"مجمع البيان فى تفسير القرآن" للطبرسى(462هـــ ـــ 552هـــ)د. إبراهيم عوضمع الشكر العظيم للأستاذ محمد عوض الشرعة الصديق الأردنى الحبيب والحميم يشغل تفسير الطَّبَرْسِىّ المسمَّى "مجمع البيان فى تفسير القرآن" فى طبعة دار مكتبة الحياة ببيروت، وهى الطبعة التى أعددت منها هذا الفصل، ستة مجلدات كلّ منها يضم عددا من أجزاء القرآن يقع الواحد منها فى نحو 175 صفحة فى المتوسط، إذ تزيد عدد صفحات بعض الأجزاء عن مائتين، بينما يهبط العدد فى بعضها الآخر إلى ما دون المائة والخمسين، وإن كان عدد صفحات الجزء الأول قد اقترب من الخمسمائة.والطبرسى من كبار علماء الإمامية فى القرن السادس الهجرى. ومنهجه فى هذا الكتاب يقوم على ذكر اسم السورة أولا والنصُّ على مكيتها أو مدنيتها، ثم يذكر عدد آياتها وما فيه من خلاف بين العلماء، ثم يورد الأحاديث التى تتكلم عن فضلها، ثم يشرع بعد ذلك فى تفسيرها أيةً آيةً بادئاً بما للعلماء فيها من قراءاتٍ مُتْبِعاً هذه القراءات بـــ "الحُجّة" اللغوية التى يستند إليها كل قارئ فى قراءته، ثم يتناول ما فى الآية من ألفاظ وعبارات تحتاج إلى شرح لغوى أو معجمى مستشهداً على ما يقول أحيانا بالشعر، ثم يورد إعراب بعض الكلمات والتراكيب الخاصة فى الآية مستعينا بالشواهد الشعرية على ذلك أيضاً، ثم يقفَّى على ذلك بتفسير الآية كلمة كلمة كما فى التفاسير القديمة مع اللجوء هنا كذلك إلى شواهد الشعر للتدليل على ما يقـول. ثم إذا كان هناك سبب لنزول الآيـة فـإنـه يورد الروايات الخـاصـة بذلك، وبالمثل يورد القصة المرتبطة بموضوع الآية أو الآيات سواء كانت مما وقع لأمة من الأمم السابقة أو للمسلمين فى عصر الرسول [1]. وقد يخصص فوق هذا كلّه عدة فقرات لأحد الموضوعات التى وردت فى الآية معنوناً إياها بكلمة "فصل فى التقوى والمتَّقى" مثلا، وقد يضم اللغةَ والإعرابَ معاً تحت عنوان واحد. وإذا كان هناك أكثر من رأى فى تفسير الآية ذكر عدد هذه الآراء ثم أوردها مرتبة تحت عنوان: "أحدها، وثانيها، وثالثها، ورابعها" ذاكراً اسم الصحابى أو التابعى الذى يقـول بـهـذا الرأى أو ذاك، ثم يشفع ذلك بالرأى الذى يختاره هو مع ذكر مسوّغاته. كما أنه أحيانا ما يشير بسرعة إلى الموضوع الرئيسى للسورة التى يفسرها[2]، وإلى أسماء السورة وتعليل كل اسم منها.ومن أجل مزية التنظيم والتنسيق هذه فى تفسير الطبرسى أثنى عليه الشيخ محمود شلتوت، رضى الله عنه، قائلا "إن هذا الكتاب نسيج وحده بين كتب التفسير، وذلك لأنه، مع سعة بحوثه وعمقها وتنوعها، له خاصية فى الترتيب والتبويب والتنسيق والتهذيب لم تُعْرَف لكتب التفسير من قبله ولا تكاد تُعْرَف لكتب التفسير من بعده: فعَهْدُنا بكتب التفسير الأولى أنها تجمع الروايات والآراء فى المسائل المختلفة وتسـوقـهـا عند الكلام على الآيات سـوقـا متشابكا ربما اختلط فيه فنٌّ بفن، فما يزال القارئ يَكُدّ نفسه فى استخلاص ما يريد من هنا وهناك حتى يجتمع إليه ما تفرّق، وربما وجد العناية ببعض النواحى واضحة إلى حد الإخلال، والتقصيرَ فى بعض آخر واضحا إلى درجة الاختلال... ومن مزايا هذا التنظيم أنه يتيح لقارئ الكتاب فرصة القصد إلى ما يريده قصدا مباشرا: فمن شاء أن يبحث عن اللغة عمد إلى فصلها المخصص لها، ومن شاء أن يبحث بحثا نحويا اتجه إليه، ومن شاء معرفة القراءات رواية أو تخريجا وحُجّةً عمد إلى موضع ذلك فى كل آية فـوجـده ميسّراً محرّراً... وهكذا"[3].وهو فى تحليلاته اللغوية يتغلغل إلى أصل الكلمة ومعناها الأول ثم معانيها المختلفة التى جدَّت لها بعد ذلك ومشتقاتها مستعينا بضرب الأمثلة وشواهد الشعر، وفى الإعراب نراه يورد الأقوال المختلفة وردود العلماء بعضهم على بعض مع شىء من الاستطراد والتفصيل، وهو إعراب مـدرسى فى الواقع. وعند استشهاده بالشعر قد يذكر اسم الشاعر وقد يهمله، وكذلك قد ينص على من استشهد به من العلماء. وإذا مرَّ بآيةٍ قد تقدَّم تفسير آية مشابهة لها فإنه يقول: "ومثل هذه الآية أيضاً قد تقدَّم ذكره ومرَّ تفسيره" أو شيئا من هذا القبيل. وهو يسمى تفسير الآية "تفسيرا أو معنىً أو تأويلا"، وكثيرا ما يقف أمام ما ظاهرُه التعارض بين الآيات محاولاً إزالة اللبس. كما أنه حريص، فى مسائل العقيدة، على سَوْق آراء المذاهب الكلامية المختلفة ومناقشتها. وبالمثل نجده حريصاً على معرفة ما سكت عنه القرآن كنوع الشجرة التى أكل منها آدم فى الجنة وهل هذه الجنة هى جنة الخلد أو جنة من جنات الدنيا. وهو يستشهد فى المقام الأول بما روى عن آل البيت، لكنه لا يقتصر عليهم بل يفتح صدره للروايات الأخرى بما فـيـهـا روايات أهل السُّنّة، وكثيرا ما يستخدم أسلوب "الفنقلة" (أسلوب "فإن قلتَ:... قلتُ:...")