلا عما إذا كان قد أصاب الرمية، بل يمضى مطمئنا تمام الاطمئنان لا يعرف التردد ولا التثبت ولا يلتفت إلى أن النص، حسب ترجمته، لا يمشى أبدا. ومن هنا فإننا نتساءل: أو يمكن من يؤدى الترجمة على هذا النحو أن يقوّم القصيدة، ثم لا يكتفى بهذا بل يقارن أيضا بينها وبين أشعار السياب، ثم مرة أخرى لا يكتفى بهذا بل يقوّم الشاعرة الإنجليزية ونظيرها العراقى ويحكم بأن صورها وفنها (فنها كله لا فى تلك القصيدة فقط!) أفضل كثيرا من صـوره هـو وفنه؟ والمسألة ببساطة هى أن "ديفز" لا يعنى السقوط، بل هـو اسـم يرمز إلى الجشع المادى عند السياسيين ورجال الأعمال الذين كل همهم تكدس المال بل عبادته وعدم المبالاة بالمشاعر والقيم النبيلة فى الحياة!
كذلك فات الدكتور البطل أن عندنا فى القصيدة، كما فى إنجيل لوقا، لَعَازَرَيْن اثنين لا واحدا فقط: لعازر الفقير المغطى جسده بالقروح وكانت الكلاب تلحسه، وقد ورد ذكره فى المثل الذى سبقت الإشارة إليه مرارا. أما لعازر الآخر فهو لعازر أخو مارتا ومريم، الذى كان يحبه المسيح عيسى بن مريم، وهو الذى أقامه النبى الكريم من القبر وأعاده إلى الحياة بعد أن كان قد مضى على موته أربعة أيام حسبما جاء فى الإنجيل المذكور. ومن هنا وجدنا الشاعرة تتحدث عن القروح فى سياق الحديث عنه أكثر من مرة: "وفى هذا الصدع يرقد جسد أخينا لعازر وقد أُنْهِض من قبر العالم. لقد كان ينام فى ذلك الموت الكبير مثل الذهب فى قشرة العالم... وحوله، مثل البرق الخابى، كان يرقد الجوهر، بلسم قرحة العالم" (ص 31. والترجمة من عندى، أما فى ترجمة الدكتور البطل فهى "بلسم أحزان العالم")، "جاؤوا بأحقاب العمى وليل العالم صائحين إليه: لعازر، هبنا البصر، أنت يا من قروحه من الذهب..." (ص 31. والترجمة من عندى أيضا)، "ثم جِىءَ بديفز... كان متمددا مثل شمس برصاء تغطيها قروح العالم... وكان برص الذهب يغلّف العالم، الذى كان هو قلبه" (ص 33. والترجمة ترجمتى، أما الدكتور البطل فقال: "تغطّيها أحزان العالم").
والآن نلقى نظرة على مقارنة المؤلف بين سِيتْوِلْ والسياب لنرى أكان موفقا هنا أم أن التوفيق قد خالفه كما خالفه فى مواطن متعددة من الترجمة؟ لنأخذ على سبيل المثال قوله إن الشاعر العراقى قد استوحى سِيتْوِلْ عند كلامه، فى قصيدته: "أغنية قديمة"، عن ذرات الغبار ودوران الزمن فى تكرر مسئم (ص ۷۷ - ۷۸). لكننا عبثا ننظر فى قصيدة الشاعرة الإنجليزية عن شىء أخذه السياب منها فلا نجد شيئا، إذ ليس فيها أى ذكر للذرات ولا للغبار ولا للتكرر المسئم للزمن، اللهم إلا إذا كان يقصد صورتها الباردة عن عمود التراب الطوطمى، لكن هذا غير ذاك كما لا يحتاج إلى توضيح، وعلى أية حال فحتى لو ترددت فى قصيدة سِيتْوِلْ كلمات "الزمن" و"الغبار" و"السأم" " (وهو ما لم يحدث) فليس فى ذلك ما يدفعنا بالضرورة إلى القول باستيحاء شاعرنا العربى تلك القصيدة، إذ ليست العبرة بالمفردات بل بالتعبيرات والصور والتراكيب، اللهم إلا إذا كانت المفردة من النوع الذى لا يُسْتَخْدَم على نطاق واسع أو كان فى استعمالها خصوصية تُحْسَب لصاحبها، وكان ترددها فى العمل المقول بتأثره لافتا للنظر، أما دون ذلك فلا، وإلا فلا يوجد شاعر ولا ناثر على وجه الأرض سيكون بمنجاة من هذا السيف المصلت على الإبداع، لأن مفردات اللغة ليست ملكا شخصيا لأحد، بل كل ألفاظها مباحة لمن يريد، والعبرة بالخصوصية والتفرد لا بمجرد ورود كلمة أو أخرى فى عمل من الأعمال الأدبية حتى نقول بأنها ابتكار خاص بصاحبه ويتهم من يستعملها بعده من ثم بأنه إنما تأثر بذلك العمل.
