زينب ــ مناظر وأخلاق ريفيــة

(ط. مكتبة النهضة المصرية/ القاهرة/ 1963م)

د. إبراهيم عوض

[كُتِبَ هذا النقد عام 1984م]

صدرت هذه القصة قبل الحرب العالمية الأولى (سنة أربع عشر وتسعمائة وألف)، فهى إذن قد ظهرت فى وقت كانت القصـة العربية (بالمعنى الحديث لهذا الاصطلاح ) لا تزال فى بدايات عمرها، ومن ثم فإن النقد القصصى الآن لا يتوقع أن تكون هذه القصـة خالية من العيوب الكبيرة. ومع ذلك فمن الصعب أن يتخلى النـاقد، وهو يتناول "زينب"، عن المثال الأعلى لهذا الفن.
إن أول ما يلفت نظر الناقد مما فى هذه القصة من مآخذ أن المؤلف لم يستطع أن يـُخْفِت صوته فبدا مسموعا بوضـوح فى كثير من المواضع، مما من شأنه أن يحطم لدى القاریء الوهم الذى ينبغى أن يعيش فيه وهو يقرأ أية قصة، هذا الوهم الذى يخيل إليه أن ما يقرؤه ليس قصة مؤلفة، وإنما هى حوادث حقيقية تقع لأناس يعرفهم بل يبصرهم ويبصر ما يحدث لهم بأم عينيه، ويسمعهم وهم يتحاورون ويفرحون ويتألمون، ويرافقهم فى وحدتهم فى ضوء القمر الساجى أو فى غرف نومهم والأرق يستولى عليهم، أو والأحلامُ الورديـة تداعب جفونهم، هذا الوهم الذى من مهمة القصاص خَلْقُه والذى هو المحـكّ الحقيقى لموهبته وقدرته. ويخطىء من يظن، كما ظن كولردج الشاعر والناقد الإنجليزى، أن تلك مهمة القارىء، الذى يقول إنه ينبغى عليه وهو مقبل على مشاهدة مسرحية أو قراءة قصة ما أن يطرح عن ذهنه عادته فى تكذيب ما لم يقع من حوادث وما ليس له من الشخصيات وجود: "Suspense of disbelief"، فان المؤلف القدير هو الذى يخدّر القارىء، ويجعله يتخلى عن هـذه العـادة من غير أن يتنبه لذلك أو يريده.
وهذا العيب يتخذ أشكالا مختلفة، لعل أطرفها فلتة اللسان التى أخذت هيكل على حين غرة، وهو يتحدث عن ليلة أرق فيها حامد، "فلما بزغت الشمس كان حامد نائما فى مرقده بعد ليل أكَدَّه وجاء على قواه، ولم يَقُم إلا والنهار فى ساعة الزوال أو يكاد. فأخذ طعامه وحده، ثم خرج الى جهة المزارع، حتى إذا كان على مقربة من أرض أبويا خليل جلس إلى ظل شجرة ينتظر أن تمر زينب كعادتهـا..." ( ص/ ٢٤٩). فانظر كيف تحول الضمير فجأة فى (أبويا) من الغـائب الى المتكلم. إن هيكلا يروى أحداث قصة يُفْتَرَض أنه ليس واحدا من أشخاصها (وإن كان حامد فى واقع الأمر يمثله هو شخصيا)، ولم يشارك فى أحداثها من قريب أو بعيد. ورواية القصة بهذه الطريقة تقتضى من الكاتب ألا يقول: "أنا" أبدا أو يعلق على شىء يحكيه، أو يبدى رأيا أو يظهر عاطفة تجاه أى شخص أو أية حادثة. وليس ينبغى أن يُفْهَم من هذا أن الكاتب ممنوع من بث أفكاره وآرائه فى القصة، فما القصة فى نهاية المطاف إلا رؤية صاحبها للدنيا والمجتمـع والناس، بل المقصود هو أن عليه، ما دام اختار رواية حوادثها بضمير الغائب، أن يقول ما يريد من خلال شخصياتها ومواقفهم والأحداث التى تقـع منهم أو لهم، على شريطة أن يتم ذلـك كله فى إطار من الواقعية ومنطق الحياة الذى نعرفه، وأن تحتاجه القصة فى عمليـة التطور والنمو التى تمر بها الوقائع والشخصيات.
على أننا ينبغى أن نفرق بين فلتة اللسان هذه على ضآلتها (إذ المسألة فى الظاهر لا تعدو أن تكون تغير ضمير مكون من حرف أو حرفين) وبين فقرة كاملة قد تَقْصُر أو تطول يتحول تيار القصة عندها من السرد (الذى هو وظيفة الراوى، أى المؤلف) الى ما يشبه أن يکون "حوارا داخليا" تناجى فيه نَفْسَها الشخصيةُ التى كان الراوى يتحدث عنها. ولا شك أن هذا الحوار الداخلى يـُحْسَب لهيكل، إذ إنه فيما يبدو لى قد سبق بذلك عصره، وإن أتى هذا العنصر الفنى، فيما أرجح أيضا، عفوا من غير أن يقصده. (الذى أعرفه أن تيار الوعى كان شيئا جديدا فى القصة الفرنسية فى ذلك الوقت، أما فى القصة الإنجليزية فلمَّا يَكُنْ قد ظهر كعنصر فنىّ يقصـده القصّاص قصدا. وأرجو ألا أكون مخطئا فى هذا). ويمكن أن نجد مثالا على هذا (وهو قليل على أية حال) فى الفقرة التالية: (ص/ ٢٤٤): "ها هو عیشی طیب راضٍ، والحياة أمامى سهلة هينة... الخ"، وكـذا فى الفقرة التالية: (ص/ ٢٤٩): "فى أحضان زوجهـا؟ ما أقساك يا ليل!...".
وهـذا التدخل من المؤلف قد يكون تعليقا ساخطا على حال الفلاحين، الذين يَشْقَوْن فى الحقول ليقطف ثمار شقائهم فى نهاية المطاف مالكُ الأرض، الذى يستغل الفلاح نظير قوته الحقير ولا يدور بخاطره يوما أن يمد له يد المعونة، غير عالم "أن هذا المجموع العامل يكون أكثر نفعا كلما زادت أمامه أسباب المعيشة وتوافرت عنده دواعى الطمع فى أن يحيا حياة إنسانية...إلخ". (ص/ 22، 23). إن هذا كلامٌ حَسَنٌ، لا أمارى فى ذلك، وإن لم يكن أكثر من كلام، لأن حامدا، الذى يمثل فى القصة هيكل، لم يتصرف قطّ فى أى موقف من مواقف هذه الرواية تصرفا يدل على تعاطف حقيقى مع هذا الفلاح الشقى، بل اتسمت علاقته بـه بالأنانية والاستغلال. ألم يكن كل ما كان يريده من زينب أن تسلمه جسـدها يعبث به، وإن خادع نفسه قبل أن يحاول أن يخدعنا عندما كان يضفى على هذه الرغبة الجنسية الآثمة غلائل من الخيال والعاطفة المجنحة والفلسفات العقيمة؟ قلت إن هذا بلا ريبٍ كلامٌ حسنٌ، بَيْدَ أن جودة القصة لا تقاس بما فيها من كلامٍ حسنٍ بل بمدی نجاح الكاتب فى جعل هذا الكلام جزءا لا يتجزأ من القصة لا عضوا مـُجْتَلَبا يراد زرعه فى جسد يرفضه، وتجسيده فى تصرفات ومواقف طبيعية مقنعة أو إدماجه فى حوار حى متلائم مع شخصية قائله... وهكذا.
بل إن مثل هذا التدخل السافر قد يهبط أحيانا إلى درك تفسير كلمةٍ مثلا، كالاستطراد أثناء وصف حصاد القمح الى شرح کلمه (شراشر) على النحو التالى: "فقبضوا بشمالهم على سيقان القمح... وباليمنى على شراشرهم تلك النصف الدائرة الحديدية... إلخ" (ص/ 20، 21). إن اللفظة فى القصة إما أن تكون مفهومة، فلا داعى للشرح، وأمّا أن تكون غامضة المعنى فعلى الكاتب فى هذه الحالة أن يستبدل بها غيرها، وإلا فإذا كان مضطرا إلى إثباتها كما هى لدواع فنية ففى الهامش مندوحة لتفسيرها فيه. ذلك أن السرد القصصى لا يحتمل ما تحتمله المعاجم.