، كما أنه قد يرجع إلى الكتاب المقدس فى الموضوعات المشتركة بينه وبين القرآن.وأول ما أرى من المهم التريث عنده من منهج الطبرسى فى هذا الكتاب موقفه مما يقول به فريق من الشيعة من أن القرآن الذى بين أيدينا الآن قد عبثت به بعض الأيدى[4]، إذ أكد أن الزيادة فى القرآن أمر مُجْمَعٌ على بطلانه، أما النقصان منه فقد روى جماعة من الشيعة ومـن العامـة أن ذلك موجود فيه، وإن سارع بالتعقيب على ذلك بأن الصحيح عنـد الشيعة هو أن القرآن باقٍ على حاله التى أنزله الله عليها، إذ قد توجهت عناية المسلمين إلى نقله وحراسته إلى حدٍّ لم يبلغه بالغ، وبخاصة أنه معجزة النبى عليه السلام ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، فضلا عن أن الله قد تعهد بحفظه، فكيف يُتَصَوَّر بعد ذلك كله أنه قد لحقه أى نقصان؟[5] وهذا النص وحده كافٍ فى الواقع فى تفنيد ما زعمه جولدتسيهر من أن المؤكَّد عند الشيعة افتراض عدم اكتمال المصحف العثمانى[6]. فها هو ذا واحد من كبار علماء الشيعة ومفسريهم يصرّح تصريحا جليا لا يحتمل أدنى لبس بأن الصحيح عند الشيعة هو أن القرآن لم يلحقه أى نقصان[7].وقد لاحظت أنه إذا جاء ذكر أحد من الصحابة من غير علىّ ومَنْ ناصروه لم يحاول الإساءة إليه أو التقليل من شأنه[8] حتى لو كان ذلك الصحابى عمر ابن الخطاب، الذى يكرهه الشيعة بوجه عام كرها عنيفا، بل لقد أورد الرواية التى تقول إنه، رضى الله عنه، كان معارضا لفداء أسرى المشركين فى بدر فنزل القرآن ينصر موقفه، كما ساق أيضا الرواية التى تذكر إلحاحه على النبى عليه السلام بأن يضرب على أمهات المؤمنين الحجاب حتى نزلت الآية الخاصة بذلك من سورة "الأحزاب". وقد كان يستطيع أن يتجاهل هاتين الروايتين بما تثبتانه من فضل للفاروق، لكنه لم يفعل، وهو ما يُحْسَب له بكل تأكيد. ومما له مغزاه أيضاً أنه، عند ذكره سبب نزول "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعـوا أصواتكم فوق صوت النبى..."، لم يأت بالرواية القائلة بأنها نزلت فى حق أبى بكر وعمر بل ذكر رواية أخرى بنزولها فى حق ناس آخرين. كذلك فإنه، عند ذكره لسبب نزول الآيات الأولى من سورة "التحريم"، وهى الآيات التى تدور حول تغاير نساء النبى عليه وعلى رأسهن عائشة وحفصة، قد التزم بإيراد القصة مجردة دون أن تبدر منه ولو كلمة واحدة تُشْتَمّ منها رائحة الإساءة إلى أية منهما عليهما رضوان الله. بل لقد ذكر ما جاء فى بعض الروايات من أنه قد أخبر حفصة (ترضيةً لها) أن أبا بكر وأباها سيخلفانه على إمارة المسلمين، وذلك دون أن يتدخل بتكذيب أو يشير إلى أن ذلك سيكون باغتصابهـمـا حق علىّ منه، فضلا عن أنه قد رجع، فيما رجع إليه فى هذه المسألة ، إلى "صحيح البخارى".على أنه، مثلَ سائر الشيعة، يؤمن بأحقية علىّ وذريته فى الخلافة بعد وفاة النبى : ففى علىّ يورد خبرا مُفَاده أن النبى رآه فى المسجد ذات يوم يخلع خاتمه وهو راكع فيعطيه لرجل من المسلمين كان يسأل الموجودين فلم ينعم عليه أحد بشىء، فعندئذ أخذ رسـول الله يبتهل إلى ربه أن "اشرح لى صـدرى، ويسّر لى أمرى، واجعـل لى وزيرا من أهلى، عليّا اشْدُدْ به ظهری"، فأنزل الله عليه فى الحال قوله سبحانه: "إنما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون". والولاية هنا، فى رأى الشيعة، هى ولاية الخلافة لا مـجـرد ولاية الحبّ والتعاون[9].والواقع أن تفسير الآية على هذا النحو هو محض تحكم، إذ ليس من المعقول أن يستخدم القرآن صيغة الجمع وهو يقصد على بن أبى طالب وحده، كرم الله وجهه، دون أدنى مسوّغ. كما أنه من غير المفهوم أن يوصف علىّ أنه هو وحده الذى كان يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة، فضلا عن أنْ يؤتيها دائماً وهو راكع ما دامت الواو فى عبارة "وهم راكعون" هى واو الحال. وأدهى من ذلك أن يكون على من دون المسلمين جميعا فى عصر الرسول هو المؤمن الوحـيـد... إلخ. كذلك فقد ضعَّف عدد من علماء أهل السنة مثل هذه الروايات كابن كثير وابن عطية وابن تيمية[10]. وفوق هذا فالذى يلائم الآية هو أن يُفَسَّر الركوع فيها تفسيرا مجازيا بمعنى الطاعة والإخبات لله، أى أنهم يخرجون زكاتهم طيبةً بها نفوسهم فى تواضع وتلهف على مرضاة الله ورسوله. ثم إن سياق الآية يدل على أنها امتداد وتكملة لنهيه تعالى قبيل ذلك عن موالاة اليهود والنصارى على حساب الدين، فجاءت هذه الآية لتقدم البديل، وهو الله ورسوله والذين آمنوا[11]. ومع ذلك كله فقد أورد الطبرسى أيضاً رواية أخرى تقول إن الآية قد نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه الذين قاطعهم قومهم مقاطعة تامة عقب اعتناقهم الإسلام. والحق أن هذا أشبه بأن يكون هو المراد بالنص القرآنى الكريم، أى أن على المسلمين أن يصرفوا