مثال آخر: إذ زعم الدكتور البطل أن السياب قد أخذ قوله:
تسعى بـه الـريح فى الآفـاق ناسـجةً للشمس مــن جـذوة أو مـن دم حُجُبــا
من قول سِيتْوِلْ: "مثل طوفان الشمس المنهمرة إلى أسفل/ بدا الزئير/ الصادر عن الشموس القرمزية لقطـرات الـدم" (79). وهذا كسابقه اتهام جاهز، وليس هكذا تكون المقارنة والقول بالتأثير والتأثر، وإلا فلماذا لم يذهب ذهنه مثلا باتجاه بشار بن برد وشمسه، وهو أقرب، إذ يقول:
إذا مــا غضبنــــا غضبةً مُضَرِيَّةً هَتَكْنا حَجَاب الشمس أو قَطَرَتْ دما؟
فها هنا شمسٌ وقطرات دمٍ وحجابٌ مثلما فى بيت السياب! ولسنا مع ذلك فى تكذيب دائم (بالحق والباطل) لما يقوله الكاتب، فمن الطبيعى أن نتأثر بمن نتصل به ونؤثر فيه، لكن المشكلة فى أن الدكتور البطل فى الأمثلة التى أوردتُها وأشباهها لم يكن مقنعا، وكان يطير بأى شُبْهَةِ تشابهٍ حتى لو انجلی الوضع عن لا شىء! ومع ذلك فالملاحظ أن السياب يكرر كلمات مثل "الظل" و"قابيل" و"سنبلة الذهب" فى بعض قصائده على نحو يلفت النظر ويصعب تفسيره بالمصادفة.
وقد غضب د. طراد الكبيسى من الطريقة التى عالج بها د. على البطل موضوع المقارنة بين الشاعر العراقى ورصيفته الإنجليزية، ورآه مجحفا متسرعا، بل اتهمه بأنه قد دخل هذه المقارنة متربصا بالسياب جاهزا لاتهامه باحتذاء سِيتْوِلْ مع سبق الإصرار والترصد، وكان من رأيه أن "الدكتور على البطل فى كتابه: "شبح قابين بين إيديث سِيتْوِلْ وبدر شاكر السياب- قراءة تحليلية مقارنة: ١٩٨٤"... ذهـب بعيـدا، إذ يخـرج القارئ... بنتيجة مُفَادها أن السياب فى لغته ورموزه وبناء قصيدته وموضوعه لم يكن سـوى "مقلِّد" أو "عِيَال" (ولا نقول: سارقا) على الشاعرة سِيتْوِلْ فى أفضل شعره حتى لَيُمْكِن القول: كأن السياب فى قمة ما حقق من إبداع هو مجرد احتذاء لسِيتْوِلْ مضموناً وشكلا! أو كأن لسان حال الدكتور البطل يقول إن "جيّد" شعر السياب هو من "جيّد" سِيتْوِلْ، أما ردىء السياب فهو رديـئه هـو بحسب تعبير البحترى فى المقارنة بين شعره وشعر أبى تمام... لا يمكن لأحد أن ينكر تأثر السياب بإيدث سِيتْوِلْ وإليوت وسواهما، ولكن عندما يؤمن المرء مسبقا بــ "فكرة" تأثر السياب بهذا الشاعر أو تلك الشاعرة ثم يروح يفتش وينقب فى ضمير الكلمات والصور فى شعره عـن هـذا التأثر، فتلك هى واحـدة مـن المستحيلات أو من قبيل التفوهات المسبقة عن وجـود العنقاء بل رؤيتها ووصفها بالتفاصيل الدقيقة كما سخر الجاحظ. أعنى أن الدكتور البطل أخـذ بالفكرة الشائعة، وربما أشاعها السياب تعمدا، عن تأثر السياب بسِيتْوِلْ، وهذا ما لا يقدر أن ينفيه أحد. كما قلنا راح ينقب فى "ضمير" كلمات السياب فى قصائده بحثا عن هذا التأثر أو الاحتذاء حتى باتت كل كلمة عند السياب مثل "ذرات غبار"، "شبح أو أشباح"... إلخ هى من قبيل تأثر السياب بسِيتْوِلْ فى قصيدتها: "شبح قابين" والغبار الذرى!
