اعتراف بريطانيا بسرقة حجر رشيد

أ. د. محمود أحمد درويش
استاذ الآثار الإسلامية
كلية الآداب جامعة المنيا

بعد تحطيم الأسطول الفرنسي على يد أمير البحر نلسون في موقعة أبى قير المعروفة قرر الجيش الفرنسي في مصر تنظيم الحصون الدفاعية على الشواطئ ووضع حاميات بها، خشية أن يدخل الأسطول الإنجليزي إلى فرع رشيد، فقاموا بتجديد قلعة رشيد وتعديل عناصرها الحربية، في أغسطس (1799)، وقد كان الجنرال بوشار (Bouchard) مشرفا على الترميم، الذي عثر على الحجر الذي عرف بحجر رشيد. وقد استخدم الحجر وغيرة من آلاف القطع الحجرية في بناء القلعة حيث تم جلب هذه الأحجار من أطلال مدينة بولبتين التي تقع جنوبي مدينة رشيد الحالية.
كانت بولبتين سوقا رائجة وكان بها معبد كبير (معبد بولبتينوم)، كان يضم نسخة من القرار الذي أصدره مجمع الكهنة للملك بطليموس الخامس (أبيفانس) عام (196 ق.م)، وهذا المرسوم هو المشهور بحجر رشيد الذي قام بإكتشافه في أغسطس سنة (1799) بيير فرانسوا كسافييه بوشار (1772-1832)، وكان ضابطا مهندسا بالحملة الفرنسية أثناء قيامه بأعمال هندسية عند قلعة قايتباي "سان جوليان" قرب رشيد، وعثر على الحجر تحت أنقاض هذه القلعة أثناء إجراء تعديلات وإعادة بناءها وترميمها لتلائم الأسلحة الفرنسية الحديثة من مدافع وبنادق عندئذ وقع بصره على حجر البازلت الذي يبلغ ارتفاعه مترا واحدا، ويصل عرضه الى (73) سنتيمترا وسمكه (27) سنتيمترا.
وأطلق الفرنسيون على هذه القلعة اسم قلعة جوليان (Jullien) نسبة إلى أحد قواد الحملة الذي قتل مع ستة عشر جنديا من جنود الحملة، ففي 2 أغسطس 1798، تعرّض الضابط الفرنسي توما بروسبير جوليان أحد قواد الحملة ومساعد نابليون بونابرت الشخصي مع ستة عشر جنديا من جنود الحملة للذبح في علقام وهي إحدى القرى التابعة لمركز كوم حمادة في محافظة البحيرة، أثناء سفره في النيل حاملًا رسالة من نابليون بونابرت إلى الأدميرال بريوس يأمره بإعادة سفنه على الفور إلى ميناء الإسكندرية وتسليحها، خشية وقوع هجوم إنجليزي على ميناء أبو قير وتدمير الأسطول الفرنسي. وقد انتقم بونابرت لذلك بإرسال حملة بقيادة النقيب جوزيف ماري مواريه، نهبت القرية (بعد أن هجرها سكانها قد قبل وصول الحملة) وأحرقتها عن آخرها في 26 أغسطس 1798.
بعد العثور على حجر رشيد، أسرع بوشارد إلى قائده الجنرال مينو بالحجر فاحتفظ به الأخير في منزله في الإسكندرية. على أن خبر ذلك تناهى إلى بونابرت فأمر بتسليم الحجر إلى أعضاء المجمع العلمي المصري لدراسته وتحقيق رموزه، فلما استعصى عليهم ذلك، أمر باستنساخه وإرسال نسخ منه إلى علماء أوروبا آنذاك. على أن الصراع الانجليزي - الفرنسي يومئذ وإقرار انسحاب الحملة الفرنسية من مصر في "معاهدة العريش" انتهى إلى تسليم حجر رشيد إلى انجلترا التي لا تزال تحتفظ به إلى اليوم في متحف لندن.
في التاسع عشر من يوليو عام (1799) أعلن المعهد المصري الذي تقيم فيه البعثة العلمية المصاحبة للحملة الفرنسية على مصر بالكشف عن كتابات مهمة في رشيد سيكون لها شأن، وبدأ النص يظهر للعامة في الشهر التالي أي في سبتمبر عام (1799) بعد أن طبع في مقال في مجلة البعثة الفرنسية كوريير دو ليجيبت، ومنذ الكشف عن الحجر أدرك جان جوزيف مارسيل وريميه ريج أن الخط غير المعروف الديموطيقي، ولكنهما لم يستطيعا قراءته، ونسخ جوزيف مارسيل وجالان الحجر تنفيذا لأوامر نابليون، وقاما بتغطية سطح الحجر بحبر طباعة وقطع من الورق المقوى.