موالاتهم عن اليهود والنصارى الذين يكرهون الإسلام ورسوله وأتباعه إلى ذلك النفر المخلص من أهل الكتاب الذى أذعن للحقّ ودخل فى دعوة محمد وصدَّق بها وعمل بما فيها. والملاحظ أن الطبرسى لم يحاول، حينما أورد الخبرين فى البداية، أن يرجّح أحدهما على الآخر، وإن كان فى تفسيره للآية الكريمة قد اختار الرأى الأول ونافح عنه. وعلى أية حال فهذه الآيات تشبه قوله تعالى: "لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، الذى لم يقل أحد من الشيعة إنه فى حق علىّ أو إن الولاية فيه هى ولاية الحكم والخلافة. ومن التطرف الخطر فى الانحياز لعلى كرم الله وجهه فى مسألة الولاية ما يقوله الشيعة وأورده الطبرسى من أن المؤذن الذى سينادى على الأعراف يوم القيامة بأنْ "لعنة الله على الظالمين" هو علىّ كرم الله وجهه. وقد نقل فى ذلك عن على بن إبراهيم روايةً شيعية تقول إن "لعلىّ فى كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس. قوله: "فأذّن مؤذِّنٌ بينهم"، فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذّبوا بولايتى واستخفّوا بحقى"[12]. ومعنى ذلك، كما هو بيّن أجلى بيان، أن جميع الصحابة وكل المسلمين الذين لم يسلّموا بما يقوله الشيعة عن حقّ على وذريته فى احتكار ولاية المسلمين خَلفاً للنبى عليه السلام هم من الظالمين الذين سيُقْذَفون فى جهنم وبئس المصير! ومَنْ بالله يمكن أن يصـدق أن الصـدِّيق والفـاروق وذا النورين مثلا سيكونون من أهل النار؟ أىُّ بغضاء هذه لصحابة رسول الله؟ وهل من المعقول أن يكون مدار الإسلام كله حول علىّ كرم الله وجهه فقط؟ ويدخل فى ذلك أيضاً ما أورده الطبرسى (ضمن ما أورد) من قول منسوب للإمامين الباقر والصادق من أن المقـصـود بقوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" هو أن يسلّم كل واحد من أئمة آل البيت الأمر إلى من بعده.هذا عن على كرم الله وجهه، أما بالنسبة لذريته وأحقيتهم فى تولى أمر المسلمين من بعده فإن الطبرسى، عليه رحمة الله، بعد أن يورد ما جاء عند المفسرين الآخرين من أن المقصود بـــــ "أولى الأمر" فى قوله عزَّ سلطانه: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُوِلى الأمر منكم" هم الأمراء عند بعض، والعلماء عند بعض آخر، نراه يذكر ما قاله علمـاء الشيعـة مـن أنهم "الأئمة من آل محمد. أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلا من ثبتت عصمته وعُلِم أن باطنه كظاهره وأُمِن منه الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل فى الأمراء ولا العلماء سواهم". والملاحظ أن مفسرنا قد أورد الرأيين: رأى أهل السنة ورأى الشيعة (الذين يسميهم كالعادة (أصحابنا)، وإن كان قد دافع عن رأى فرقته. وتعليقى على ذلك هو أن الضمير لا يرتاح لمسألة عصمة أحد من غير الأنبياء[13]، فكلُّ بنى آدم خطاء، أما ادعاء العصمة لغيرهم فلا دليل عليه لا من القرآن والسنة ولا من واقع الحياة وطبيعة البشر، علاوة على أن السياق ليس سياق كلام عن ذرية على كرم الله وجهه، وروايات القوم فى ذلك كثيرا ما تفتقر إلى الوثاقة. ومع هذا فلكلٍّ وجهةُ هو مولِّيها، وكلٌّ حرٌّ فى أن يؤمن بما يشاء، ونحن وهُمْ إخوان فى الدين رغم كل شىء، ونرجو أن يكون الود هو السائد بين أهل السنة والشيعة مع ما بين الفريقين من اختلاف فى بعض المسائل. وقد أعاد مفسرنا القول بعصمة الأئمـة مـن آل البيت عند تفسير قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجْسَ أهْلَ البيت ويطهّركم تطهيرا"، إذ قال إن المقـصـود بأهل البيت فى الآية هم النبى وعلى وفاطمة والحسن والحسين، وإذهاب الرجس عنهم وتطهـيـرهـم هـو عـصـمـتـهم، التى تشمل عصمة ذريتهم أيضاً. والأمر، كما هو بيّن، لا يزيد على التمحّل والتمحك، وإلَّا فهل هناك حتمية فى أن تكون ذرية الشخص المعصوم معصومة هى أيضاً؟ ثم من قال إن إذهاب الرجس والتطهير مقصوران على النبى وعلَى فاطمة وابنيها دون نسائه ، مع أن الكلام فى الآيات إنما يدور عليهن فى المقام الأول. أما صرف الكلام عنهن إلى غيرهن فلا وجه له ولا مسوِّغ رغم مـا يقـوله الطبرسى من أن العرب يذهبون من خطاب إلى غيره، إذ لا قرينة فى الكلام تدل على أن الكـلام قـد صُـرِف هنا عن زوجات النبى إلى غيرهن من أهل البيت، ومن ثم فإننا نختار قول عكرمة الذى أورده مفسرنا من أن المقصود هنا "أزواج النبى لأن أول الآية مـتـوجـه إليـهـن"، وإن كنا لا نقصره عليهن وحدهن لأن الآية تشمل أهل البيت جميعا لا أمهات المؤمنين وحسب. ومع ذلك فإن التطهير من الرجس لا يعنى أن أهل البيت[14] لا يقعون فى الخطأ أبدا، بل المراد (فيما أفهم) هو نفى الأخطاء التى تمسّ سمعتهم وتنال من كرامتهم، أما الأخطاء العادية التى لا يمكن أن يخلو من الوقوع فيها إنسان فلا أظن أنها مرادة هنا.