ولننظر على سبيل المثال هذه المقارنة الصورية بين سِيتْوِلْ والسياب من قصيدته: "غريب على الخليج": تقول سِيتْوِلْ فى "شبح قابين": "ولم نأبه لسحابة فى السماء على صـورة يـد/ إنسان... وجاءت صيحة كما لو أن الشمس والأرض ارتطمتا/ نزلت الشمس، والأرض صعدت لتأخذ مكانها فى الأعالى فوق... الهيولى/ انفجرت، الرحم الذى منه بدأت كل حياة/ عندئذ، وفى اتجاه الشمس المقتولة قام العمود الطوطمى الترابى فى ذاكرة الانسان" (ص۲۸). وقال السياب فى "غريب على الخليج": "جلس الغريب يسرّح البصر المحيِّر فى الخليج ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعِّد من نشيح/ أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج/ صوتٌ تفجَّر من قرارة نفسى الثَّكْلَى: عراق/ كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيـون... إلخ". ويقول الكاتب معلقا علـى نـص السياب: "مستحضرا صورة سِيتْوِلْ عن العمود الطوطمى والسحابة الذرية"! (ص۸۱) . ولست أدرى أية صلة بين العمود الطوطمى والسحابة الذرية فى نص سِيتْوِلْ ونص السياب. ولماذا لا تكون "السحابة" فى نص السياب سحابة عادية أو تلك السحابة المخادعة التى ظللت قوما من الجاهليين فإذا ما استتروا تحتها من حر الشمس أمطرتهم نارا فكانوا من الهالكين كما جاء فى الموروث الدينى؟ وهكذا لماذا لا تكون "الأعمدة" فى نص السياب أعمدة بابل أو أعمدة الأكروبول أو أعمدة بيوت الشَّعْر العربية أو أعمدة الكهرباء أو أعمدة الشعر؟ أرجو أن ننتهى من مثل هذه الافتراضات عن تبعية الشاعر العربى لشاعر أجنبى، وكأن الشاعر الأجنبى شيطان الشاعر الذى يلهمه الشعر كما جاء فى حكاية أو أسطورة توابع الشعراء عند العرب" (طراد الكبيسى/ السياب و سِيتْوِلْ وشبح نص قايين/ مجلة "الإمبراطور" المشباكية".
