سيرة حياة أورخان الغازي ابن عثمان

د. نظام الدين إبراهيم أوغلو
باحث اكاديمي تركماني

ولد أورخان غازي الملقب بـ"شجاع الدين" ببلدة سوغوت التابعة لمدينة بيلجيك بعام 1281، وقد خلفه والده عثمان غازي وعمره ستة وثلاثون عاما. وتولى الحكم من 1326 حتى 1362م وقيل (1324-1360) حكم 36 سنة، وفي زمنه نقلت عاصمة الخلافة العثمانية الى بورصة. وتوفي عام 1362م ودفن في بورصة. مع مقبرة والده عثمان في المرادية.
وهو مؤسس الجيش العثماني وكذلك الجيش او الفرقة الانكشارية. وفي عهده بدأت فتوحات الإسلامية في الشرق الأوروبي. وأرسله والده عثمان غازي لحصار مدينة "بورصة"، فحاصر أورخان القلاع المحيطة بها، وظل محاصرا لها قرابة عشر سنوات، ولما تأكد حاكمها أنها أصبحت في قبضة أورخان سلمها إليه، فدخلها دون قتال عام 1325، ولم يتعرض أورخان لأهلها بسوء مما جعل حاكمها يعلن إسلامه، فمنحه أورخان غازي لقب "بيك". لم يكن أورخان غازي ينجح في فتح مدينة "بورصة" حتى استدعاه والده وكان على فراش الموت، وأوصى له بالحكم من بعده في عام 1326، وترك له وصية تاريخية سجلها المؤرخ العثماني "عاشق الحليبي":
"يا بني، أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، لا يغرنّك الشيطان بجهدك وبماله، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة! يا بني، لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهرة حكم، أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت أهل له. يا بني؛ إنك تعلم أن غايتها هي إرضاء رب العالمين، وأنه بالجهاد يعمّ نور ديننا كل الآفاق، فتحْدث مرضاة الله عز وجل...".
وعلى الرغم من أن اورخان غازي لم يكن الابن الأكبر لعثمان غازي، فإن أخاه الأكبر "علاء الدين" لم يعترض على هذه الوصية، بل قدم الصالح العام للدولة على الصالح الخاص له، وجعل نفسه خادمًا لتحقيق أهداف الدولة العثمانية، وقد عين أورخان غازي أخاه علاء الدين في منصب الصدر الأعظم. فاختص علاء الدين بتدبير الداخلية، وتفرغ أورخان للفتوحات الخارجية، ولذا يعد علاء الدين أول الصادر الأعظم في تاريخ الدولة العثمانية. وقد نفذ أورخان غازي وصية والده، وأقام أول جامعة إسلامية في مدينة "إيزنيك"، كما أسس أول جيش نظامي. وفي عهده نقل مقر الدولة العثمانية من مدينة "اسكي شهير" إلى مدينة "بورصة" القريبة من إسطنبول، وجمالها عاصمة لدولته إضافة إلى أنه بنى فيها جامعة ومدرسة وتكية قريب من مسجد أولو جامي وكان يُقدَّم فيها الطعام للفقراء والغرباء. وأنه سَكّ أورخان غازي أول نقد عثماني وفتح مدينة إزمير التي كانت تحت سيطرة اليونانيين، وقد تمكن أورخان غازي من فتح جزيرة "بيثنيا" وقلعة "سماندرة" و"آيدوس" وهما قلعتان استراتيجيتان تحرسان الطريق الحربي الواصل بين القسطنطينية و"نقومكيدية". ومن ثم تمكن فتح بلاد "قره سي" في عام 1335، وكانت معاملته الطيبة لأهل بعض المدن سببا في دخولهم الإسلام. وفتح مدينة إزنيك، وهي أكبر، وربما أهمّ من مدينة بورصة، كان حصاره وفتحه مدينة بورصة قد أكسبه العديد من المهارات ونوعيات الأسلحة التي يستخدمها في الحصار.
لقد هبّ الإمبراطور البيزنطي أندرونيقوس الثالث لمحاربة أورخان، والتقيا في معركة پيليكانون، وهي معركة مؤثرة في تأسيس الدولة العثمانية، فقد انهزم الإمبراطور وأصيب، واستطاع أورخان بعد هذا النصر إحكام سيطرته على آسيا الصغرى، وهو ما كان إيذاناً بتخلِّي البيزنطيين عن سيطرتهم هناك، فقد أورخان في هذه المعركة 275 جندياً فقط. بعد هذه المعركة، حصل أورخان على ألقابٍ عديدة "سلطان" و "سلطان الغزاة" و "غازي ابن غازي".
وعندما زار الرحالة المغربي "ابن البطوطة" الأناضول في فترة حكم السلطان أورخان غازي، قابله هناك وقال عنه إنه أكبر ملوك التركمان، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، وإن له من الحصون ما يقارب مائة حصن، يتفقدها ويقيم بكل حصن أياما لإصلاح شؤونه".