ومما له نوع اتصال بهذا الموضوع ما يعتقده الشيعة من أن أبا إبراهيم عليه السلام كان موحدا، ودليلهم قول النبى عن نفسه إن الله سبحانه لم يزل ينقله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى خرج إلى الدنيا. ومن هنا ينفى الطبرسى أن يكون اسم أبى إبراهيم هو آزر، لأن آزر هذا كان كافرا كما جاء فى القرآن، والكفار لا يمكن أن يكونوا طاهرين لقول القرآن عنهم فى الآية ٢٨ من سورة "التوبة": "إنما المشركون نجس"، أما آزر فاسم جده لأمه. ولا أدرى كيف واتت بعضَ المفسرين (ومنهم الطبرسى) الجرأة على أن يخالفوا النص القرآنى الذى تكرر قوله إن آزر هو أبو إبراهيم لا جده[15]. ثم إن هذا التفسير لا يحلّ المشكلة فى شىء لأن "الأرحام الطاهرة" فى حديث النبى عليه السلام تعنى الأمهات، والأمهات يأتين من أصلاب آبائهن وأرحام أمهاتهن معاً، وعلى ذلك فكُفْر جد إبراهيم لأمه إذا كان يناقض الطهر الذى أشار إليه رسولنا الكريم سيطول إبراهيم عليه السلام. على أننى أفهم الطهر هنا على أنه طهر الخلق والسلوك، أى أن أحداً من آباء الرسول إلى آدم لم تَعْلَق به ريبة. أما من ناحية العقيدة فكم من كافر طاهر الذمة نظيف المسلك! وكم من منتسب للإيمان فاسد الضمير منحرف التصرف! ومن عقائد الشيعة التى تظهر فى "مجمع البيان" أيضا عقيدة الرجعة القائلة بأن الإمام المهدى الذى اختفى فى السرداب منذ أكثر من ألف عام[16] سيظهر مرة أخرى فى آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا بعد أن مُلِئَتْ جورا: ففى تفسيره لقوله عز من قائل عن طائفة بنى إسرائيل التى كان الله قد أماتها صعقاً: "ثم بعثناكم (أى فى الدنيا) من بعد موتكم لعلكم تشكرون" يقول الطبرسى: "واستدل قول من أصحابنا علَى جواز الرجعة. وقول من قال إن الرجعة لا تجوز إلا فى زمن النبى لتكون معجزة له ودلالة على نبوته باطل لأن عندنا، بل عند أكثر الأمة، يجوز إظهار المعجزات على أيدى الأئمة والأولياء"[17]. وللشيعة أقيسة أخرى لتلك الرجعة منها أن أهل الكهف قد عاشوا نياما ثلاثمائة سنة وتسعا، وأن كلا من آدم وهود عليهما السلام قد عاشا ما يقرب من ألف عام، بينما عاش عوج بن عناق وبختنصر أضعاف ذلك العمر، كما أن عُزَيْرا وحماره قد بعثهما الله بعد أن ظلا ميتين مائة عام[18].وقد فات أصحاب هذه الأقيسة أن هناك فرقا هائلاً بين ما جاء فى القرآن عن أهل الكهف وبنى إسرائيل وعُزَيْر وحماره وبين دعوى إخواننا الشيعة عن رجعة المهدى، الذى يقولون إنه "اختفى" منذ أكثر من ألف عام ونقول نحن إنه قد "مات" وانتقل إلى رحاب ربه. ذلك أن دعـوى خروج حادثة ما عن القوانين الكونية السائدة لا يمكن تصديقها بهذه البساطة، إذ ليس خبر القرآن فى ذلك كخبر أى إنسان، أما ما يقوله الشيعة عن عمر آدم وهود وعوج بن عناق وبختنصر فلا أدرى من أين أخذوه، وهو كلام على أية حال لا يلزمنا. وحتى لو افترضنا أنه صحيح فإنه لا يعنى أن نصدّق بتجاوز عمر المهدى المختفى (حتى الآن فقط) ألف عام، إذ ربما كانت الأعمار فى الأزمان الموغلة فى القدم بهذا الطول، بينما قد أصبحت الآن على ما نعرف من القِصَر بحيث بات من النادر الشاذ أن يتجاوز عمر الفرد مائة عام بعشرة أو عشرين مثلا. وفضلا عن ذلك فإننا نتساءل: ما الذى يمنع المهدى حتى الآن أن يخرج من مخبئه ويتدارك المسلمين مما يَصْلَوْنَه منذ قرون من الانكسار والاستعمار والتخلف والاستبداد والجهل والمهانة؟ ثم لماذا ينفرد المسلمون بهذا التخاذل والعجز بين سائر الأمم بحيث تكون قادرة بنفسها على تخطى العـقـبات والنهوض من کبواتها، بينما المسلمون، والمسلمون وحدهم، لا يستطيعون ذلك بل ينتظرون مَهْدِياً قد مات (او "اختفى") منذ مئات الأعوام[19]، فإذا لم يظهر فلا نهوض ولا تقدم ولا تخلص من ظلم أو استبداد أو فساد؟ أخشى أن أقول إن أمة تعتقد مثل هذا الاعتقاد لتستحق كل ما أصابها ويصيبها من الهـوان والهزيمة والتقهقر فى جميع ميادين الحياة! ولكن يبدو أن بعض علماء الشيعة لا يوافقون على هذه العقيدة بل يفنّدونها[20]. وعلى أية حال فها هو ذا الشعب الإيرانى قد هبّ فحطم أغلاله فى ثورته ضد الشاه وحكمه الاستبدادى الغشوم وولائه لأمريكا والصهيونية دون انتظار منه للمهدى ولا لغير المهدى. ولو كان انتظر خروجه من السرداب لطال انتظاره إلى يوم يُبْعَثون!ويزيد بعض الشيعة فيقولون إن آية "يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" إنما نزلت فى حقّ المهدى وأصحابه وإن الخطـاب فـيـهـا هـو لظالمى آل محمد وقاتليهم ومغتصبى حقوقهم.