العامية المصرية فى قلب
تاريخ الوطن... بقلم/سمير الأمير

ارتبط شعر العامية المصرية دائما بتاريخ مصر وتاريخ كفاح شعبها من أجل الاستقلال، ثم من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم، وشكل المجمل العام للمنتج الشعري العامى المصرى فى العصر الحديث ما يمكن أن نطلق عليه " الضمير الوطنى"، ويندر أن تجد شاعرا عاميا حقيقيا منذ بداية محاولات إنشاء الدولة الوطنية المصرية الحديثة، لم يدفع ثمنا غاليا من قوته أو من حريته دفاعا عن هذه الدولة وعن طموحاتها لإنجاز شروط مناعتها وعزتها، إن ما ذكرته فى السطور القليلة السابقة ليس اكتشافا بالقطع ولكنى أكتبه فقط على سبيل التأكيد على الحقائق التاريخية التى تفيدنا فى تتبع تاريخ القصيدة العامية وعلاقتها بتاريخ مصر، ولعله أيضا من قبيل التكرار أن نذكر أن فؤاد حداد يعتبر الأب الشرعى لشعر العامية فى أشكاله ومضامينه الحديثة، إلا أن ذلك لا ينفى أن بديع خيرى وبيرم التونسى هما من شكلا جل الوظيفة الوطنية التاريخية للشعر ومن جسدا انحيازه للفقراء وللطبقات الشعبية ولقضايا المرأة والعمال والمهمشين الذين يعرقون فى قلب عمليات إنتاج الثروة فى الحقول والمصانع وفى ورش الحرف الصغيرة لتنعم الأقلية بينما يواصل الكادحون كدحهم من أجل العيش ويطردون للهامش، لا فى حالة عمليات الإنتاج ولكن فى حالة توزيع عوائده، والغريب طبعا أن هؤلاء هم من يضحون بأرواحهم فى حالة العدوان على حدود الوطن واستقلاله، ومن ثم كان شعر العامية مرتبطا بهم، لدرجة أنه يمكننا القول أن شعراء كبديع خيرى وبيرم التونسى وفؤاد حداد ومحمد سيف ونجيب شهاب الدين والأبنودى وفؤاد قاعود وسيد حجاب وذكى عمر وزين العابدين فؤاد وسمير عبد الباقى، و معظم هؤلاء أن لم يكن كلهم كانوا ضيوفا على السجون المصرية فى العصور المختلفة لا لشيء إلا لأنهم مثلوا صرخة احتجاج ضد من احتلوا بلادنا، ثم بعد الاستقلال ضد من احتلوا وغلوا من عرق الفقراء والثروات التى أنتجوها، ومن اللافت للنظر استمرار هذا الصوت المرتبط بالتاريخ الوطنى منذ " بديع خيرى الذى عاش فى الفترة من 1893 حتى 1966 وكان عمره حوالى 26 عاما حين اندلعت ثورة 1919 المجيدة وكان بحق شاعر هذه الثورة والناطق باسمها " ولنتأمل معا قصيدته التى يقول فيها “ قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك/خد بنصرى نصرى دين واجب عليك/ يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك/عادلى مجدى اللى ضيعته أيديك/ شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار /من جمودك كل عضمة بـ تستجار/صون أثارك ياللى دنست الأثار/دول فاتولك مجد وأنت فوت عار/جيبلي أى بلاد يا مصرى فى الجمال/تيجى زى بلادك اللى ترابها مال/ إلى أن يقول "حب جارك قبل ما تحب الوجود/ إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود/ دى العبارة نسل واحد م الجدود"، وكذا دفاعه عن الفتاة المصرية، يقول بديع خيرى
" ده بأف مين اللى يألس/ على بنت مصر بأنهي وش/ و النبي يجري يتليس ماطلع كلامه طظ! فش"
أظن أنه بات واضحا أن تمجيد الشعب والدفاع عنه لم يكن يعنى تملقه وتجاهل نقائصه، بل كان يعنى “ نكأ جراحه بل وتعنيفه أحيانا لينهض من الجهل ومن كل ركام التخلف الذى يرزح تحته، ولعل المتأمل لمسيرة شعر العامية سيلاحظ أيضا أن قضايا قصائد بديع خيرى وبيرم التونسى مازالت عائشة فى زماننا هذا ولنا هنا أن نقول أن المتشاعرين الذين يخاصمون جوهر هذه القضايا، هم بالتأكيد خارج نطاق هذا الشعر.