على أننا إذا كنا قـد رأينا المؤلف ينسى أحيانا أنه ما دام قد اختار أن يقوم بوظيفة الراوى الذى يعلم بكل شىء فعلية أن يتجاهل أنه هو حامد، فإنه فى أحيان أخرى يتطرف فى اتخاذ الموقف المضاد إذ لا يعامل حامدا فقط على أنه شخص آخر (فهـذا هو المطلوب) بل يجد أن من واجبه أن يعزّيه ويحاول التسرية عنه حينما يراه متألما شاكيا، مع أن المفروض أن يظل خارج دائرة الانتباه تماما. ولنقرأ معا الكلمات التالية: "خفِّفْ عنك يا حامد، فالخطب أهون من أن يبلغ بك اليأس" (ص 226). إن مثل هذا التدخل ،فضلا عن أنه خروج على مقتضيات الفن القصصى وتحطيمه لوهم القارىء الذى يخيَّل له أنه يشاهد أشخاصا حقيقيين ووقائع تحدث أمام عينيه، هو تدخّل لا فائدة فيه، فإن حامدا (بوصفه شخصية يتحدث عنها الراوى) لا يستطيع أن يسمعه (إذ المفروض أنه غائب) بل نحن الذين نسمعه، فهو من ثَــمَّ يخطىء إذا تدخـل أيا كان نوع التدخل.
وقد يتخذ هذا التدخل شكل التعليقات المسرحية، كما هو الحال فى نهاية الفصل الخامس، الذى هو عبارة عن خطابات متبادلة بين حامد وابنة عمه عزيزة، إذ ينهيه المؤلف بهذه الكلمات: "نوتة: كل هذه الخطابات منقولة من مذكرات حامد" (ص ۲۱۲).
ومن معايب السـرد فى هذه القصة اضطراب زاوية السرد، فبينما نجد الراوى يقص حكايته مركزا عدسة مصوَّرته على شخص ما إذا به، فجأة وبلا سابق إنذار أو أی مسوغ، يحول عدسته إلى شخص آخر لا يمكن أن يظهر فى نفس الصورة مع الشخص الأول فتخرج الصورة مشوشة لا تستطيع أن تحدد أهى لهذا أم لذاك، وإن كان الحق يقتضى أن أقرر أن ذلك لم يتكرر فى القصة كثيرا. وأوضح مثال عليه وصف المؤلف مشاعر حامد حين كان هو وزينب وحدهما فى الطابق الثانى لأحد بيوت القرية ثم تركها حين ناداه صاحب له فنزل السلم وأحس بتلك القداسة التى كانت تشمل كل وجوده حين لفه الليل وهو إلى جوار زينب، إذ يقول هيكل: "وما لبث أن صار على الطريق من جديد حتى راجعته ابتسامته وصار يضحك هو وصاحبه" (ص ٤١). إن العدسـة مركزة طول الوقت على حامد ومشاعره، ومن ثم فنحن نفهم تماما سر ابتسامه. إنه يبتسم للذكرى القريبة حين كان وحده مع زينب يستمتع بوجودها الى جانبه، ولكن العدسة فجأة تهتز فى يد الكاتب فتظهر فوق صورة حامد صورة صاحبه وهو يضحك. عـلام يضحك؟ إننا لا ندرى، ذلك أن هذا الصديق لم يكن يعلم بوجود زينب فى الطابق الثانى الذى ذهبا اليه ليشاهدا (الفكـة)، فالمفروض إذن أنه كان يجهل سبب ابتسام حامد. فإذا أراد الراوى أن يجعله يشارك حامدا الضحك فقد كان عليه أن يجعله يسأله عَمّ يضحك، فإذا صرح له بالسبب ووجده مضحكا ضحك معه.
كذلك فإن راوى القصة يسهو أحيانا عن مراعاة مبدإ (الانتقاء)، الذى بدونه لا يستطيع أن يسيطر المؤلف على قصته، فتنمو نموا متوحشا، وتخرج بذلك عن دائرة الفن. إن القصة ينبغى أن تكون تصميما محكما لا مجال فيه للاستطرادات العفوية، إذ الكاتب محكوم بألا يورد أى شىء لا يساعد على تطور الأحداث وتعقيدها، أو يلقى ضوءا على ما خفى من جوانب شخصيات أبطاله... إلخ. وهذا هو أحد الفروق التى تميز عالم القصة عن دنيانا، التى يتوفر فيها الوقت والفراغ حتى لتستغرق الحكاية فيها أعواما، ثم هى بعد ذلك ربما لا تبدو لها نهاية، أما القصة فليس أمامها كل هذا الوقت بل لابد من أن تصل الى نهايتها فى مدة لا تزيد عن أيام قلائل أو ربما عدة ساعات من القراءة. كذلك فالقصة فن من فنون الأدب، الذى تُعُوِرف على أنه يعوضنا فى عالم الخيال عما ينقصنا فى دنيا الواقع. ومما لا مماراة فيه أن دنيا الواقع تبدو لنا وكأنها لا يحكمها أى نظام، إذ هى أوسع وأعمق وأطول من أن تستطيع نظرتنا البشرية المحدودة أن تستوعب كل ما تعج به من تفاصيل وجزيئات، أو تراها فى أطار متناسق، ومن هنا كان على القصة أن تعوضنا عن هذه الفوضى بالتصميم المحكم، بحيث لا تضم من الحوادث والشخصيات إلا ما كانت الحاجة تدعو اليه. فى ضوء هذا يمكننا أن نقرر ونحن مطمئنون أن معظم الصفحة الرابعة والستين وكذلك على الأقل نصف الصفحة التالية لها ينبغى حذفهما، إذ يكفى جدا أن يحكى لنا الكاتب أن حامدا وزينب، فى عودتهما وحدهما من الحقل، قد افترقا عند مشارف القرية، أما أن يمضى فيحكى لنا أنها حيت امرأة من نساء القرية وثانية وثالثة، ومرت على جماعة من الرجال كانوا يلعبون النرد، وأن أحدهم كان يلبس طربوشا وجلبابا من الكشمير... إلخ، إلخ، إلخ، فهو استطراد لا معنى له، مهما تكن قيمته فى نفسه، إذ الفن لا علاقة له بالنوايا الطيبة (انظر أيضا استطراده إلى وصف المسجد وكيفية إضاءته، وقراءة الشيوخ الفانين، على حد تعبيره، الأوراد فيه،... إلخ، مما لا علاقة له بمسار القصة. ص 75).

كذلك أود ألا تفوتنى الإشارة إلى أن البطل فى أحـد الفصول القريبة من نهاية القصة يشير، فى خطابه الذى تركه لأبيه قبل أن يغادر البيت ويختفى فى زحام الحياة، الى حادثة يقف عندها محاولا استجلاء مغزاها، مما يدل على أنها ليست بالحادثة التافهة فى حياته، وهو ما كان يستلزم من الراوى أن يذكرها قبل ذلك، حتى إذا أشار إليها حامد كانت إشارته قائمة على أساس ، ولم تكن به حاجة الى التلبث عند تفاصيلها، ولم تكن كذلك روايتها بالنسبة لنا شيئا نؤخد به على غرة، ونشعر أنه قد اجتلب اجتلابا (انظر وصفه لحادثة نقل العمـال الطوب وحامد بينهـم، والمشاعر الجنسية التى يذكـر أنه أحس بها فى ذلك الوقت نحو زينب... الخ. ص ٢٦٧ - ٢٦٨). على أن هـذا الخطاب نفسه، على النحو الذى كتب به والموضوعات التى طرقها وما يسربله من أفكار فلسفية، ينال من قيمة القصة بوصفه شيئا غير واقعى، إذ لا يعقل أولا أن يكتب حامد خطابا مطولا بهذا الشكل (نحو ثمانى عشرة صفحة من القطع المتوسط ص 2٦٦ الی ۲۸۳) الى أبيـه، الذى مهما يكن غنيا ولـه أولاد فى المدارس فهو شخص ريفى لا نعرف له اهتمامات ثقافية غير قراءة الصحف أو الاستماع الى ابنه وهو يقرؤها حين ترد من البندر آخر النهار. كذلك ليس من المعقول أبدا أن يجرؤ شاب فى أوائل القرن بل ولا الآن، أو يستسيغ أن يصف لأبيه مفاتن حبيبته الجسدية وبهذه اللغة الأدبية المتحذلقة (من مثل: وهل رأيت فى حياتى كعينيها تقوس فوقهما حاجبان أشد نفاذا من السهم. وعلى صدرها ثديان يوحيان رغما عن الثوب الذى يسترهما بكل ما تكنه فتاة فى ثديها من الشباب والرغبة، وخصر رقيق فوق أرداف تزين عبل ساقيها. ص ٢٦٧) أو يحلل له تقلب مشاعره وكأنه يمسك بمسار نفسى يرصد به ما دق منها وما جل ويفسرها (ص 268-269)، مازجا ذلـك بالتفلسف فى نظام الزواج: "... وجعلت فكرة الزواج، التى، يتباهى بها الخلف عن سلفهم ويدعونها أحسن ما أظهرت على الأرض عقول بنى آدم، موضع النقد المر (ولا أنكر إلى اليوم أنى أعدها نقصا خصوصا على ما هى عليه، وأعد الزواج الذى يبن على الحب ويستمر مع الحب زواجا خسيسا)... أقبل الربيع على القلوب وبعث الشباب إلى كل موجود، فنبه قلبى من غفلته، وذكرت ريفيتى التى تزوجت أيام الشتاء، فتمنيت لها الهناء. ثم راجعنى ذكر ابنة عمى، واستولى على نفسى وكل حواسى، وصرت لا أعرف غيرها، ولا أحب إلا هى (كذا)، ولا مطمع لى إلا أن تكون معى. ص ٢٦٩... وما أظن أن قلبا سريع التأثر والتقلب إلى هذا الحد يكون قد بلغ الحب منه مبلغا عظيما... وحسب ذلك مجرد خيال (كذا) كان يجيئنى لأنى كنت محتاج إليه. ولكن أليس الحب فى ذاته خيالا يجعلنا نتصور امرأة بشكل نعتقده الجمال كله، ونود لو تكون لنا ونعيش سعيدين معا؟ 272-273" (ونفس الكلام ينطبق على ما أفضى به لشيخ الطريقة. ص ٢٦٠ وما بعدها).
