يقدِّم علماء الاجتماع أمثلة عديدة في نظريَّة الفوضى منها طريقة عيش طيور الزرزور، وطير الزرزور لا يجد فيه قائد عام لكي يخبر كل طائر متى يتحرَّك وإلى أين؟ كانت طيور الزرزور تستجيب لإشارات سهلة القراءة، تكون مهيَّئة داخل علاقاتها مع أقرانها والزحام الشديد هو تلك الإشارة، فالطيور تريد أن تبقى معا ممّا يؤمن بقاءها على هيئة السّرب، ولكن إن اقتربوا من بعضهم البعض كثيرا فإن قدرتهم على الاستمرار في الطيران تضعف على الرغم من التشابه التام في الديناميات بين طيور الزرزور، نفس الشيء ينطبق على البشر، أي قاعدة التقاء في المربع الذي أنت فيه إلى أن يصبح غير مريح لك فتتركه إلى أحد المربعات الأخرى، إلا أنَّ آليَّات التنقُّل ليست متماثلة، حسب علماء الاجتماع وحتى الفلاسفة فإن القرار كقاعدة عالية في حياة الفرد من البشر لا يرتبط البتة بالازدحام الشديد، إنه يرتبط بالأحرى بفهم المرء لطبيعة مأزقه، أي بمدى التكيّف مع الغير على أساس مجموعة من القيم والمعتقدات التي سوف توحِّد وتبرِّر الأفعال التي سيقوم بدورها.
إنَّ طيور الزرزور تقترب من بعضها البعض أثناء الحركة باستمرار حتى تظهر قوة مضادَّة، هكذا البشر يجتمعون في تكتلات من أجل الوصول إلى مركز قيادي في الأمّة كما حدث أثناء الثورة الثقافيَّة في الصين، من الصعوبة بمكان النظر في كل الاتجاهات في نفس اللحظة، لأن هناك انحيازات منافسة لابد أن تُفَوِّتَ الفرص على النمط المسيطر، فيقطع وعودًا لا يقدر على تحقيقها فيتعثَّر نمط حياة ما، يصبح الطريق مفتوحًا أمام الأنماط الأخرى المستبعدة حتى الآن لكي تقول: “لقد أخبرتك بذلك لكنك لم تكن مهتمًّا”، فهذه الأنماط الأخرى تنبأت بالنهاية المميتة، فاستطاعت تجنب الأخطاء والاستثمار في الفرص الضائعة، يقود هذا الكلام للحديث عن “الفرديَّة” هذه الفرديَّة حذر منها كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة، لأنها تنحدر بسرعة إلى نوع من العنف الهمجي، كانت هناك تجارب عديدة نتيجة ثورات وحروب أهليَّة وقعت في العالم العربي الإسلامي انتهت بأصحابها بالفشل لأنهم عملوا بنظريَّة الفوضى والهمجيَّة، يقدِّم علماء الاجتماع مثالا عن أحداث ” كانساس” الدّامية حيث أدَّى غياب سلطة مخولة لفض النزاعات حول الأرض كذلك غياب هيئة ذات تسلسل هرمي من أجل وضع القواعد وتنفيذ العقود، هكذا يقود التنظيم الذاتي من دون ضوابط إلى الضعف وبالتالي يكون نظاما محكوما عليه بالفشل.
ومن أجل النهوض من جديد كان منى الضروري أن تكون هناك تحالفات، تقول الدراسات إن التحالف قد يفيد في تعويض نقائص نمط حياة ما، فالحلفاء يظلون منافسين لبعضهم البعض ويجمعهم حُبٌّ غير حقيقي وغيرمطلوب أي حُبٍّ مزيفٍ، يتَّسم بخطاب ملون بالكذب والنفاق والغدر والخيانة، لأن المصلحة الذاتيَّة هي الأهم وهي القاعدة الأساسيَّة في نمط الحياة، ومثل هذه التحالفات تخلق بيئة مضطربة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وحتى في الجانب الديني (التعدديَّة المذهبيَّة) يكون ذلك بتعدُّد الفتاوى التي أحيانا تفرق وتشتت أكثر من أن تجمع وتوحد، تهدم ولا تبني، يكون ذلك عن طريق تكفير الآخر ووصفه بالمتطرف، لقد توصل أرسطو إلى أن التوازن بين الثقافات السياسيَّة هو مفتاح لتحقيق الحكومة الجيدة ما جعل بعض الفلاسفة والمفكرين إلى العمل بالقابليَّة الاجتماعيَّة الثقافيَّة للنماء، فالأمّة التي تتوازن فيها أنماط الحياة تكون أقل تعرض للمفاجآت وتكون أكثر استجابة للمواقف المستجدَّة وهذا طبعا يتوقف على رؤية الناس للأشياء.
فرؤى الناس وأفكارهم مختلفة فهناك من يدقِّق فعل الغير وكلامه وهناك من يدقِّق الغير فعلهم، إذن العمليَّة مرتبطة بعمليَّة “التأويل” للأقوال والآفعال خاصة إذا تحول الشفهي إلى مكتوب، والتأويل إما أن يكون إيجابيا وإمّا يكون سلبيا وهذا الأخير لا يحقق النماء، المشكلة طيعا ليست في نقل الأفكار بشكل فعال للغير بل تنميتها، كما أن الأمر متعلق بطريقة التعايش مع الآخر، فمثلا عندما يجد إنسان نفسه في موقف حرج من أن يكشف لك رفضه لمسالة أنت راغب في تحقيقها قد تكون في إطار التعامل معه في مشروع ما، وللتعبير عن رفضه تجده يبحث عن طريقة يستفزك بها خلال نقاش دار بينكما حول مسألة ما، تشعر أنتَ بالإحباط وخيبة الأمل والفشل، هذه الفئة كما يقول بعض المحللين تعمل بنظام الكبار big men فهي ترى المحيطين بها صغار.
