"أمام العرش" لنجيب محفوظ
إبراهيم عوض


التعريف بنجيب محفوظ: نجيب محفوظ (1911– 2006م) روائى مصرى كبير حاز جائزة الدولة عام 1970م، وقلادة النيل عام 1988م، ثم جائزة نوبل فى الأدب فى نفس ذلك العام الأخير. وهو من مواليد القاهرة، وحصل على ليسانس الآداب فى الفلسفة من جامعة فؤادالأول (القاهرة حاليا) عام 1934م، وتولى عددا من الوظائف الحكومية، ثم صار كاتبًا دائما بجريدة "الأهرام". وقد بدأ بكتابة الرواية التاريخية ثم الرواية الاجتماعية، ومن أشهرها "بداية ونهاية، خان الخليلى، الثلاثية:بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، ثم الروايات الفلسفية والرمزية. وتزيد مؤلفاته على 50 كتابا أغلبها رواياتٌ من بينها غير ما مر ذكره "أولاد حارتنا، الطريق، السمان والخريف، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، اللص والكلاب، ميرامار، الحب تحت هضبة الأهرام، الحرافيش" بالإضافة إلى بعض المجموعات القصصية. وقد تُرْجِم كثير من أعماله إلى اللغات العالمية.
كتاب "أمام العرش": ويدور كتاب "أمام العرش" حول محاكمة أوزيريس فى العالم الآخر لعدد من ملوك مصر ورجالاتها الذين تركوا أثرا سياسيا فى وطنهم وفى مواطنيهم. ومعروف أن أوزيريس كان إلها مصريا فى عهد الفراعنة. وقد سبق أن وضع نجيب محفوظ عددا من الروايات فى أول حياته الإبداعية عن مصر القديمة، وهى "عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة" إلى جانب قصتين قصيرتين هما "عفو الملك أوسر كاف" و"عودة سنوحى". كما كتب، بعد ظهور "أمام العرش" بسنتين تقريبا، رواية "العائش فى الحقيقة" عن أخناتون وديانته الجديدة. وكان محفوظ قد ترجم فى بداية ثلاثينات القرن الفائت كتابا صغيرا ألفه جيمس بيكى بالإنجليزية عن مصر القديمة.
وقد صدر الكتاب الذى فى أيدينا عام 1983م عن "مكتبة مصر للطباعة والنشر" بعد مقتل السادات بنحو عامين. وفيه يحكى أديبنا الكبير تاريخ مصر منذ مينا مُوَحِّد شمال البلاد وجنوبها حتى السادات، الذى مات مقتولا فى حادثة المنصة. وكان هناك جدل كبير حول سياساته وشخصيته، وكانت هناك أيضا مقارنات كثيرة بينه وبين سلفه جمال عبد الناصر، الذى كان يمثل النقيض له فى كثير من الجوانب. وأتصور أن محفوظ فكَّر فى أن يمد هذه المناقشات التى كانت تدور بين المثقفين حول شخصية كل من عبد الناصر والسادات بحيث تشمل أشهر حكام مصر وزعمائها ومشاهيرها من المصريين كقاعدة عامة، وغير المصريين أحيانا قليلة، منذ مينا حتى أنور السادات، ويصدرها فى عمل أدبى.
والملاحظ أنه فى الوقت الذى أظهر محفوظ كلا من عبد الناصر والسادات فى كتابه وأوقفه أمام العرش، كما يقول، ليحاسَب ويعرض إنجازاته ويدافع عن نفسه ويسمع الحكم من أوزيريس الجالس على العرش قد تجاهل تماما الرئيس محمد نجيب ولم يأت على شىء من سيرته ولا ذَكَرَ حتى اسمه على لسان خَلَفَيْه ولا عرض لمشكلته مع رجال 23 يوليه ولو من باب القضايا التى كان ينبغى أن يُسْتَجْوَب فيها كل منهما لأنها أثارت وما زالت تثير جدلا طويلا ولغطا عنيفا. لقد سكتت السلطة عن محمد نجيب ودوره فى حركة 23 يوليه، فصمت محفوظ بدوره وكأن محمد نجيب لم يكن.
والغريب أن السادات نفسه قد حرر محمد نجيب من قيد الإقامة الجبرية الذى كان قد فرضه عليه عبد الناصر بضع عشرة سنة، ورد إليه بعضا من اعتباره مما كان من شأنه أن يغير موقف محفوظ، لكنه رغم ذلك قد أهمل أول رئيس مصرى للبلاد، وانتقل من النحاس إلى عبد الناصر مباشرة قافزا فوق نجيب، فكان هذا مناقضا لمحور كتابه الذى يوقف فيه أشهر حكام مصر ورجالاتها أمام عرش أوزيريس لنعرف حكمه عليهم، وهو حُكْم محفوظ طبعا، بما يفيد أن محفوظ يسعى وراء تجلية حقيقة أولئك الرجال ويعطى المتميزين الذين خدموا بلادهم مكانتهم على صفحات التاريخ، فكيف يا ترى أهمل محمد نجيب على هذا النحو؟ إننى أتخيل محفوظ نفسه وقد وقف أمام العرش، وسُئِل لماذا خرج على قواعد العدل وأهمل أول حاكم مصرى لمصر فى العصر الحديث.
عروش أوزيريس وإيزيس وحورس: والعرش الذى يوقف نجيب محفوظ كل بطل من أبطال كتابه، وحده أو مع غيره، أمامه هو عرش أوزيريس كما ألمحنا آنفا، ووقوف الشخص أمامه هو وقوف للحساب والمساءلة، وإن كان هناك فى الحقيقة ثلاثة عروش لا عرش واحد، إذ إلى جانب عرش أوزيريس ثَمَّ عرش لإيزيس زوجته وعرش ثالث لحورس ابنهما. ولكن قبل أن ندخل فى تحليل الكتاب ينبغى أخذ فكرة سريعة عن هذا الثالوث. وسوف أنقل ما جاء فى "الموسوعة العربية العالمية" عنهم فى المواد الخاصة بهم:
فـ"أوزريس إله الخصوبة فى الأساطير المصرية، وصار الإله الرئيسى للعالم السفلى. ويصوَّر أوزريس عادة فى شكل مومياء آدمية بلحية وبَشَرَة ذات لون أخضر أو أسود حاملًا عصا الراعى وسوطًا، يكلله تاج أبيض مخروطى الشكل يزين حواشيه ريش النعام. ولما كان أوزريس ابنًا لجب إله الأرض فقد اتُّخِذ مصدرًا لخصوبة الأرض. وكان المصريون يضاهونه بنهر النيل وبغيره من الآلهة لحبهم له. وتزعم الأسطورة أن أوزريس قد تشرب صفات ملك- إله سابق فى يزريس بمنطقة الدلتا، وخَلَف ملكَ الموتى فى مدافن أبيدوس. وفى اللاهوت الملكى المصرى كان الملك يمثل تجسيدًا حيًّا لحورس، الذى كان ابنًا لأوزريس. ويتحول الملك بعد موته ويصبح أوزريس. وعندما صارت الطقوس الجنائزية مشاعة يمارسها العامة صار كل مصرى يتوقع أن يصير أوزريس بعد موته. وهكذا مثّل أوزريس مَعْلَمًا مهمًّا فى الأساطير المصرية".
و"إيزيس أشهر إلاهة فى الأساطير المصرية القديمة. خلع الناس على إيزيس صفة القوة الملكية لأنها كانت زوجةَ وأختَ أوزريس ملك العالم السفلى. وكان حورس إلهُ السماء المُتَّخِذُ صورةَ ملك مصرى هو ابنهما. وكان المصريون يزعمون أنهم ربما تحولوا إلى أوزريس بعد أن يموتوا. وعبدوا إيزيس باعتبارها حامية الموتى، وكذا على أنها الأم المقدسة. عثر على أقدم المراجع الموثوقة عن إيزيس، وهى عبارة عن نقوش فى أهرامات شيدت نحو 2350ق.م. وكانت إيزيس أصلًا إلاهة تُعْبَد محليًّا فى شمال دلتا نهر النيل، إلا أن عبادتها انتشرت فى سائر أنحاء مصر. كما أصبحت لها شعبية بين الإغريق والرومان. كان الفنانون يصورون إيزيس عادة فى الشكل الآدمى مع الرمز الهيروغليفى لمقعدٍ أو عرشٍ فوق رأسها، ثم اندمجت تدريجيا مع البقرة المعبودة: هاتور. وبعد عام 1500 قبل الميلاد كانت إيزيس مثل هاتور تصوَّر عادة ولها قرون وقرصُ شمسٍ فوق رأسها".
و"حورس، حسب أساطير قدماء المصريين، هو ابن لإيزيس ولعدد من آلهة السماء من قدماء المصريين معًا. كان حورس ابن إيزيس يُصوَّر طفلًا ملكيًّا، وكانت آلهة السماء، التى كانت تسمى: حورس، تصوَّر إما صقورًا أو رجالًا لهم رؤوس صقور. ينزع النوعان من الآلهة حورس ليكونا من مجموعة أساطيرَ ملكيةٍ تحيط بالفراعنة المصريين. هذه الأساطير تمثل الفرعون فى شكله الدنيوى صقرًا ملكيًّا مؤلَّهًا ينتصر على أعدائه، وابنًا مطيعًا يطالب بالعرش بعد وفاة والده أوزيريس. كان الصقر المؤلَّه يُعْبَد تحت أسماء مختلفة فى مجتمعات مصرية متنوعة، وكانت تنشأ حول كل واحد منها أساطير مميزة. فعينا حرويريس، ويُسَمَّى أيضًا: "حورس الكبير أو الأكبر"، كانتا الشمس والقمر. كان حورس إدفو أو بهديتى يعبر السماء كل يوم كقرصٍ شمسى ذى أجنحة. أما حاراختى، ويُعْرَف أيضًا بـ"حورس الأفقين"، فقد كان إله شمس آخر دمج المصريون اسمه مؤخرًا مع إله الشمس رع ليصير الإله رع. حاراختى".
ثغرات فنية فى الكتاب: والمحاكمة التى يتناولها كتاب محفوظ هى محاكمة إلهية فى العالم الآخر حيث ينادى حورس كلَّ شخص باسمه بل وبلقبه السياسى قائلا مثلا: "الملك مينا" أو "الوزير أمحتب" أو "الزعيم مصطفى كامل"، وليس "مينا" و"أمحتب" و"مصطفى كامل" فحسب كما ينبغى أن يكون الأمر لأن الناس يوم القيامة يقومون من الأجداث بلا ملابس ولا ألقاب ولا حيثيات أيا كانت، إذ يقفون أمام ربهم كما خلقهم أول مرة، وهم فى موقف الحساب أمامه سبحانه مجرد عباد له. وعندما يسمع الملك أو الزعيم النداء يدخل عارى الراس حافى القدمين، مع النص على أنه كان متلفعا بكفنه فى كثير من الأحيان، وفى أثناء ذلك يذكر الكتاب بعضا من الصفات الخارجية للشخص الماثل أمام المحكمة، وإن كانت صفات قليلة وعامة فى الغالب ولا تساعدنا على تمثُّل صاحبها. وبعد الدخول على المحكمة يقرأ تحوت كاتب الآلهة من كتاب وضعه على ساقيه المشتبكتين ساردا أعمال الشخص ليشرع صاحب الأعمال فى ذكر إنجازاته من جديد مبالغا فى الإيجابيات وضاربا صَفْحًا عن أية سلبية يكون قد اقترفها، ثم يبدأ أوزيريس سؤاله عن تلك الأعمال وعما ارتكبه خلال إنجازها من أخطاء، ثم تتدخل إيزيس متشفعة له ومقللة من شأن تلك الأخطاء، لينتهى الأمر فى كل مرة تقريبا بأن يرسله زوجها إلى كراسى الخالدين على اليمين أصحاب الجنة، أما أصحاب الجحيم فيرسلون إلى الشِّمَال، وهم أقل من القليل، وأما الأوساط الذين لم يحرزوا من الإنجازات ما يؤهلهم لدخول الجنة ولا اجترحوا من الشرور وألوان الفساد ما يستحقون من أجله نار الجحيم فهؤلاء لا جنة لهم ولا نار بل يُبْعَث بهم إلى مقام التافهين. وهم أيضا أقل من القليل بحيث لا يُذْكَرون إلى جانب أهل الخلود.
