سهل بن هارون وتهمة الشعوبية والزندقة، والرسالة المنسوبة إليه فى البخل
إبراهيم عوض

تكاد لا تخلو أية ترجمة لسهل بن هارون فى القديم أو فى الحديث من ترديد اتهامه بالشعوبية، بل لقد جعله بعض من كتبوا عنه من غلاة الشعوبيين[1]. ويتساءل الباحث: ما تلك المواقف التى ظهر فيها تحامل سهل على العرب وتحقيره من شأنهم؟ أو أين الكتب والرسائل التى وضعها للنيل منهم؟ لكنه لا يجد فى أخباره أو مؤلفاته شيئا من هذا أو ذاك. يقول ابن النديم إنه كان: "شعوبى المذهب، شديد العصبية على العرب، وله فى ذلك كتب كثيرة"[2]. وهو كلام مطلق، إذ إنه لم يشفعه بالنصّ على تلك الكتب. بل إن عناوين المؤلفات التى ذكرها لسهل بعد ذلك، وهى "کتاب ديوان الرسائل" و "كتاب ثعلة وعفراء" و "كتاب إلى عيسى بن أبان فى القضاء" و "کتاب تدبير الملك والسياسة"، لا يمكن أن يُشْتّمّ منها ولو بالتمحّل الشديد ما ينم على هذه الشعوبية المنسوبة إليه. ومع هذا يأتى جولدزيهر فيردّد كلام ابن النديم على علّاته بل يزيد فيجعـل سهلاً أشهر شعوبیی زمانه، قائلاً: "إنه ألف كتبا كثيرة تعصب فيها للفرس على العرب، فكان بذلك أشهر شعوبی زمانه"[3]. أما محمد حامد الناصر فإنه لا يكتفى بذلك بل يحدد تاريخ وضع سهل لهذه الكتب المزعومة فيقول إنه "كان يكتب ينقد العرب وهو فى خدمة الرشيد"[4]، وذلك دون أن يسوق اسم المصدر أو المرجع الذى نقل عنه. ويكتفى شارل بلات بالعبارة الموجزة التالية، والكلام فيها عن الجاحظ: "واجتمع أيضا بطائفة من الرجال منهم رجلان شعوبیان مشهوران سهل بن هرون (المتوفى سنة ٢٤٤هـــ)، الذى أوحى للجاحظ بعض الأبحاث فى الدفاع عن العرب... إلخ"[5]. أما أين اجتمع الجاحظ بسهلٍ، ومتى، وما هذه الأبحاث التى أوحاها له، وكيف أوحى له بها، فإن المستشرق الفرنسى لا يعنىّ نفسه الجواب عن شىء من ذلك.
ويحاول جولدزيهر أن يجعل من الرسالة المنسوبة لسهل، والتى قيل إنه كتبها لبنى عمه مدافعاً عن مذهبه فى البُخْل والاقتصاد، مَظْهَراً من مظاهر شعوبيته، إذ يرى فيها هجوماً شعوبيا على فضيلة الكرم التى يتمدح بها العرب[6].
وقد تابع جولدزيهر فى هذه الدعوى بعضُ الباحثين العرب، فالدكتور شوقى ضيف مثلاً يعلق على إشارة ابن النديم إلى رسائل سهل فى البخل بقوله: "وكأنه أراد بتلك الرسائل أن ينقض فضيلة الكرم العربية"[7]. بل إنه يرى أن سهلاً لم يكتب رسالته لبنى عمه الحقيقيين من آل راهبون، وإنما "أغلب الظن أنه يقصد العرب"[8]. ويؤكد د. مصطفى الشكعة "أن سهل بن هرون لم يمجد البخل إلا شعوبيةً وكراهيةً للعرب، الذين عُرفوا بالكرم ومجّدوا الكرماء"[9]. ويذهب محمد حامد الناصر فى نفس الاتجاه قائلاً عـن الشعـوبيـن إنهـم "ندّدوا بالمثل الخلقية والقيم الإسلامية والعادات العربية... وسخروا من مفهوم الكرم عندهم (أى عند العرب) وبالغوا فى التشنيع على هذه الخصلة الحميدة، حتى أن سهل بن هارون ألّف رسالة يمدح فيها البخل ويذم الكرم ويعتبره إسرافا"[10]. ويردّد د. عبدالله سلوم السامرائى الكلام ذاته، وإن كان قد أضاف أن كتب سهل ورسائله التى ألفها فى تمجيد البخل والتنقص من فضيلة الكرم التى يعتز بها العرب قد فُقِدت فيما يبدو فى حومة المعركة بيـن العـروبـة والشعوبية[11]، فكأنه لا علم له برسالة البخل التى أوردها الجاحظ فى كتابه "البخلاء"[12] وابن عبد ربه فى "العقد الفريد"[13] وقالا إنها لسهل[14].
