بإمكان الأمة الإسلامية استعادة حضارتها المفقودة لو مارست الحوار وحاربت التطبيع

يشهد الإسلام انتشارًا واسعًا رغم الصراعات بين الفرق الإسلاميَّة ( السُنّة والشيعة) ورغم الحروب الأهليَّة بين المسلمين، وهذا لأسباب عديدة تعود خلفياتها إلى الضغط الاستعماري الذي فرض هيمنته وترك المسلمون يتخبَّطون كالدجاج المذبوح في مشكلات داخليَّة، فالعالم الغربي متخوّف بانبعاث الصحوة الإسلاميَّة التي يسميها بالأصوليَّة الخطيرة أو الإسلاموفوبيا ولذا فهو يتهمّ المسلمين بالتطرُّف والعنف واللاتسامح، ولو طبق المسلمون شعار التَّسَامُحِ وتعايشوا مع بعضهم البعض وحاربوا التطبيع لأمكنهم النهوض بحضارتهم الإسلاميَّة وبعث الهويَّة الجماعيَّة، نشير هنا أن التطبيع مع إسرائيل وخيانة الأنظمة العربيَّة للإسلام يجعل الأمَّة الإسلاميَّة مهدَّدة بالسقوط والحضارة الإسلاميَّة مهدَّدة بالاندثار وبالتالي تظلّ الحضارة الغربيَّة هي الأقوى.

قبل الحديث عن التسامح وجب التذكير بالظرفيَّة التاريخيَّة التي نشأ فيها هذا المفهوم ليتضح كيف أنّه استمدّ مدلولته الأصليَّة منها وحتى يتَّضح أنه خارج هذه الظرفيَّة يصبح هذا المفهوم غير إجرائي، لقد ترجمت إلى اللغة العربيَّة كلمة “توليرانس” وعرفها البعض بأنها تعبِّر عن التسامح، ولو أنَّ التسامح لا يعني هذه العبارة التي في الحقيقة تعني تحمّل الآخر مهما كانت درجة الخلاف أو العداوة فمثلا لما نخاطب شخصا استقزنا وأغضبنا نقول له باللاتينيَّة: vous etes intolerable بمعنى أنت لا تُحُتَمَل، وهي تختلف عن قولنا لشخص ما pardonne moi بمعنى سامحني، إذن لاتوليرانيس لا تعني التسامح ولهذا يقع البعض في أخطاء اثناء ترجمة كلمات من وإلى، تقول الدراسات أن عبارة “توليرانس” tolerance وليدة حركة الإصلاح الديني الأوروبي وقد نشأ هذا المفهوم لحدوث تغير في الذهنيَّة لإنتاج علاقة جديدة وهي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرَّت تتصارع طوال القرن السادس عشر، أي إبّان الحروب الدينيَّة الأوروبيَّة، حينما حدث انشقاق داخل الدين الواحد، ثم تجاوزه بالاعتراف بالحق في الاختلاف في الإاعتقاد ثم في حريَّة التفكير والرأي بوجه عام، وقد اهتمّ الفكر الإصلاحي الحديث لقضيَّة التسامح، ولكن من منطلق مختلف تماما.
وللمقارنة نجد أن الإصلاحيين يعودان إلى كتاب مقدس للاسترشاد به وحده وهو الإنجيل الذي يعبِّر عن الإصلاح ( reforme) الديني الأوروبي والإصلاح الديني السلفي الذي هو القرآن، فكلاهمها استهدفا محاربة عدوٍّ واحدٍ هو الشعوذة، من وجهة نظر هؤلاء الإصلاحيين (الإسلامي والمسيحي) فإن محاربة الشعوذة يعني تطهير العقيدة، بيد أن شن الحرب عليها كان يهدف إلى تفويض السلطة الروحيَّة التقليديَّة وفك قبضتها على الجمهور، وقد أشار باحثون إلى الاختلاف بين حركة الإصلاح الديني في أوروبا وحركة الإصلاح السلفيَّة، الأولى ارتبطت بصراعات داخليَّة بين قوى اجتماعيَّة معيَّنة وحركة الإصلاح الديني السلفيَّة كانت تحت هيمنة الغرب، أي تحت ضغط أجنبي، وكان لا بد من مقاومته ( اي الغرب) للحفاظ على الهويَّة الجماعيَّة، ويكون المطلوب من الدين أن يلعب دورا أساسيا في المقاومة وحفظ الهويَّة وهو دور مزدوج لضمان الهويَّة الجماعيَّة، لقد وقعت صراعات داخليَّة أيضا بين المسلمين بسبب التعدديَّة المذهبيَّة وتعدّد الحركات الإسلاميَّة واختلاف مناهجها وخطابها الديني، حيث استعمل بعض الإسلاميين المتعصّبين مفهوم التسامح استعمالا خاطئا في عمليَّة التطبيق، وأحدث هذا الاستعمال ردّ فعل عكسي، حيث روّجت له قوى خارجيَّة ( انجلترا، فرنسا وروسيا) تسعى باسمه إلى تحقيق أهدافها وأجنداتها، وقد فهمت المجتمعات المهدّدة بأنّ التلويح بشعار التسامح يستهدف تفكيكها وتسهيل التدخّل الأجنبي، كما استعملت هذه القوى شعار التسامح، استعملت كذلك شعار الحريَّة الدينيَّة لتمكين تغلغلها.