والآن ما الذى دفعنى إلى كتابة هذا العرض التحليلى لدراسة الدكتور البطل حول السياب وسِيتْوِلْ؟ الذى دفعنى إلى هذا هو الرغبة فى التشديد على أنه لا بد لمن يكتب فى مجال الأدب المقارن من الإحاطة بكل ما من شأنه أن يُنْجِح عمله، وأول شىء فى ذلك فهم النصوص وتذوقها جيدا والمقدرة على الموازنة بينها وإدراك النقاط التى ينبغى أن يقف عندها للقيام بالمقارنة المطلوبة... إلخ. لكن كيف ذلك؟ أولا بمعرفة اللغة التى كُتِبت بها النصوص المراد مقارنتها: فأما بالنسبة للغة القومية فأمرها مفهوم، إذ لا يُعْقَل ألا يعرف المقارن لغة أمته، لكن المشكلة فى لغات النصوص التى على الجانب الآخر. وقد رأينا كيف أن الدكتور البطل قد أخطأ الترجمة فأخطأ فهم النص وترتّب على ذلك أشياء ذكرناها فيما مضى. ولو كان محسناً للترجمة لما كان ما كان! فلا بد إذن من إتقان اللغة الأجنبية التى كتب بها النص الأجنبى إذا أراد المقارِن أن يغوص بنفسه فى أعماق النص ويعرف خباياه. قد يقال إن من الممكن أن يعتمد المقارن على النصوص المترجَمة إلى لغته القومية. والواقع أن هذا ممكن، على الأقل من الناحية النظرية، لكن بشرط أن يتأكد المقارن أن المترجِم قد أحسن الترجمة ولم يترك فى النص المترجَم شيئا لم ينقله إلى اللغة المحلية. فهل هذا ممكن؟ أعتقد أن لا، وحتى لو تأكدنا أن المترجم قد أحسن الترجمة إلى أقصى حد، فتبقى هناك جوانب فى العمل الأدبى لا يمكن النظر فيها من خلال الترجمة، وهى الأمور المتعلقة بلغة النص وبلاغته وأسلوبه، مما لا ينتقل عبر الترجمة أبدا، إذ الترجمة إما تنقل الفكرة والمضمون، وقد تنقل أيضا شيئا من جو العمل، أما مسائل اللغة والأسلوب والبلاغة وما إلى هذا فليس من سبيل للاحتكاك بها إلا فى النص الأصلى، وذلك من خلال إتقان لغة ذلك النص، ثم إن من يعتمدون على الترجمة سوف يقتصرون على ما تُرْجِم من الأعمال الأدبية فقط لا يتعَدَّوْنه إلى غيره، بخلاف من يعرف لغة أجنبية، فإن فضاءها العريض يكون مفتوحا أمامه يحلّق فيه كما يحلو له، وهذه ميزة ليست بالقليلة.
مثلا كيف كان لى أو لغيرى أن نتحقق من التهمة التى أتُّهِم بها د. محمد مندور حين قيل إنه قد أخذ كتابه "نماذج بشرية" أو بعضا من فصوله على الأقل من كتاب الكاتب الفرنسى جان كالفيه ما لم نرجع إلى الأصل الفرنسى ما دام هـذا الأصـل لم يترجم إلى العربيـة؟ وهكذا لم يكـن أمـامى إلا أن أرجع بنفسى إلى الأصل الفرنسى لأتبين مدى صحة هذه التهمة أو زيفها، فوجدت أنه قد أخذ فعلا بعض فصوله بلا أدنى جدال أو ريب من كالفيـه حسبما وضحتُ ذلك بالنصوص الفرنسية وتَرْجَمَتِها العربية ووَضْع هذا وذاك بإزاء الفصول المندورية، وبذلك حُسِمَت المسألة. وقد رأينا أن الدكتور البطل لم يحسن الترجمة كما ينبغى، ومن ثَمْ تساءلتُ قائلا: أويمكن من يؤدى الترجمة على هذا النحو أن يقوّم القصيدة، ثم لا يكتفى بهذا بل يقارن أيضا بينها وبين أشعار السياب، ثـم مـرة أخـرى لا يكتفى بهـذا بـل يقـوّم الشاعرة الإنجليزية ونظيرها العراقى ويحكم بأن صورها وفنها (فنها كله لا فى تلك القصيدة فقط!) أفضل كثيرا من صوره هو وفنه؟
وهذا يقودنا إلى عنصر آخر من العناصر الذى يستكمل المقارِن بها أدائه حتى يكون على مستوى المهمة التى انتدب نفسه لها، وهو الإحاطة بقدر الإمكان بكل ما يتعلق بموضوع المقارنة. وقد رأينا مثلا كيف أن الدكتور البطل قد فاته أن يبحث عن معنى "Vides" وترجمها على أنها تعنى "السقوط"، ولا أعرف السبب فى ذلك. لقد بذل الدكتور جهدا طيبا للتعريف ببعض القضايا المتصلة بقصيدة سِيتْوِلْ كما هو الحال فى حديثها عن الحيوانات البائدة، والبرودة والحرارة، وشخصية لعازَر مثلا، وهذا مما يـُحْمَد له، فكنت أحب لو بذل فى النقطة التى نتحدث عنها مثل هذا الجهد، ولكنه لسبب ما لم يفعل، وهو أمر غريب، إذ كانت تلك النقطة على مَدّ ذراعه لو فَرَدَه وتيقظت حواسـه قليلا. وأنكى من ذلك أنه، كما أشرت، لم يتلجلج فيما قال رغم وضوح بُعْده عن الصواب.