ولا نحب أن نخوض الآن فى تحقيق نسبة هذه الرسالة وهل هى لسهل فعلاً أوْ لا[15]، بل سنسلم أنها له فنقول: لو أن سهلاً لم يقصد بها بنى عمّه من آل راهبون وكان يريد العرب فى الحقيقة أفكانت هذه ستغيب عن بال معاصريه؟ يظهر لى أن ذلك أمر بعيد، وإلا لذكروا هذا وردّوا عليه، وهو ما لم يحدث. كذلك فإن الشعراء الأعاجم كانون يثنون على فضيلة الكرم ويرفعون من شأن الكرماء من العرب أو من أبناء جلدتهم على السواء، وذلك أمر معروف لا يحتاج إلى استشهادات عليه. وهل نحن بحاجة أن نشير إلى البرامكة وإلى عضد الدولة وإلى ابن العميد، الذين كان المادحون يقصدونهم ويتفننون فى وصفهم بالأريحية، والذين كانوا يسعدون بذلك ويثيبون عليه بِبدَر الذهب و الفضة؟ وسهل نفسه يمدح يحيى بن جعفر البرمكى بالكرم قائلا:
عدوّ تلاد للمال فيما ينوبـه مَنُوعٌ إذا ما مَنْعُه كان أحزما[16]
كما يمدح محمد بن زياد بذلك فى قوله:
وخليقتـان: تُقْى وفَضْلُ تحـرُّم وإهانة فى حقّـه للمال[17]
ويقول متألما على فراق الخلان ومشيدا بفضيلة الكرم:
ولكننى أبكى بعينٍ سخينةٍ على حدث تبكى له عين أمثالى
فراق خليلٍ مثلهُ يبعث الأسى وخلة خِلٌّ لا يقوم بها مالى
فوا أسفاً! حتى متى القلبُ مُوجَعٌ بفقد خليل أو تعذّر إفضال؟
فما العمر إلا أن تجود بنائل وإلا لقاء الأخ ذى الخلق العالى[18]
كذلك عَدَّ بُخْلَ ذوى الأموال من الأمور القبيحة[19]، وجعل العزة فى إتيان المكارم والتحصن بالجود والمتاجرة بالمعروف[20]. كما أن الجود الحقيقى عنده هو جود من يعرف قدر المال ويخاف الفقر[21].
بل إن الرسالة نفسها مفعمة بما يناقض الشعوبية ففيها استشهاد بأفعال طائفة من مشاهير العرب وأقوالهم كالنعمان بن المنذر وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وطلحة بن عبيد الله والأحنف بن قيس وزياد بن أبيه وأبى الأسود الدؤلى وهشام بن عبد الملك بن مروان، على أنها نبراس يستضاء به. كما أن كتاب "النمر والثعلب" مملوء بأمثال العرب وحِكَمها وأشعارها فى الجاهلية والإسلام، وليس فيه شىء من أقوال الفرس أو ذكر أحد من مشاهيرهم.
ويقول الحصرى فى هذا الموضوع: "ألف سهل بن هرون كتابا يمدح فيه البخـل ويـذم الجـود ليظهر قدرته على البلاغة..."[22]، أى أنه يجعل الغرض من كتابة الرسالة عرضا فنيّاً لا سياسيّاً.
على أن الرسالة ليست كلها بخلاً وتزييناً للحرص على المال والشحّ به، بل فيها أيضا كثير من النصائح المفيدة فى تدبير المعاش ووضع الدرهم فى موضعه. وإن السمعة الرديئة التى لصقت بسهلٍ لهى المسؤولة عن عدم التفات القارئين لهذا الجانب الطيب فى الرسالة.
ويخطىء كريمرز (كاتب مادة "سهل بن هارون" فى "دائرة المعارف الإسلامية") فهم ما حكاء الحصرى فى "زهر الآداب" من أن المأمون قد انحرف عن سهل بن هارون فدخل عليه يوماً فتكلم المأمون فى الحاضرين، فلما فرغ من كلامه ورآهم سهلٌ سكوتا صاح فيهم: ما لكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفهمون، وتفهمون ولا تتعجبون، وتتعجبون ولا تتصفون؟ والله ليقول ويفعل فى اليوم القصير ما فعل بنو مروان فى الدهر الطويل. عربكم كعَجَمكم، وعجمكم كعبيدكم! ولكن كيف يعرف بالدواء من لا يشعر بالداء؟"، فرجع المأمون فيه إلى الرأى الأول[23]، إذ قال كريمرز مشيراً إلى هذه الحكاية إن المأمون كان فى بداية الأمر غير مبالٍ بسهل إلى أن كشف عن ميوله الشعوبية، فعندئذ حظى برضاه[24].