فالتسامح يعني قبول الاختلاف ما عدا في مجتمع مهدَّد من الخارج، حسب المحلّلين فإنَّ المأزق الذي وقع فيه دعاة الإصلاح المسلمين هو أنهم وجدوا أنفسهم موزعين بين خلافة عثمانيَّة ضالعة في الاستبداد وبين تهديد أوروبي فعجزوا عن إنقاذ وجود الأمّة الإسلاميَّة كون الإسلام الذي كان ينبغي أن يكون هو المُقَوِّمُ الأصلح للأمّة وجد نفسه يناقش المسألة الدينيَّة نفسها، لأنَّ من المفكّرين العرب من يقول إنَّه لا ينبغي الاعتماد على الدين في بناء الأمَّة، ومن هؤلاء الطهطاوي وموقفه من الحريَّة الدينيَّة التي أصبحت عنده تعني حريَّة الاجتهاد، وهنا وقع الاختلاف لأنَّ مبدأ الحريَّة الدينيَّة مبدأ ليبراليٌّ والاجتهاد مصطلح أصولي، ويُسَلِّمُ الطهطاوي بأن الحريَّة الدينيَّة هي حريَّة العقيدة والرأي والمذاهب ولكن بشرط أن لا تخرج من أصل الدين، تشير الدراسات أن التسامح صادر عن الحريَّة الدينيَّة، لكن وقع تغير في المفهوم فقط، في المقابل يقف جمال الدين الأفغاني ضدّ التسامح ويدافع عن نقيضه الذي هو “التعصّب” وهذين المفهومين عنده أو في رأيه خاصَّة التسامح دعوة تخفي قصدا معينا وهو النيل من وحدة الأمّة التي هي مصدر قوّة المسلمين، والتعصّب عند جمال الدين الأفغاني يأخذ مبدأ التضامن الديني، حيث اعتبره ضروريًا جدا حين تكون الأمة مهدَّدة.
ودفاع الأفغاني عن هذا التعصّب يواجه تعصّبا آخر وهو التعصّب الجنسي، ويُعَبِّرُ عنه بمحبة الوطن، أي ان الأفغاني يقف ضد مبدأ الجنسيَّة، هذه الإشكاليَّة تحتاج إلى تأويل أو تصدر عن تأويل لما يتداول من أفكار عربيَّة إسلاميَّة كانت أو غربيَّة ، والتأويل هنا قائم بحكم إشكاليَّة حدّدتها ظرفيَّة تاريخيَّة منذ وقوع العالم الإسلامي تحت الضغط الاستعماري وهو ما جعل إصلاح المحدثين من السلفيين كالأفغاني نفسه يختلف ضرورة مع إصلاح قدمائهم أمثال الغزالي وابن تيميَّة، هذا هو التأويل الذي خلق صراعًا بين الأصوليين والحداثيين ولذا يرى باحثون ومنهم الدكتور علي أومليل في كتابه الإصلاحيَّة العربيَّة والدولة الوطنيَّة أنه وجب إعطاء ظرفيَّة الضغط الاستعماري بعدًا أساسيًّا في التحليل وهنا يقع الدور على الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث أن يقوم بتأويل الأفكار الغربيَّة التي وصلته ومقارنتها مع تأويلات بعض الفرق والمذاهب كالمعتزلة التي ترى أنه يكفي الإعلان بالإسلام عن طريق النطق بالشهادة، اي الإقرار باللسان دون العمل، فمن خاصيَّة التسامح كما يرى البعض هو أن المجتمع لا يجد حرجا في وجود غير المسلمين معه يعيشون في جوٍّ يسوده التعايش كمواطنين ( ذميين) .