ومما يتصل بتشيع الطبرسى فى تفسيره بالنسبة لعلىّ وآله أنه فى الآيات التى يفسّرها أهل السنة، فى بعض رواياتهم على الأقل، على أنها تتحدث عن موت أبى طالب عم النبى كافرا إما أن يسكت عن هذه الروايات فلا يوردها أصـلا كما فى شرحه لقوله تعالى: "ما كان للنبى والذين آمنوا أن يسـتـغـفـروا للمشركين ولو كانوا أُوِلى قُرْبَى من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم"، إذ لم يأت فيه ذكر أبى طالب بالمرة، وإما أن يرفض هذه الروايات مؤكدا أنه قد أسلم كما فى شرحه لقوله تعالى: "وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأَوْن عنه"، الذى تقول إحدى روايات أهل السنة إن المقصود به هو أبو طالب، فقد كان ينهى المشركين عن إيذاء النبى عليه السلام ولكنه فى ذات الوقت يَنْأَى عنه فلا يؤمن به، إذ انطلق مفسّرنا، رحمه الله، مفنّدا هذا التفسير موردا من روايات الشيعة أبيات الشعر المنسوبة إلى أبى طالب نفسه ما يؤكد إيمانه بابن أخيه . ومثل ذلك نجده فى سبب نزول قوله جل جلاله: "إنك لا تهدى من أحببتَ ولكن الله يهدى من يشاء"، حيث يورد مفسّرنا الشيعى بصيغة التمريض ما قيل من أن المقصود أبو طالب، ثم ينطلق مخطئا هذا التفسير مستشهدا بما جاء عندهم عن إجماع آل البيت على أنه مات مسلما، ثم ينهى كلامه بأن أبا طالب لم يشأ أن يجاهر أعداءَ الإسلام مجاهرة تامة حُسْنَ تدبير منه فى دفع كيدهم واستصلاح حالهم. يريد أن يقـول إن إيمانه برسالة ابن أخيه لم يشتهر كما ينبغى لأنه لم يكن يريد إيغار صدور المشركين بمجاهرته بذلك. على أننى أحب أن أوضح أنى لا أريد الغض من شأن أبى طالب، فقد كان كريم النفس نبيلا محبّا لابن أخيه عليه السلام، وكان دفاعه عنه وحمايته له أحد العوامل المهمة فى انتشار دينه فى مكة. ولو ثبت أنه مات على دين محمد فإنه سوف يسعدنى غاية السعادة.ومعروف أن الشيعة يقولون بالتقيّة، أى إخفاء الشخص عقيدته أو موقفه السياسى وإظهار خلافهما خوفا من الأذى أو تضليلا للمعارضين. وفى تفسير الطبرسى كلام عن هذا الموضوع، فمثلا عند تناوله لقوله سبحانه: "لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتـقـوا منهم تُقَاة" نجده يعلق قائلا إن "فى هذه الآية دلالة على أن التقية جائزة فى الدين عند الخوف على النفس"، ثم يمضى مبينا متى تكون واجبة، ومتى تكون جائزة، ومتى يكون تركها أفضل... إلخ. ولا شك أن هناك مواقف لا يستطيع كثير من الناس أن يعلنوا فـيـهـا آراءهم الدينية أو مواقفهم السياسية، وقد رخص الله سبحانه للمؤمنين فى أكثر من موضع من القرآن أن يُخْفُوا إيمانهم تجنبا لبطش الكفار كما فى آيتنا هذه وكما فى قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شَرَحَ بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم". وهذه رحمة وتخفيف من الله عن عباده، وهى رخصة كسائر الرُّخَص تقدَّر حسب ظروفها. ولستُ أرى سببا لفتح باب الخلاف مع إخواننا الشيعة هنا. إلا أن هناك ملاحظتين أرى لزاماً علىَّ إبداءهما مع ذلك: الأولى أن الشيعة يعطون هذه المسألة حجما أكبر مما تستحق حتى إنهم يجعلونها من أسس مذهبهم[21] مع أنها، كما قلت، رخصة كسائر الرخص تقدَّر بقدرها حسب الظروف التى تطرأ. والثانية أنهم يلجأون إليها فى مواجهة أهل السنة، كأن أهل السنة كفَّار يُخْشَى منهم على الشيعى إذا صرّح بما فى قلبه من اتجاه دينى. ومع هذا فإنى لا أملك إلا أن أقول إنهم أحرار فيما يعتقدون، وكل ما نريد هو ألا تتحول الخلافات بين السنة والشيعة إلى كراهية وصدام وصراع، فإن أعداء الإسلام من الكثرة والقوة، وبخاصة فى عصرنا هذا، بحيث ينبغى أن تتضافر جهود السنيين والشيعيين معاً فى مواجهتهم وحربهم، وإلا أُكِلْنا سنةً وشيعةً ورُحْنا فى خبر "كان"! ولست غافلا عن أنه كانت هناك عصور انتشرت فيها المعارك بين أهل التسنن وأهل التشيع حتى فى داخل المدينة الواحدة، لكن تلك عصور مضت وانقضت، لا أعادها الله! وأرجو ألا تتحول مناقشتى هنا لآراء الطبرسى وعلماء مذهبه إلى تكون عاملاً من عوامل الشقاق بين الفريقين، فأنا إنما أتكلم بما أعتقد أنه الحقّ، ولا أهدف أبداً إلى إثارة الحزازات والإحَن.