إن الحصرى يقول عن سهل إنه كان مقربا إلى المأمون، ثم وقع منه ما جعل المأمون ينحرف عنه، ثم عاد المأمون فى النهاية إلى رأيه الأول فيه. أما كريمرز فيظن أن المأمون، فى بداية اتصال سهل به، كان يستقلّه، ثم لـمَّا قال بعد خطبة الخليفة ما قال مما كشف به عن منزعه الشعوبى (فى رأيه) تغيرت نظرته إليه وأخذ يحتفى به. ولعل العبارة المكتوبة فى "زهر الآداب" قد أوحت لكريمرز بشىء من هذا الذى فهمه، إذ قد كُتِبَت على النحو التالى: "كان المأمون من استقل سهل بن هارون فدخل عليه يوماً والناس على مراتبهم... إلخ"، فظن كريمرز أن المأمون كان يستقل قدر سهل فى بداية الأمر. بيد أن ما قاله الحصرى فى آخر الحكاية كان كفيلاً أن ينبهه إلى أن الأمر ليس هكذا، إذ عقّب على كلمة سهل فى الحضور قائلا: "فرجع المأمون فيه إلى الرأى الأول"، وهو ما يدل على أن الخليفة العباسى كان على رأى طيب فى سهل فى مبدإ الأمر، ثم حدث ما جعله ينحرف عنه. وإنى لأرجّح ترجيحا قويا أن عبارة "كان المأمون من استقلّ سهل بن هرون" الواردة فى كلام الحصرى إنما هى "كان المأمون قد استثقل سهل بن هرون"[25]. فهكذا يستقيم أول الكلام مع آخره. وعبارة ابن نباتة تعضّد هذه القراءة، إذ جاء فى "سرح العيون": "ويُرْوَى أن المأمون كان قد انحـرف عـن سـهـل إلى أن دخل عليـه يوما..."[26].
ثم إنه ليس فى كلام سهل فى من كانوا حاضرين خطبة المأمون ما يدل على أية نزعة شعوبية. كل ما هنالك أنه أثنى على فصاحة الخليفة وقوة عزمه وطموحه وعظمة إنجازاته، وفضَّله على بنى مروان. فأين الشعوبية هنا؟ إنه إذا كان بنو مروان عرباً فالمأمون لا يقلّ عروبة عنهم، بل هو فضلا عن ذلك يمت إلى العباس ومن ثمَّ إلى النبى بأوثق الأسباب، والعباس والنبى من العرب فى الصميم والذروة. فكيف يكون تفضيله على بنى مروان دلالة على وجود نزعة شعوبية لدى سهل؟ ليس هذا فحسب، فإن بقية كلام ابن هارون يدل على عكس ذلك، إذ قد جعل العجم فى مرتبة أدنى من العرب. قال: "عربكم كعجمكم، وعجمكم كعبيدكم". فانظر كيف وضع بنى قومه بين العرب من فوقهم والعبيد من تحتهم! ومرة ثانية: أين الشعوبية هنا؟ ثم إن كريمرز يقول إن شعوبيته الغالية هى التى قرّبت سهلا من البرامكة[27]. فكيف يقول فى ذات الوقت إن المأمون كان غير مبالٍ بسهل إلى أن كشف عن ميوله الشعوبية إذا كانت شعوبية سهل معروفة منذ البرامكة على الأقلّ، أى قبل أن يصعد المأمون على سرير الخلافة بسنوات غير قليلة؟
ومع هذا فثمة أبيات خمسة منسوبة لسهل فى "زهر الآداب" للحصرى يتوجه فيها إلى أهل ميسان مثنيا على أصلهم النبيل وأريحتهم ويحقّر فيها من قبيلة كلب، الذين يقول إنهم يريدون أن يناسبوه، ولكن أنَّى لهم ذلك وهو من بيت شريف، أما هم فبدوٌ متخلفون؟ وهذه هى الأبيات:
يا أهـل ميسـان، السلام عليــــ ـــــكـم طــيبون الفـرعُ والجـدمُ
أما الوجوه ففضّـة مُزجَـتْ ذهبا وأَيْدٍ سحَةٌ هضمُ
أتريـد كـلـبٌ أن أناسبهـا؟ قد قلّ من كليبٍ العلمُ
أجعلـت بيتـا فـوق رابيــةٍ فرع النجوم كأنه نجمُ
كبيت شعر وسط مجهلة بفنائه الجعلان والبهمُ؟[28]
وهى، إن صح أنها لسهل، ليست إلا ردّاً على قبيلة كلب، التى يبدو أن بعضا من أفرادها قد فاخروه وشمخوا بأنفهم عليه لأنه مولى وهم عرب، فهى من ثم مجرد دفاع عن النفس مشروع وليست شعوبية وتعالياً على العرب كجنس. وأحب أن أزيد أنه ليس لسهل فى هذا الموضوع إلا تلك الأبيات. كما أنها لم تقابلنى، فيما أذكر، إلا عند الحصرى، وهو متأخر نسبيا.