وأرسلت نسخ من حجر رشيد إلى المعاهد والجامعات الأوروبية، ومن ضمن هذه النسخ نسخة وصلت من شارلز فرنسوا جوزيف دوجوا القائد العام للقاهرة إلى الفرنسي دو تاي الذي يعمل بالمعهد القومي بباريس، وقام دو تاي بعمل ترجمة فرنسية للنص الإغريقي، وهو الذي أشار بأن الحجر عبارة عن شكر من كهنة الإسكندرية أو مكان مجاور لها موجه إلى الملك بطلميوس الخامس، وظهرت ترجمة أخرى قام بها ستيفن وستن بترجمة النص الإغريقي باللغة الإنجليزية في أبريل (1802).
وهناك أسماء مصرية كثيرة تسبق شامبليون ومنهم الباحث المصري شيريمون والذي أكد بأن اللغة المصرية القديمة تضم أصواتا وصور، ولو تتبع الباحثون ما قاله الباحث المصري لاستطاعوا فك شفرة اللغة بسهولة، وأيضا المصري حورابللو والذي كانت له آراء قيمة في اللغة المصرية القديمة، ولكن طغت عليها فكرته عن أن اللغة رمزية تعبر عن أفكار وليست لغة لها أبجديتها وأصواتها، وأيضا المصري الأب كليمنت السكندري والذي قال بأن الرموز الهيروغليفية هي نوع من الكتابة يغبر الرمز الواحد فيها عن فكرة.
وكان العثور على حجر رشيد الذي مهد لاكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة من أهم نتائج الحملة وهو الآن من أهم الآثار المعروضة بالمتحف البريطاني بلندن، تحت رقم (1065).
أما عن السبب في حيازة انجلترا لحجر رشيد فالمعرف أنه بعد العثور عليه أسرع بوشارد إلى قائده الجنرال مينو وسلمه إياه، فاحتفظ به الأخير في منزله في الإسكندرية لمدة عامين. على أن خبر ذلك تناهى إلى بونابرت فأمر بتسليمه إلى أعضاء المجمع العلمي المصري لدراسته وتحقيق رموزه، فلما استعصى عليهم ذلك، أمر باستنساخه وإرسال نسخ منه إلى علماء أوروبا آنذاك، وظل حجر رشيد مع علماء الحملة حتي جاء موعد الرحيل عن مصر عام (1801).
ولما كانت الاتفاقية تقضي بخروج جنود الحملة مصر ونقلهم إلي فرنسا على سفن الأسطول الإنجليزي الذي يحاصر شواطئ الإسكندرية، فإن قائد الأسطول الإنجليزي هتشنسون أصر أن يسلم الفرنسيين كل ما في حوزتهم من اكتشافات أثرية عثروا عليها في مصر إلي الإنجليز ومنها حجر رشيد. وتم لهم ذلك بالفعل، وأخذ الإنجليز حجر رشيد ووضعوه في المتحف البريطاني عام (1802) والذي مازال قابعاً فيه حتى الآن.
وربما شعر الفرنسيون بغصة في حلوقهم بعد أن سلبهم الإنجليز هذا الحجر، فبموجب المادة (16) من معاهدة الاستسلام عين الجنرال هاتشنسون لمهمة مصادرة القطع الأثرية التي جمعها الفرنسيون أثناء إقامتهم، وطلب مينو الاحتفاظ بحجر رشيد على أنه ملكية شخصية، ولكن علماء الحملة الفرنسية برئاسة جيفري سانت هيلير رفضوا تسليم أعمالهم العلمية، وأصروا على أخذها معهم إلى فرنسا. ووافق هاتشنسون على ترك الأعمال العلمية لأعضاء الحملة الفرنسية ولكنه أصر على أخذ حجر رشيد، وعندئذ قال مينو: "هل تريده سيدي الجنرال؟... يمكنك أخذه طالما أنت الأقوى ويمكنك أن تلتقطه وقتما ترغب".
وأرسل الجنرال هاتشنسون الكولونيل تيلور لأخذ الحجر من مخزن بالإسكندرية، وكان بهذا المخزن المقتنيات الشخصية لمينو، وكان الحجر مغطى بسجادة مزدوجة، وطبقا لشهادة شاهد عيان وهو الرحالة الإنجليزي وتاجر الآثار إدوارد كلارك الذي قال بأن الحجر كان يسلم بواسطة موظف فرنسي وأحد أعضاء المعهد المصري، وطلب الموظف الفرنسي السرعة في نقل الحجر قبل أن يدرك الجنود الفرنسيون ذلك.
وفي قصة السلب طرافة لأن المسروق أثر مصري، فمن الطريف أن الإنجليز يعترفون بسرقة حجر رشيد، ففي خلف الحجر وفي أسفل قاعدته مكتوب: "تم الاستيلاء عليه في مصر بواسطة الجيش البريطاني عام 1801". "Captured in Egypt by the British Army in 1801"