هذا، وقد تأثر الطبرسى بفكر المعتزلة فى مسائل رؤية الله فى الآخرة والسّحر وآيات الجوارح وغير ذلك، وهو أمر غير مستغرب، إذ إن الشيعة يتفقون فى عدد من القضايا مع أهل الاعتزال: ففى رؤية الله نراه ينفى إمكان وقواعها بالعين لأن ذلك يستلزم أن يكون الله حالاً فى مكان معين يتجه إليه النظر، وهـذا مـحـال على الله سبحانه. وهو مع الذين يحملون قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة" على معنى النظر إلى نعيم الجنة، أو انتظار ثواب الله أو نيل الكرامة منه سبحانه، أو قَصْر الرجاء والأمل عليه جل وعزّ... وهكذا[22]. وبمثل ذلك التأويل يفسّر قوله تعالى عن نفسه: "بل يداه مبسوطتان" بأنه جواد مُنْعِم، وينفى أن يكون لذكر اليد هنا معنى غير هذا[23]. كذلك نراه يؤول قوله جل شأنه عن نفسه أيضاً: "ثم استوى على العرش" بأن معناه "استقرّ مُلْكه واستقام بعد خلق السماوات والأرض فظهر ذلك للملائكة. وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العـرب كقولهم: "اسـتـقـر الملِك على عرشه" إذا انتظمت أمور مملكته، وإذا اختل أمر مُلْكه قالوا: "ثُلَّ عرشه". ولعل ذلك الملِك لا يكون له سرير ولا يجلس على سرير أبدا"، وإن كان قد ذكر معه رأى مالكٍ القائل بأن "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة" على عادته فى إيراد الآراء المختلفة حتى لو لم يأخذ بها.والعجيب أنه، مع هذا التأويل لآيات الجوارح والاستواء على العرش، قد أورد (ضمن ما أورد) فى تفسير "الكرسى" ما رُوِى عن علىّ من أن الكرسى يحمله أربعة أملاك: أحدهم فى صورة آدمى يدعو ويبتهل إلى الله طلبا للشفاعة والرزق للآدميين، والثانى فى هيئة ثور يدعو الله ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم، والثالث على خلقة نسر...، والرابع على شكل أسد... إلى آخر هذا الكلام الغريب الذى أستبعد استبعادا شديدا صدوره من على كرم الله وجهه، وهو بالإسرائيليات أشبه. ولا أدرى كيف أورده الطبرسى وهو العقلانى الذى ينهج فى تفسير هذه النصوص نهج المعتزلة.أما السحر فإنه، كما يقول، مجرد تخييل، إذ هو إنما يقلب الشىء عن جنسه فى الظاهر فقط دون الحـقـيـقـة بدليل قوله تعالى عن موسى وسحرة فرعون: "يُخْيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى". كما يؤكد أن الساحر لا يستطيع أن يقلب الإنسان حمارا مثلا أو يخترع شيئا لا وجود له، وإلا لاستطاع السحرة أن يقـلـبوا الممالك ويسـتـولـوا على الكنوز المخبوءة دون أن يصيبهم أحد بمكروه. وكيف يستطيعون ذلك وهم أسوأ الناس حالا؟ وبنفس القوة والحسم يرفض الأخبار التى تروى أن أحد اليهود قد سحر النبى حتى كان يُخْيَّل إليه أنه يفعل الشىء وهو لا يفعله، أو أنه لا يفعله على حين أنه يفعله. وحجته أن ذلك لو صحَّ لكان الكفار صادقين فى قولهم عنه كما جاء فى القرآن: "إن تتَّبعون إلا رجلا مسحورا". ثم إن النبى مُنَزَّه عن كل صفة شأنها تنفير الناس[24]. وغاية ما يمكن قبوله فى رأى الطبرسى من رواية لبيد بن الأعصم، الذى قيل إنه سحر النبى (إن صحّت هذه الرواية أصلا) أن يكون ذلك اليهودى وبناته قد حاولوا ذلك مجرد محاولة لكنهم لم يفلحوا، وأطلع الله نبيه على ما كانوا قد خبّأوه فى البئر ليكون آيةً له على صدق نبوته، إذ هو نوع من الإخبار بالغيب. ويتساءل الطبرسى بحقٍّ قائلا: "كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدة عداوتهم؟"[25]. ومع ذلك فهو مع القائلين بأن العين تصيب وتضر مخالفا بذلك رأى الجُبّائى المعتزلى ومؤكدا أن المفسرين مجمعون عليه.أما بالنسبة للفقه فى تفسير الطبرسى فيبدو الـمِيسَم الشيعى واضحا فى عدد من قضاياه مثل تجويز نكاح المتعة وتحريم زواج المسلم بالكتابية والقول بأن الأنبياء يُورَثون كغيرهم من البشر... إلخ: ففى الزواج المؤقت يرى أن قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة" هو نكاح المتعة. وقد ذكر أسماء الصحابة والتابعين الذين كانوا يقولون بهذا الرأى، ومنهم ابن عباس والسُّدِّىّ وابن سعيد وغيرهم، كما أورد ما رُوِى عن علىّ من أنه "لولا أن عمر قد نهى عن المتعة ما زنى إلا شقىّ"، وما أُسْنِد إلى ابن الحصين من أن الرسول عليه السلام قد مات ولم تحرَّم المتعة حتى جاء عمر وفرض رأيه بشأنها، بل أورد ما ذكره عمر نفسه فى رواية تقول: "مُتْعتان (يقصد متعة الحج ومتعة النكاح) كانتا على عهد رسول الله حلالاً أنا أنهى عنهما". ومعروف أن نكاح المتعة كان حلالا فى صدر الإسلام، لكن الخلاف فى حِلِّيته الآن، إذ يؤكد بعضهم أن النبى قد عاد فنهى عنه، بينما يرى آخرون أنه لم يفعل شيئا من ذلك. وأذكر بهذه المناسبة أن بعض المبعوثين إلى جامعات بريطانيا فى السبعينات كانوا يتساءلون عن مدى صحة الاستفادة فى بلاد الغرب من نظام زواج المتعة (مع الاحتراز من الإنجاب تجنبا لما يمكن أن ينشأ من مشاكل اجتماعية)، إذ كانوا يرون أنه فى أسوإ الأحوال خير من الزنا، الذى يقع فيه هناك بعض الشباب المسلم من غير المتزوجين أو ممن تركوا زوجاتهم فى أرض الوطن لسبب قهرى.