ولو كان سهل شعوبيّاً يكره العرب ويحط من قدرهم ما وصفه الجاحظ، وهو الذى أصلى الشعوبيين ناراً جامحة وسفّه عقولهم وشكّك فى دينهم، بما وصفه به من النبل والفصاحة والحكمة والذكاء وجمال الوجه وأناقة الشارة. قال: "كان سهل نفسه عتيق الوجه، حسن الشارة، بعيدا من الفدامة، معتدل القامة، مقبول الصـورة، يُقْضَى له بالحكمـة قبل الخبرة، وبرقّة الذهـن قبـل المخاطبة، وبدقّة المذهب قبل الامتحان، وبالنبل قبل التكشّف"[29]. وفضلاً عن ذلك فقد احتفى الجاحظ فى "البيان والتبيين" بكل قولٍ قاله سهل فى مسائل البلاغة والبيان، وأبرزه بوصفه من الكلام المأثور الذى ينبغى حفظه والاستضاءة به، ولم يحدث أن ذكر شعوبيته من قريب أو بعيد.
لكل هذا نرى أن سهلاً لم يكن شعوبيا، فضلاً عن أن تكون عصبيته على العرب شديدة كما جاء فى بعض الكتب التى ترجمت له. وقد دفع محمد كرد على عنه تهمة الشعوبية. وحجته فى ذلك أن اعتدال شخصيته "يمنعه إلا أن يقدر لكل عنصر خصائصه. وهو لم يُعَدّ رجلاً مذكورا إلا بالإسلام والأخـذ عـن علماء العـرب"[30]. وقد رأينا أيضا د. المهيرى يبدى شيئاً من الارتياب فى الروايات التى تتحدث عن شعوبيته.
على أن سهلاً عند محمد حامد الناصر ليس شعوبيا وحسب، بل هو زنديق أيضاً، إذ الشعوبية والزندقة عند ذلك الباحث مقترنتان[31].
وهذه التهمة الخطيرة يجب ألا تُطْلَق على أحد دون دليل راسخ. وأين ذلك هنا؟ إن فى الرسالة المنسوبة لسهل والتى يرى فيها الناصر تنديدا بالمثل الخلقية والقيم الإسلامية ما يدل على عكس ذلك، فهو يستشهد بما أُثِر عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن عمر وطلحة ومعاوية وابن سيرين والحسن البصرى وغيرهم من الصحابة والتابعين. وهناك إشارة عفوية إلى وضوئه، مما يدلّ على أنه كان يصلّى. وهذه العفوية فى الكلام عن شعيرة الوضوء تنفى أن يكون سهل قد ذكر ذلك تقية وتعمية. قال مدافعاً عن مذهبه فى التدقيق فى الإنفاق حتى ولو فى الماء: "وَعِبْتُم علىَّ قولى: من لم يعرف مواقع السَّرَف فى الموجود الرخيص لم يعرف مواقع الاقتصاد فى الممتنع الغالى: فلقد أُتِيتُ من ماء الوضوء بِكَيْلة يدل حجمها على مبلغ الكفاية وأشفّ من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدتُ فى الأعضاء فضلاً على الماء، فعلمتُ أن لو كنت مكَنتُ الاقتصاد فى أوائله ورغبتُ عن التهاون به فى ابتدائه لخرج آخره على كفاية أوّله ولكان نصيب العضو الأول كنصيب الآخر. فعبتمونى بذلك وشنّعتموه بجهدكم وقبّحتموه. وقد قال الحسن عند ذكر السَّرّف: "إنه ليكون فى الماعونين: الماء والكلإ"، فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلإ"[32]. فقد جاء ذكر الوضوء، كما ترى، فى سياق دفاعه عما اتُهم به من البُخْل وليس فى أثناء استعراض تدينه مثلا.