واقعية نجيب محفوظ فى الحكم على الزعماء: ومعنى هذا أن محفوظ كان رحيما بملوك مصر ورؤسائها ورجالاتها الكبار. فهو يرى أن إيجابياتهم تغطى على سلبياتهم، وأن ظروفهم كانت تعاكسهم بقوة، وأنهم فعلوا ما يستطيعون ولم يقصّروا، وأن العبرة بأن ما ارتكسوا فيه من قسوة وشر كان فى خدمة الوطن وصالحه، وأن تسيير دفة الدول لا يمكن أن يستقيم بالطيبة والتربيت على الأكتاف بل بالشدة والحزم والعنف والقسوة بل والقتل دون تردد متى اقتضى الأمر، وأن موت عدة مئات من الآلاف فى سبيل إنقاذ البلاد من الفوضى والتفكك والفساد لا يعد شيئا مذكورا، فالعبرة بنجاة المجموع، وأن الحكام والزعماء هم فى نهاية المطاف بشر ولا ينبغى أن ننتظر من البشر أن يكونوا فى نقاء الملائكة وطُهْرهم.
وقد شملت محاكمات أوزيريس عشرات الأشخاص معظمهم حكام، وبعضهم من الرجال الكبار الذين برزوا على صفحة تاريخ أوطانهم وخدموها وأثروا فى حياة مواطنيهم على نحو أو آخر كما سبق أن وضحنا، وبعض آخر قليل ليسوا من المصريين. وبدأت المحاكمات بمينا مرورا بعدد كبير من ملوك الفراعنة ووصولا إلى ملوك الفرس والإغريق والرومان الذين حكموا مصر طوال مئات السنين، والذين لم يأت لهم محفوظ فى المحاكمات بذكر، وراح بدلا من ذلك يصف لنا ما ران على مصر خلال تلك العصور من ضعف وركود واضمحلال، إلى أن فتح العرب مصر، فبدأ بالمقوقس رغم أنه ليس مصرى الأصل، وأتبعه بالبطريق بنيامين ثم بعدد من الرجال ذوى الشأن من المصريين المسيحيين والمسلمين ومنهم الشاعر ابن قلاقس والأديب شهاب الدين الخفاجى وقراقوش الوزير الأيوبى المشهور، ثم وصل إلى العصر الحديث فعرض لمحاكمة على بك الكبير، وإن لم يكن مصرى الأصل، إذ هو أول من استقل بالبلاد عن العثمانيين رغم أن أحمد بن طولون قد حكم مصر من قبل بعيدا عن سلطة العباسيين، ومع ذلك لم يوقفه محفوظ أمام أوزيريس. وبعد على بك الكبير وصف كاتبنا محاكمة عمر مكرم ثم أحمد عرابى ثم مصطفى كامل ثم سعد زغلول ثم مصطفى النحاس، ثم ختم بناصر والسادات. وفى نهاية الكتاب خصص فصلا تحدث فيه بعض رجالات مصر من حكام ومصلحين ممن وققوا من قبل أمام العرش وحوكموا ذاكرا كلٌّ منهم ما يرى أنها الشروط التى لا بد منها لإنهاض مصر وإحيائها وإقالتها من عثرتها لينتهى الكتاب عند هذا الحد. والملاحظ أن تحوت كاتب الآلهة قد اختفى من المحاكمات هو وكتابه عقب محاسبة البطريق بنيامين (ص128)، ولم يعد يظهر بدءا من محاكمة إثناسيوس (ص130)، وصار أوزيريس يطلب من الواقف أمامه أن يقول ما لديه مباشرة. والملاحظ أيضا أن المحاكَمين بعد ذلك كانوا لفترة غير قصيرة ناسا عاديين: امرأةً ريفيةً وحَدَّادا ونَقَّاشا وتاجرَ غِلَال مثلا.
كتاب ممتع: والحق أن الكتاب ممتع، ويعطينا فكرة عن موقف محفوظ من حكام مصر وعن آرائه فى الحكم الصالح الرشيد وفى الطبيعة البشرية وفى الطريقة الصحيحة فى محاكمة الزعماء والقادة والحكم عليهم. ومن أسباب ما يجده القارئ فى ذلك الكتاب من متعة أن محفوظ فى مائتى صفحة تقريبا قد قدم لنا تاريخ مصر من خلال أشهَر حكامها ورجالها تقديما سرديا حواريا وصفيا بأسلوب مشدود موجز وبشىء من الحيوية لا يوجد فى كتب التاريخ وفى قفزات رشيقة دون الدخول فى أى تفاصيل. وهو فى هذا يذكرنى بروايته: "أولاد حارتنا"، التى عرض فيها للتاريخ الروحى للبشرية من خلال الحياة اليومية فى حى شعبى من أحياء القاهرة، إذ بسط فى الكتاب الذى معنا الآن التاريخ المصرى كله فى صفحات قليلة من خلال المحاكمات السريعة التى يعقدها أوزيريس لأكبر حكامها وأشهر رجالها فى قاعة سماها: "قاعة العدل" صُفَّتْ فيها الكراسى ليجلس عليها الذين تتم محاكمتهم ويصدر الحكم عليهم، ومن حقهم أن يتدخلوا فى محاكمة التالين لهم من الحكام والمشاهير المصريين بالتعليق على ما يقولون على أن يلتزموا بمراعاة أصول اللياقة ولا ينسَوْا لحظة أنهم فى حضرة أوزيريس.
وهذان نصان لمحاكمتين: إحداهما لملكٍ من الفراعنة، والأخرى لزعيم شعبى من العصر الحديث. فأما الملك الفرعونى فهو خوفو، ومحاكمته من المحاكمات الطويلة التى استغرقت أربع صفحات بينما هناك من انتهت محاكمته فى صفحة واحدة. يقول النص الخاص بمحاسبة الملك خوفو بانى الهرم الأكبر: "ونادى حورس: "الملك خوفو". فجاء الملك بقامته المتينة المائلة للطول عارى الرأس حافى القدمين متلفعا بكفنه حتى مَثَلَ أمام العرش بخشوع. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: الملك خوفو رأس الأسرة الرابعة، صاحب الهرم الأكبر. نظم الإدارة تنظيما لم تعرفه من قبل ولا من بعد. وفى عصره فاضت الأرض بالخيرات، وعمرت الأسواق، وبلغت الزراعة والصناعة والفنون أقصى درجات الرفعة، وانفجرت هيبة فرعون فى الآفاق كالشمس، فهابتها القبائل، فشمل السلام الربوع والأنفس.
ودعا أوزيريس الملك للكلام، فقال: فُتِنْتُ منذ صغرى بالدقة والنظام. آمنت بأنه يجب أن يكون لكل نظام قوانينه وتقاليده، لا فرق فى ذلك بين الشرطة والنحت أو العمارة أو الحياة الزوجية، فنَفَذَتْ شخصيتى إلى كل قريةٍ متمثلةً فى الموظفين ورجال الأمن والمعابد، وأصحبت مصر مجموعة من التقاليد السامية والنظم الدقيقة، وهو ما أعاننى على تشييد أعظم بناء عرفه الإنسان. اشتركت فيه الألوف المؤلفة على مدى عشرين عاما، فلم يتسلل إليه اضطراب أو إهمال، ولم يُحْرَم أحد من العاملين فيه من العناية والرعاية، ولم يغب فى الوقت نفسه عن عين الرقابة الساهرة. هكذا خاض قومى تجربة فذة بنجاح مثالى، وأثبتوا قدرتهم الفائقة على خدمة الإله والفوز برضاه وبركاته.
فسأله أوزيريس: هل سَخَّرْتَ أُمَّتك لبناء قبر لك؟
فقال الملك خوفو: لو أردتُ قبرا لحفرتُه فى الجبل بعيدا عن الأعين الطامعة، ولكنى شيدت رمزا للخلود الإلهى يحوى من الأسرار ما لا يحيط به عقل بشر، وتنافس الناس فى العمل به حتى أقمت لهم مدينة كاملة وسعيدة ومقدسة حيث يُبْذَل الجهد فيها من أجل الإله وحده. كان عملا يليق بالأحرار لا العبيد.
والتفت أوزيريس إلى الجالسين إلى يمينه ممن كُتِب لهم الخلود السعيد فى العالم الآخر وقال: يُسْمَح بالكلام لمن يشاء.
فقال الملك مينا: عمل مجيد يذكرنى ببناء منف العظيمة التى لم يمهلنى العمر لأتمها.
وقال الملك زوسر: كان الأوفق توجيه القوة المتاحة للغزو وتأمين الحدود.
فقال الملك خوفو: كانت خيرات البلاد المتاخمة تأتينى بلا قتال، وكان حرصى على أرواح رعيتى لا يقل عن حرصى على المجد والخلود.
فقال له أوزيريس: ولكنك أزهقت أرواحا بريئة عندما تنبأ لك رجل بأن طفلا سيرث عرشك.
- على الملك أن يدافع عن عرشه دفاعَه عن وحدة أمته، وفى سبيل ذلك يصيب ويخطئ.
- ألم يكن فى ذلك تَحَدٍّ لإرادة الإله؟
- نحن نفعل ما نراه واجبا، ويفعل الإله ما يشاء.
فقال أوزيريس: وذاعت أقوال عن احتراف كبرى بناتك الدعارة.
فقال خوفو بأَسًى: قد يصاب أنبل الناس فى عِرْضه بغير علمه.
- بل قيل إنك باركْتَ سقوطها لتواجه عُسْرًا أَلَمَّ بك.
- محض افتراء. ولا يجوز الخداع فى هذه القاعة المقدسة.
وطلبت إيزيس الكلمة ثم قالت: هذا ملكٌ منيرٌ مثل الشمس فى سماء العروش. وكم من إمبراطوريات تلاشت وبقى هرمه شامخا، وطالما كانت عظمته مثار حسد لدى العاجزين من بنى وطنه والغرباء.
وعند ذلك قال أوزيريس: اجلس أيها الملك على كرسيك بين الخالدين" (ص15- 18).