ربما يكون الكلام عن بيرم التونسى تكرارا لما سبق وذكرناه عن بديع خيرى وربما يرجع ذلك الى أن القصيدة عند الاثنين فى المجمل العام لم تفارق طبيعتها الزجلية وأنهما كانا مجايلين لبعضهما- فقد عاش بيرم فى الفترة من 1893إلى 1961- ومن ثم كانا معبرين عن قضايا اجتماعية واحدة لا يوجد بينها تباين شديد إلا أن بيرم انشغل أكثر بطبيعة السلطة وطبيعة الحاكم فدفع ثمنا لهذا العداء وتم نفيه بعد أن كتب قصيدته الشهيرة التى يقول فيها " ولما عدمنا في مصر الملوك/جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك/ تمثل علي العرش دور الملوك/ وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون"
أى أن بيرم كان أكثر اشتباكا مع السلطة فى قمتها وليس أدل على ذلك من نفيه إلى تونس لانتقاده العائلة المالكة، ثم عودته لمصر ونفيه لفرنسا بعد انتقاد الملك فؤاد نفسه ونعته بالإجرام والعمالة للإنجليز، فضلا طبعا عن حدة وعيه " الطبقى" و وضوح دفاعه عن منتجى الثروة من العمال، يقول بيرم" ساكنين علالى العتب، وانا اللى بانيها/فارشين مفارش قصب، ناسج حواشيها/ قانيين سواقى دهب، وانا اللى ادور فيها /يارب ماهوش حسد/لكن بعاتبكم /من الصباح للمسا، والمطرقه ف ايدي/صابر على دى الاسا ! حتى نهار عيدى/ تتعروا من مشيتى واخجل أخاطبكم"

كان من حسن حظ الشعر العامى أن يعيش الشاعر العظيم " فؤاد حداد" فى الفترة من 1929 حتى 1985 فيكون قد عاصر بديع خيرى وبيرم التونسى، فيتسلم لواء القصيدة العامية ويدفع بها قُدما لتشهد تطورا كبيرا من ناحية الشكل والمضمون متأثرة طبعا بالتطور الذى حدث للقصيدة العربية الرسمية المسماة إجحافا " بالفصحى" ومتأثرة أيضا بالتغيرات الدرامية والثورية التى شهدتها الحياة السياسية والاجتماعية فى الخمسينيات والستينات، فضلا عن عمق ثقافته الفلسفية وإلمامه الواسع بالتراث العربى وبالسير الشعبية الأمر الذى مكنه من كتابة جديدة تعتمد "التخييل" و التناص مع كل المنتج الشعري العربى الفصيح وبل وكل التراث العربى بشكل عام، فضلا طبعا عن دراية عميقة ومحبة بالغة لمصر ولأمثالها الشعبية وانخراط مباشر فى العمل السياسى وإفصاح عن ميوله ومواقفه الاشتراكية التى شكلت موقفا جماليا أيضا عبر عن نفسه فى معظم قصائده، وساعد هذا الانتماء الاشتراكي أيضا على الانفتاح على تجارب الشعوب غير العربية ونضالها فعرب الأشعار الفيتنامية فى ديوان " قال التاريخ أنا شعرى اسود" وترجم ديوان " عيون الزا" للويس آراجون وبتدشين القصيدة العامية الحديثة وبفضل فؤاد حداد وصلاح جاهين الذى صاحبت أشعاره وأغانيه ثورة يوليو بل ودفعتها قدما وساهمت فى نشر شعبيتها، بفضلهما انتشرت القصيدة العامية الحديثة و تجذرت فى الواقع محافظة على شرف تحيزها وانتمائها لكفاح شعبنا العظيم ومصاحبة لانتصاراته وانكسارته وبرزت أسماء شعراء كبار كفؤاد نجم والأبنودي وذكى عمر وفؤاد قاعود وسيد حجاب وسمير عبد الباقى واستمر هذا التدفق حتى الآن ولم يتأثر كثيرا بظهور تيار يكتب قصيدة الذات وقصيدة نثر العامية اللتين حظيتا أيضا ببعض الرضاء فى أوساط بعض متعجلى الحداثة، ولكنهما لم تتمكنا من الاستحواذ على ذائقة عبقرية تطور نفسها وفق شروط موضوعية وليس وفق اختيارات المغامرة الذاتية فقط ومجرد الرغبة فى المغايرة، مما جعلنا نقرأ نصوصا بالعامية مغرقة فى غموضها ومستعصية على التغلغل فى الوجدان الشعبى نظرا لغرابة مضامينها عن المجرى العام للوعى بقضايا الشعب الذى أصبح صفة غير قابلة للتنحى فى شعر العامية المصرية، الذى ليس كما يقول البعض مخاصما للذات ولا مغتربا، و لكنه يزخر بقصائد بالغة الروعة عن موضوعات مثل " الحب" و " الاغتراب" ولكنه شعر لا يرى الذات ومشاكلها معلقة فى الفراغ بل يقيم جدلا بين الذات الشخصية و الذات الوطنية العامة ويعتبر أن مشاكل الفرد ليست منبتة الصلة بمشاكل أهله وناسه وأن تقدمه وحريته مرهونان بتقدم وحرية الوطن.