تأسيس الجيش العثماني

وفي فترة حكمه، لم يكن للدولة العثمانية جيش نظامي بالمعنى المألوف، فقد كان أورخان ووالده عثمان يعتمدان بالأساس على مقاتلي عشيرتهم وجنود الإقطاع، وتتمثَّل هذه الطريقة في إقطاع المقاتلين منطقة زراعية ما يزرعونها ويحصدونها، شرط أن يكونوا تحت الطلب في الحروب، لكنّ هذا النظام كان يتسبب في مشاكل كثيرة، خصوصاً لو كانت الحروب بعيدة عن تلك الأراضي.
فاهتم أورخان غازي بتوطيد دعائم الحكم العثماني في آسيا الوسطى، وقد حرص على إدخال نظام جديد للجيش، فقام بتقسيم الجيش إلى الوحدات وكل وحدة تتكون من عشرة أشخاص أو مائة أو ألف، وخصص خمس الغنائم للإنفاق منها على الجيش، وجعله جيشا دائما وليس استثنائيا، فقد كان قبل ذلك لا يجتمع إلا وقت الحرب، كما أنشأ كذلك مراكز خاصة يتم فيها تدريب الجيش وتعليمهم مهارات القتال.

تأسيس فرقة الانكشارية

الانكشارية من التركية العثمانية يڭيچرى، تعني: "الجنود الجدد" هي قوات مشاة وفرسان من النخبة بالجيش العثماني، وكان جيش الانكشارية جيش الدولة الرسمي حتى إلغائه في عام 1826م على يد السلطان العثماني محمود الثاني. شكل الانكشارية الحرس الخاص للسلطان العثماني، تأسست قوات الانكشارية في عهد السلطان مراد الأول (1362-1389) وكان للانشكارية تنظيم خاص بهم ، بثكناتهم العسكرية وشاراتهم ورتبهم وامتيازاتهم، وكانوا أقوى فرق الجيش العثماني وأكثرها نفوذاً. وكان أفراد الانكشارية من أسرى الحروب من الغلمان الذين يتم فصلهم عن ذويهم وأصولهم، ويتم تربيتهم تربية إسلامية، لقد أنشأ أورخان غازي فرقة الانكشارية بناء على اقتراح أحد قادة الجيش "قرة خليل". وقد كان يختار الجنود عن طريق نظام الدوشيرمة، وهنا اقترح أحد المقربين من أورخان عليه أن يبدأ في تدشين قوّةٍ عسكريةٍ مختلفة في تركيبتها ولم يسبقه إليها أحد، وهي أن يُعزل الأطفال الأسرى في معسكراتٍ خاصّة، يتعلّمون هناك ويتربّون على الدين الإسلامي، ويتعلمون كذلك اللغة، والعادات والتقاليد التركية، وحب الشهادة والدين الإسلامي، ويصبح ولاؤهم فقط للسلطان ولدولتِه فقط، فهم جنودٌ بلا انتماءاتٍ عشائرية أو قبلية قد تعيق أو تتحكّم في ولائهم. ومن هنا بدأ أورخان في تأسيس هذا الجيش، الذي أصبح قوّة ضاربة في أوروبا وآسيا على السواء، وصارت سمعته العسكرية تخيف أعداء الدولة، وأصبح للانكشارية دورٌ أضخم وأكبر مع صعود ابنه مراد الأول للحكم، لاحقاً تغيّر الانكشارية مع مرّ العصور، وبدلاً من أن يصبحوا طليعة الجيوش الإسلامية في الجهاد، أصبحوا شوكة في حلق السلطان العثماني، إلى أن تخلص منهم السلطان محمود الثاني في القرن التاسع عشر.