ملاحظات على محاكمة خوفو: وأحب، قبل الانتقال إلى النص التالى، أن أقف سريعا أمام بعض ما جاء فى هذا النص: فمثلا نسمع أوزيريس، والمفروض أنه إله من آلهة المصريين القدماء، ينادى خوفو قائلا: "أيها الملك" مع أن العباد أمام الله هم مجرد عباد لا ملوك ولا وزراء ولا كاسحى مَجَارٍ ولا فلاحين ولا مدرسين ولا صحفيين حسبما ألمحنا قبلا. والثانية أننا لم نفهم من هذا الحوار الحكمة فى بناء الهرم الأكبر رغم كل التمجيد الذى حاطه به محفوظ على لسان خوفو ومينا وإيزيس. وهنا أجدنى عاجزا عن كتمان التساؤل التالى: لقد ظلت القرية المصرية منذ تلك الأزمان السحيقة حتى الآن تُبْنَى من الطوب اللَّبِن وظلت شوارعها طينية، فلماذا لم يفكر فى تطوير تلك القرية المصرية ملوك مصر القدماء الذين بَنَوْا ما نعرفه من المعابد والآثار العظيمة من الحجر بدلا من الطوب النيئ؟ هذا سؤال لا أنتظر عليه إجابة لأن أولئك الملوك قد ذهبوا منذ آلاف السنين. وإذا كان عبد الناصر مثلا لم يفكر فى هذا وترك أحوال الفلاحين فى القرى وسكان العشوائيات فى المدن على ما هم عليه منذ تلك الحقب الطويلة، بل ظلت شوارع مدننا رغم كل شىء غير مرصوفة الرصف السليم وتعج بأكوام الزبالة فى كل مكان ولا يحاول الناس الإقلاع عن رمى القمامة فى الشارع، فكيف ننتظر من فرعون مصر القديمة أن يكون أوسع نظرا من أحد حكامها العصريين وأبعدهم شهرة وأقدرهم على ذلك لو وضعه فى حسبانه وذهنه وجعله أول درجة فى سلم أولوياته بدلا من المغامرات العسكرية الخارجية والهزائم التى منيت بها مصر على يد إسرائيل وأنصارها لدخولها الحرب متسلحة بالجعجعة والصياح عوضا عن الاستعداد الحقيقى لها مما كبَّد مصر شيئا وشويات كان يمكن أن تغير وجه الحياة فى مصر كلها تغييرا كريما؟
الشىء الثالث أن أوزيريس، وهو إله، يستفهم من خوفو عن نيته وعن حقيقة بعض تصرفاته وإنجازاته. فكيف يستفهم الإله من عبده، والإله يعلم السر وأخفى، علاوة على أن العبد يمكن أن يكذب، وبخاصة أن الإله يستفهم منه عن بعض الأشياء مما يفهم منه أن من السهل خداعه؟ كما أنه يطلب من الملوك الناجين الجالسين على كراسى الخلود والذاهبين إلى الجنة أن يدلوا بآرائهم، وكأنه يريد من سماع آرائهم أن تتضح الصورة أمامه أكثر وأكثر، وهو ما يتعارض تمام التعارض مع مفهوم الألوهية. الواقع أن تصوير الأمر على هذا النحو يشعرنا أننا فى جلسة عرفية لا فى حساب أخروى. ومع هذا فلا أستطيع أن أنكر استمتاعى بمثل هذه الأشياء فى كتاب محفوظ. إنها أشياء ذات طعم ونكهة طريفين ظريفين رغم هذا.
وأما دعوى ممارسة بنت خوفو للدعارة التى ساق قصتها هيرودوت فى كتابه عن مصر بوصفها حكاية سمعها هناك دون أن يعلن تصديقه لها فتقول القصة إن بنت الفرعون الكبير كانت تطلب من كل من يدخل عليها أن يوفر للهرم حجرا من الأحجار التى يحتاجها. الواقع أنه لا يعقل ممارسة ابنة مَلِكٍ كبيرٍ كملك مصر فى ذلك الوقت للدعارة بحيث يدخل عليها كل من هب ودب. ترى كيف يتحمل أبوها نظرة الناس إليه؟ ثم هل كان خوفو، وهو الملك على بلد كبير مثل مصر، عاجزا عن توفير ما يحتاج من أموال عن طريق الضرائب مثلا أو مصادرة الأملاك أو إجبار الناس على الدفع؟ فكيف استطاع بناء الهرم الأكبر وتوفير مستلزماته من مواد البناء، وأطعم وأسكن وأعاش وعالج آلاف العمال أثناء ذلك؟ وكيف بالله يتصرف كل عميل من عملاء ابنته فى إحضار الحجر الهائل الضخامة الذى كان عليه إحضاره كما تقول الرواية المضحكة؟ ثم إن ذلك معناه أن البنت كان عليها أن تمارس البغاء آلاف المرات بعدد أحجار الهرم قبل أن تقرر التوقف عن هذا العمل الشائن. ومثل هذا العمل لا تستطيعه إلا بَغِىٌّ محترفةٌ. فهل كانت ابنة خوفو كذلك؟ وأيا ما يكن الحال فلم يعرف التاريخ، فى حدود علمنا، أنْ كلَّف ملكٌ ابنتَه بممارسة الدعارة، وعلى هذا النحو الفاضح، وأن تبيح نفسها للعالمين جميعا، بَلْهَ أن ترضى ابنة ملك بهذا الأمر بكل أَرْيَحِيَّةٍ وانصياعٍ. ومع هذا كله فإنى آخذ على هيرودوت أنه لم يُعْمِل عقلَه ويَنْفِ الأمرَ كلَّه جملة وتفصيلا كما يقول المنطق والتفكير السليم المستقيم. وإذا كنت آخذ على هيرودوت أنه أورد القصة دون أن ينفيها، وإن لم يصدقها كذلك، فمن باب الأولى آخذ على نجيب محفوظ فتحه الموضوع أصلا وأن يجعل منه محورًا لنقاش يدور بين أوزيريس وخوفو يوم الحساب وكأن له شيئا من المصداقية.
والآن إلى الفصل المخصص لمحاسبة الزعيم مصطفى كامل رحمه الله: "وهتف حورس: "مصطفى كامل"، فدخل شاب ممشوق القامة عذب الملامح، ومضى عارى الرأس حافى القدمين حتى مثل أمام العرش. ودعاه أوزيريس إلى الكلام فقال: بلغتُ الوعى وأنا تلميذ فى عصر الاحتلال البريطانى، فكرهتُه وصممتُ على محاربته، وشرعت فى ذلك وأنا تلميذ. وزارنا فى المدرسة جناب الخديو عباس الثانى، فاستقبلتُه بخطبة وطنية حماسية استجابت لها وطنيته وشبابه، وتوثقت بينى وبينه منذ ذلك اليوم علاقة وثيقة، فمضى يمدّنى بالتشجيع والمال للتخلص من الاحتلال. واستوت علاقتى على نفس النهج مع الخليفة والجمعية الإسلامية. أما قِبْلَتى فى جميع الأحوال فكانت استقلال مصر وحريتها. من أجل ذلك تغير موقفى من الخديو عندما اتفق مع الاحتلال. وكانت حال الشعب لا تبعث على الأمل، ولكنى لم أقصّر فى إيقاظ وعيه الوطنى بالكلمة فى الصحف والخطابة. كما قمت بالدعاية لقضية وطنى فى الخارج حتى عرفها الأحرار فى أوربا، وخاصة فرنسا. ولما ارتكب الإنجليز جريمتهم الكبرى فى دنشواى استنكرتُ أعمالهم الوحشية ونددتُ بالأحكام التى أصدرتها المحكمة الزائفة على أهل القرية الأبرياء، فزعزعتُ عرش طاغية الإنجليز فى مصر حتى اضْطُرَّتْ بلاده إلى استدعائه. ثم أسستُ الحزب الوطنى، وهو أول حزب سياسى منظم أنشئ فى مصر تضمَّنَ برنامجُه الجلاءَ والدستورَ فى ظل الدولة العثمانية. وواظبتُ على الجهاد فى الداخل والخارج حتى أسلمتُ الروح فى عز الشباب
وتكلم بسماتيك الثالث فسأله: ألم يقتلك الإنجليز؟
- كلا.
- هذا عجيب. لقد عاصرتُ الاحتلال الفارسى مثلما عاصرتَ الاحتلال الإنجليزى، ومثلَك حاولتُ إيقاظ الوعى الوطنى، ولما علم قمبيز بأمرى قتلنى دون تردد. فكيف تركك الإنجليز دون عقاب؟
فقال مصطفى كامل: كان الاحتلال قد تمكن من دعم سيطرته الكاملة على البلاد فلم ير بَأْسًا من منح معارضيه شيئا من الحرية استهانةً بهم فى الواقع وتظاهرًا أمام العالم باحترام القيم.
- ألم تتعرض لأذًى ملموس؟
- أضمر لى الكراهيةَ وحرَّض أصدقاءه على مهاجمتى.
- زمانُك وفر لك من الأمان ما لم يوفر لى بعضه. والحق أنى لم أعرف مجاهدا سعيد الحظ مثلك: حَظِيتَ بتأييد الخديو والخليفة والجمعية الإسلامية، وهاجمتَ عدوك فى الداخل والخارج دون عقاب، واكتستبَ مجدا وشهرة دون أن تدفع ثمنا. لم تُقْتَل كما قُتِلْتُ أنا، ولم تُنْفَ كما نُفِىَ أحمد عرابى.
فقال مصطفى كامل: أحمد عرابى خائن جَرَّ على بلاده الاحتلال.
فقال له أبنوم: كيف تتهم الرجل بالخيانة، وهو ما ثار ونُفِىَ إلا دفاعا عن شعبك؟ وما كان الخائن إلا والِدَ صديقِك ومؤيدِك ومُعِينِك. وقد خان وطنَه بشهادتك كما خان أبوه من قبل.
فقال مصطفى كامل بإصرار: إنى أعتبره المسؤول الأول عن الاحتلال.
فقال أبنوم: إنك شاب وطنى متحمس صادق النية سعيد الحظ عشتَ حياتك فى جو معبَّق بأبهة العرش والخلافة والحضارة الفرنسية. لم تشمَّ رائحة العرق الكادح ولم تكابد آلام الجهاد الحقيقية، ولم تتورع عن النيل من الثائر الحقيقى.
وهنا قالت إيزيس: إنه الابن الذى أيقظت حماسته الوجدان الوطنى بعد أن كاد الاحتلال يُخْمِد أنفاسه.
وقال أوزيريس: لم يكن بوسعك أن تفعل خيرا مما فعلتَ، ولن يُنْسَى فضل كلماتك. فاذهب إلى محكمتك مصحوبا بدعواتنا القلبية" (ص173- 176).
ملاحظات على محاكمة مصطفى كامل: ولعل القارئ لاحظ كيف يقلِّب محفوظ الأمر على وجوهه المختلفة حتى ليجعل الخلود من نصيب مصطفى كامل على الرغم مما أجراه على لسان أبنوم الثائر المصرى القديم منذ آلاف السنين من انتقادات للزعيم الشاب، وهو ما يعنى أن للحقيقة لديه أوجها مختلفة، وأن الصواب يتسع للمواقف المتعارضة أحيانا دون أن يكون هناك افتئات على الحقيقة والمثال الأعلى. وقد سبق أن أومأنا إلى أن محفوظ فى حكمه على الملوك والزعماء والرجال دائما ما يراعى السياق والظروف والأحوال، فأحكامه عليهم ليست أحكاما فى المطلق بل أحكاما نسبية.
وبطبيعة الحال لقد لاحظ القارئ تدخل أبنوم فى المناقشة التى كانت دائرة بين مصطفى كامل وأوزيريس تدخُّلَ العارف بما حدث فى عصر مصطفى كامل من أحداث سياسية ومنازعات وصراعات بين الاستعمار البريطانى والقادة الوطنيين المصريين. وهذا أمر غريب، إذ قد مات أبنوم وشبع موتا منذ آلاف الأعوام، ومن ثم فالمفروض أنه لا يعرف شيئا مما وقع بعد وفاته، وبخاصة أنه كان قد نهض من جَدَثه قبيل قليل، فكيف أحاط علما بهذه الأحداث التى وقعت فى عصرنا؟ هذه ثغرة فنية من الثغرات التى تنال من قيمة الكتاب بلا شك.