ومثل هذه الروح الإسلامية نلقاها فى "كتاب النمر والثعلب"، فقد بدأه بحمد الله والثناء عليه ثناءً مستطابا وتعديد آلائه وتأكيد وحدانيته والصلاة على النبى عليه السلام وتعديد ما خصه ربه به، كل ذلك فى تفصيل وتطويل. ثم إن الكتاب مملوء بالآيات والاقتباسات القرآنية، وما من رسالة فيه من النمر إلى الذئب أو من الذئب إلى النمر إلَّا وقد صُدّرَتْ بالبسملة والصلاة على النبى عليه السلام، مع أنه لو لم يبدأ تلك الرسائل على هذا النحو ما عيب عليه شىء، لأنها رسائل بين حيوانين، والحيوانات لا تبسمل ولا تصلى على النبى. وقد نقل الجاحظ عنه قوله: "وجب على كل ذى مقالة أن يبتدىء بالحمد لله قبل استفتاحها كما بُدِىء بالنعمة قبل استحقاقها"[33]. كما أن فى القصة حثاً على الجهاد فى سبيل الله[34] وتقديم الآخرة على الدنيا[35] وترك ما يحبه المرء ما دام الله عز وجل يكرهه[36]. وقد حصر سهلٌ الكمالَ البشرى فى الفقه فى الدين والصبر على النوائب وحسن التدبير فى المعيشة[37]، وجعل شرّ شىء فى الدنيا والآخرة هو الكفر والفقر، وخير شىء الغنى والتقى[38]. كما لفت النظر إلى قبيح ما يقترفه العباد من الذنوب الكثيرة مقابل النعم الوفيرة التى يغدقها الله عليهم[39]، وفوق ذلك فإن أيّاً من معاصرى سهل لم يتهمه قط بالزندقة، بل لا أعلم أحداً قبل محمد حامد الناصر قد قرفه بشىء من هذا.
وبعد، فهذا هو رأيى فى دعوى شعوبية سهل وزندقته. وقد أسسته على المعطيات التاريخية المتاحة لنا. ولو ظهرت كتبه الأخرى المفقودة ووُجد فيها ما يدل على أنه كان شعوبيا أو زنديقا رجعنا عن رأينا. أمَّا والوثائق التى بين أيدينا تدل على عكس ما اتُّهم به الرجل من شعوبية وزندقة فإننا سنظل نرفض هذا الاتهام.
وتبقى نسبة رسالة البخل إلى سهل بن هارون. وهناك من يرتاب فيها كما أشار د. المهيرى. وفى رأی د. الحاجرى أن هذه الرسالة إنما ألفها الجاحظ وعزاها إلى سهل، بالضبط مثلما يتكلم مؤلفو القصص بألسنة شخصياتهم، لأن الجاحظ فى هذا الكتاب إنما هو فى رأيه فنان يبدع ويولّد لا روائى يلتزم نقل ما وصل إليه كما هو. والدكتور الحاجرى يؤكد أن دلائل نسبتها إلى الجاحظ قوية غالبة ظاهرة[40]. ومع ذلك فإنه لم يُقدّم شيئاً من هذه الدلائل التى يشير إليها. إنما هو مجرد تشكُّك وافتراض.
أما د. شوقى ضيف فيرى أن احتجاج سهل بن هارون فى هذه الرسالة يشبه احتجاج الجاحظ فى حواره وجدله وفصاحته ولسنه بحيث يختلط الأمر على القارىء فيخيل إليه أنها قد تكون من تدبيج الجاحظ ولكنه نسبها إلى سهل لغرضٍ ما. على أن الأستاذ الدكتور يعود فينفى هذا الظن، لأن نثرَ سهلٍ الآخرَ يدل على أنه كان أيضا لسِنا وأن فى أسلوبه مشابه مما فى أسلوب الجاحظ[41].