ذكرتُ هذا لأن علماء الشيعة لا يُحِلون أن يتزوج المسلم بكتابية إلا زواجاً مُتْعيّاً. ذلك أنهم يُدْخلون أهل الكتاب فى المشركين، وما دام الله قد حرّم الزواج من المشركات فإن الزواج بالكتابيات يكون حراما أيضاً، فضلا عن أنهم يؤولون "المحصنات من الذين أوتوا الكتاب" اللائى نصَّت الآية الخامسة من المائدة على حِلّ زواج المسلمين بهن بأنهم اللائى دخلن فى الإسلام. وهو تفسير غريب جدا. إن الله سبحانه قد فرّق ما بين المشركة والكتابية فحرّم الزواج بالأولى وأحل زواج الثـانيـة فى نص واضح لا لبس فـيـه ولا الـتـواء. والعجيب أن الشيعة بعد هذا كله لا يحرّمون (كما ذكرت آنفا) الزواج بالكتابيات إلا إذا كان زواجا دائما، وهو ما يعنى أنهم لا يجدون فى زواج المتعة بهن أى بأس. فأى تناقص هذا؟ أليست المتعة هى أيضاً زواجا فى نظرهم؟ومشهورةٌ قصة فاطمة الزهراء مع أبى بكر عليهما رضوان الله حين قال لها إن الأنبياء عليهم السلام لا يُورَثون بما فيهم أبوها رسول الله، فغضبت منه. والشيعة يقولون إن ما قاله الصدّيق رضى الله عنه غير صحيح، ويسوقون الآيات القرآنية التى تدل ظاهرها على عكس ذلك مثل قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام يناجى ربه: "فَهَبْ لى من لَدُنْك وليّا، يرثنى ويرث من آل يعقوب" وكقوله عز وجل: "وورِثَ سليمانُ داودَ". صحيح أنه قد أورد تفسير من قال إن المقصود بالوراثة هنا وراثة النبوة والعلم والـمُلْك، لكنه عقّب على ذلك بأن هذا تفسير بخلاف الظاهر دون مسوِّغ، إذ إن الميراث إذ ذُكِر فإن الذهن ينصرف فى الحال إلى وراثة المال، أما صرفه إلى العلم وما إليه فلا يكون إلا على سبيل المجاز. وأين الدليل هنا على أن معنى الميراث قد انتقل من الحقيقية إلى المجازيّة؟ وهو اجتهاد من الاجتهادات لا أستطيع أن أرفضه حتى لو كان الرأى الآخر أقـوى منه، ولا أراه يقدح فى إسلام من يقـول به، إذ الاجتهاد من حسنات الإسلام العظيمة، حَضَّ عليه الرسول وأكّد أن صاحبه مأجور بمشيئة الله حتى لو أخطأ.وبعد، فهذه جولة مع تفسير الطبرسى أرجو أن أكون قد وُفِّقت فيما قلته خلالها. غفر الله لنا جميعا وهدانا إلى ما يؤلف بين القلوب والضمائر، وأزال من النفوس إِحَنَها ورواسبها.الهوامش:1- كما فى مسألة البقرة التى أمر الله بنى إسرائيل بذبحها، إذ أوردها تحت عنوان "القصة" (1/ 1/ 300-301)، وكما فى الخبر الخاص بغزوة بنى قريظة (5/ ۲۱/ ۱۲۷ – ۱۲۹).2- كما فى 3/ 1/ 5، حيث يقول فى تقديمه لسورة "الأنعام" إن "أكثرها حِجَاج على المشركين وعلى من كذّب بالبعث والنشور".3- نقلا عن د. منيع عبد الحليم محمود/ مناهج المفسرين/ دار الكتاب المصرى بالقاهرة، ودار الكتاب اللبنانى ببيروت/ 1978م/ 154-1554- لصاحب الدراسة التى بين يدى القارىء بحث بعنوان "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن دراسة تحليلية أسلوبية" صدر عن مكتبة زهراء الشرق مؤخرا فى طبعتين.5- انظر مقدمة الكتاب/ ۱/ ۱/ ۳۰ – ٣٢، وانظر كذلك تفسيره لقوله تعالى: "إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر/ ٩)، حيث يؤكد هذا المعنى.6- إجنتس جولدتسيهر/ مذاهب التفسير الإسلامى/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ٢٩٦7- وقد أكد السيد محمد على الحسنى العاملى، وهو من علماء الشيعة المعاصرين، أن القرآن الكريم لم يعتره أى نقص أو زيادة، وأن من يشك فى آية واحدة من آياته يكون خارجا عن الإسلام كافرا، وأن الروايات التى وردت عن بعض علمائهم بخلاف ذلك هى مجرد شُبَهٍ وأقاويل مفتراة، وأن ما ورد فى "الكافى" للكلينى عن تعرض القرآن للعبث هو روايات ضعيفة شاذة جاءت من طريق آحاد فلا تفيد علمـا ولا عملا وينبغى أن تؤوَّل (انظر كتابه "دراسات فى عقائد الشيعة الإمامية"/ مؤسسة النعمان/ بيروت/ ١٤٠٩هــــ ــــــ ١٩٨٩م/ ۲۰ - ۲۱)، وإن كان هناك من المؤلفين الشيعة الآن من يؤكد أن بعض علمائهم القدامى كانوا يقولون بوقوع الحذف فى القرآن مخالفين بذلك الرأى السائد عندهم القائل بحفظ الله كتابه الكريم من أى عبث أو تحريف(انظر د. موسى الموسوى/ الشيعة والتصحيح ــــــ الصراع بين الشيعة والتشيع/ ۲/ الزهراء للإعلام العربى/ ١٤٠٩هـــ ــــــ ١٩٨٩م/١٣١ وما بعدها).8- وقد أشار إلى هذا الميزة د. محمد حسين الذهبى فى كتابه "التفسير والمفسـرون" (2/ 142-143)،وإن كان لا بد من التنبيه إلى أنه لا يدعو لأى صحابی يرد ذكره عنده، فى الوقت الذى يدعو فيه لأى واحد من علمائهم بــــ "قدس الله سرّه".9- وهم يرون أن المقصود بقوله تعالى: "يا أبها الرسول بلْغ ما أُنْزِل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بَلّغْتَ رسالته"، (المائدة/ ٦٧) هو أن يبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام أمته باختيار الله عليا وذريته للولاية من بعده (انظر تفسير الطبرسى/ ٢/ ٦/ ١٥٢ - ١٥٣).10- انظر تفسير ابن كثير/ دار إحياء الكتب العربية/ ٢/ ٧١، ومحمد الطاهر بن عاشور/ تفسير التحرير والتنوير/ دار سحنون/ تونس/ ٤/ ٦/ ٢٤٠، وابن تيمية/ منهاج السنة/ المطبعة الأميرية/ ۱۳۲۲ هـ / ١ / ٣٣٥ – ٣٣٦ 11- سبق