ولعل القارئ قد لاحظ أيضا أن محفوظ لم يشر فى حالة مصطفى كامل إلى الكفن كما أشار إليه فى محاكمات كثير جدا ممن حوكموا فى نصف الكتاب الأول. ولا أدرى السبب فى هذا. وقد يكون سببه رغبة محفوظ فى التغيير حتى لا يمل القارئ بل حتى لا يمل هو نفسه، وربما كان هناك سبب فنى لا نعرفه. وبالمثل نلاحظ أن محفوظ فى محاكمات ملوك العصر الفرعونى كان يتكلم دائما عن الكفن مع أن أولئك الملوك لم يكونوا يُكَفَّنون بل كانوا يُلَفُّون فى طيات من قماش معين مغموس فى مواد كيميائية وطبيعية سائلة ولزجة متعددة الأشكال مع استخراج أحشائهم وأمخاخهم بطريقة معينة حتى لا تنتن وتتعفن وتتحلل جثثهم. وهذه هى المومياوات. لكن محفوظ نسى هذا وذكر أن كلا منهم كان يتلفع فى كفنه. ومن الطريف أنه فى الوقت الذى كان حريصا على أن يوقفهم أمام أوزيريس فى أكفانهم حفاة عراة الرأس بما يدل على أنه يريد الإشارة إلى وضعهم كمخلوقات عاجزة أمام الإله الخالق القادر الجليل قد استبقى لكل منهم لقبه ومنصبه فى الحياة الدنيا حسبما وضحنا، وهو ما لا يتسق مع ذلك الاتجاه. وهى ثغرة أخرى من ثغرات العمل الذى فى أيدينا والذى استمتعت به رغم كل شىء كما سلف القول. ثم كيف يقول الإله لمصطفى كامل: "اذهب إلى محكمتك مصحوبا بدعواتنا القلبية"؟ وهل الإله يدعو للبشر؟ فإلى من يتوجه الإله بدعائه يا ترى؟ ألا إنها لَعَثْرَة فنية مضحكة!
ثغرات فنية أخرى: ومن هذه الثغرات الفنية كذلك أن محفوظ قد أسس عمله هذا على أن القيامة قد قامت لأن حساب المحكمة الإلهية لا يتم إلا بعد البعث فى الآخرة، ورغم ذلك فإن القيامة لم تقم بطبيعة الحال ولا تزال الحياة قائمة على قدم وساق، فموت أنور السادات ليس نهاية العالم بل مجرد حدث من أحداثه التى لا تحصى ولا تعد والتى يأخذ بعضها برقاب بعض ولا يدرى أى منا متى تنتهى. كذلك أسس محفوظ عمله على أن أوزيريس هو الإله الذى يحاسب الناس فى الآخرة، وهذا إن جاز فى عقيدة المصريين القدماء فلا يجوز عندنا ولا ينبغى أن يجوز لدى نجيب محفوظ رحمه الله، فهو يؤمن بالله الواحد الأحد لا بثالوث أوزيريس وإيزيس وابنهما حورس. والحق لقد تنبهت منذ بداية قراءتى للكتاب إلى هذه الثغرة العنيفة، وبخاصة حين انتهى كاتبنا الكبير من محاسبة ملوك الفراعنة ورجالات مصر القديمة، فإنه من غير المناسب ولا المقبول فنيا على الأقل أن يقوم أوزيريس بمحاسبة المسيحيين والمسلمين، وهم لا يؤمنون بألوهيته ولا يعترفون بحقه فى حسابهم لأنه فى نظرهم ليس سوى بشر عادى تماما مات وانتهى أمره.
وبالفعل لقد ألفى محفوظ نفسه فى مأزق فنى حين فرغ من تاريخ مصر الفرعونية (وهذا إن قبلنا أن أوزيريس هو الإله الذى سيحاسب المصريين القدماء)، وبدأت محاسبة المقوقس ومَنْ بعده حتى أنور السادات رحمه الله، فقد تحول أوزيريس من مُصْدِر أحكامٍ بالجنة والنار والتفاهة على من يقفون أمامه للمحاسبة إلى مجرد مانح لشهادات التزكية لمستحقى الخلود فى نظره لعلها تنفعهم أمام محاكمهم الدينية كما يقول. إذن فما الداعى إلى تلك المحاكمات التى يقوم بها ما دامت لا تؤدى إلى شىء وما دامت المحاكمة الحقيقية لا تزال فى الطريق تنتظر الذين حاسبهم، ومن الممكن أن ينجو من أدانه أوزيريس، ويُقْذَف فى النار بمن زَكَّاه؟ أليس كذلك؟ ثم من خَوَّله يا ترى إصدار تلك التزكيات؟ وهذا لو قبلنا محاسبته للبشر أصلا، وهو ليس بإله ولا أعطاه الله تفويضا بهذا. كذلك فهذا الكلام مُفَادُه أن أوزيريس ليس إلها، وإلا لمضت أحكامه على البشر كما كانت تمضى من قبل، اللهم إلا إذا قيل إن الرب يتغير من حقبة زمنية إلى حقبة زمنية أخرى، وهذا مما لا تقبله العقول. فالله هو الله واحد لا يتغير حتى لو انحرف الناس عنه إلى آلهة أخرى تتبدل حسب العصور والبلدان. ثم هل يمكن أن تُقْبَل تزكية أوزيريس عند الله سبحانه وتعالى؟ فبأية صفة؟
وعلى نفس الشاكلة فإن محاسبة الموتى عند المصريين القدماء لم تكن تتم بالشكل الذى صوره محفوظ بل كان يُوضَع قلب كل منهم فى كِفَّة أمام ريشة فى كفة الميزان الأخرى، وإذا شالت هلك، أما إذا رجحت فينجو، وهو ما لم نره فى الكتاب. ثم إن محاسبة الموتى لا تقتصر فقط على جانب واحد من أعمالهم الدنيوية كما هو الحال فى محاسبة حكام مصر ورجالاتها، الذين انحصرت محاكماتهم فى المجال السياسى فى حين لا تستغرق السياسة كل شىء فى حياة الإنسان وتصرفاته وأخلاقه وعلاقاته بالآخرين وبالكون بجماداته وحيواناته وموارده الطبيعية والنعم الإلهية المبثوثة فى كل مكان. وكما يحاسَب السياسى على إنجازاته فى ميدان السياسة فلسوف يحاسب أيضا على تصرفاته ومواقفه تجاه أفراد أسرته وأقاربه وجيرانه ومرؤوسيه وخَدَمه وكل من يتعامل معهم وعلى كيفية قضائه وقته وعلى صدقه أو كذبه وصراحته أو نفاقه ووفائه أو غدره، وعلى إخراجه حق الفقراء فى ماله أو شُحّه وتحجر قلبه، وعلى أدائه الصلاة لربه أو لامبالاته بعبادة خالقه، وعلى حبه للعلم أو نفوره منه وعلى رحمته بالحيوان أو قسوته معه. كما أن السياسى لم يولد كبيرا ويعمل بالسياسة منذ مجيئه إلى الدنيا بل منذ جلوسه على العرش. بَيْد أننا ننظر فلا نجد لأى شىء من ذلك مكانا فى محاكمة أوزيريس لمن يقفون أمامه يوم القيامة. الواقع أن محفوظ لم ينظر إلى موضع قدمه قبل أن يخطو خطوته هذه نحو تأليف الكتاب الذى فى أيدينا رغم أنه كان معروفا فى إبداعاته القصصية بالحرص على تخطيط كل شىء قبل أن يشرع فى كتابة أية رواية واضعا خريطة تفصيلية لوقائعها وشخصياتها والصلات التى تربط بعضها ببعض.
لقد كان بمستطاع محفوظ أن يبتعد عن هذه المآزق ويقيم محاكمة بشرية لأولئك الزعماء والقادة داخل ما يمكن أن نسميه: "محكمة التاريخ" بدلا من تلك القاعة التى سماها: "قاعة العدل" والتى كان يجلس فيها أوزيريس مع أن الإله لا يمكن أن يحتويه مكان ولا زمان لأنه سبحانه هو نفسه خالق الزمان والمكان، ومن ثم ما كان ينبغى أن يشار إلى أن الإله موجود داخل قاعة العدل، إذ الإله الحقيقى سبحانه وتعالى مطلق بلا حدود، فلا أول له ولا آخر. أما "محكمة التاريخ" التى أقترحها فهى محكمة بشرية يقف فيها الزعماء أمام مجموعة من حكماء البشر وكبار مفكريهم وعارفيهم بتاريخ مصر، ولكن دون أن يُسَمَّوْا بل يُكْتَفَى معهم بصفة "الحكيم"، فيقال: "الحكيم 1، والحكيم 2، والحكيم 3"... وهلم جرا. وفى أعقاب كل محاكمة يجتمع الحكماء معا للتداول فى أمر الزعيم التى تمت محاسبته ليصلوا إلى رأى بشأنه وشأن أعماله وإنجازاته فى ميدان السياسة وما يتصل به ليس إلا. ثم إن أحكامهم غير مطلقة ولا نهائية بل تقبل التغيير والاستدراك مع مرور الزمن واكتشاف حقائق وجوانب جديدة لم تكن متاحة قبلا. وصحيح أن محفوظ هو الذى سيُنْطِق الحكماءَ بما سيقولون مثلما أنطق أوزيريس وإيزيس وأحمس وأصحاب كراسىّ الخلود بفكره هو وكلامه هو، لكنْ هكذا تقتضى طبيعة الإبداع الأدبى. وهكذا كان بمكنة محفوظ أن يتجنب تلك الثغرات التى سلفت الإشارة إليها وينجو كتابه من المأزق الذى صار إليه. وهذا ليس تقليلا من شأن محفوظ بتاتا، بل يمكنك أن تنظر إلى اقتراحى هذا نظرتك إلى الفأر الضئيل حين يتقدم ليقرض حبال الشبكة التى وقع فيها سيد الغابة.
قضايا الكتاب الرئيسية: وهناك، إلى جانب هذه الملاحظات الفنية، قضايا أخرى مضمونية أثارها محفوظ رحمه الله فى كتابه: منها مثلا إشارة تحوت كاتب الآلهة إلى تحويل الملك مينا لمجرى النيل بوصفه من إنجازاته الكبرى (ص6). فما معنى تحويل مجرى النيل هنا؟ ومن أين حَوَّله؟ وإلى أين؟ لا جواب بل مجرد معلومة تساق كما هى على هذا النحو من الإيجاز سوقا كأنها من المعلوم من التاريخ بالضرورة لكل إنسان. لقد كان بإمكان مينا أن يفصِّل ما قاله تحوت، لكنه ضرب صفحا عن ذلك. وهذا بعض ما وجدته عن هذا الأمر، وأرجو أن يكون فيه شىء من الإيضاح. فقد بنى الملك مينا مؤسس مصر الموحدة فى عصر الدولة الفرعونية الأولى سدا لحماية مبانى عاصمة الدولة الأولى: ممفيس من الفيضانات، وتم إنشاؤه من الأحجار فى قوشيشه، التى تبعد 20 كيلو مترًا عنها، ويصل أقصى ارتفاع لقِمَّته إلى 15 مترا،وطوله 450 مترا من التربة المدموكة المكسوة بأحجارٍ صُلْبَة. وبهذا تم تحويل مجرى نهر النيل من غرب المدينة الى شرقها.
ومن القضايا التى لمسها محفوظ فى كتابه لمسا ولم يتلبث عندها قول عمة الملك مينا له إن أوزيريس هو الذى علم المصريين الزراعة (ص7). أما كيف فلم يقل الكتاب شيئا عن هذا الموضوع، بل ألقت العمة بتلك الكلمة ومضت. والواقع أن هذا لا يمكن أن يكون. نعم إن المصريين يمكن أن يعتقدوا هذا، لكنَّ ذكره على أنه أمر حقيقى هو شىء مربك. فأوزيريس أقنوم من أقانيم الثالوث المذكور آنفا، وكان المصريون يعتقدون أنه عَلَّمَهم الزراعة، لكن كيف ينزل الإله ويعلم الناس شيئا ويقال هذا على أنه إنجاز حقيقى يفتخر به المفتخرون ويُمْدَح صاحبه جَرَّاءَه؟ لقد قيل هذا الكلام فى محكمة الآخرة حيث لا يصلح الاعتقاد فى مثل تلك الآلهة الخرافية المزعومة، وفى كتاب ألفه كاتب عبقرى منا نحن المصريين المحدثين لا من مصريى عهد الفراعين. وهنا المشكلة. إن الزراعة لا تُتَعَلَّم فجأة على يد كائن ينزل من السماء، بل تُتَعَلَّم من التجارب التى يمر بها البشر والأخطاء التى يرتكبونها ثم يصححونها مع مضى الزمن، وكل ذلك بفضل الله سبحانه، الذى آتانا الأرض والشمس والهواء ووهب لنا العقل والغرائز التى تدفعنا دفعا إلى البحث عن الطعام ومن ثم التفكير بعد فترة فى الزراعة مهتدين بالنباتات التى تنبت من تلقاء نفسها غِبَّ المطر مثلا. صحيح أن محصلة كلامى أنا أيضا هى أن الله هو من علمنا الزراعة، لكن ليس مرة واحدة، وليس بنزوله من عليائه عز وجل بل بتحريك مواهبنا العقلية والعضلية ومشاعرنا الغريزية. كما أن الله لم يعلمنا الزراعة وحسب بل علمنا كل شىء، وبنفس الطريقة التى شرحتها.