وإذا كان لى أن أدلى بدلوى فى هذه المسألة فإنى سأكتفى ببسط الملاحظات التالية:
فأولا: إذا كان أقارب سهلٍ قد لاموه على بخله وراجعوه فى ذلك فلا شكَّ أنها كانت مراجعة شفوية ردَّ عليها شفويا أيضاً. وهذا هو الطبيعى. أما أن يكتب كتاباً فيشهّر بنفسه ويسمّع بها من لم يسمع فذلك غريب. ومتى كان الناس يردُّون على أقاربهم فى مثل هذه الأمور فى رسائل مكتوبة؟
وثانيا: إذا كان قد كتبها لبنى عمه فلماذا أرسلها إلى لحسن بن سهل كما جاء فى "معجم الأدباء" و "سرح العيون"؟ [42] المفروض أن ذلك أمر خاص بينه وبين أقاربه، فكيف يكشفه لرجل من كبار رجال الدولة؟
وثالثاً: هل من المعقول أنه كان يخصف نعله مثلاً كما قال عن نفسه[43]، وهو الذى كان يداخل الخلفاء والأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة؟
ورابعا: أليس من الغريب أن يصف امرأته بالخُرْق وصبيانَه بالجشع، سالكا إياهم مع العبيد والإماء، بل مع الكلاب والحمير أيضا، فى قَرنٍ واحد، وذلك حين قال: "وعبتمونى حين ختمتُ على سدّ عظيم، وفيه شىء ثمين من فاكهة نفيسة ومن رُطَبة غريبة، على عبدٍ نهم وصبى جشع وأمة لكعاء وزوجة خرقاء.
وليس من أصل الأدب ولا فى ترتيب الحكم ولا فى عادات القادة ولا فى تدبير السادة أن يستوى فى نفيس المأكول وغريب المشـروب وثمين الملبوس وخطير المركوب والناعم من كل فن واللباب من كل شكلٍ التابعُ والمتبوع والسيد والـمَسُود، كما لا تستوى مواضعهم فى المجلس ومواقع أسمائهم فى العنوانات وما يُسْتَقْبَلون به من التحيات. وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر، ولا يكترثون له اكتراث العارف؟ من شاء أطعم كلبه الدجاج المسمَّن، وأعلف حماره السمسم المقشَّر"؟ إن سهل بن هارون ليس كأبى الشمقمق مثلاً حتى يتكلم عن أهل بيته ويفضحهم على رؤوس الأشهاد هكذا ويجعلهم أضحوكة للضاحكين.
وخامساً: لو كان سهل فعلاً بخيلاً إلى هذا الحدّ العجيب المضحك فلم اكتفى الجاحظ بنقل هذه الرسالة ولم يورد عنه ما أورده عن البخلاء الآخرين من قصص ونوادر؟
وسادسا: إذا صح أن سهلاً كان شيعيا كما قيل عنه[44]، فإن من اللافت للنظر أن تستشهد الرسالة بأقوال معاوية وزياد وعمرو ابن العاص وهشام بن عبد الملك وأبى بكر وعمر، وتترضَّى عـن الأخيرَيْن، وتسترحـم اللـه لعمـر، وتصف الخليفـة الأول بـــ "الصّدِّيق"[45]. ذلك أن هؤلاء عند الشيعة هم ألدّ أعداء على وآل البيت، والمغتصبون لحقهم فى الخلافة.
أما عن "كتاب النمر والثعلب" فقد أكد د. المهيرى، كما رأينا، أن هناك اتفاقا بين الباحثين على نسبة هذا العمل إلى سهل ابن هارون. وقد ذَكَر، بين من نسبوا هذا الكتاب إلى سهل، ابنَ النديم. ومع ذلك فقد أشارت ليلى حسن سعد الدين إلى أن د. محمد غنيمى هلال فى كتابه "الأدب المقارن" قد جعله مِنْ وَضْع علی بن داود كاتب زبيدة وقال إنه سلك فيه مسلك سهل بن هارون، وأنه قد تابعه على هذا محمد غفران الخراسانى فى كتابه "ابن المقفع"[46].
وفى کتاب د. محمد غنيمى هلال المذكور نجـد الفقـرة التالية: "ولم يقف خطر هذا الكتاب (يقصد "كليلة ودمنة") عند الترجمة نظما ونثرا، فقد نسج آخرون على منواله، فألف سهل بن هارون كتابا سماء "ثعلة وعفراء" هو محاكاة لكتاب "كليلة ودمنة"، وقد حاكى على بن داود بدوره سهل بن هارون فى كتاب سماه كتاب "النمر والثعلب". وقد أحال الأستاذ الدكتور فى الهامش على "الفهرست" لابن النديم و "مروج الذهب" للمسعودى[47]. وظاهر الكلام، كما هو بين، يوافق ما فهمته هذه الباحثة. لكن "الفهرست" لابن النديم يعزو الكتاب المذكور لسهل لا لعلى داود، الذى لا يذكر له إلا "كتاب الزهرة" و "كتاب الحرة والأمة" و "كتاب الظراف"[48]. أما "مروج الذهب" فلم يذكر أن سهلاً قد ألف للمأمون كتاب "ثعلة وعفراء" يعارض به "كليلة ودمنة"، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى كتاب "النمر والثعلب"، بل لم يورد اسم علی بن داود علی الإطلاق[49].