إن على المقارن الأدبى أن يتسلح بكل ما تحتاجه عملية المقارنة، وهذه العملية من الغنى والتعقيد بحيث تكون فى بعض الحالات على الأقل بحاجة إلى الإلمام بعدد من العلوم وإتقان بعضها الآخر، مثلما هو الحال فى قصيدة الشاعرة الإنجليزية المملوءة بالإشارات إلى القنبلة النووية والوحوش المنقرضة وبعـض أحداث ما قبل التاريخ وأساطير العالم القديم، إذ لا شك أن تلك القصيدة كانت فى حاجة إلى الجهد الذى بذله الدكتور البطل، وإلا لكانت مطلسمة تماما، أما الآن فإننا نستطيع، بفضل ذلك الجهد، أن نبصر على الأقل بعض الأشياء، وهـذا أفـضـل ألـف مـرة مـن الـتحـديق فى الظلام دون طائـل... وهكذا.
أما فى كلامه عن السياب فقد احتاج الأمر إلى العلم بسيرته وملامح شخصيته ومراحل طريق عمره... إلخ. وهذا مجال آخر من مجالات المعرفة التى يحتاجها المقارِن الأدبى أو يتقاطع معها عمله، ألا وهو الترجمة الشخصية. ثم إن هذا الفرع هو الذى عرّفه أن السياب قد قرأ سِيتْوِلْ وأُعْجِب بشعرها وكان يتفاخر أنه من قرائها. وهو الذى عرّفه أيضا بأنه كان يوما ما شيوعيا ثم تحول إلى الانتماء القومى، وأنه كان فى الكويت حين تكلـم عـن الخليج فى قصيدته: "غريب على الخليج" شاكياً عجزه عن تدبير مصاريف العودة لمسقط رأسه، وهو الذى عرّفه كذلك أن السياب قرأ سِيتْوِلْ فى لغتها الأصلية لأنه كان متخصصا فى اللغة الإنجليزية وأدبها، فقراءته لها إذن لم تكن قراءة عابرة ولا كانت قراءة سطحية ولا متسرعة، بل كانت قراءة متخصص فى هذه اللغة متقن لهـا. كما أن هذا الفرع المعرفى أيضا هو الذى عرَّف الدكتور البطل بتاريخ حيـاة سِيتْوِلْ، إذ رجـع إلى مـا كــتبته ""Encyclopaedia Britannica عـن الشاعرة، وكذلك كتاب "English Poetry" لدوجلاس بوش (Douglas Bush)، فأَلمَّ عن طريقهما بشىء مما يحتاج إلى الإلمام به من يريد الكتابة عنها وعن قصيدتها (ص ۱۷).
كذلك كان للدكتور البطل أحكام فنيـة على قصيدة سِيتْوِلْ وشعر السياب، مفضّلاً فن الشاعرة الإنجليزية على شاعرنا العراقى بوجه عام، وهذا نقد أدبى كما هو واضح. وهكذا يرى القارئ كيف أن الأدب المقارن يتصل بالنقد الأدبى ويستعين به على نطاق واسع. ذلك أن المقارِن لا يحصر نفسه فى تبیان مناطق التأثير والتأثر فحسب، بل يتعداه فى أحيانٍ كثيرة إلى التقويم والتحليل الفنى. إنه ليس آلة للرصد والمقارنة وإعطاء قائمة باردة بالملاحظات التى انتهى إليها فى موضوع الاتصال بين طرفى المقارنة، بل هو قبل ذلك متذوق ناقد. كما أنه قد يترك عملية رصد التأثير والتأثر جملة ويركز بدلا من ذلك على الموازنة الفنية بين الطرفين. وبطبيعة الحال لا يمكنه القيام بهذا دون أن يستكمل عُدّة الناقد، فمهمة النقد وقبل كل شىء تحليل العمل الأدبى، وهى الخطوة التى تسبق الخطوة التى يقوم فيها المقارِن بتبيين ما فى العملين المقارَنين من تماثلات واختلافات. إن المقارِن بمعنى من المعانى أو فى جانب كبير من عمله، ناقد أدبى يعمل فى ميدان المقارنة بين الآداب المختلفة بكل ما يحتاجه هذا العمل من أدوات ومهارات.