بل إن اختفاء حامد النهائى من القصة على هذا النحو هو حدث غير واقعى، فأين يذهب شاب مثله؟ وكيف سيعيش وهو الطالب المرفه الذى تعود على أن يكفل له أبوه الثَّرِىُّ كل ما يحتاج؟ وكيف يتقبل أبوه وأمه وأخوته مسألة اختفائه بهذه البساطة) وهل كانت مصر فى ذاك الوقت بالبلد الذى يمكن أن يغطس فيه شاب مثقف كحامد فلا يطفو على السطح مرة أخرى؟
كذلك ليس واقعيا أن تموت زينب بالسل لمجرد أنها قد حرمت ممن تحب مرتين: مرة حين زوجها أهلها (والغريب أنها حين شارفت حياتها على المغيب أخذت تعاتب أمها على هذا الزواج مع أنها لم تبد لهم رغبتها فى إبراهيم، ولا ذهب إبراهيم يطلب يدها منهم، فكيف يكون الذنب ذنبهـم اذن؟). ومرة حين سافر الى السودان لتأدية الخدمة العسكرية، ذلك أن للسل أسبابه الطبيعية، التى لم يسق لنا المؤلف منها سببا واحدا، وإنما نفاجأ بهذا المرض اللعين ينشب فيها بغتة أسنانه وأظافره حتى يشرب آخر قطرة من دمها. إن الاصابة بالسـل ليست مستحيلة ولا مستبعدة فى مصر ذات الجو المعتدل بل الحار، ولكن كان على المؤلف أن يبين لنا من أين أتى هذا المرض الخبيث. وأكرر القول هنا إن الحيـاة تمتلىء حتى حافتها بالحوادث التى لا نستطيع لها تعليلا، ولكن القصة غير الحياة. إنها فرصة لتعويضنا عن هذا العجز عن معرفة كل شىء، أما أن يلجأ المؤلف إلى مثل هذه الأحداث غير المفسرة كلما أعوزته المقدرة على أن يسيطر على زمام قصته فهو مما يسىء الى عمله إساءة شديدة. (هل أنا بحاجة إلى أن أعيد ما قلته فى مستهل هذا التحليل من أننى مدرك تماما أن هذه القصة تنتمى للمراحل الأولى من تاريخ القصة المصرية؟ ومع ذلك فليس سهلا على الناقد أن ينسى أن وظيفته إنما هى قياس العمـل الأدبى إلى ما فى ذهنه من مثال أعلى).
ومن عجب أن شخصيات القصة، برغم ما فى اللوحات الوصفية التى صورت ريفنا وحفظته للأجيال المقبلة من شاعرية عبقرية، هى شخصيات ذات نزعة واقعية، وذلك على خلاف ما يظن كثيرون من النقاد. فالحب بين زينب وحامد، وبينها وبين إبراهيم، ليس من ذلك النوع المجنح المرفرف فى أجواء الفضاء، بل هو حب ينزل على مقتضيات الغريزة الجنسية، ولا يستطيع من ثمة أن يعبر عن نفسه إلا من خلال القبلات والأحضان. بل إن هيكلا قد أغرق فى وصف هذه القبلات والأحضان إلى حد مقزز. إن أحدا لا ينكر أن للمشاعر الجنسية حلاوتها، بيد أن وصفها بالتفصيل الذى جرى عليه هيكل فى بعض مواضع قصته، وتتبع دبيبها فى جـسد الشاب والفتاة يقلب هذه الحلاوة الى شىء منفر، وقد يجلب الغثيان. (انظر أمثلة لذلك فى ص 96، ۱۷۹، ۱۸۰، ۱۸۳). ومما يجلب الغثيان أيضـا نـزعـة حامد المادية الأنانية، ومحاولته تسويغ نيله من يشتهيهن من بنات الريف (بدون التورط فى الزواج) بالاستناد الى بعض الأفكار الفلسفية الفطيرة التى تقممها من هنا وهناك (انظر ص ۱۳۰ – ۱۳۷، ٢٤٢، ٢٤٣، ٢٤٨، وكذلك ص ٢٧٤، ٢٧٧). ومن العجب العجيب أن حامدا يأنس فى نفسه الجرأة على القول بأنه ((من جماعة الذين يحتقرون الصلات التناسلية بين الرجل والمرأة، ويعدون كل ما خرج عن سرور القلب ولذة الروح من حب ظاهر أو قبلات متبادلة تدل على عظيـم صلة ما بين شخصين تدنيا إلى الحيوانية، وإجراما ضد الأبرياء الذين ننزلهم من أجل قضاء شهواتنا من أوج سعادتهم وسرورهم. ص ٢٧٦))، حامدا الذى لا يستطيع على مدار نحو ثلاثمائة صفحة أن يتحكم فى شهواته، فهو ما بين حاضن زينب أو غيرها أو أرق مسهد لأنها منه بعيدة المنال.
حتى الهواء يضفى عليه الراوي أحاسيس جنسية، إذ يقول عن حامد إنه ((يسير حالما ذاهبا فى خيالاته إلا أن يستلفته جمال ما حوله أو الهواء يهب فيرفع من أطراف رؤوس الحبر، فتصيح بعض الفتيات ملتفتة تريد أن تتقى هذا المتحسس. ص ١٦٦)). إنها كلمة واحدة، ولكن لها مغزاها البعيد (قارن ذلك بالأغنية التى تقول ( الهوا بعتر ضفایری.. عدى وهدى، وفك العقدة، وقام طاير! ).
بل إن أخلاق الشخصيات وتصرفاتهم هما، بوجه عام، أخلاق وتصرفات واقعية، فحامد مثلا برغم حبـه لزينب لا يفكر أبدا فى الخروج على مواضعات العرف الاجتماعى والزواج بها، ذلك أنها، برغم استمتاعه يقربها ولهاثه وراءها وإضفائه هالة شاعرية عليهـا وعلى جمالها، ليست فى نظره أكثر من فتاة ريفية فقيرة. وهو لا يكف عن ملاحقتها حتى بعد زواجهـا من حسن، برغم أنها صدته قبـلا متحججة بأن وضعها الجديد كزوجة يوجب عليها أن تبتعد عنه. أقول ((متحججة))، ذلك أن خطبة حسن لها، وهو صديق إبراهيم، لم تمنعها من أن تترك نفسها يقبلها هذا كلما اختلا أحدهما بالآخر (ص ١٢٦)، بل ولا منعها زواجها من حسن أن تغافله، عشية سفر إبراهيم إلى السودان قرب نهاية القصة وتسللها مع هذا الحبيب الى غرفة فى أسفل الدار، لتقبله وتعانقه كما تشاء، وإن كانا قد مزجا هـذه القبلات والأحضان بالدموع والحسرات. (ص 236، ۲۳۸).
على أن هذه الواقعية لا تعنى أن هذه الآثام كانت تمر من غير رد فعل من ضمائر مجترحيها. فها هو حامد تتعاوره النشوة ولذع الضمير من جراء ما كان يرتكبه من عبث مع الفتيات الريفيات. (انظر مثلا ص ۱۸۱، ۱۸۳، 186).