وبعد، فهذه طائفة من الملاحظات أكتفى بأن أضعها بين أيدى الباحثين، ولا أجزم بأن الرسالة ليست من صنع سهل وأن الجاحظ هو الذى ألّفها ونحلها إياه. صحيح أن الجاحظ نفسه قد ذكر أنه كان فى مبتدإ أمره يؤلف الكتاب أو الرسالة وينحلهما لمشاهير عصره حتى يروجا ويلقيا ما يراهما جديرين به من الاهتمام[50]. بيد أن هذا لا يعنى بالضرورة أن الرسالة المنسوبة فى "البخلاء" لسهل هى من هذا القبيل. على أنى لستُ أريد مع ذلك أن أؤكد أنها للجاحظ. إنما أكتفى بما بسطْتُه من ملاحظاتٍ، تاركاً الأمر بعد هذا بين أيدى الباحثين.
الهوامش:
1- انظر مثلاً "الفهرست" لابن النديم تحقيق رضا - تجدّد/ طهران/ ۱۳۹۱ هـــ ـــــ ۱۹۷۱ م/133، وياقوت الحموى معجم الأدباء/ ط ۲/ دار الفكر/ 1400هـــ ـــ ۱۹۸۱م/ مجلد /6 ج ١١/ ٢٦٦، و "زهر الآداب"/ للحصرى القيروانى (على هامش "العقد الفريد"/ المطبعة الميرية بمصر/ 2/ ۱۷۹) و "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبى/ ط بولاق ۱۲۹۹هـــ/ ۱/ ۱۸۱، وابن نباته/ سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ دار الفكر العربی/ ۱۳۸۳ هـــ ــــــ ١٩٦١/ ٢٤٢، وبروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ ترجمة د. عبد العليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ ٣/ ٣٤، ود. محمد نبيه حجاب/ مظاهر الشعوبية فى الأدب العربى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى/ ط 1/ مكتبة نهضة مصر/ ۱۳۸۱ هــــ ـــــ 1961م/ ٤٢٠- ٤٢١، ود. شوقى ضيف/ العصر العباسى الأول/ ط 6/ دار المعارف/ 5۲۸، ود. مصطفى الشكعة الأدب فى موكب الحضارة الإسلامية/ ط ۲/ دار الكتاب اللبنانى/ ١٩٧٤م/ 2 (کتاب النثر/ ٤٧٣ ، ود. عمر فروخ تاريخ الأدب العربى- الأعصر العباسية/ ط4/ دار العلم للملايين/ 1401هــــ ـــــ ۱۹۸۱م/ ۲۱۳، ود. عبد الله سلوم السامرائى/ الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية/ المؤسسة العراقية للدعاية والطباعة/ ٩٨، ومحمد حامد الناصر/ الحياة السياسية عند العرب - دراسة مقارنة على ضوء الإسلام/ مكتبة السنة/ القاهرة/ ١٤١٢ هــــ ـــــ١٩٩٢م/ ۱۹۳، و E. J. Brill's First Enclopaedia of Islam, Vol. VII,P. 62.
2- هامش صفحة ٢٦٦ من المجلد6/ ج 11 من "معجم الأدباء" لياقوت الحموى.
3- شارل بلات/ الجاحظ فى البصرة وبغداد وسامراء/ ترجمة د. إبراهيم الكيلانى/ دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر/ دمشق/ ١٩٦١م/ ۳۱۲.
4- محمد حامد الناصر/ الحياة السياسية عند العرب/ 193
5- شارل بلات/ الجاحظ فى البصرة وبغداد وسامراء/ ترجمة د. إبراهيم الكيلانى/ 400
6- E. J. Brill's First Enclopaedia of Islam, Vol. VII,P. 62. وقد ذكر كاتب مادة "سهل بن هارون فى دائرة المعارف الإسلامية" (وهو المستشرق كريمرز) أن سهلاً كتب هذه الرسالة لأولاد إخوته لا لبنى عمّه.
7- د. شوقى ضيف/ العصر العباسى الأول/ ٥٢٨، وانظر أيضا ٥٢٦ من هذا الكتاب.