ونحن نقف على هذا النوع من الممارسات وكأننا نقف مع إميل الصغير الصَّبِيُّ المبدع ودوركايم الأستاذ المصارع الذي أراد كل شيء، الأفكار طبعا تتغير بتغير الظروف والأزمنة وبتغير الأمكنة، وقد تتقارب أحيانا بين طرف وآخر، لكن الاختيار يكون بقبول الفكرة الأكثر قوة، ليس قوة الفكرة بل قوة المادة (كثرة المال) يحدث هذا في مختلف المجالات، في السياسة في الوظائف وحتى في العمل الإبداعي، السبب هو أن هناك أنماط حياة متنافسة داخل الأمّة الواحدة حولت السلوكات والأفكار والممارسات إلى شعار، فالتسوق مثلا جعله البعض أمر سياسي، بمعنى أنك لما تشتري منتجا ما يعني أ،: “تُصَوِّتُ” اقتصاديا لمصلحة الشركة المنتجة، نفس الشيء في عمليَّة الإبداع، فأن تشتري كتابا مثلا يعني هذا أنك تُصَوِّتُ لصالح المؤلف وللشركة التي طبعت ذلك الكتاب والتصويت هنا عمل سياسي.
نلاحظ هنا أنه حتى العمليَّة الإبداعيَّة صبغت بصبغة سياسيَّة، طالما ذلك المؤلف له مكانة اجتماعيَّة، والتصويت لكتابه يرفعه إلى مكانة أكبر من المكانة التي كان يحتلها في المجتمع، بينما المؤلف المبتدئ (لا نقول المؤلف الصغير) لأن الأول كان صغيرا ثم كبر، فالمؤلف المبتدئء مهما كان مستواه ومهما كانت تجربته الميدانيَّة وما يملكه من معارف فهو يظل بعيدا عن الأنظار وفي زاوية التهميش والنسيان، لأن أطرافا تعمل على تقزيمه وتجعل منه كائنا مجهولا، وقد تُقَوِّلْهُ ما لم يَقُلْهُ وتنقل لأسياده عنه معلومات خاطئة وتقارير مزيفة، فيأخذون عنه نظرة سلبيَّة وقد يوجهون إليه تهما باطلة، ما يمكن قوله هو أن الانحياز الثقافي يعيق العمل الجماعي الضروري وللقضاء على هذا النوع من الممارسات، ظهرت جماعة أطلق عليها اسم “المساواتيون” لقد طالبت هذه الجماعة بإشراك المواطنين بمختلف مستوياتهم في الحياة العامَّة، يستخلص من هذا كله أن “النخبة” في بعض الأحيان هي من يصنع الفوضى، فوضى في الأفكار وفوضى في الممارسات وفوضى في القرارات، هذه النخبة التي تريد أن تفرض منطقها على الآخر، تريد أن تكون هي المسيطر، تنظر إليه نظرة متعالية وكأنها تريده أن يختفي من الساحة، والدليل ما نراه في الندوات والجلسات الفكريَّة والأدبيَّة، يطلقون تصريحات ناريَّة أمام الصحافة من أجل إعطاء صبغة ما لذلك اللقاء وليكون له صدى واسعا، في محاولة منهم أن تنشر في الغد تصريحاتهم بعناوين حمراء وبالبنط العريض، ولما يجد أحدهم نفسه في موضع انتقاد وأن ذلك العنوان لا يخدمه نجده يقول، تلك العبارات جاءت في سياق الحديث، هكذا يبررون اقوالهم وأفعالهم ويمسحونها في السياقات، هذا هو المجتمع وهذه هي النخبة الغير قادرة على النهوض بالأمة فكيف لها أن تبني حضارة؟
من الواجب هنا أن نطرح السؤال التالي: من هي النخبة؟ وممّا تتشكَّل؟ هل تتشكَّل من مجموعة من المثقفين؟ والسؤال يفرض نفسه لمعرفة من هو المثقف؟ هل هو المفكر؟ هل هو العالم؟ هل النخبة يشكلها مجموعة من الفنانين ( الموسيقي، المغني، المسرحي، السينمائي، هل يشكلها الكتاب والشعراء والروائيون والناشرون ؟ أم يشكلها رجال السياسة (المهرجون) أم رجال المال والأعمال؟ أم رجال الدين؟ يا الهي تحن أمام الهاوية وقد يحدث لنا ما كاد أن يحدث لدونكيشوت لولا رفيقه الذي كان يحرسه لكان قد وقع في الهاوية، نحن إذن أمام تعدديَّة نخبويَّة اجتمعت لتحقيق مصالحها، يمكن تسميتها بالـ: clan في كل الأحوال نقول إن هذه النخبة خلقت الطبقيَّة في المجتمع، الكلام ليس موجه للنخبة الحاكمة فقط، بل للتي ترى نفسها أنهامن النخبة، التي جعلت أفراد المجتمع يتصارعون ويتقاتلون فظهر التطرّف وظهرت الآفات الاجتماعيَّة كالانتحار، والهجرة الغير شرعيَّة وهجرة الأدمغة وكل أشكال الفساد، لأنها لم تغير نفسها ففشلت في عمليَّة التغيير والبناء، يبقى السؤال يبحث له عن إجابة لمعرفة من هم الفوضويون الحقيقيون الغرب أم العرب؟ ولماذا تقدَّم الغرب وتأخَّر العرب؟ ( من كتاب “نظريَّة الثقافة” نأليف مجموعة من الكُتّاب عن عالم المعرفة عدد 223 طبعة جانفي 1978 الكويت).
___________
*علجية عيش بتصرف