بل إن القصة لتوغل فى الواقعية إلى الحد الذى نرى فيه إبراهيم برغم لهفته الشديدة على مصارحة زينب بحبه لهـا وهما فى طريق العودة ساعة الغروب من الحقل، يسألها أن تنتظره حتى يخطف ركعات المغرب، على حد تعبير الراوى. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يمسـك یدها بعد ذلك وهما فى المصلى، بل ويضمها إليه منتشيا بجسمها الملتصق بجسده (ص ۱۱6 ، ۱۱۷). ولابد هنا من التأكيد بأن قصة ((زينب)) هى من القصص المصرية القلائل التى نرى فيها أبطالها، برغم أنهم شبان، أى فى تلك الفترة الموارة بالشهوات والعواطف، حريصين على تأدية الصلاة، وهذه سمة واقعيه تحسب لها، إذ إن تأديـة الصلاة، وإن لم تكن تدل بالضرورة على قوة التدين، كانت ولا تزال من سمات المجتمع المسلم، فتجاهل القصاص عامدين متعمدين لها يضفى على المجتمع الذى تتناوله القصص المصرية (وبالذات تلك التى يكتبها اليساريون) غرابه غير مقبولة. والحقيقة أن المؤلف، وإن كان جعل بطل قصته بتأثير قراءته فى الفكر الغربى المتحرر متأرجحا دائما بين الإيمان والالحاد، قد حرص على أن يأتى وصفه للقريـة المصرية صادقا، فلم يهمل، فى غمرة انسياقه وراء وصف شهوات أبطاله وعواطفهم، أن يصور تدين القرية المصرية، على ضيق نطاق هذا التدين وسلبيتـه.
فإذا ما انتقلنا الى تحليل شخصيات القصة لاحظنا كما لو أن زينب وحامدا لم يكونا يعرفان ماذا يريدان. إن من الصعب أن تعرف من القصة على الأقل قبل أن تتزوج زينب من حسن، أكانت زينب تحب حامدا أم تحب إبراهيم، أم كانت تحبهما معا؟ وكذلك الأمر مع حامد وتوزع عواطفه بين زينب وعزيزة وغيرهما. ولست أنوى أن أفعل أكثر من سوق بعض النصوص التى توضح ما أقول، مخليـا بينها وبين القارىء من غير تعليق، إذ الأمر لا يحتاج الى تعلیق:
((... وبعد لحظـة سألها:
ازيك يا زينب!
ولكن زينب كانت فى تيهاء حتى لم تستطع تمييز ما يقوله لها حامد، فحولت نحوه عينيها وأجابته بنظرة تحوى من الرقة والألم ما ذهب إلى أعماق نفـسه. ولو لم يكن ما فى المكان من ظلمة ليل شتاء آخر لذابت لهذه النظرة نفس الوجود....
وازيـك يا زينب!
كرر حامد سؤاله وأخد يدها بين يديه، وقبلها على صدعها قبلة أخوية. الواقع أنه أحس كأن الفتاة المسكينة تعانى ألمـا نفسيا لا يعزيها عنه أحد فأخذته الرحمة بها. وتقبلت زينت ذلك منه بقنوع وشكر نمت عنه نظراتها. فلما رآها كذلك زاد عطفا عليها، فجذبها وجعل يلاطفها، وهى قد تاهت عن نفسها ونسيت الماضى والحاضر، واستسلمت للطفه ورقته، وتركت نفسها مستندة عليه. لكنها لم تلبث أن اعترتها قشعريرة حين ذكرت أن قلبها ليس بيدها، وفى لحظة غطت عيونها سحابة من الدمع تنم عما عراها من الحزن، وتعبر عن عظيم تقديرها لحامد.
تمر علينا ساعات وقلبنا ملك غيرنا، ولكن لثالث على نفسنا من السلطان ما نود لو أعطيناه كل حياتنا، فيحزننا الإحساس أنها ليست لنا، وأن أيامنا على الأرض وما تكنّه من سعادة وألم وحزن وفرح انتقلت من حوزة يدنا وأصبحت فى حيازة غيرنا...)) (ص ۳۹، 40).
((... والواقع أن زينب لمـا قامت بعد انتهاء ((الفكة)) ونادتها أختها جلست كذلك تفكر فى حامد وفى تلطفه فى السؤال عنها، وأحـست بهزة ميل نحوه. ربما كان صحيحا أن فى النفوس الإنسانية قِسْما إلهيا مطّلعا على ما لا تدركه الحواس هو الذى يهدينا فى آمالنا وميولنا، ويرسم لنا طريق الحياة)) (ص 43).
((وكانت زينب تجد من السعادة فى كلام حامد ومحادثاته ما يدخل إلى قلبها الهناء الجم. لكن تلك الحاجة عندها لشخص تعطيه نفسها ـ(ذلك الحب التائه بين الناس وعوامل الخليقة والذى يريد أن يستريح ويريح معه روحها الثائرة بِلُقْيَا روح أخرى تختص بها، وتهبها حياتها) كانت أبعد الأشياء عن حامد وعن التفكير فيه. فإذا مر بخاطرها فى ساعات هيامها كان كأى غريب عن روحها، لا يثير من نفسها أقل التفات. وكأن النفس تطمح دائما فى بحثها عن محبوبهـا إلى شخص يعدلها فى المكانة لتجد من الحرية معه ما يضمن لها سعادتها، أو كأن ذلك الحنين بين أضلعنا إلى النصف الذى انفصل عنا فى الأزل يوم خرجت حواء من ضلع آدم يجعلنا ننظر إلى بنى طبقتنا وطائفتنا دائما كأنهم إخوان، وبينهم وبيننا من الرابطة ما لا نعرفه قِبَل الطبقات الأخرى، فنحن لهم وهم لنا، وبين قلبوهم وقلوبنا من أواصر الود ما يدفعنا نحوهم، فمنهم نطلب الصديق والشريك والمحب والزوج، لأنهم قبل غيرهم موضع ثقتنا)) (ص 50، 51).
((... كان ذلك أول الخريف والوجود يسلم الى الماضى أيام النشوة والفرح، ويأخذ عدته لصمت الشتاء، وحامد يرسل على الأراضى وإلى الناس نظرات الوداع، ويسير جنبا لجنب مع زينب وقد تحركت نفسه وارتاع جنانه، وثارت كل حواسه أن ذكر فراقه القريب لتلك الأماكن المقدسة، ولتلك الطبيعة وبناتها، ولم يملك لسـانه أن يقـول:
وأنا مسافر بعد أسبوع!
وتلا ذلك نظرة تجلت فيها كل احساساته وما يجيش بصـدره أرسل بها الى الفتاة، التى لم تجب بكلمة ، بل أسبلت عيونها، وكلّها الأسى والحزن لذلك الفراق العاجل. وكأنما أحست بهذا اليوم القريب حين تصبح كغيرها من الفتيات ولا حامد الى جنبهـا... فلمـا انعطفا الى طريق القرية، وقد سبقا الآخرين وخلا بهما المكان، مالا إلی مرتفع من الأرض مختف فجلسا فوقه. وبعد برهة أمسك حامد بيد زينب، ثم ضم أصابعها ضما شديدا. ولكنها بدل أن تتألم أو تتأوه أو تسحب يدها طوت هى الأخرى أصابعها على يده وضمتها. وحينذاك مال برأسه نحوها، وفى شبه الظلمة المحيطة بهما وضع قبلة على خدها. فما لبثت أن أحسـت بها حتى عرتها الرعدة، وتلفتت يمينا وشمالا. فلم يفهم حامد من هذا شيئا، وجذبهـا نحوه، فطوقهـا بدراعيه، وجعل يقبلها فى صُدْغها وخدها وعنقها وعلى القليل الظاهر من شعرها، والبنت كأنما أصابتها جنه قد استسلمت إليه، وتضمه من حين لحين وتقبله. ثم وضعت فمها على فمه، وأسبلت عينيها وكاد يغيب رشدها. وأحس حامد فى تخدره كأنما يرشف من لسانها الشهد المذاب. وفى هاته الضمة الكبرى تاه رشدهما، وبقيا كذلك حينا من الزمن...
ذكر حامد ذلك فى وحدته، ثم سأل نفسه: ((هل عند الأيام من الجود أن تسمح له بمثل هذه الساعة من جديد. وخيل إليه أن يذهب لوقته، فيبحث عن زينب ويجدها أينما تكون، ولو علم ما شغل بالها اليوم وما تكن من الحب لإبراهيم لعرف ما بينه وبينها الآن من حجاب. وهل حجاب أقوى من الحب ينسى صاحبه الأشياء والناس إلا محبوبه وما فى القلب من ذكرى هذا المحبوب؟)) ( ص 95-97 ).
((... غير أن حامدا يحب عزيزة ويود أن ينفرد بها)) (ص 198).
((... وأدهى من هـذا وأمر أنه ينتقل كل يوم من واحدة لصاحبتها، وينسى الأولى لمرأى الأخرى، فإذا غابت رجع إليهـا، وإن رأى غيرهما من بنات جنسهما هان عليه أن يرتمى فى أحضانهـا ويسلم وجوده إليهـا.