ولنا في سيرة الرسول صلعم مثالا نقتدي به في تعامله مع ذلك اليهودي إلى درجة أن زاره لما علم بمرضه على الرغم من مخالفته له في الدين والعقيدة، فالرسول لم يكره أحدا في دخوله الإسلام واعتناقه بل ترك الحريَّة التامة لغير المسلمين في الاختيار بل في ممارسة شعائرهم، ولم يكفِّر أحدا قبل نزول الآية ( قل يا اأيها الكافرون الخ) ولم يخاطب الآخر بقوله أنت كافرٌ ، ويستخلص من هذا كله أن التسامح مع غير المسلمين هو من صميم فطرة الإسلام ، السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو إن كان التسامح مع غير المسلمين من فطرة الإسلام فكيف لا يكون التسامح بين المسلم وأخيه المسلم؟ فالإسلام دين تسامح ودين حضارة ودين وسطيَّة وهذه الوسطيَّة تعني استقامة المنهج والعدل والاعتدال بلا ميل إلى الغلو والتعنُّت والتطرُّف وتكفير الآخر، مكَّنه ذلك بالانتشار الواسع رغم الصراعات بين الفرق الإسلاميَّة ( السُنّة والشيعة) ورغم الحروب الداخليَّة ( الأهليَّة) بين المسلمين، وهذا لأسباب عديدة تعود خلفياتها إلى الضغط الاستعماري الذي فرض هيمنته في كل الجوانب السياسيَّة، الاقتصاديَّة،الثقافيَّة وترك المسلمون يتخبَّطون كالدجاج المذبوح في مشكلات لا حصر لها، فلو طبق المسلمون شعار التَّسَامُحِ فيما بينهم وتعايشوا مع بعضهم البعض وحاربوا التطبيع وواجهوا العولمة، لأمكنهم النهوض بحضارتهم العربيَّة الإسلاميَّة وبعث الهويَّة الجماعيَّة.
لقد ذهب في هذا الاتجاه كثير من الباحثين ومنهم الدكتور محمد مجدان حيث أشار أن الدراسات المستقبليَّة الغربيَّة تشير إلى أنه في حدود سنة 2025 سيكون الإسلام الديانة الأولى في العالم ، وفي تقرير لمركز “بيو” للأبحاث تحت عنوان: مستقبل التعداد السكاني لمسلمي العالم توقعات 2030 بأن يكون عدد المسلمين بعد 20 سنة بنسبة 35 بالمائة، حسب التقرير نفسه أعلن مركز بيو أن 08 بالمائة من سكان أوروبا سيعتنقون الإسلام خلال سنة 2042 المقبلة، حيث يعيش حاليا أزيد من 44 مليون مسلم في اوروبا ( هذا الرقم ذكره المؤلف ابتداءً من 2015 السنة التي طبع فيها كتابه) وقد يرتفع العدد إلى أزيد من 58 مليون مسلم في سنة 2030 في العالم ، وبالتالي قد تتحوَّل أوروبا كلها إلى قارة إسلاميَّة، ولذا أصبح تزايد عدد المسلمين في العالم يشكِّل خطرًا على غير المسلمين وتخوّفًا كبيرا لدرجة أن بعض الدول تسعى حاليًّا إلى تشجيع زيادة النسل بمختلف الوسائل وهي التي ابتكرت فكرة تحديد النسل.
هذه الإستراتيجيَّة المستقبليَّة بالنظر إلى ما تحتلّه الأمة الإسلاميَّة من قوة في العدد خاصَّة وهي تملك موقعًا جغرافيًّا له قيمة وأهميَّة كبرى واستراتيجيَّة عسكريَّة اقتصاديَّة حضاريَّة (جيواستراتيجيَّة) تمتدّ أطرافها من أندونيسيا والملايو شرقا إلى المغرب ونيجيريا غربا وهي ملتقى القارات ومنبع الحضارات ومهبط ومهد الديانات السماويَّة وبالتالي فهي قلب العالم ومركزه the heart land ، ومن شدّة تخوّفهم سمّوا الإسلام بالخطر الأخضر بعد أن تخلصت من الخطر الأحمر وهو الشيوعيَّة، ويزداد تخوفهم بانبعاث الصحوة الإسلاميَّة التي يسمونها بالأصوليَّة الخطيرة أو الإسلاموفوبيا ولذا فأوروبا تتهم الإسلام والمسلمين بالتطرّف والعنف واللاتسامح والتخويف أو كما يسمونه بالإٍهاب الإسلامي، نشير هنا أنه في ظل التطبيع مع إسرائيل والكيان الصهيوني وخيانة الأنظمة العربيَّة للإسلام يجعل الأمّة الإسلاميَّة مهدّدة بالسقوط والحضارة الإسلاميَّة مهدّدة بالاندثار وتظلّ الحضارة الغربيَّة هي الأقوى بل تزداد قوة، والدليل واقع المسلمين اليون وانتشار الفساد في البلاد الإسلاميَّة ( الرشوة والسرقة والكذب والنفاق والتملّق وشيوع الظلم )، فضلا عن ضعف في العقل أو الفكر الإسلامي فلم يعد المسلم يفكِّر ويبتكر وساد التقليد الأعمى وهذا كله بسبب توقّف ملتقيات الفكر الإسلامي وغياب الحوار وغياب الشورى والعدل وغلق باب الاجتهاد.
____________
*علجيَّة عيش بتصرّف.