لنأخـذ مثلا قـول الدكتور البطل، عن محاولة السياب "اصطناع روح سِيتْوِلْ" (حسب تعبيره) فى قصيدته "أغنية قديمة"، "يَسْلَخ فيها مفهومَ دوران الزمن من الأزل إلى الأبد عـن سياقه لدى سيتول فلا يبقى لـه سـوى الفكرة الشائعة: أننا ذرات غبار فى مجرى الزمن، يدور فلا يبقى منا شىء من حبنا وتاريخنا وأعمالنا. وهى فكرة ساذجة حاول أن يدعمها بصورة من سيتول عن التطور يجمع بين دفتيه الكهف المظلم والاختراع الحديث... ومن الطبيعى ألا يخرج لـه سـوى هـذا المحصول الضئيل من روح سيتول ما دام قـد حاول اختزال عالمها الواسع إلى هذه الحدود الضيقة من عالم الوجدان الذاتى" (ص ۷۷ - ۷۸)، فها هنا نجد الدكتور البطل لا يكتفى يرصد مجالى الاتصال بين الطرفين ومظاهر التأثير والتأثر بينهما، بل يقارن بينهما فنيا ويحكم على ما صنعه السياب بالفشل والعجز عن مسامتة نظيرته الإنجليزية، وهذا من صميم النقد الأدبى، بغض النظر عما إذا كنا نوافقه على هذا الحكم أو لا. ومثل هذا قوله، عن قصيدة أخرى للسياب هى قصيدة "قافلة الضياع"، إنها "تقف علامة بارزة فى طريق التطور الفنى للسياب من حيث إنها أول تجربة فنيـة يستطيع السياب أن يستقل فيها بموضوعه، وفى الوقت ذاته يوظف فيها كثيرا من عناصر سيتول بنجاح كبير، فحقق بذلك المعادلة الصعبة، وهى التوازن بين تأثره بسيتول وأصالته فى الإبداع بعد طريق طويل من التجريب تقف على قمته قصيدته الملحميـة الطويلـة التـى جـعـل مـوضـوعها القنبلة الذرية محاكيـا سيتول، والتى فككها إلى قصائد ثلاث عند نشر "أنشودة المطر": مرثية الآلهة، من رؤيا فوكاى، مرثية جيكور" (ص ۹۱ - ۹۲).
ومعروف أن جزءا كبيرا من مهمة المقارِن الأدبى يقوم على لمح العناصر المنقولة من أحد الآداب إلى أدب آخر، بل إن من المقارِنين (كما سبق القول) من يرون أن هذه هى كل المهمة التى يقوم بها الأدب المقارن لا يتعداها. والواقع أن هذه المنطقة هى منطقة تلاقٍ بين ما يسمّى فى النقد الحديث بـ"التناص" وبين الأدب المقارن، إذ التناص هو تداخل النصوص الأدبية بعضها فى بعض. ذلك أن الأديب عندما يبدع شيئا فإنه لا يأتى به من فراغ، مثلما أن الجسم البشرى مثلا حين يتكون وينمو فإنه لا ينشأ ولا يكبر من لا شىء، بل هو مأخوذ من جسم الأم وموادَّ طبيعيةٍ كانت موجودة من قبل ثم رُكِّبَ هذا كله على نحو جديد وأُعْطِىَ روحا جديدة لم يكن لها وجود من قبل. إن الأديب حين يبدع شيئا فإنه لا يفعل هذا إلا بعد أن يكون قد قرأ من الأعمال الأدبية فى أدبه القومى وخارج نطاق أدبه القومى ما لا يحصيه إلا الله، أما هو أو غيره فأقصى ما يمكنهما الانتباه إليه بعض هذه القراءات فقط، مع التنبيه إلى أنه فى كثير من الأحيان لا يستطيع أن يتذكر العناصر التى استفادها من كل هذه القراءات، بل من بعضها ليس إلا.