تأتى عزيزة إلى البلد، فيعد لقاءها أكبر الأمانى، ويتغنى بذكراها، ويأتى على محاسنها، ثم يكتب إليها خطابات كلها الحب ويشكو ما عنده من الجوى واللوعة. فإذا هى تركت البلد رجع الى زينب والتغزل بها ومقابلتها وسؤالها عن الأيام القديمة. وإذا قابلته فى العاصمة فتاة حسب فيها محبوبا جديدا، فتمشى إلى صدره هواها. ووجد من العذوبة فى سماع ألفاظها، وفى النظر إليها ما ينسيه كل شجن... ما هذا كله؟ وأی قلب قلبه الذى يسع حب كل هاتيك الفتيات الناضرات والزهرات اليانعات أمام عينيه؟ أم أن لكل شهر من شهور السنة، بل لكل يوم من أيامها من الأثر فيه ما يوجّه احساسه إلى جهة جديدة؟ كلا، ذلك مرض عالق به متأصله جذوره فى نفسه، وأعماله تلك مظهر من مظاهر مرضه العضال)) (ص ٢٥٢).
ولست بالطبـع أقصد من وراء هذا إلى انتقاد عواطف هذه الشخصيات وسلوكها، إذ ما دام القصاص قد صور ذلك كله تصويرا واقعيا فيكفيه هذا، وإن وددت لو أن الكاتب لم يغرق فى وصف الأحاسيس الجنسية والتفصيل فى وصف الأثداء والنيران التى كانت تلهب جسدی حامد وزينب، إذ إن ذلك معروف لنا جميعا، سواء منا من استعصم بالعفة أو كان متزوجا أو أشبع غرائزه فى الحرام، ومن ثم فإنه لا يزيدنا بالحياة ولا بالحب خبره. وكل ما هناك أنه يستثير الغرائز الجنسية، التى لا يكسب أحد من وراء استثارتها شيئا، ومن العبث أن نفصل هذا الفصل الحاسم المتكلف بين الأدب (والفن بعامة) وبين الأخلاق، إذ الإنسان الفرد وكذلك المجتمع كلاهما وحدة واحدة لا يمكن فصل الأخلاق فيها عن الفن والأدب. وليس من المعقول أن نعمل جاهدين على صيانة الأخلاق وتربيتها وفى نفس الوقت ندافع عمن يهدم هذه الأخلاق، تحت شبهة أنه أديب وأن للأديب الحرية فى أن يقول ما يشاء. على أننى أحب أن أكون واضحا هنا، وأؤكد أننى لا أدعو إلى أن يكون الأدب والفن أداتين من أدوات الوعظ والدعوة إلى الأخـلاق الفاضلة، بل كل ما أريده من الأديب والفنان ألا يعملا على هـدم الأخلاق. ومن حقهما أن يصورا بعد ذلك ما يشاءان مما يريانه فى واقع الحياة. ولست أظن أنى بهذا أسلب منهما بشمالى ما أعطيتهما بيمينی، إذ يمكن لكل منهم أن يجعل موضوعه مثلا الزنا، على ألا ينفقا وقتا طويلا فى وصف تفصیلات بعينها، إذ من شأن مثل هـذا الوصف المفصل أن يخدر القارىء، وبدلا من أن يرى فى الزنا إثما فظيعا يحس به شيئا لذيذا مغربا، وبخاصة إذا كان الأديب من هؤلاء الكتاب الحريصين على إحاطة هذه الآثام بالهالات الشاعرية الكاذبة، اللهم إلا إذا رد الكاتب من هؤلاء علينا بقوله: ((وماذا فى الزنا؟)) فهذا شىء آخر، إذ المسألة عندئذ تخرج من نطاق علاقة الفن بالأخلاق إلى نطاق اختلاف القيم الأخلاقية نفسها بين الفنان أو الأديب من جهة وبين الناقد من جهة أخرى.

على أن هناك بعض التناقض غير المفهـوم فى مشاعر بعض الشخصيات وتصرفاتهم، فمثلا زينب، التى تستحى من تخيل نفسها فى أحضان إبراهيم، الذى تحبـه (ص/ 52) هی زينب التى لا تستنكف أن تترك حامدا يحضنها ويقبلها كما يشاء، بل إنها فى أول فرصه تطوق إبراهيم بذراعيها، ويغيب رشدهما، رغم أنهما كانا على مقربة من أختها وبقية الفلاحين ساعة القيلولة فى الحقل. (ص/ 54). وبرغم هذا لا يلبث الراوى بُعيد ذلك أن يعلق بقوله ((فإذا ما رأته هو (أى إبراهيم) جاءها حياء المرأة الطبيعى، فأسبلت عينيها، وتمتعت فى نفسها بلذة أشبه شىء بالسكر (ص/ ٥٤))).
كذلك فمن الصعب أن نقتنع بأن فتاة ريفية جاهلة تقضى يومها كله فى الحقل، لم تتردد على مدرسة، أو تترب فى بيئة متدينة يمكن أن تطوف برأسها هذه الصورة التى أراد الراوى أن يصف بها مشاعر النفور لديها من زوجها: ((... تؤمن بالسوء تحمله معها الأيام الآتية إيمانها بالنار وعذابها، وكأنما دار ذلك الزوج الذى يريدون لها قبر تحتله زبانية الجحيم، وكلهم ينظرون بعيون براقة يقدها خط من النار ذات اللهب)) (ص / 60).
ومثل ذلك غرابة تقبيل حسن وهو شاب ريفى لا تمتد دنياه لأبعد من الحقل والناس والمحراث يد زينب زوجته (ولم يكن ذلك مرة واحدة بل مرتين) ليسترضيها ويسترحمها ويدخل على نفسها الواجمة البهجة والسرور (ص/ ١٦٢). ومن التناقض أيضا أن يشعر حامد بكل هذا التأثم بعد الذى حدث بينه وبين إحدى فتيات الحقـل (ص/ ۱۷۹ – ۱۸۰)، مع أنه لم يفعل معها أكثر مما فعله مع زينب مرارا. انظر كيف يبلغ به الإحساس بالذنب لدرجة أنه ((لما وصل الى ترعة فى طريقه رمی بملابسه الى البر، ونزل إليها يطَّهَّر من رجسه ويستغفر الله من زلته، ويرمى عن نفسه ذلك الذنب الكبير. وكلما رأى امرأة سائرة استعاذ بالله من شرها، واستنجد الملائكة الأبرار ضدها، وكلم السماء بصوت عال يصعد إليهـا وسط سكوت الهـواء وسكونه (ص ۱۸۱). إن حامدا لم يكن متدينا فى يوم من الأيام، ومع ذلك فإن الراوى يؤكد أن الناس يعرفون عنه الاستقامة والدين (ص/ ١٨١). إنه لا يصلى (ص/ ١٨٤)، بل إنه (على حسب الظاهر على الأقل) لا يؤمن بالآخرة، فالموت عنده، هو ((ذلـك الداء الأخير نرجع معه إلى العدم الذى خرجنا منه: عدم الأبدية الخالد)) (ص/ 195، وانظر كذلك ص ٢٤٦). وهذا هو اعتقاد زينب، فيما يبدو أيضا. (ص ۳۲۸، ۳۳۰). بل إن الكاتب (ص/ ٢٤٣) ليصوره وقد استولت عليه اللامبالاة، على النحو التالى: ((... يقلب فى ضميره عله يجد ما يؤاخذ نفسه به، فلا يجد شيئا، ويعمل ما كان يأنف منه من قبل فلا يجد الأسف إلى نفسه سبيلا. ولو أن الكون دكت قوائمه، والقيامة قامت، وجاء النشور، وتجلى الخالق جل وعلا حتى بلغ الصراط لهب النار، وأسمعت من قصور الجنـة مسمعات الغوانى لمـا كان أمام ذلك كله إلا هازا رأسه، مستغربا ما يأخذ الناس من الوجل)). صحيح أن هذه المبالغة، التى لا أظننى أعدو حدود اللياقة إذا وصفتها بالوقاحة، هى من كلام الراوى. بيد أن تخيله رد فعل حامد على ذلك النحو له دلالته ومغزاه. ثم إن رأى حامد فى الزواج، كنظام اجتماعى، يخالف تماما نظرة الدين إليـه (ص۱۳۰ – ۱۳۲). وهو أيضا لا يجد غضاضة فى أن يشهد الله على قبلته لزينب (ص/۱۸۷).
وما دمتا تناولنا رسم الشخصيات فمن المناسب أن نتحدث هنا عن لغـة الحوار، تلك التى ما زال الأدباء والنقاد واللغويون والمفكرون العرب يختصمون بشأنها. وبرغم أن كاتب هذه السطور من أنصار الرأى القائل بأن القصة ينبغى أن تكتب كلها سردا ووصفا وحوارا بالفصحى، وإن كان لابد من استعمال لغة سهلة بسيطة فى الحوار قريبـة من العامية ومطعمة ببعض عباراتها، فإننى أكتفى هنا بالإشارة إلى أن الكاتب قد جرى فى قصته هذه على كتابة الحوار بالعامية، إلا أنه ينتقل فجأة (ص 133) إلى استخدام الفصحى، مع أنه فى الصفحة السابقة على ذلك مباشرة، وفى الحوار الدائر بين نفس الأشخاص، قد استعمل العامية. ولا أدرى بالضبط سر هذا التغير المفاجىء، وربما كان لتحول الموضوع من مجرد ملاحظات ساخرة إلى نقاش عميق حول موضوع الزواج دخل فى ذلك، وكان العامية لا تستطيع، فى نظر الكاتب، أن تؤدى هذه الأفكار العميقة. وثمة ملاحظة أخرى على هذا الحوار هى أن كلام المتحاورين قد يطول، مما يجعلنا نفتقد فى هذه المناقشات الحيويةَ التى نجدها فى الحوارات الأخرى. تصور مثلا أن حامدا يظل يتكلم صفحتين ونصفا ص/ 134 – 136) من غير أن يقاطعه أحد ولو باستفسار أو استحسان أو حتى بكلمة عابرة تنبهنا إلى أن هناك من يستمعون اليـه.
