سورة "الفلق":
إبراهيم عوض

"الفَلَق" هو نور الصباح، الذى ينفلق عنه ظلام الليل. فالنور هو الأنس والراحة والاطمئنان، وكم من مسهَّد قلق ينبو جنبه عن الفراش ولا يواتيه النوم من شدة القلق والوساوس والتشاؤم ما إن يطلع عليه النهار حتى تسكن نفسه ويرنِّق فى عينيه النوم وينال قسطه من الراحة ويزول عنه القلق والتشاؤم وتذهب عنه الوساوس التى كانت تحيل ليله عذابا وشقاء. وحسب تفسير المراغى فإن "الفلق" أوسع من ذلك، إذ يشمل الأرض التي تنفلق عن النبات، والجبال التي تنفلق عن عيون الماء، والسحائب التي تنفلق عن ماء الأمطار، والأرحام التي تنفلق عن الأولاد. وهو تفسير أوسع وأشمل.
من شر ما خلق: والشر فى الدنيا كثير ومتنوع، فهناك شرور البشر، وهناك شرور الحيوانات المفترسة، وهناك شرور الهوامّ والحشرات والزواحف، وهناك شرور الزلازل والبراكين والسيول والفيضانات والانهيارات الأرضية والحرائق والحروب والأوبئة، وهناك شرور الأمراض والمكروبات والجراثيم والفيروسات، وهناك شرور الفلسفات والأفكار والعقائد الضالة المضلة، وهناك شرور الاستبداد والاستعمار والرشوة والمحسوبية والحقد والتخذيل والتضليل والكسل والجهل والبلادة والخيانة والشك والقلق واليأس والتشاؤم والشائعات الضارة ووساوس الشيطان.
ويقول ابن قَيِّم الجَوْزِيّة إن الله سبحانه فى هذه الآية قد أسند الشر إلى المخلوق لا إلى خَلْق الرب تعالى الذى هو فعله وتكوينه. ولكن ها هنا سؤالا مهما هو: فمن خلق المخلوقات التى نُسِب الشر إليها فى الآية؟ أليس هو الله جل وعلا؟ وهذا إن كان المقصود هو الشر الذى وقع مما خلق الله، إذ من الممكن أن يكون المراد هو أن فيما خلق الله خيرا وشرا، وتكون الاستعاذة هنا هى من الشر المخلوق. وهو يشبه ما جاء عن أحد الصحابة فى الحديث التالى: "سَأَلْتُ عن أَعْتَى بَنِي آدمَ، فقال: شِرَارُ الخَلْقِ، أوْ قال: شِرَارُ خَلْقِ اللهِ". كذلك ألفت النظر إلى قوله تعالى فى سورة "الأنبياء": "ونبلوكم بالشر والخير فتنة"، ومع تقديم الشر قبل الخير كما هو واضح، وقوله جل شأنه فى سورة "يونس": "ولو يُعَجِّل اللهُ للناس الشرَّ استعجالَهم بالخير لَقُضِىَ إليهم أجلُهم"، وقوله فى سورة "البَلَد" عن الإنسان: "وهديناه النَّجْدَين"، أى طريق الخير وطريق الشر. وفى الحديث "إن اللهَ عزَّ وجلَّ حيث خلق الداءَ خلق الدواءَ، فتَدَاوَوْا"، وفيه أيضا "إن اللهَ تعالى خَلَق الجنَّةَ، وخَلَق النَّارَ، فخلَق لهذه أهلًا، ولهذه أهلًا"، وفيه كذلك "إذا أراد اللَّهُ بعبدِه الخيرَ عجَّلَ له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أرادَ اللَّهُ بعبدِه الشَّرَّ أمسَك عنه بذنبِه حتى يوافِيَ به يومَ القيامة"، وفيه "عندَ اللهِ خزائنُ الخيرِ والشرِّ". إن كل شىء فى العالم هو من خلق الله حتى إبليس ذاته: "خلقتَنى من نار"، وهو رمز الشر المحض، إذ ليس هناك من خالق غيره جل وعلا: "وخَلَقَ كلَّ شىء"، "والله خلقكم وما تعملون". ومن أسمائه تعالى "النافع والضار".
والغاسق إذا وقب هو الظلام إذا انتشر فى الآفاق. ذلك أن الظلام مظنَّة العِثَار والاصطدام بألوان من الأذى لا نراها. وفيه يكمن العدو لعدوه فلا يستطيع أن يتقيه. وفيه تحاك المؤامرات عادة. كما أنه يزيد القلق والتوجس والتشاؤم قوة وهولا، وتتضخم فيه مشاعر الوحشة والعزلة. وفى الفصل الأول من كتاب أنيس منصور: "عاشو فى حياتى" يقول مصورا الليل فى الريف أيام طفولته: "وعرفنا الخوف، وعرفت أن الرعب يستولى على الريف كله من غروب الشمس. فاللصوص والذئاب والأفاعى كلها تخرج بالليل". والظلام ليس هو غياب الشمس فقط بل هو أيضا ظلام الكفر وظلام الحيرة وظلام الجهل وظلام الحقد وظلام الشك وظلام الخوف وظلام التخلف وظلام الفقر وظلام الهزيمة وظلام الظُّلْم وظلام الخيانة... إلخ. فالظلام ألوان وضروب مختلفات.