وفى الصفحة السابعة أيضا تقول عمة مينا له: "لا تَدَعِ الناس يمزقون الأرض التى وحَّدها النيل". لكن النيل لا يوحد البلاد بل الإرادة السياسية والقوة العسكرية، وإلا فقد كانت مصر إقليمين منفصلين ثم وحَّدهما مينا بالإرادة والقوة. كما أن النيل يمر بعدد آخر من البلاد قبل أن يبلغ مصر، وليس بين هذه البلاد وحدة. فهذا كلام جميل لكنه غير صحيح. ثم إن مصر فى كثير من الأحيان قديما ووسيطا وحديثا كانت إمبراطورية كبيرة أوسع من مصر التى نعيش فيها الآن، ولم يوحِّد بين أقاليمها المتعددة النيل فى قليل أو كثير، فالنيل لا يصل إليها بل يأخذ مجراه من منابعه حتى ينصب فى البحر المتوسط ولا يبلغ الشام مثلا ولا بلاد العرب، وقد كانت هذه من البلاد التى تَتْبَع الإمبراطوريةَ المصريةَ فى هذه الفترة أو تلك من تاريخها. وهناك الآن شبه جزيرة سيناء، والنيل لا يرويها، ومع ذلك فهى جزء كبير من مصر الحالية التى يجرى فيها النيل. كذلك ذكرت الرواية أنه فى فترة الظلام بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى استقلت الأقاليم عن الحكومة المركزية، أى صارت هناك عدة دويلات فى مصر رغم وجود النيل، الذى يروى البلاد كلها معا (ص23). ليس هذا فقط، بل إن الصحراء تمثل نحو 95% من مساحة مصر، ومع هذا ليس للنيل أى دخل فى توحيدها مع الدلتا والوادى. والكلام الذى قالته عمة مينا له إنما هو كلام نجيب محفوظ، فيحاسَب هو عليه. وحتى لو كان قد نقله من كتاب آخر نسبه إلى العمة المذكورة فكَوْنُه قد أورده فى كتابه الذى فى أيدينا يعنى أنه مسؤول عنه.
وفى الصفحة الحادية عشرة يقرأ تحوت من كتاب الأعمال قائلا عن أمحتب وزير الملك زوسر: "الوزير أمحتب حكيم حفظت الأجيال حِكَمَه. برع فى الطب والفلك والسحر والهندسة، وقدَّس الناس ذكره بعد وفاته بمئات السنين". وحين أتى دور أمحتب للوقوف أمام أوزيريس قال مخاطبا إياه عازفا نفس النغمة: "نشأتُ محبا للعلم والمعرفة، ودرست على كهنة منف العظام فحصلت على أقصى الدرجات فى الطب والهندسة والفلك والسحر والحكمة. ولما علم الملك بتفوقى دعانى إلى العمل فى حاشيته رغم انتمائى إلى الشعب الفقير، فأثبتُّ جدارتى فى كل ما كلفنى به: عالجت بنجاحٍ الملكةَ من مرض من أمراض الخماسين، وأنقذتُ بالسحر كبرى الأميرات من روح شريرة وعين حاسدة...".
ولا ينبغى أن يفوتنى تركيز النص على أن الفقير الموهوب المتفوق يستحق الارتقاء إلى أعلى الدرجات، وكذلك على أهمية العلم والطب والفلك. إلى هنا والكلام رائع غاية الروعة، لكن لِمَ الزَّجُّ بالافتخار بالسحر بوصفه سبيلا للشفاء من الروح الشريرة والعين الحاسدة؟ لقد كان محفوظ من المتشيعين للعلم غاية التشيع، ونحن معه فى هذا، لكن لا بد إلى جانب ذلك من الإيمان، الإيمان المستقيم الراقى الذى يقصد إلى جوهر الأشياء ولا ينشغل بالتفاهات والسطحيات. أما السحر والإشادة به والحديث عنه على أنه دواء من بعض الأمراض التى لا ينجع الطب فى علاجها فهنا الاعتراض. إن شعوبنا الآن بوجه عام تكبلها الخرافات والاعتقاد فى السحر والإيمان بأن العين تضر، والكلمة تؤذى أذى مباشرا بمجرد النطق بها لا بما فيها من أفكار وعقائد ولا بما تستحث به النفوس لإيذاء الغير بالعمل الشرير، وكان يجب على محفوظ ألا يفتح باب السحر، فالنفوس فى بلادنا مشتعلة بالإيمان بتأثيره ولا تدرك أنه خرافة ومن ثم لا وجود له. نعم أعرف أنهم فى مصر القديمة كانوا يعتقدون فى السحر، لكننا هنا أمام المحكمة الإلهية، والله سبحانه يرفض لعباده التعلق بتلك الخرافات المتخلفة. وكما يقول المثل: المشرحة لا ينقصها الجثث. فالمطلوب التحقير من شأن هذه الخزعبلات وإفهام الناس أنها خرافات مسيئة تخالف الدين وتخرج عليه لا أن نعمقها فى نفوسهم.
ومعروف أن الشعوب التى تؤمن بالسحر وتعتمد عليه فى معالجة مشاكلها وإنجاز مطالبها ليس لها من نصيب سوى التخلف والحرمان بخلاف الشعوب التى تعتمد العلم سبيل حياة فيكون حظها التقدم والقوة والتحليق فى سماء الحضارة العالية. ومحفوظ يبرز، بين إنجازات بعض الملوك المصريين القدماء، اهتمامهم بالعلم والاكتشافات المعدنية التى تعود على الدولة بالأموال الطائلة، وكذلك اهتمامهم بالآداب والفنون. وهذا الاهتمام بالآداب والفنون هو ما تنساه شعوبنا بوجه عام ظنًّا منها أن الآداب والفنون لا قيمة لها لأنها لا تُطْعِم من جوع ولا تُرْوِى من ظمإ، إذ الحياة عندها غالبا أكل وشرب ولبس فقط دون اهتمام بقيم الحياة الراقية التى تأخذ بالإنسان وبروحه إلى أعلى المدراج فيكون إنسانا ذا أشواق روحية سامية سامقة وليس مجرد جسد كأى كائن حى آخر.
وثم قضية هامة أخرى أثارها، أثناء محاكمته أمام أوزيريس، أبنوم زعيم الثوار الذين حكموا هم وخلفاؤهم البلاد ما بين الدولتين: القديمة والوسطى، وقد أثارها حين رأى التحامل عليه من جانب تحوت كاتب الآلهة والملك خوفو وبتاح حتب الحكيم والملك زوسر، إذ وصفوه ووصفوا الثورة التى قام بها هو وأتباعه بالحقد والرغبة فى التدمير ونشر الفوضى وارتكاب الجرائم بينما هو يؤكد أنها كانت ثورة ضد الفساد والطغيان والظلم وضعف الملوك وانحراف الكهنة ومناصرتهم لملوك الجَوْر والتأله وأن الآلهة قد باركتها. ومما قاله ردا على اتهام أوزيريس لعهد الثوار بأنه عهد ظلام، ومن ثم لم يخلِّف وراءه أثرا ولا وثيقة، بأن ذلك الاتهام هو من عمل المؤرخين، الذين تجاهلوا ما نشره الثوار فى عهدهم من الأمن والعلم والمعرفة وصعود الفقراء إلى المناصب التى يليقون لها والاهتمام بالزراعة والصناعة والفنون وتجديد القرى والمدن، ثم زادوا على هذا إحراق وثائق البردى التى سجلت أعمالهم (23- 29). والسؤال هو: إذا كان الأمر كما يقول أبنوم وضاعت الوثائق التى تسجل إنجازاتهم فكيف عرف محفوظ هذه الإنجازات وأشاد بها؟ نعم كيف يُشِيد بشىء لم يره ولم يسمع عنه شيئا إيجابيا بل سمع كل ما يشوِّهه ويقبِّحه؟ الواقع أن هذه نقطة أخرى من نقاط الضعف فى الرواية. والعجيب أن أوزيريس، وبشفاعة من إيزيس، أرسل أبنوم ورفاقه إلى كراسى الخالدين. سيقال: لقد أرسله إلى كراسى الخلود لأنه إله يعرف كل شىء. لكن الجواب على ذلك سهل يسير، إذ كان يسأله سؤال من لا يعرف ويريد أن يعرف، فضلا عن أنه إنما أرسله إلى كراسى الخالدين بتدخل من إيزيس كالعادة.
ومن القضايا الهامة أيضا فى الكتاب ما يقوله أحمس فى العبارة التالية أثناء محاكمته ردا على الحكيم بتاح حتب: "علمتنى الحياة أنها صراع مستمر لا راحة فيه لإنسان، ومن يتهاون فى إعداد قوته يقدِّم ذاته فريسة سهلة لوحوش لا تعرف الرحمة" (ص48). وهذا ما يعرفه كل ناجح متفوق، فهو لا يكف طوال حياته عن العمل، ولا ينتهى من إنجاز ويشعر بشىء من السرور جراء هذا حتى يهب قلقا استعدادا لإنجاز جديد يقتضيه تعبا جديدا وسهرا مرهقا وقلقا مزعجا وتأرجحا بين الأمل والتوجس، والرضا والسخط، إلى أن ينتهى من إنجازه الجديد فيشعر بشىء من السرور ليعقبه قلق الاستعداد لإنجاز آخر... وهكذا دواليك إلى آخر لحظة من عمره. وحين أُهْبِط آدم وحواء إلى الأرض أخبرهما ربهما أن البشر سيكون بعضهم لبعض عدوا. صحيح أن هناك صداقات ومودات، ولكن الحياة تمتلئ بمعسكرات العداوة والبغضاء، وما أكثر ما يصير أصدقاء اليوم أعداء الغد. بل كثيرا ما يكون الإنسان عدو نفسه يجنى عليها بل قد يهلكها بأفظع مما كان يمكن ألد الأعداء أن يفعل. والعداوات فى الدنيا كثيرة: منها عداوات الأشخاص، وعداوات الأسر، وعداوات الدول، وعداوات الأحزاب، وعداوات الأفكار، وعداوات المؤسسات، والعداوات بين القديم والجديد، والعداوات بين الفلاسفة والمفكرين والأدباء والنقاد. وليست كل العداوات ضارة، فإن التنافس بين المتفوقين على المركز الأول هو لون من العداوة لكنها عداوة إيجابية ونافعة. وهذا موجود فى ميدان العلم وفى ميدان الرياضة وفى ميدان الصناعة وفى ميدان النظافة... إلخ. فالإنسان فعلا لا يهدأ ولا يرتاح إلا ريثما يهب من جديد وكله تحفز وقلق. ومن لم يفهم الحياة ويتقبلها هكذا وينزل على حكمها ضاع غير مأسوف عليه. والقدَر لا يعرف المجاملة أو التربيت على الأكتاف استرضاء لكسول أو متبلد أو مهمل. وقد أوجز نجيب محفوظ سر الحياة فى تلك الجمل القليلة. وهذا هو الفرق بين الدول القوية المتقدمة وبين الدول الضعيفة المتخلفة. وكنا، ونحن طلاب صغار، نسمع الكبار منا يقولون: تَذَأَّبْ لا تفترسْكَ الذئاب!