أما حامد فإنه فى حديثه إلى نفسه يستخدم الفصحى (ص/ ١٨٢ – 184)، وإن كان استخدام الفصحى هنا راجعا، فيما أظن، إلى أن معظم الكتاب قد درجوا على التعبير عن خواطر شخصیات قصصهم بها. ومع ذلك فلا شك أن هذا نوع من التناقض إذ الانسان يستخدم فى تفكيره اللغة التى يتحدث بها.
وقبل أن نترك هذه النقطة لغيرها ألفت الانتباه إلى أن المؤلف فى الحوار العامى يكتب الكلمات العامية عادة كما تنطق، وذلـك مثل ((ولیامدی)) (والايام دى) ص/ 170 ومثل ((بالصوط)) (بالصوت) ص/ ٢٠٨، ومثل ((حبة مَوَرْد)) (ماء ورد) ص/ ٢٠٧، وهكذا.
وبعد ، فإذا كانت هذه هى عيوب قصة ((زينب))، وهناك عيب آخر سأتناوله بعد قليل، فما الذى يجعل القراء يقبلون عليها حتى اليوم هذا الإقبال الكبير؟ يبدو لى أن هذا راجع إلى العوامل الثلاثة التالية:
الأول هو هذه الصورة الدقيقة والحية لريفنا المصرى فى ذلـك الوقت. إن هيكلا لم يغادر تقريبا شيئا من عادات القرية وأفراحها ورجالها وألعاب صبيانها وحيواناتها وطيورها ومتاعها وحقولها ومزروعاتها وأسواقها وأعيادها وبيوتهـا ونسائها، وإن غابت عن القصة عدة أنواع من الطيور التى تعرفها القرية المصرية. لقد أكثر الراوى من ذكر القُمْرِىّ والقُبَّرة والعصفور، وذكر أبا فصادة (فيما تنبهت إليه) مرة واحدة أو مرتين، وكذلك الحال مع الحمام. ولكن أين اليمام، والغراب، والحدأة، والخفاش وأبو قردان، والبلبل، والكروان، و عصفور الجنة، والهدهد؟ اللهم إلا إذا كان بعض هذه الطيور قد اختفى مؤقتا من مصر فى ذلك الحين، كما يحدث حينا بعد حين، فإن كاتب هذه السطور لا يذكر أنه رأى الغراب فى السبعينات، ومع ذلك فقد صادفتُ عندما عدتُ من الخارج فى أوائل الثمانينات عددا من الأغربة على أرض الحرم الجامعى، فكانت لرؤيتى لها بهجة كبيرة إذ أعادتنى إلى طفولتى فى الريف حينما كنا نشاهد الغراب ونسمع نعابه فى كل مكان، على قمم الاشجار وفى الحقول وعلى الطرق الزراعية.
لقد وصف هيكل وصفا حيا دقيقا عمل الفلاحين فى الحقول. سواء وهم يجمعون القطن، أو ينقون الدودة، أو يسقون الأرض بالطنبور أو بالساقية، أو يزرعون البرسيم أو يحصدون القمح أو يدرسونه، كما استطاع أن يجعلنا نشاهدهم عن كثب وبوضـوح بل ونسمع لغطهم وهم يتسلمون أجرة الأسبوع من الكاتب ليلة السوق. حتى المسجد لم يفت الكاتب أن يرسمه رسما كله حيوية، برغم أن هذا الوصف لا يندمج مع بقية عناصر القصة اندماجا عضويا.
إن كل صفحة فى القصة تعكس شيئا من حياة الريف سواء فى الحقول أو فى داخل القرية والبيوت، حتى العشب الذى ينمو على شفاف الجداول لم يفت الكاتب أن يقف عنده ويضعه تحت أبصارنا بطريقه تحس معها أننا يمكننا أن نمد يدنا ونلمسه لمسا.
وإنى لأوافق الأستاذ يحيى حقى موافقة تامة على أن ((زينب)) ((لا تزال إلى اليوم أفضل القصص فى وصف الريف وصفا مستوعبا شاملا))، لا استثنى من ذلك ولا قصص المرحوم محمد عبد الحليم عبد الله نفسه، الذى تجرى حوادث كثير من قصصه فى الريف، والذى أبدع أيضا فى وصفه، فإن انجازه فى كل قصصه ليقصر عما حوته ((زينب)) وحدها فى هذا المجال.
وهيكل فى رسمه لذلك كله إنما كان عاشقا مدلها فى حب الريف المصرى وَجوّه وأهله وحيوانه وزرعه. لقد وصف القرية المصرية فى الفصول الأربعة على مدار السنة. وهو فى أثناء ذلك لم تفته شاردة ولا واردة من التغييرات التى تصاحب هذه الفصول مهما دقت أو جلــت.
وهو لم يفعل ذلك مرة واحدة، فإن زمن القصة يستغرق عدة سنوات، أى أنه لم يصف الريف فى ربيع واحد أو خريف واحد أو صيف واحد أو شتاء واحـد، بل فى عدد من الأصياف والشتاءات والأخرفة والأربعة، وفى كل مرة يطالع القارىء شيئا جديدا، وبخاصة أن الراوى كان متيقظا أشد اليقظة لمـا يفعله من الغداة وكر العشى بالمخلوقات جميعا أحياء وجمادات (انظر مصداق ذلك فى وصف ليالى الصيف ص ۱۷ – ۲۲، و ص 110، و ص 119، و ص 171 – 176، و ص 177، و ص ١٨٤ – ١٨5... إلخ).

بل إنه لم يحدث، فى حدود انتباهى، أن جاء وصف غروب الشمس مثلا متشابها ولو مرة واحدة (ويمكن القارىء أن يتأكد من ذلك إذا رجع للصفحات التالية ص/ 61، ۷۳، ۹۳، 115، ۱2۷، 139، 141، ۱۷۰، ۸۷۱، 215، 220، ۲۲۳ ، ۳۲۲). بل بلغ من غرامه بالريف أن القصة امتلأت بالألفاظ والمصطلحات والتعبيرات الزراعية، مثل ((يِطْلَعوا بِالْوِشّ)) (أى يصلوا إلى نهاية الحقـل فيعودوا أدراجهم إلى أن يبلغوا نهايته من الناحية الأخرى) ص ٢٩، و ((أدوار المليـة)) (أى: الرى) ص ۱۳، و ((التَّمَلِّيّة)) (وهـم الفلاحون الأجراء) ص/ ۱۰ و ((تجريد البهائم)) ص/ ۲۲ و ((الفايظ)) (الربا) ص/ ۷۲، و ((التقويز)) (والمقصود بـه التهكم اللاذع) ص/ ۱۸۰، و ((الفردة والمكسر)) (وكلاهما من أجزاء الحقل التى يقسمه الفلاح إليها تسهيلا لعملية الرى بالذات) ص/ 13، و ((خف الذرة)) ص 111، و ((المناهدة)) (أى الجدال المزعج) ص/ 169، و ((الشرشرة)) ص ۱۷۸، ((والسِّلاميّة)) ص/ ۱۷۷ و ((المستوكر فى الدار)) (أى الملازم لها) ص ۱۹۲ و ((النِّظِك)) ص/ 194، و ((الطريق المدقوقة)) (وهى التى مهدها كثرة السير فيها) ص/ ۲۰۰، و ((وسواس القطن)) ص/ ۲۲۳، و ((البشت والدفية )) ص / ۲۲۰ و ((الوابور)) (القطار) ص ۲۹۹، و ((متأخر)) (بمعنی دنت ساعة وفاته) ص/ 315، و ((القروة)) (طعام التعزية) ص/ ٣١٥، و ((القُلْقِيل)) (كتل الطين الجامدة الصلبة) ص/ 326، ((الرِّبـَّة)) (آخر بطن فى البرسيم، وهى التى يتركها الفلاح فى الحقل حتى تجف، فيحصدها ليدرسها ويحصل منها على بذرة الزرعة القادمة) ص ۳۲۷.
هذا، وقد لاحظت أنه فى الصفحات الأولى من القصة كان يضع الألفاظ والتعبيرات العامية بين قوسين، ثم أهمل ذلك فيما بعد، سهوا أو استسهالا.