أما النفاثات فى العقد فإن قبلنا أنهن الساحرات حسبما كان الناس قديما يعتقدون فالمقصود هو الرد على دعواهن أو اعتقاد الآخرين فيهن القدرة على إيقاع الضرر بالناس عن طريق السحر الذى يزعمن ممارسته رغم أنه ليست له فى الواقع حقيقة، فكأنك تقول: فليكن الأمر كما تزعم أولئك النفاثات فى العقد، فأنا أستعيذ بالله منهن ومن شرهن، وأفوض أمرى إلى الله: كناية عن اللامبالاة بهن والاحتقار لهن وإعلان تكذيبك لما يزعمن وأنهن إذا كن يستعن بالسحر فأنت تستعين بالله، الذى يكشف الكذابين ويفضح الزَّعَّامين والمدلسين ويبطل كيد المبطلين ويُفْشِل خداع الساحرين. وقد كان هناك فى مصر سحرة استعان بهم فرعون، وذكر القرآن ذلك، ولكن ذكر فى نفس الوقت أن السحر مجرد تخييل وأنه باطل وأن الساحر لا يفلح أبدا. فهذا مِثْلُ هذا. ولا بد أن نفهم أن الدنيا قائمة على قوانين إلهية لا تغيرها تعازيمُ ولا رُقًى ولا عُقَدٌ ولا نَفْث، وإلا كانت الحياة سبهللا لا نظام فيها بل فوضى واضطراب. وحاشا أن يكون كون الله كذلك!
وشر الحاسد هو ما يدفعه إليه الحسد من محاولة الإضرار بالمحسود لتفوقه عليه أو تمتعه بنعمة من الله لا يتمتع هو بها، وبدلا من السعى لاكتسابها نراه يسعى لعرقلة المحسود أو لإيذائه، وربما قتله إذا لزم الأمر وهاجت عقارب شره. وقد كان الحسد سببا فى قتل ابن آدم لأخيه لأن الله تقبل من أخيه قربانه ولم يتقبل منه هو. وقد علق الله سبحانه شر الحسد على هيجان الحسد فى نفس صاحبه، أما إن كمن الحسد ولم يتحرك فى النفس لم يكن هناك شر. والحسد شعور طبيعى جدا، لكن الفرق إنما يكون بين حسد وحسد: فحاسد يسيطر على مشاعره ويكفكف من غَرْبها وشَرّها، وحاسد يتخذ من حسده سلما إلى الاجتهاد والعمل الدائب كى يصل إلى ما وصل إليه محسوده إن لم يتفوق عليه، وحاسد يترك حقده يستشرى ويحرق من يحسدهم ويحرق قلبه أيضا معهم، إذ الحاسد لا يرتاح أبدا لأنه مهما فعل لا يمكنه أن يمنع تفوق الآخرين عليه. وقد يسمَّى الحسد الحسن: غبطة. وقد تحدَّث عنه الرسول عليه السلام قائلا: "لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته فى الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها". والمعنى أنه لا ينبغى أن يحسد الواحد منا الآخرين إلا فى عمل الخير بحيث ننافسهم ونعمل مثلهم ونحاول التفوق عليهم. وليس معنى الحديث أن هذين هما المثالان الوحيدان للحسد الممدوح، بل كل من يجتهد ليلحق بأى متفوق فى أى ميدان نتيجة لشعوره بالحسد، أى بالضيق لأن أحدهم قد تفوق عليه، فإنه يضاف إلى هذين المثالين.
والحسد شىء، والعين شىء آخر، وليسا شيئا واحدا كما يظن معظم الناس. الحسد حق، ولكن العين الضارة بمجرد النظر أو النطق ببعض الكلمات لا حقيقة لها، إذ الكون قائم على نظام صارم وقوانين معلومة، ولا يمكن أن تتغير هذه القوانين بألفاظ تقال أو نظرات توجه ناحية المحسود، وإلا لكانت الدنيا قد خربت منذ فجر التاريخ، فالكثيرون من الناس لا يكفون طول الوقت عن النظر بحقد إلى من هو أحسن منهم أو عن التلفظ بألفاظ السخط والمرارة عنه. كذلك لو كانت العين حقا كما يظن كثير منا ما بقى على ظهر الأرض متفوق فى أى مجال لأن الحساد الذين يصوبون عيون الحقد نحوه وينالونه بالكلام الممرور لا يُعَدُّون ولا يُحْصَوْن. لكننا ننظر فنجد المتفوقين يملأون الدنيا ولا تؤثر فيهم عين ولا كلام، ولكن قد تؤثر فيهم المؤامرات التى تحاك لهم، والشائعات التى تعمل على هدمهم، والوشايات التى تتغيا الإطاحة بهم.