8- المرجع السابق/ ٥٣٦، و "الفن ومذاهبه فى النثر العربى" للدكتور شوقى ضيف أيضا/ ط5/ دار المعارف/ 150
9- د. مصطفى الشكعة/ الأدب فى موكب الحضارة الإسلامية/2 (کتاب النثر)/ 473 – 474
10- محمد حامد الناصر/ الحياة السياسية عند العرب/ 200
11- انظر كتابه "الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية"/ 98
12- الجاحظ/ البخلاء/ تحقيق أحمد العوامرى وعلى الجارم/ دار الكتب العلمية/ بيروت/ 1403هــــ ــــ 1983م/ 1/ 33-45
13- ابن عبد ربه/ العقد الفريد/3/ 258-260
14- أم ترى د.السامرائى ممن يتشككون فى نسبتها إلى سهل؟
15- سوف أتناول هذه النقطة فى آخر هذا الفصل.
16- الجاحظ/ البخلاء/ تحقيق أحمـد العوامـرى وعلى الجارم/ 1/ ٤٢، والبيان والتبيين/ دار التراث العربى/ بیروت/1/2/ 157، والحصرى/ زهر الآداب (على هامش "العقد الفريد"/ ۲/ ۱۷۹)، ومحمد کرد على/ أمراء البيان/ 152، 166، ود. عمر فروخ/ الأدب العربى- الأعصر العباسية/ 2/ 214
17- انظر الجاحظ/ البخلاء/ تحقيق أحمد العوامرى وعلى الجارم/ 1/ 42، ومحمد كرد على/ أمراء البيان/ ط3/ دار الأمانة/ بيروت/ 1388هـــ ــــــ 1969م/ 166
18- الحصرى/ زهر الآداب (على هامش "العقد الفريد"/ 2/ 180)، وابن شاكر/ فوات الوفيات/ 1/ 181، وابن نباتة/ سرح العيون/ 248
19- كتاب النمر والثعلب/ 76
20- السابق/ 46
21- نفسه/ 53
22- الحصرى/ زهر الآداب (على هامش "العقد الفريد"/ 3/ 138-139).
23- انظر "زهر الآداب" (على هامش "العقد الفريد"/ 2/ ۱۷۸ - ۱۷۹). وانظر كذلك ابن نباتة/ سرح العيون/ 245
24- E. j. Brill's First Encyclopaeida Islam, Vol. VII, p. 62.
25- جاء فى "أمراء البيان" لكرد على (ص/ ١٥٠): "وروى بعض الرواة أن المأمون كان استقلّ سهل بن هارون...". وواضح أنه نقل ما جاء عند الحصرى كما هو، ولكن بعد حذف كلمة "من" التى تفصل بين "كان" و "استقلّ".
26- سرح العيون/ 245
27- First Encyclopaedia Islam, Vol. VII, p. 62
28- الحصرى/ زهر الآداب (على هامش "العقد الفريد"/ 2/ 179).
29- الجاحظ/ البيان والتبيين/ 1/ 1/ 65
30- محمد كرد على/ أمراء البيان/ 142
31- انظر كتابه "الحياة السياسية عند العرب"/ 200
32- البخلاء/ 35
33- الجاحظ/ البيان والتبيين/ 1/ 2/ 98
34- كتاب النمر والثعلب/ 56
35- المرجع السابق/ 70
36- نفسه/ 73
37- نفس المرجع والصفحة.
38- المرجع السابق/ 75
39- نفسه/ 76
40- انظر "البخلاء" للجاحظ/ تحقيق د. طه الحاجرى/ دار المعارف/ القاهرة/ 269-270
41- انظر "الفن ومذاهبه فى النثر العربى"/ 149-154
42- انظر ياقوت الحموى/ معجم الأدباء/ مجلد6/ ج11/ 266، وابن نباتة/ سرح العيون/ 343
43- انظر "البخلاء"/ تحقيق العوامرى والجارم/ 37
44- انظر فى شيعيته محمد كرد على/ أمراء البيان/ 141
45- انظر "البخلاء"/ تحقيق العوامرى والجارم/ 34، 37، 38، 40، 41
46- انظر ليلى حسن سعد الدين/ كليلة ودمنة فى الأدب العربى/ دراسة مقارنة/ مكتبة الرسالة/ عمان/ 307، 315-316
47- د. محمد غنيمی هلال/ الأدب المقارن/ دار نهضة مصر/ القاهرة/ 182
48- الفهرست/ 134
49- انظر المسعودى/ مروج الذهب/ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد/ ط ۲/ المكتبة التجارية/ ١٣٦٧ هـــ ــــ 1948/ 1/ 8
50- انظر الجاحظ/ رسالة فصل ما بين العداوة والحسد (فى "مجموع رسائل الجاحظ"/ تحقیق باول کراوس وطه الحاجرى/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة/ 1943/ 108-109