وثانى هذه العوامل أن الشاعرية ترفرف بجناحيها على كل هذه اللوحات الجميلة التى رسمها هيكل للريف. خد مثلا حقل القطن، وهو أبعد المناظر الريفية بطبيعته عن الشاعرية، كيف وصفه الكاتب هذا الوصف المبـدع:
((كان ذلك أول الخريف، والبنـات فى قفولهن يتحـدثن عن الجلابيب التى أعددن أو يعددن لجمع القطن، ويحكين حكايات عن هذه الأيام الجميلة التى مضت حين كن يشتغلن باليومية، ويتسلين بالغناء عن تعب العمل، فترتفع أصواتهن العالية المرتبة يحيط بهـا ضوء الشمس، ثم تنتشر فى الهـواء، وتهتز أشجار القطن المتوجة بثمرها الناضج الناصع البياض يعطى المزرعة الواسعة معنى المشيب وكأنها فى اهتزازها قد أثار هذا الصوت شجنها فطربت، وبعث إليها وهى فى منتهى حياتها سرورا لم تعرفة من قبل)) (ص/ ٩٠). إن خلع ((المشيب)) على حقل القطن لهو صورة جديدة تماما وجد موفقة، إذ أن لوز القطن يتفتح فى الخريف والخريف يوحى بتقدم العمر وبداية المشيب. وفضلا عن ذلك فإن الكاتب قد مزج بهذه الصورة مشاعر الفتيات وأصواتهن وعناءهن وهن يعملن. ثم هو لم ينس ضوء الشمس، فجاءت الصورة مكتملة العناصر لونا وخطا وضوءا وصوتا وحركه وإحساسا.
إن هذا كله ليدل على مدى هيام هيكل بالريف المصرى. إنه هيام يری هيكل من خلاله الطبيعة المصرية وكأنها أناس تحس بإحساس الفلاحين، فتبتهج لأفراحهم وتأسى لآلامهم وأحزانهم، وقد يقابل المؤلف بين فرحة الطبيعة وأحزان أبطاله ليبرز هذه الأحزان إبرازا قويا شديد التأثير:
((جاء الخريف على كل ذى ساق، ولم يبق إلا النبت الأخضر يغطى وجه البسيطة وقد انكشف لمقدم الشتاء. ومزارع البرسيم تذهب أمام البصر إلى اللانهاية. وأقفرت الأرض من بنى آدم، جماعة العمال، وأصبحت مرعى للنَّعَم التى شاركتهم أيام نَصَبهم. وها هى ترتاح أن جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، فتراها فى رعيها وكأنها فى شهور عيدها ترفع رأسها ما بين آونة وأخرى، ثم تزعق فتملا أذن الطبيعة الصامتة.
ويجيبها من الجو جماعة الطير من قَطَاةٍ أو قُمْرِيـّة تصُبّ من علوِّها أغاريد الشتاء وتصدح بصوتها الرخيم الهادىء، فتملأ أذن الطبيعة بما يذهب روعها ويرد إليها هداتها. ثم على مرمى النظر ترى عشا من الحطب الناشف أبيض لا غبرة عليه قد غسله المطر والريح)) (ص/ 36).
من هنا فإننا نستغرب اتهام بعض النقاد لوصف الطبيعة فى هذه القصة بأنه وصف منفصل لا تربطه أيه وشيجة بعواطف الشخصيات. خذ مثلا:
((سمعت زينب من جديد ما يقال عن زواجها بحسن... وكأن هذا النبأ قد بقى مختفيا طول الشتاء حيث لا خصب ولا نماء، فلما قدم الربيع استعاد حياته وظهر وانتشر فى الهواء. ومهما يكن من تناسيها إياه فى وحدتها ومن ذكرها الدائم لإبراهيم ومن تشعشع الحب فى نفسها فلقد كان يملك عليها ساعات يدس فيها سمومه، ويفسـد عليها طعمها. ثم لا تلبث أن تروح بأحلامها إلى جو مملوء بالحب يسرى فيه خيالها كما يحلو له. وتسير إذ ذاك بين المزارع فرحة بكل ما حولها من جمال الوجود، وتهيم بالنبات البديع والأشجار الكبيرة قد اتخذها الطير سكنا، فهو يقف على فروعها المورقة هادئا مطمئنا، ويصب من رفعته أغاريده الحلوة كلها الهيام والحب.
وبقيت فى هاته الأحلام اللذيذة حتى ازعجها عنها تكرار ما يقال وسماعها إياه كل يوم ومن كل الناس، فداخلها الأسى، وأصبح ذكر إبراهيم يضيف مع مخاوفها آلاما إلى آلامها.
فلما كانت فى بعض الأيام وقد سئمت الناس وحديثهم ووجوهم وكل شىء فيهم وتاقت للوحدة والابتعاد عنهم وعن شرورهم وسموم جمعيتهم، خرجت بعد الظهر هائمة على وجهها تريد الانفراد فى أية مزرعة كائنة ما كانت. فلم يبق لها بين بنى آدم أنيس.
وقابلتها الحقول لأول ما خرجت قد نما فوقها القطن ولا يزال شجره صغيرا ضئيلا، والأرض مكشوفة قد كستها شمس الربيـع ترسل شعاعها وسط الجو الساكن الهادىء، والسماء زرقاء صافية يلمع على سطحها العظيم النور الممتد على الوجود. وعلى مرامى النظر تقوم الأشجار تحف بالمزارع، وقد ابتدأت ريح الأصيل تهز أوراقها فسلكت بينها سكة مدقوقة تركها النور بيضاء سمراء. ولم تلك إلا سويعة حتى ابتدأ كل ما يحيط بها تدخله الحياة ويستفيق من غفوة الظهيرة. وابتدأ يقطع صمت الجـو الأخرس جماعة الطير من فروع الشجرة بعـد مقيلها، وتصدح بنغماتها العذية فتضيف إلى الحياة الوليدة معنى السرور والبهجة، ويحمل إلى الهواء أغاريدها يوقظ بها الخليفة النائمة المحرورة، وهكذا تنبعث الحياة فى أجزاء الكون، وتسرى السعادة فى جميعه: أرضه وسمائه وشجره وطيره وهوائه، ولا يبقى تحت السماء مما تحيط به دائرة الأفق بائس محزون إلا قلب السائرة فى وحدتها)) (ص/ ٥٩ – ٦٠).
ولن أقف هنا إلا أمام ربط المؤلف بين همود خبر زواجها من حسن أثناء فصل الشتاء، وانتشار هذا الخبر مرة أخرى مع يقظـة الطبيعة فى فصل الربيع، وإلا أمام اختيار المؤلف الموفـق لوقت القيلولة تخرج فيه زينب وقد أثقلتها الأحزان، فيكون سكون الحقول وثقل حركتها بل هجوعها تحت وقده الشمس ملائما لما يثقل قلب بطلتنا من يأس. أما حينما تستيقظ الحقول مع مقدم العصر، وتعود إلى مرحها وحيويتها فإن زينب تبدو وسط ذلك كله وحيدة غريبة لا تجد من يلتفت إليها ويعطف على آلامها.
ولا يفوتنك مقدرة الكاتب العجيبة على تجسيد ما لا يـُجَسَّد، وعد بنفسك إلى ما قاله عن ضوء الشمس فى النص السابق تَرَ صدق ما أقول: ((والأرض مكشوفة قد كستها شمس الربيع ترسل شعاعها وسط الجو الساكن الهادىء، والسماء زرقاء صافية يلمع على سطحها العظيم النور الممتد على الوجود)).
وقد رأينا من قبل كيف أن الهواء، حتى الهواء، تُعْديه مشاعر شخصيات القصة وشهواتها، فيعبث بأغطية رؤوس الفتيات عبثا يجعل الكاتب يسميه بــــ ((هذا المتحسس)).
إن هناك تناغما بين شخصيات القصة (وزينب بالذات) وبين الوجود: ((والقمر قد انحدر إلى المغيب ينظر إليها نظرة الصَّبّ قد ناله الشحوب فهو ذاهل فى نشوته، وأحاطت بذلك غيطان القطن الأخضر ما يزال طفلا.
ها هى ذى زينب فى تلك السن ترنو إليها الطبيعة وما عليهـا بعين العاشق فتغضى طَرْفَها حياءً وترفع جفونها قليلا قليلا لترى مبلغ دَلِّها على ذلك الهائم ثم تخفضها من جديد. وقد أخذت مما حولها ما ملأ قلبها سرورا، وأضاف إلى جمالها جمالا ورقة، فزاد الوجود غراما بها وزادها به تعلقا ووجدا)) (ص/ ۲۱).
ولقد كان الكاتب موفقا غاية التوفيق حينما جعل السماء فى أواخر القصة، وقد خرجت زينب فى إحدى نزهاتها المنفردة قبل أن تموت بقليل، تكفهر بالسحب، وتهطل بالمطر، بل إنه جعل أيضا موت شيخ البلد وعويل النسوة عليه إرهاصا بدنو أجلها (انظر ص ۳۱۱ – ۳۱۳، 315).