أورخان مُشعل القناديل

ويجيء أورخان ابن عثمان ليكون أول منفذ للوصية بشأن العلماء ورجال الدين، ويشهد له في ذلك المؤرخ الرومي هالكو كونديليس فيقول: «كان أورخان الغازي شديد اللياقة وكريمًا؛ لاسيما مع جنوده ومع الفقراء، وأهل الفن» ويكمل المؤرخ العثماني نشري شهادته حول شخصية أورخان وأخلاقه، فيقول: كان محبًا للعلماء ولحفاظ القرآن، وقد خصص لهم «أُلفة»، وهي رواتب توزع عليهم بشكل منتظم.
كان شيخه أدب ألي و يحيى أفندي بستان زاده، صاحب «التاريخ الصافي» أو «تحفة الأحباب» فنراه يقترب أكثر من الجوانب الصوفية في أورخان غازي، فيصف أولاً قبعته التي صنعت من الوبر والصوف، ويلفها بقماش أبيض تشبهًا وتقليدًا لمولانا جلال الدين الرومي، مع حرصه على صيام أيام الاثنين والخميس، ثم الطواف على قناديل الجوامع ليشعلها بنفسه، وكان أكثر ما يسعده هو أن يقوم بنفسه بتوزيع الطعام على الفقراء والمحتاجين بنفسه أيضًا.
كذلك يفعل حفيده السلطان محمد جلبي (محمد الأول) كما يروي المؤرخ نفسه: لكثرة هوسه بعمل الخير، كان يأمر بطهي الطعم من ماله الخاص مساء كل جمعة، ويوزعه بنفسه على الفقراء، وكم أسعد اليتامى والمساكين إحسانه غير المحدود

أورخان بن عثمان، المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية وأول من أدخلها أوروبا

كانت هذه المساحة الجغرافية متروكة لصاحب التدبير الذكي والقوة العسكرية ليفرض سطوته وسلطته، ومن هنا بدأ تأسيس وتاريخ الدولة العثمانية. تعرف على أورخان غازي.
وعند استىلام أورخان غازي السلطة : كانت منطقة الاناضولوشرق أوروبا وغرب آسيا مسرحاً لأحداثٍ كبيرة، في القرنين الثالث والرابع عشر الميلادي، فدولة السلاجقة على أعتاب انهيارٍ كامل، والدولة البيزنطية منشغلةٌ بصراعاتها الدينية مع جيرانها المسيحيّين، وإمارات الأناضول الصغيرة تسعى للاستحواذ على أكبر قدرٍ ممكن من الأراضي، وهنا برز دور أورخان غازي، ثاني سلاطينالدولة العثمانية. كانت هذه المساحة الجغرافية بشكلٍ أو بآخر متروكة لصاحب التدبير الذكي والقوة العسكرية المتماسكة ليفرض سطوته وسلطته، ومن هنا بدأ تأسيس وتاريخ الدولة العثمانية.