وفى محاكمة أخناتون يصوِّر محفوظ ذلك الملك الذى انقلب على عبادة آمون، ودعا إلى إله جديد هو آتون، يصوِّره على أنه نبى نزل عليه الوحى من السماء بذلك الدين الجديد (ص72 وما بعدها). بل نسمع ذلك الملك فى موضع آخر من الكتاب يقول إن دينه هو والإسلام شىء واحد (ص127). فهل كان أخناتون نبيا فعلا؟ ليس هناك دليل على هذا. ولو كان نبيا حقا أكان يمكن أن يدعو إلى آتون، الذى رسمه مجسَّدا فى صورة الشمس؟ هل يصح أن يجسد نبىٌّ ربَّه فى أية صورة؟
وفى مادة أخناتون بـ"الموسوعة العربية" السورية أنه قد "أعلن مبادىء ديانة جديدة تدعو إِلى عبادة إِله واحد هو آتون, وقد مثّله بقرص الشمس المجنّح... وعمل على إِبراز بعض المظاهر التى رآها أكثر واقعية فى التعبير عن الإِله الذى أراده أن يكون أكثر قربًا من الناس جميعًا وعالميًّا موجودًا فى كل مكان... وتَوَجَّه فى تراتيلَ شعريةٍ مؤثِّرةٍ إِلى ربّه آتون, الذى رمز إِليه بقرص الشمس, وأعلن أَلَّا حياة لشىء من دونه. وفى دعوته المجدَّدة يعلن الملكُ الكاهنُ أن بركات آتون ليست وقفًا على مصر وأهلها, بل هى للمخلوقات الموجودة فى كل مكان من بشر وحيوان, إذ يمنح آتون عند شروقه القوة للكائنات ويُحْيِيها حتى تستمر نعمة الحياة، وعند غروبه تفتر الحياة فى كل شىء. وعندما يفقد العالم نسمة الحياة يدخل هذا العالمُ فى خمود فى الوقت الذى تُشْحَن فيه الشمس بطاقة جديدة حيث كانت تختفى عن الأنظار".
ونحن نتساءل: هل تشرق الشمس على العالم كله فى وقت واحد؟ بل هل تشرق الشمس على العالم كله أصلا؟ بطبيعة الحال لا. ذلك أن الشمس لا تشرق إلا على كواكب مجرتها، أما بقية كواكب السماء فلا تشرق عليها. والمجرات لا تحصى ولا تعد، والكون أوسع مما نتصور بما لا يقاس، ولا تمثل الشمس فيه شيئا يذكر. فكيف ترمز إلى الله سبحانه، وهو المطلق الذى لا أول له ولا آخر؟ هذه واحدة. كما أن الشمس إذا أشرقت على ناحية من كواكبها غربت عن الناحية المقابلة كما هو معروف. ثم إذا كانت الشمس عند شروقها تمنح القوة للكائنات وتحييها فماذا نقول عنها حين تغرب؟ أنقول إنها تسلب عن الكائنات الحياة وتميتها، وبخاصة فى المناطق القطبية التى تختفى فيها الشمس نصف العام؟ فهل تموت الكائنات عند الغروب وتعود إلى الحياة مع الشروق؟ إن الشمس مخلوقة وليست خالقة، ومن ثم ليست إلها ولا تمنح الحياة ولا حتى الدفء بل الله هو الذى منحها القدرة على التدفئة، أما هى فلا عقل عندها ولا إرادة ولا قدرة. ولو كان الله سبحانه أراد أن ترطِّب الشمس الجو والأجساد بدلا من تدفئتها لرطبتها. كذلك فنور الله يشمل نور النجوم والكواكب والنيران ونور الكهربا، ونور العقل ونور الوجدان ونور الضمير ونور الدين ونور الإلهام... ومن طريف الأمر أن أخناتون يتحدث عن وجوب عبادة الإله الواحد إلى أوزيريس فى حين أن أوزيريس، الذى يحاكمه، ليس إلها واحدا بل يَشْرَكه فى الألوهية إيزيس وحورس.
ومن الغريب غير المفهوم كذلك أن يرسل أوزيريس الملك بسماتيك الثانى بعد محاسبته إلى مقام التافهين رغم أن عصره، كما وصفه هو، كان عصر أمان وسلام ورغم توطيده النظام فى الداخل. وتتساءل عن السبب الذى دعا إلى إرساله إلى مقام التافهين رغم سيادة الأمن والنظام والأمان فى عهده، فيقال إنه نسى أن مصر كانت إمبراطورية ذات يوم وأن بابل كانت رابضة على الحدود ولم يبعث روح القتال فى الشعب (ص115- 116). لكن هل من القليل التافه الذى لا يؤبه له وليست له أية قيمة أن تعيش البلاد فى نظام وأمان وسلام طوال مدة حكم ذلك الملك؟ ألا يكفيه أنه لم يسئ لأحد ولم يفسد أو ينحرف، بل نشر الأمان والاطمئنان، تلك النعمة التى لا تقدر بثمن؟ يمكن أن يقال إنه لا يستحق مرتبة عالية فى الجنة مثلا لأن طموحه كان قليلا، لكن أن يُرْسَل ليعيش بين التافهين فهذا غريب حقا.
وفى محاكمة شهاب الدين الخفاجى (ص155- 157)، وهو عالم وأديب ومؤلف مصرى من سرياقوس من أهل القرنين العاشر والحادى عشر الهجريين، والقرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وعاش فى عصر المماليك، وكان ينتمى إلى أسرة من العلماء، ينتهى الأمر بأن يقول أوزيريس له: "اذهب بسلام إلى محكمتك بلا تزكية أو إدانة منا"، ولا أدرى لماذا. ألأنه لم ينظم شعرا فى معاناة الناس فى حياتهم بسبب فساد الحكام وما ينزلونه بالشعب من مظالم وقسوة كما جاء فى سؤال الحكيم بتاح حتب له أثناء محاسبته؟ لكنه قرأ على ذلك الحكيم بعضا من نثره الذى يصور معاناة الشعب المصرى على يد ظالميه من الحكام والمتنفذين. وهو ما نسميه فى عصرنا بـ"الأدب الهادف"، أى الأدب الذى يدعو إلى إنالة الشعوب حقوقها السياسية والاقتصادية وترقية أحوالها الاجتماعية، وبخاصة الطبقات الضعيفة منها من عمال وفلاحين وموظفين صغار وحرفيين. ثم لو مشت محاكمات الأدباء والعلماء على هذا النهج فلسوف يكون مصيرهم كلهم تقريبا كمصير الخفاجى. وقد طلب الرجلُ العلمَ وحصَّل اللغة والتفسير والحديث والفقه والطب، وكان عالما أديبا وقاضيا، وترك وراءه عددا كبيرا من الكتب النافعة فى التراجم واللغة والتفسير والفقه والسيرة النبوية وغير ذلك، فضلا عن شعره. وهو بهذا قد خدم الفكر والأدب وأفاد الناس فوائد جليلة. أفلا يشفع له هذا ليقول فيه أوزيريس كلمة طيبة؟
إن العلماء والأدباء يُفْنُون نور أعينهم كى يضيئوا للبشر ظلمات الجهل ويُرَقُّوهم ويأخذوا بأيديهم إلى مراقى الفكر والذوق العالية، وهذه من كبريات الإنجازات. ونحن نُكْبِر محفوظ لِمَا خَلَّفَه لنا من إبداع أدبى، ولا نبخسه حقه بحجة أنه لم يَتَحَدَّ الحكام. ومع هذا فنحن نضاعف التمجيد للعالم والأديب الذى لا يكتفى بتحصيل العلم وإفشائه بل يصدع بكلمة الحق ويقف فى وجه الاستبداد والظلم والطغيان. ولكن ليس من العدل أن نجشِّم العالم والأديب وحدهما مهمة كهذه فى الوقت الذى لا تبالى الشعوب بالكفاح من أجل نيل حقوقها ولا تقف وراء علمائها وأدبائها فى مطالبتهم لها بتلك الحقوق.
ونأتى إلى آخر شىء فى هذه القضايا التى يثيرها الكتاب، وهى حكم محفوظ على الرئيسين: جمال عبد الناصر وأنور السادات. وقد قَلَّب شخصية كل منهما على جوانبها المختلفة ذاكرا المحاسن والمآخذ، ومنطقا أوزيريس بقوله لكليهما إنه سيذهب إلى محكمته مؤيدا بتزكية مناسبة أو مشرِّفة. ومن براعة محفوظ أنه يسوق الحسنات والمعايب فى شخصية كل من الرئيسين وأعماله على لسان قادة مصر الماضين وخصومهم المحدثين: الملك مينا وخوفو وتحتمس الثالث والوزير أمحتب، وسعد زغلول ومصطفى النحاس. وقد أُبْرِزَتْ إنجازات عبد الناصر فى توزيع أراضى الإقطاعيين على الفلاحين المُعْدِمين وإنشاء القطاع العام وإعلان مجانية التعليم فى كل المراحل وبناء السد العالى، ولكن أُخِذ عليه فى ذات الوقت الاستبداد والعمل على تمجيد نفسه بكل سبيل وتغليب الشكليات على الجوهر وعدم الاهتمام بالقرية المصرية والتعليم وخنق حرية الفكر وتضييع موارد مصر فى مغامرات خارجية والانجرار إلى الحرب مع إسرائيل ومن يعضدونها دون استعداد حقيقى، مما أدى إلى هزائم مروعة. ومن هنا قال أوزيريس فى الحكم عليه: "لو كانت محكمتنا هى صاحبة الكلمة الأخيرة فى الحكم عليك لاقتضانا العدل تأملا وعناء طويلين. فقليلون من قدموا لبلادهم مثل ما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثل ما أنزلت من إساءات. ولكن بالنسبة لأنك أول من يجلس على عرشها من أبنائها وأول من يخص الكادحين برعايته فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة. وستذهب بعد ذلك إلى محكمتك مؤيدا بتزكية مناسبة".
ولا شك أن القارئ قد فطن إلى الخطإ التاريخى الذى أوقع فيه محفوظ أوزيريس حين ذكر أن ناصر هو أول من جلس على عرش مصر من أبنائها، والمقصود طبعا منذ أيام مصر الفرعونية. ذلك أن محمد نجيب، وهو مصرى صميم، قد سبق عبد الناصر فى الجلوس على عرش مصر كما يعرف الجميع.
وما قلناه عن محاكمة عبد الناصر فى خطوطها العامة ومنهجها ونتيجتها هو نفسه ما يمكن أن يقال عن محاسبة أنور السادات من حيث إن له حسنات كبيرة لا تُنْكَر ومآخذ شديدة أيضا لا ينبغى أن تُهْمَل، ومن حيث إن معايبه قد وردت على ألسنة حكام وزعماء مصريين آخرين سبقوه أو عاصروه، ومن حيث إنه يستحق الخلود وإن المحكمة ستزوده بتزكية مشرّفة.