أن ناقشت هذه المسألة فى كتابى "تفسير سورة المائدة دراسة أسلوبية فقهية مقارنة"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـــ ـــ 2000م/ 187-19012- 3/ 8/ 63. وقد أورد الطبرسى ذلك بعد قوله: "وقيل فى المؤذّن إنه مالك خازن النار"، وهى (كما ترى) عبارة قصيرة جدا ساقها بصيغة التمريض ولم يورد لها سندا ولا اهتم بها، على عكس الرواية الشيعية التى استغرقت عنده عدة سطور مع إيراد سلسلة إسنادها واسم التفسير الذى نقلها عنه... إلخ.13- وذلك فى أمور العقيدة والأخلاق والسلوك والتبليغ، وإلا فالأنبياء قد يفوتهم الصواب فى أمور الدنيا كغيرهم إذا لم يكن لهم سابق خبرة بالموضوع مثلا. بل إن النبى عليه السلام قاد سها فى إحدى الصلوات الرباعية فصلاها ركعتين ثم لما نبّهه أحد الصحابة إلى ذلك قام وأتمها. والطبرسى والشيعة بعامة يجوّزون النسيان والسهو على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الدعوة (3/ ٧/ ٩٥)، أما ما فوق ذلك فلا. ومن هنا نراه يخطىء من قال إن عتاب الله لنبيه فى فداء أسارى المشركين فى بدر وفى إذنه للمنافقين بالتخلف عن الخروج معه فى غزوة تبوك معناه أنه قد أذنب فى هذين الأمرين، مؤكدا أنه ليس شرطا أن يكون العتاب أصلا فى ذنب من الذنوب، إذ يجوز أن يُعَاتَب الشخص لفِعْله شيئا مفضولا وتركه ما هو أفضل (3/ 10/ 68). أما بالنسبة لقوله تعالى: "عبس وتولى، أن جاءه الأعمى..." فهو مع القائلين من الشيعة فى أن الذى عبس فى وجه ابن أم مكتوم ليس هو النبى عليه الصلاة والسلام بل رجل من المشركين كان النبى يدعوه إلى الإسلام. ومع هذا فقد قال على سبيل التساؤل الافتراضى: "فلو صح الخبر الأول (أى أن النبى هو الذى عبس) هل يكون العبوس ذنبا أوْ لا ؟"، ثم أجاب بأن "العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يَشُقّ عليه ذلك (يقصد أنه لا يرى) فلا يكون ذنبا، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه فى ذلك نبيه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد... إلخ" (6/ ٢٠/ ٣٦ ـــــ ٣٧).14- حاشا للنبى بطبيعة الحال، فوضعه مختلف. ولكن ليس معنى ذلك أن الأنبياء لا يخطئون أبداً. وقد مرت الإشارة إلى هذا قبلا.15- فصّلتُ القول فى هذا الموضوع وأثبتُ بأدلةٍ قويةٍ أن اسمه هو فعلا "آزر" كما جاء فى القرآن، وذلك فى كتابى "كاتب من جيل العمالقة د. محمد لطفى جمعة ـــ قراءة فى فكره الإسلامى" (عالم الكتب/ 1419هـــ ـــ 1999م/ 117- 121). 16- فى العقد السابع من القرن الثالث الهجرى.17- ۱/۱/ ٢٥٧. وانظر كذلك ليِّه لمعنى الإيمان بالغيب الوارد فى قوله تعالى عن المؤمنين بأنهم "الذين يؤمنون الغيب" (البقرة/ ٢) إلى أنه الإيمان بغيبة المهدى فى السرداب ورجعته فى آخر الزمان (1/ ۱/ ۸۲). ولست أظن أن مثل هذا الاعتساف يحتاج إلى تعليق!18- انظر "دراسات فى عقائد الشيعة الإمامية" للسيد محمد على الحسنى العاملى/ ۲۷۲-27319- على أن الرجعة عند الشيعة لا تقتصر على الإمام الذى يقولون إنه اختفى فى العقد السابع من القرن الثالث الهجرى، بل يَشْرَكه فى هذه الرجعة الأئمة الأحد عشر الذين سبقوه إلى الوجود، إذ بعد أن يموت سوف يعودون بنفس التسلسل الذى جاؤوا به إلى الدنيا قبلاً ليحكموا المسلمين واحدا واحدا (انظر د. موسى الموسوى/ الشيعة والتصحيح ـــــــ الصراع بين الشيعة والتشيع/ ١٤١).20- انظر "الشيعة والتصحيح ـــــ الصراع بين الشيعة والتشيع" للدكتور موسى الموسوى/ 14121- انظر مثلا ما أورده الطبرسى فى تفسيره من رواية عن أبى عبد الله يقول فيها: "التقية من دينى ودين آبائى، ولا دين لمن لا تقية له. والتقية تُرْس الله فى الأرض" (5/ 24/ 194). وأعتقد أن تحول التقية على هذا النحو من مجرد رخصة إلى أن تكون أساساً من أسس الدين لا يتم الدين إلا بها هو أمر لا يمكن للعقل ولا للضمير أن يهضمه. ومن هنا يمكننا أن نفهم سرّ الثورة العنيفة التى تناول بها هذه المسألة د. موسى الموسوى (المفكر الشيعى المتمرد) فى كتابه "الشيعة والتصحيح" (ص 51 وما بعدها).22- 6/ ۲۹/ ۱۲۸ـــــ ۱۳۰. وانظر كذلك ٦/ ٢٧/ ٩٢، حيث أوّل قوله تعالى: "ويبقى وجه ربك" (الرحمن/ ٢٧) إلى "ويبقى ربك الظاهـر بأدلتـه ظـهـور الإنـسـان بوجهه".23- 2/ 6/ 142-145، 147. وبالمثل يؤوّل "اليد" فى قوله عزّ من قائل: "يد الله فوق أيديهم" (الفتح/ 10) بأن عقده سبحانه بيعة الرضوان فوق عقده أو بأن قوّته فى نصرة نبيه فوق نصرتهم إياه (6/ 26/ 56057). 24- 1/ 1/ 384، 398-399، وانظر أيضاً تفسيره لـــ "النفاثات فى العقد" (6/ 30/ 286-287)، حيث لا يخرج كلامه عما قاله هنا.25- 6/ 30/ 285-286. وقد رفض محمد عبده وسيد قطب مثلا فى تفسيرهما للقرآن أن يكون النبى قد سُحِر.