وإذا كانت الدراسات التناصية ترصد أشياء فى النص الذى تتناوله وتسكت عن أشياء أخرى فليس معنى هذا أن ما تم رصده مما أُخِذ من نصوص سابقة هو وحده المأخوذ من تلك النصوص، بل معناه أن هذا هو ما استطاع الدارس التنبه إلى مصادره. ونفس الشىء يقال عن الأدب المقارن فى جانب منه، وهو الجانب الذى يتعامل مع ما أخذته الأعمال الأدبية القوميـة مـن الآداب الأجنبية أو العكس، فهو فى الواقع رصد لمظاهر التناصّ، لكن على المستوى العالمى فحسب، فلا يدخل فيه إذن التناص داخل الأدب القومى. أى أن ما كتبه الدكتور البطل فى الكتاب الذى بين أيدينا مثلا يمكن أن يكون دراسة تناصية لو كان تركيزه كله على ما أخذه السياب من غيره من الشعراء والأدباء: المحليين منهم والعالميين على السواء، ولم يلتفت إلى ما سوى ذلك. الأدب المقارن إذن، فى جانب منـه على الأقل، هو دراسةٌ تناصيَّةٌ عابرةٌ للآداب.
وفى ضوء هـذا ينبغى أن نقرأ الأسطر التالية التى نقلتها من دراسة لرؤوف مسعد منشورة فى مجلة "شباب مصر" المشباكية عنوانها "التناص بين "زويل" الغيطانى و"المرأة التى..." للكاتب د. هــــ. لورانس": "منذ فترة كنـت أسـتـعـيـد قـراءة بعـض أعمـال الكاتب البريطانى د. هـ. لورانس الطويلة، وهى بعنوان "المرأة التى خَبَّتْ بالجواد قليلا" فأسترجع فى ذهنى قصة للكاتب جمال الغيطانى، وهى أول أعماله المنشورة. وهى، كما يظهر هذا من قائمة كتبه المنشورة، بعنوان "الزويل". ولكى أقطع الشك باليقين قمت إلى مكتبتى وعثرت، من حسن الحظ، على طبعة قديمة نادرة لقصة "الزويل" أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٩٣ تحت عنوان "رواية"، ثم أسفل العنوان "الأعمال الروائية/ المجلد الثالث" (والرواية الثانية فى هذا المجلد بعنوان "الزينى بركات"، ولا تعنينـا هنـا)، ليوردهـا بعـد ذلك تحـت عـنـوان "قصص" فى قائمة مؤلفاته فى كتابه عن نجيب محفوظ. المفاجأة التى واجهتنى عند قراءة قصة لورانس أذهلتنى باكتشاف التناص بين القصتين، وفى الوقت ذاته وجدتنى أمام اختيارات صعبة: هل أقوم بمواصلة بحْث ونشْر ما سوف أتوصل إليه؟ وما أهمية هذا الآن؟ و "هذا" هنا هو كتابة الدراسة المقارنة عن التناص بين قصتْى لورانس والغيطانى". والشاهد فى هذا الكلام هو ربط الكاتب فى جملته الأخيرة بين التناص والدراسة المقارِنة إلى درجة الحديث عنهما بوصفهما شيئا واحدا تقريبا، وهو ما يعنى أن الأدب المقارن هو، فى بعض جوانبه، دراسةٌ تناصيّةٌ عابرة للآداب كما سبق أن قلت. والتناص هنا، والعهدة على رؤوف مسعد، قائم على التشابه بين عملين للورانس والغيطانى، ثم لا يهمنا بعد ذلك ما يرمى إليه الكاتب من أن جمال الغيطانى قد اتكأ كثيرا على عمل القصاص الأيرلندى دون أن ينهض أحد لكشف هذه المسألة خوفا من سطوة الغيطانى، الذى يرأس تحرير مجلة "أخبار الأدب" ويستطيع أن يحرم من النشر فى تلك المجلة كل من تسول لهم نفوسهم كشف الحقيقة حسبما يلمح الكاتب، والعهدة عليه.
هذا، وقد أوجزت موسوعة الـ Wikipedia"" المشباكية ما ينبغى أن يتحلى به الدارس المقارن من معرفة جيدة باللغات الأجنبية واطّلاع كاف على ميادين دراسات الأدب ونصوصه، فوصفت المقارِنين الأدبيين على النحو التالى: Comparativists are typically proficient in several languages and acquainted with the literary traditions and major literary texts of those languages"