أسلوب نجيب محفوظ: هذا، وأسلوب محفوظ فى الكتاب أسلوب سليم ومستقيم ومنساب وموجز ويسير إلى غرضه مباشرة، وتغلب عليه الحيادية وتختفى منه النزعة الوجدانية التى تثير منا المشاعر والعواطف ونحن نقرأ "الثلاثية" "وبداية ونهاية" و"خان الخليلى" و"اللص والكلاب" و"الطريق" و"الشحاذ" مثلا رغم الواقعية التى تسود هذه الروايات. إن أسلوبه هنا يخاطب العقل أولا وأخيرا، ولا يتجه إلى الأحاسيس. وهو يذكرنا بأسلوبه فى "رحلة أولاد فطومة"، الذى يخلو من التحليق فى سماوات الوجدان. لقد كانت واقعية محفوظ فى رواياته التى تلت المرحلة التاريخية الأولى مشعشعة بهذه النزعة الوجدانية البديعة. ثم تحول أسلوبه بعد ذلك كما فى روايتنا هذه وفى "رحلة ابن فطومة" على سبيل المثال إلى أسلوب عقلى بارد صارم كل همه أن يؤدى المعنى ويصف الموقف ويعبر عن الفكرة مع التزام الإيجاز وإهمال التفاصيل والتحليل النفسى والاستبطان الذاتى. وهو هنا قلما ينوع فى روابط الجمل، إذ كثيرا ما تجده يكتفى فى ربط بعضها ببعض بواو العطف أو فائها مثلا. وفى النصوص التى أوردتها له فى هذه الدراسة دليل على ما أقول.
وأسلوب محفوظ من الأساليب القوية الصياغة، وقلما يعثر له القارئ على خطإ لغوى، لكن جل من لا يسهو ولا يخطئ، فقد صادفت له هذه الجملة على لسان الملك زوسر لدن حديثه عن معبد أنشأه للإله: "وأَوْقَفْتُ عليه أراضٍ" (ص12)، والصواب "وأوقفتُ عليه أراضِىَ". وأرجو ألا يقفز مُتَنَطِّسٌ مُخَطِّئا جمع "أَرْض" على "أراضٍ" ومصرا على أنها يجب أن تُجْمَع على "أرضُون"، فكلا الجمعين صحيح. ومثلها "أهالٍ" جمعا لـ"أَهْل". ومن الشواهد على جمع "أرض" على "أراضٍ" هذا النص من "العقد الفريد" لابن عبد ربه: "قال الأصمعى: رأيت على باب الرشيد وصائفَ على عصابة كل واحدة منهن مكتوب:
نحن حُورٌ نواعمٌ

من أراضٍ مقدَّسَهْ"


ومن الشعراء الذين استخدموا هذا الجمع ابن حزم وابن قلاقس والأبله البغدادى والطغرائى وابن نباتة المصرى وصفى الدين الحِلِّىّ... ومن الناثرين استخدم هذه الصيغة الجمعية ياقوت الحموى نحو عشر مرات فى كتابه الشهير: "معجم البلدان". وفى "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير": "وليس فى هذه البقاع المذكورة كلها أراضٍ بَرَاحٌ". ورغم أن صلاح الدين الصفدى فى كتابه: "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" قد خطَّأ جمع "أرض" على "أراضٍ" فقد استعمل هو نفسه هذا الجمع فى كتابه الآخر: "أعيان العصر وأعوان النصر" فى النص التالى، وهو من ترجمته لفضل بن عيسى: "وبلغنى هناك أنه دفن فى بعض دفائنه فى تلك الأراضى قِدْرًا فيها ثمانون ألف دينار، وضاع المكان منه، ولم يقع له على خبر". كما استعملها مرتين فى ترجمة مجد الدين بن الداية بكتابه: "الوافى بالوفيات". واستخدمها النويرى مرة على الأقل فى "نهاية الأَرَب فى فنون الأدب". وبالمثل استعملها السيوطى فى "المُزْهِر" فقال عن "السلاقع والبلاقع" إنها "الأراضى القفار التى لا شىء بها"... وغير ذلك من الكُتَّاب.
وهناك كلمة "نوايا"، التى استعملها محفوظ أكثر من مرة والتى يخطِّئها بعض اللغويين بحجة أن الجمع الصحيح لـ"نِيَّة" هو "نِيَّات" مع أنه من الممكن أحيانا جمع الكلمة على غير الصيغة الجمعية القياسية لها. أما إن أصر المتعنتون على تشددهم فيمكن توجيهها بأنها جمعٌ لـ"نَوِيَّة" على صيغة "فَعِيلَة" بمعنى "مفعولة"، أى "الحاجة المَنْوِيَّة"، وحينئذ تجمع على "نوايا" كما تجمع "شَظِيَّة وهَدِيَّة وحَوِيَّة وبَرِيَّة ورَزِيَّة وثَنِيَّة وطَوِيَّة وبَلِيَّة وسَرِيَّة وبَقِيَّة وحَشِيَّة وخَلِيَّة وقَضِيَّة ولَقِيَّة وحَنِيَّة وعَشِيَّة ووَصِيَّة وضَحِيَّة ومَنِيَّة وصَبِيَّة وعَطِيَّة ومَطِيَّة" على "شظايا وهدايا وحوايا وبرايا ورزايا وطوايا وبلايا وسرايا وبقايا وحشايا وخلايا وقضايا ولقايا وحنايا وعشايا ووصايا وضحايا ومنايا وصبايا وعطايا ومطايا" على سبيل المثال.
ومن الملاحظات اللغوية على أسلوب محفوظ فى هذه الرواية كذلك رفْع خبر "كان" فى العبارة التالية: "بعد أن كانوا مُعْفَوْن من الضرائب" (ص131)، وصحتها "بعد أن كانوا مُعْفَيْن من الضرائب". ومنها أيضا قوله على لسان الزعيم محمد فريد: "وبقدر ما أنجزْنا من أعمال فى الخارج بقدر ما تَعَرَّض الحزب فى الداخل إلى الضعف والتفكك" (ص178). والمفروض ألا تُكَرَّر "بقدر ما" بل يقال مباشرة: "وبقدر ما أنجزنا من أعمال فى الخارج تَعَرَّض الحزب فى الداخل إلى العنف والتفكك". والطريف أنه استخدم هذا التركيب صحيحا فى الصفحة الرابعة بعد المائتين على لسان عبد الناصر مخاطبا السادات: "وبقدر ما كان عهدى أمانا للفقراء كان عهدك أمانا للأغنياء واللصوص".
ومن الكُتَّاب من يفعل نفس الشىء مع "كلما" فيكررها مع فعل الشرط وجوابه فيقول: "كلما استذكر الطالب دروسه أولا بأول كلما ارتاح أيام الامتحان". والواجب أن تحذف "كلما" الثانية فنقول: "كلما استذكر... ارتاح...". ويمكن أن يكون هذا الخطأ الأسلوبى سببه التأثر بالإنجليزية والفرنسية، التى تكرر الأولى منهما عند تأدية هذا المعنى كلمة "the more"، والثانية كلمة "plus"، فظن المتسرعون أن كل كلمة من هاتين الكلمتين الأجنبيتين معناها "كلما"، وما دام الإنجليز والفرنسيون يكررون "كلما" فلنكررها نحن أيضا. وفاتهم أن "كلما" و"بقدر ما" عندنا يقابلها كل من "the more... the more..." و"plus... plus..." مكررة. أى أن "the more" أو "plus" وحدها لا تعنى "كلما" أو "بقدر ما" بل لا بد من استعمالها مرتين.ولكل لغة وضعها وتراكيبها وفلسفتها.
الحاكم ابن بيئته: وواضح أن نظرة محفوظ إلى الحكام نظرة حانية متفهمة، فهو لا يشتد فى محاسبتهم بل يبرز السياق الذى كان كل منهم يعمل فى نطاقه ولا يستطيع فى معظم الأحيان أن يخرج عنه، إذ الإنسان، أى إنسان، خاضع فى فهمه للحياة ولوظيفته فيها وفى علاقاته بالكون وبالبشر وفى كل تصرفاته لظروف تؤثر فيه مثلما يؤثر هو فيها، وليست حريته فى العمل والتَّرْك حرية مطلقة بل محدودة، بالإضافة إلى أن محفوظ لا يغفل أبدا عن بشريتهم وضعفهم الفطرى وسقفهم الذى خلقه الله لهم فلا يستطيعون اختراقه إلى أفق أعلى، وإن كنت وددت أيضا لو كان قد تنبه إلى أن الحكام هم بوجه عام انعكاس لما فى شعوبهم من قوة أو ضعف، ومن استقامة أو التواء، ومن صلاح أو فساد، ومن سمو أو انحطاط. فالحاكم لا يهبط من السماء، بل ينبت فى التربة التى نبت فيها مواطنوه، ولهذا يأتى صورة لهم فى الغالب. والغرب الذى يُضْرَب به المثلُ فى الرقىّ الحضارى والسياسى والاقتصادى والعلمى كان إلى قرون غير بعيدة متخلفا أكثر مما نحن متخلفون اليوم ثم ارتقى بعد ذلك، لكنه لم يرتق بغتة ولا بمعجزة ولا بالدعوات الكسولة التى لا يسبقها ويصحبها ويتلوها عمل شاق ليل نهار لا يتوقف أبدا، بل بالثورات على فساد الحكام والإقطاعيين ورجال الدين المنحرفين آكلى الدنيا بالدين، وبالاجتهاد فى العمل وإتقانه وفى طلب العلم والنزول على مقتضاه من نبذ الخرافات والسحر والأعمال السفلية والعين وما إلى ذلك مما تتمسك به الشعوب المتخلفة بدلا من الوعى بأن العالم يجرى على نظام مطرد وقوانين راسخة وأن مهمتها هى اكتشاف تلك القوانين واستغلالها لمصلحتها واختراع الآلات والأدوات والوسائل التى تيسر عليها الحياة وتأخذ بأيديها إلى مراقى التقدم والتحضر والقوة والعزة والكرامة، وأن أى أسلوب من أساليب العيش لا يراعى تلك الأمور مُنْتَهٍ لا محالة إلى الفشل ومُرَسِّخٌ للضعف والتخلف.
"أمام العرش" خطوة إبداعية جريئة: ولا ريب أن محفوظ فى هذه الرواية قد أقدم على اتخاذ خطوة من خطواته الجريئة التى لا أذكر أن أحدا فى أدبنا العربى قد فكر فى أن يخطوها من قبل فيقيم محكمة إلهية يقف أمامها طائفة من حكام مصر ورجالاتها المشهورين على مدى آلاف السنين، ويُقْرَأ ما هو مسجل فى "كتاب الأعمال" الذى يحصى على العباد كل ما يقولون ويعملون ويفكرون، ثم تعطَى لهم الفرصة كى يتكلموا بما عندهم ذاكرين إنجازاتهم ومُسَوِّغين تصرفاتهم ومبررين أخطاءهم، ثم يتلو ذلك فاصل من الأسئلة والأجوبة، إذ يسألهم أوزيريس ويردون عليه، ثم تتدخل فى العادة إيزيس مُحَنِّنَةً قلب زوجها فيستجيب لها فى العادة أيضا ثم يرسله إلى كرسى من كراسى الخلود، اللهم إلا فئة قليلة ذهب بعضها إلى الجحيم، وبعضها إلى مقام التافهين. ووجه الجرأة هو أن محفوظ اقتحم عالم الجزاء الأخروى وأنطق أوزيريس، الذى هو أحد آلهة المصريين القدماء، بالحكم على أولئك الرجال بالجنة أو بالجحيم أو بالمنزلة بين المنزلتين. وهذا ما لم يفكر أحد فى اقتحامه والتجرؤ عليه، إذ ليس منا من يستطيع الزعم بأنه يعرف مصير فلان أو علان أو ترتان فى الآخرة، بل ذلك مقصور على الله سبحانه، الذى يعلم عن كل عبد من عباده كل شىء ويعلم جميع ظروفه وأحواله تفصيلا ويعلم النيات وخبابا النفوس والعقول وبكل دقة بحيث يكون الحكم الإلهى هو الغاية فى الصحة والعدل، بالإضافة إلى الرحمة، التى كثيرا ما يُغْفِلها من يفكرون فى حساب العالم الآخر، اللهم إلا رجلا صوفيا عقد محاكمة كهذه للخلفاء المسلمين من لدن أبى بكر حتى أوائل العصر العباسى كما سجله النص التالى من كتاب ابن عبد ربه: "العقد الفريد": "كان فى زمن المهدى رجل صوفي، وكان عاقلًا عالمًا ورعًا، فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وكان يركب قصبة فى كل جمعة يومين: الاثنين والخميس، فإذا ركب فى هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة.،فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلًا وينادى بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا فى أعلى عليين؟ فيقولون: نعم.
قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأُخِذ غلامٌ فأُجْلِسَ بين يديه، فيقول: جزاك الله خيرًا أبا بكر عن الرعية. فقد عدلتَ وقمتَ بالقسط وخَلَفْتَ محمدًا عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، ونزعتَ فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة. اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيرًا أبا حفص عن الإسلام. قد فتحت الفتوح، ووسَّعت الفَيْء، وسلكتَ سبيل الصالحين، وعدلت فى الرعية وقسمت بالسَّوِيَّة. اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبى بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتى بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطتَ فى تلك الست السنين، ولكن الله تعالى يقول: "خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم". و"عسى" من الله مُوجِبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه فى أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا على بن أبى طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرًا أبا الحسن، فأنت الوصى وولى النبي، بسطت العدل، وزهدت فى الدنيا، واعتزلت الفيء، فلم تَخْمِش فيه بناب ولا ظُفْر، وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة. اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس.
ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي، فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكِنْدى الذى أخلقتْ وجهَه العبادة، وأنت الذى جعل الخلافة مُلْكًا، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة، وأنت أول من غيَّر سنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة. ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد، أنت الذى قتلت أهل الحرة، وأَبَحْتَ المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمثلتَ بشعر الجاهلية:
ليت أشياخِى ببدرٍ شهدوا

جزَعَ الخزرج مِنْ وَقْع الأَسَلْ


وقتلت حُسَيْنًا، وحملتَ بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل. اذهبوا به إلى الدَّرْك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر واليًا بعد والٍ حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام، فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله يا عمر خيرًا عن الإسلام، فقد أحييتَ العدل بعد موته، وألنتَ القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصِّدِّيقِين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بنى العباس، فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بنى هاشم. ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم فى النار جميعًا".
ومن هذا النص نرى أنه قد أقيمت قبل محفوظ محكمة للنظر فى إنجازات حكام المسلمين حتى عصر المهدى الخليفة العباسى وأن المحكمة كانت تستدعى كل حاكم تقريبا من أول أبى بكر حتى عصر بنى العباس وتحاسبه وتصدر حكمها عليه إما بإرساله إلى أعلى عليين من الفردوس وإما بإرساله إلى الدرك الأسفل من النار. وإذن فمحكمة نجيب محفوظ ليست بنت بجدتها بل سبقتها هذه المحكمة الإسلامية التى انعقدت فى أوائل العصر العباسى. صحيح أن ثمة خلافات بين المحكمتين: فمحكمة محفوظ كانت مكونة من الثالوث الذى كان يعبده أجدادنا القدماء، أما المحكمة التى ورد خبرها عند ابن عبد ربه فمكونة من رجل من البشر واحد، وصحيح أن الرجل الصوفى هو الذى يوجه الكلام إلى الشخص المحاكَم ثم يحكم عليه دون أن يستمع إلى ما عنده، وصحيح أن المحكمة الإسلامية ليس فيها سوى مصيرين: فإما الفردوس الأعلى وإما الدرك الأسفل من النار على عكس محكمة محفوظ، التى كانت فيها ثلاثة رتب كما نعرف، وصحيح أن المحكمة الإسلامية محكمة بشرية، وهى أقرب ما كنت أحب أن يصنعه محفوظ إذ رأيت أنه كان ينبغى أن يجعل محكمته بشرية قضاتها كبار المؤرخين مثلا، إلا أن قاضى المحكمة الإسلامية تجاوز حده بالحكم بالجنة والنار، وهو حكم من اختصاص الله سبحانه وحده، وصحيح أن كتاب محفوظ أشد تفصيلا بمراحل من حكاية الرجل الصوفى، وصحيح أن محفوظ لم يكتف بمحاكمة الملوك والرؤساء وحدهم بل أضاف إليهم بعض الزعماء والأدباء والناس العاديين، ورغم ذلك فإن الفكرة فى العملين واحدة، وهى محاكمة كبار رجال الدولة من حكام وزعماء والحكم عليهم، وهذا أمر قد سُبِق فيه محفوظ، الذى لا أستبعد أن يكون قد استوحى عمله من قصة الرجل الصوفى. ومع هذا كله فقد استمتعت بهذا العمل المحفوظى العجيب أيما استمتاع رغم الملاحظات الفنية وغير الفنية التى أخذتها عليه.
التصنيف الأدبى لكتاب "أمام العرش": والآن إلى أى نوع من أنواع الأدب ينتسب هذا الكتاب؟ لقد كنت أظن، قبل أن أقرأه منذ عقود، أنه رواية. وهو بالفعل يتضمن السرد والحوار والوصف، لكن فصوله منفصلة لا يربط بينها شىء سوى وجود أوزيريس وإيزيس وحورس ووقوع المحاكمة فى كل فصل منها، ومع هذا يفصل بين الملك أو الزعيم المحاكَم وبين من يليه أزمان طويلة، ومن ثم فالأحداث لا يتصل بعضها ببعض ولا تتراكم، بل بانتهاء الفصل تنتهى صفحة من صفحات الكتاب وتبدأ صفحة جديدة تختلف تماما عن السابقة. وعلى هذا فلا عقدة ولا بنية متكاملة، وإن حاول محفوظ أن يربط كل شىء فى النهاية فى ذلك المشهد الذى أدلى فيه بعض الملوك والزعماء، بناء على اقتراح أوزيريس، بالمواصفات والشروط التى لا مناص من توافرها إذا أردنا أن نقيم مجتمعا متقدما ترفرف عليه راية الإنسانية والنجاح، فكان كل منهم يقدم إحدى هذه المواصفات أو أحد هذه الشروط، ثم انتهى الموضوع. وهو أمر أقرب إلى الوعظ والإرشاد. ثم نقطة أخرى هى أن هذه المقترحات قد طُلِبَتْ وقُدِّمَتْ فى العالم الآخر، أى فى وقت لا يحتاجها أحد لأن مكانها الدنيا، أما الآخرة فالناس يعيشون فى سعادة وخلود ولا تواجههم أية مشكلات ولا يعانون أى نقص، وبالتالى لا يحتاجون إلى شىء منها. وهل الناس فى الجنة يفكرون فى إقامة مجتمع عادل متقدم، وهم يعيشون فى أفضل حال وأهنإ بال، ولا يعانون من أى بلبال؟ وهذه ثغرة أخرى.
ولقد ألفيت بعض من كتبوا عن هذا العمل يصنفونه على أنه "مسرواية". والحق أنه أبعد ما يكون عن المسرواية، إذ المسرواية تتألف من فصل روائى يتبعه فصل مسرحى يليه فصل روائى ليتبعه فصل مسرحى... وهكذا دواليك، مع تشابك الفصول كلها، وتطور الأحداث من فصل إلى آخر، وتكوُّن العقدة خلال ذلك... إلخ كما هو الحال فى "بنك القلق" لتوفيق الحكيم، الذى سماه أولا: "رواية مسرحية"، ثم اختزل الاسم فيما بعد إلى "مَسْرِواية" مدخلا بذلك مصطلحا جديدا فى عالم الإبداع الأدبى. وهذه المسرواية مقسمة إلى عشرة فصول روائية، وعشرة مناظر مسرحية: الفصل الأول يعقبه المنظر الأول، ثم يليه الفصل الثانى ليعقبه المنظر الثانى، وهكذا... وقد يظن بعض من لم يقرإ الكتاب أن الفصل الواحد يعرض الأحداث بطريقة السرد الروائى، ثم يعقبه المنظر ليعرض نفس الأحداث بصورة الحوار المسرحى. لكن الواقع هو أن كل منظر من المناظر المسرحية يكمل الأحداث التى تأتى فى الفصل الروائى السابق عليه، ويساهم فى تصاعد التوتر الدرامى والوصول بالعمل الفنى إلى ذروته. أى أن المناظر المسرحية ليست إضافة هامشية أو إعادة صياغة للفصول بصورة حوار، بل تضيف الكثير إلى الأحداث وتعكس نفسية الشخوص وتوضح أسباب الصراع. وبهذا تلتحم الفصول الروائية والمناظر المسرحية بعضها ببعض فى نسيج متماسك، فلا يمكن استبعاد أحدها، وإلا اختل العمل الفنى برُمَّتِه. و"بنك القلق"، الذى ظهر فى أواخر ستينات القرن الماضى هو أول مسرواية فى الأدب العربى، وهو يجرى على هذا النمط. ولا يوجد وجه شبه بينه وبين "أمام العرش" كما هو واضح.
كذلك ليست "أمام العرش" مسرحية كما قد يظن البعض، إذ فيها سرد ووصف ولا تقتصر على الحوار كما هو حال المسرحيات، علاوة على خلوها من الصراع ومن الحوار الداخلى وتيار الوعى وانثيال الذكريات والخواطر، وعلاوةً أيضا على استقلال كل فصل منها عن الفصول الأخرى كما وضحنا قبل قليل. وإذا كان نجيب محفوظ قد أضاف إلى تسمية الكتاب: "حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات" فهذا لا يجعلها مسرحية: أولا لأن المسرحية ليست حوارا وحسب، وإلا كانت "محمد" لتوفيق الحكيم مثلا مسرحية، فضلا عن أن فصول "محمد" أكثر تماسكا إذ تتلو الأحداث والحوارات بعضها بعضا ويترتب بعضها على بعض، لكنها تخلو من عقدة المسرحيات. وثانيا لأن كتاب محفوظ، كما قلت قبلا، ليس حوارات فقط بل حوارات وسردا ووصفا. وثم شىء آخر لا بد من تجليته، وهو أن ما سماه محفوظ: "حوارات" إنما هى "محاكمات إلهية فى العالم الآخر لبعض رجالات مصر على مر العصور".
وما دمنا بصدد الحديث عن بِنْيَة الكِتَاب فلا مَنَاصَ من القول بأن الفصول فى شكلها العام متشابهة، فكلها تبدأ بنداء الشخص المراد محاسبته فيدخل عارى الرأس والقدم، متوشحا كفنه فى كثير من الأحيان، ثم تتلو ذلك قراءة تحوت كاتب الآلهة صحيفة أعماله، ثم يقول الملك أو الزعيم الواقف للمحاسبة رأيه فى إنجازاته بخيرها وشرها، ثم يسأله أوزيريس بعض الأسئلة لينتهى الأمر بتدخل إيزيس عادة لصالحه بوصفها أما لجميع المصريين طالبة من زوجها أن يتغاضى عن تقصيره فى بعض الإنجازات أو اجتراحه بعض الأخطاء نظرا لظروفه القاهرة وبشريته... فيستجيب الزوجُ الإلهُ ويرسله إلى كراسى الخالدين، وهم أصحاب الجنة، وإن أرسل بعضا قليلا من الناس الذين حاسبهم إلى الجحيم، كما أرسل بعضا قليلا آخر منهم إلى مقام التافهين كما ذكرنا. ومعنى هذا أنه ليس فى الأمر من الناحية العامة أى جديد. لكن الكتاب، كما سبق أن قلت، ممتع القراءة رغم أن محفوظ ليس ابن بجدتها كما رأينا، وذلك لما فى كتابه من مخاطر فنية وغير فنية وقع رحمه الله فى شباك عدد منها حسبما وضحنا.