عثمان غازي ووفاته على أعتاب مدينة بورصة

ورث عثمان غازي من والده أرطغرل إمارة حدودية صغيرة كانت مساحتها 4800كم، وهي مساحة ضئيلة للغاية مقارنة بالإمارات الأناضولية والحدودية في ذلك الوقت. ركّز عثمان غازي توسّعاته في الحدود البيزنطية، رافعاً راية الجهاد، ومبتعداً عن الصراعات الإسلامية- الإسلامية بعيداً عن الحدود، توفي عثمان وقد وصلت مساحة إمارته إلى 16000 كم، وهي الإمارة التي ورثها أورخان ابنه.
كان عثمان غازي قد حاصر مدينة بورصة، وهي مدينة كبيرة للغاية في ذلك الوقت، مقارنةً بالمدن التي تحت سيطرته، حاصرها ما يقرب من 10 سنوات لكنّه فشل في فتحها، وحين فاجأه المرض ترك قيادة الحصار لابنه أورخان. تختلف المصادر التاريخية ما إذا كان أورخان فتح بورصة في أواخر أيام والده أم أنه فتحها بعدما أصبح أميراً، لكنّ الثابت أنّه فتحها في أول سنتين من حكمه، عام 1326م.
كان لأورخان أخٌ أكبر هو علاء الدين، لكنّ المصادر التاريخية أيضاً تختلف حول حصول أورخان على الإمارة بعد وفاة والده، تعتمد المصادر البيزنطية رواياتٍ أنّه قَاتَل إخوته واستولى عليها، بينما اعتمد أوائل مؤرخي الأتراك رواية أنّ والده أوصى بالإمارة له، وتخلّى له أخوه الأكبر علاء الدين عنها، واكتفى بالوزارة، وهو الذي نظّم شؤون الإمارة المدنية، ويعتبر هو أوّل "صدر أعظم" في التاريخ العثماني.
أورخان غازي.. البداية الحقيقية لتأسيس الدولة العثمانية فتولّى أورخان إمارة أبيه وهو في سن 41 عاماً، وافتتح عهده بالسيطرة على مدينة بورصة، التي جعلها قاعدة حكمه، ومرتكز جيوشه، ومع ذلك لم يتمرّد على تبعيّته لخانات المغول ولا للخليفة العباسي معاً -وهي تبعيّات اسميّة- وبعد بعض الوقت أعلن أورخان إعلانه الأهمّ: أنّه وريث دولة السلاجقة التي أصبحت الآن في خبر كان.

أورخان ثاني سلاطين العثمانيين.. وقد ضاعف رقعة دولته ستة أضعاف

يعتقد الجميع أنّ السلطان الأوّل للدولة العثمانية هو عثمان غازي بن أرطغرل، باعتباره مؤسس السلالة، لكنّ عثمان لم يُلقّب بالسلطان في حياته بل كان يلقب بالأمير، وإنّما لقّب بعد وفاته بهذا اللقب، لكنّ أورخان أصبح سلطاناً في حياته، بعدما استطاع توسيع رقعة إمارته 6 أضعاف ما ورثه من والده.
فإمارته الآن أصبحت دولة حقيقية مترامية الأطراف، فهي 95 ألف كم، وهي تشمل بورصة وبالكسير، وجزر مرمرة، والشق الآسيوي من إسطنبول، كما أصبح جيشه أكبر جيوش المنطقة الحدودية التي تتمركز فيها دولته، فقد أصبح تعداد جيشه -بعد سنوات قليلة من حكمه- 115 ألف جندي، ومع مرور الوقت استطاع السيطرة على عدّة إمارات أناضولية أخرى، فزاد جيشه بأسطول عثماني، وهو أوّل من بدأ معارك بحرية من آل عثمان. وكانت بدايات دخول العثمانيين أوروبا بين عامي 1353-1357، عندما تحالف أورخان بن عثمان مع الإمبراطور البيزنطي، كان الإمبراطور يواجه مقاومة شديدة من بعض أمراء البلقان، وخصوصاً أمراء الصرب والبلغار، تناقش مع أورخان في دعمه له بالجند العثماني للتغلُّب عليهم، فوافق أورخان وأرسل ابنه سليمان أول الأمر بستة آلاف جندي عثماني.
خلال هذه السنوات كان شاهزاده سليمان ـ ولي العهد ـ يمر عبر الأراضي البيزنطية ليحارب أمراء البلقان ويعود، واعترافاً بفضل ولي العهد سليمان بن أورخان منحه الإمبراطور البيزنطي قلعة "جمبة" الواقعة على الضفة الأوروبية. بالطبع يعتبر العبور للروملي "بلاد الروم" ودخول العثمانيين أوروبا أحد أهم الوقائع التاريخية المهمّة في التاريخ العثماني، فهو الحدث الذي أمّن تأسيس الإمبراطورية العثمانية في أوروبا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد غيّر بشكلٍ مباشر التاريخ الأوروبي ومصير الدول الأوروبية كذلك.
وبعد وفاة أورخان عام 1362م، ترك لابنه مراد الأول دولةً مترامية الأطراف، فتيّة، بجيشٍ هو الأقوى في منطقته، ليستطيع ابنه مراد بعد ذلك فتح بلاد البلقان والسيطرة عليها، وتثبيت أقدامه في أوروبا وأقدام أحفاده طيلة 500 عام.

والله ولي التوفيق