أما العامل الثالث وراء جمال هذه القصة وخلودها (ذلك أنى موقن بأن الأجيال المقبلة أيضا سترى فيها هذا الرأى) فهو نفوذها، برغم أن المؤلف كتبها وهو لا يزال شابا فى السادسة والعشرين من عمره، إلى سر الحياة وعقدتها بل مأساتها، وهو كَرُّ الغداة ومَرُّ العَشِىّ، و البَشَرُ فى أثناء ذلك كله يَرَوْنَ سعادتهم فى متناول أيديهم فإذا مدُّوها فَرَّتْ هذه السعادة أمامهم فلم يستطيعوا عليها قبضا.
إن القصة تبتدىء وكل شىء بهيج سعيد، وكذلك أبطال القصة، إذ الآمال تحدوهم، والاطمئنان يوشى حياتهم ونفوسهم، ولكننا ننظر فى نهاية القصة فنرى ماذا؟ نرى زينب وقد حرمت من إبراهيم وحامد. وهى تحاول أن تحب زوجها الطيب الذى لم يسىء إليها، بيد أن للقلوب لغتها التى لا يفهمها غيرها، ونرى حامدا وقد صفرت يده من زينب وعزيزة كلتيهما، ونرى إبراهيم وقد طوحت به الأقدار بعيدا بعيدا عن حبيبة القلب، ونرى حسنا وقد غضبت منه زوجته الجميلة التى كان يحبها حبا جما، والتى لم تكن تبادله هذا الحب بحب مثله. آه من الزمن الدوار الذى لا يبقى ولا يذر، والذى لا نستطيع أن نوقفه أو نرده على أعقابه حتى نصلح أخطاءه أو نستدرك ما فاتنا (ترى لو أن زينب تزوجت إبراهيم، وحامدا اقترن بعزيزة، وحسنا وجـد عروسا أخرى يحبها وتحبه أكانوا سيظلون سعداء؟ أكان الفلك الدوار قد أبقى على مشاعرهم وأسباب سعادتهم كما هى؟ وأين يذهب الملل إذن وهو عنصر أصيل من عناصر الحياة؟
ثم هناك الأسلوب، وهو بعامة أسلوب جزل مُوحٍ فيه ثراء وتنوع وجِدّه فى الوصف والتصوير، ومما لا شك أن الاقتباسات السابقة قد وضحته توضيحا لا يحتاج إلى مزيد بيان. ومع ذلك فإن لنا ملاحظات أخرى عليه:
فهناك الأخطاء النحوية والصرفية واللغوية والتركيبية من مثل ((أوراه شغله)) (والصواب: أراه) ص 15، و ((والآلات مشتتة هنا وهناك)) (وهو يرید: متناثرة هنا وهناك) ص/ 35، ((لم يستمروا فى الكلام أن مروا بجماعة)) (والصوات: وما لبثوا وهم يتكلمون أن مروا... إلخ) ص/ 48، و ((عرت الجرداء)) (وصحتهـا: عريت) ص/ ٥٧، و ((يـسقـط من أعلى الشجرة عصفور... ويعتلى الشجرة من جديد (والدقة تقتضى أن يقول ((يحـط، ويطير))) ص/ ٦٠، و((حتى ليكـادوا)) (وصحتهـا ((ليكادون)) فإن اللام قد منعت ((حتى)) من نصب الفعل هنا) ص/ ٧٦، و ((إخوانهـم)) (وهى غير دقيقـة، إذ المقصـود ((إخوتم))) ص/ ٨٩، و ((أخذ مكانه من بينهم)) ((بزيادة من)) ص/ 104 و ((صمم عزمه)) (وهو تركيب غريب، فإما أن نقول: ((صمم)) أو نقول: ((عزم))، أما الجمع بينهما على هذا النحو فهو غريب) ص/ 106، و ((جاءت الى حلمـه)) (بمعنى: ((خطـرت بباله))) ص/ ۱۳۱، و ((التى لا نقدر أمامهـا دون أن نذهب فى سكرات السعادة))، وهو تركيب متهافت يحتاج إلى تقويم بحيث يكون: ((لا نقدر أمامها إلا أن نذهب... إلخ)) ) ص/ 145، و ((أن خانا عقدة كانت فيها يد الله)) (وهى ركيكة والمقصود أن يد الله قد اشتركت مع يديهما فى عقد عقـدة الزواج) ص/ 149، و ((سعة سعادتهـم)) (ولا شك أن وصـف السعادة بالسعة غير مستساغ) ص/ 160، و ((الهواء الناشف، (والناشف صفة للأشياء التى تستطيع اليد أن تمسك بها، فكان ينبغى أن يقـول: ((الهواء الجـاف))) ص/ 166، و ((وحامد وإن لـم... إلا أنه...)) (وهو خطأ شـائـع صـوابـه: ( وحامد وإن لـم... فإنه...) ص 179، و ((الشبه مظلمة)) (وصوابها: ((شبه المظلمة)))، ص/ ۱۸۱، و ((كان ما أحلى ذلـك)) (وصحتهـا ((وما كان أحلى ذلك))) ص/ ٢٠٤، و (( نحن بنو آدم بين الملائكة والبهائم)) (وصوابها: ونحن بنی آدم... إلخ) ص/ ١٨٤، و ((ما كان ذلك ليدعها أن تحسب فى صديقا)) (والمراد: ما كان ذلك ليجعلها تحسبنى...) ص/ ۱۸۷، و ((فى محاجرها الجميلة)) (وهو خطأ وخشونة ذوق، إذ المقصود ((من عيونها الجميلة))) ص/ ۲۳۸، و ((ارتقت زينب من مضجعها)) (وهو غير دقيق، وصوابه ((قامت)) أو ((نهضت)) مثلا) ص/ 293.
وهناك ألفاظ يَلَذُّ المؤلفُ استعمالَها دائما، ككلمة ((الناشف))، التى رأيناه يصف بها الهواء(!)، كما وصف بها المآقى فى موضوع آخر: ((مآقيها الناشفة)) ص ٣٣٢، وككلمة ((هاته))، التى استعملها دائما مكان ((هذه)) اللهم إلا مرة واحدة فى حدود ما أذكر، وككلمة ((الحصيد))، التى استخدمها حينا بمعنى ((الحصاد)) ص/ ۱۷ وحينـا آخر بمعنى ((الأرض المحصودة)) ص/ 159، وككلمة ((الجمعية))، التى تعنى عنده وفى كتابات معاصريه أيضا فيما أذكر: ((المجتمع))، وإن كان قد استخدمها مرة بمعنى ((الاختلاط بالناس)) ص / 59، وككلمة ((تيهاء)) ، التى تكررت كثيرا جدا.
على أن عنده تركيبا قد جاوز غرامه به الحد المقبول، إذ إنه يفضل استخدام جملة الحال بدل النعت أو العطف حين يكون هذان أوقع. وهذه أمثلة على ما نقول:
((ثم يحمل ذلك كله عنقه الغليظ القصير قام فوق قفص قـوى عاش كل هذا العمر..)) ص/ ۱۷۰.
((وإن كان زعبوطه هو الزعبوط لا يعرف ابنه أَیّانَ يبتدىء تاريخه...)) ص/ 71.
((ما هذان العجوزان أكل عليهما الدهر...)) ص/ 83.
((وقامت عليهما السعادة لا يقدرانها...» ص/ ۱۱۹.
((والوجود يتقدم نحو الربيع بدأ يزول عنه القطوب...)) ص/ 139، وغير ذلـك كثير جـدا.
إن الغرام بمثل هذا التركيب هو مظهر من مظاهر الحذلقة، التى ينبغى أن يتخلص منها أسلوب القصة ما أمكن، إذ هى تناقض ما يهدف القصاص إلى خلقه من جو واقعى ونغمة طبيعية.
وفى ختام هذه الدراسة أحب أن أؤكد أن هيكلا، على عكس ما ادعى يحيى حقى، لم يغالط نفسه حين ذكر فى مقدمة الطبعة الثانية من ((زينب)) أن الريف المصرى عنده أجمل كثيرا من الريف الأوربى. وأرجو من القارىء أن يرجع إلى كتاب المؤلف الذى جعـل عنوانه ((ولدى))، والذى حكى فيه رحلته هو وزوجته لبعض البلاد الأوربية تسليا عن فقد ابنهما، فإن كلامه فى وصف انبهاره بمظاهر الجمال فى ريف هذه البلاد لا يلمس قلوبنا بنفس القوة التى يلمسها بها وصفه للريف المصرى فى رواية ((زينب)) على رغم أن أسلوبه فى ((ولدى)) يبلغ قمة التجويد والصقل. ذلك أنه ليس مقبوسا من نار القلب التى قبس منها وصفه لريف بلاده.