السلطان الخامس محمد جلبي الاول

نظام الدين إبراهيم أوغلو
الباحث الأكاديمي

مقدمة

السلطان محمد جلبى بن السلطان بايزيد الصاعقة أحد سلاطين الدولة العثمانية. ولد في ادرنة بتاريخ 1389م وتولى الحكم من عام 1413 حتى 1421م. وحكم 8 سنوات وتوفي عام 1421م في أدرنة ودفن في منطقة يشيل ببورصة. لقد نقل عاصمة الدولة العثمانية من بورصة إلى أدرنه. وبعد وفاة والده جاءت فترة الركود الى الحكم إعتبارًا من تاريخ 1402 إلى 1413 ، وذلك بسبب الخلافات بين أبناء بايزيد يلدرم والتي دامت 11 سنة، ولو حسبنا مع فترة الركود يكون مجموع حكمه 19 سنة. ومن اساتذته الذين اخذ منهم العلم صوفي بايزيد الاماسيالي، وحمزة بيجار اوغلو الدوقادلي، وكان محباً للشعر والأدب نظم الشعر بِاللُغتين الفارسيَّة والعربيَّة، وشغوفًا باقتناء الكُتُب المُختلفة، و بإعمال الخير، وكان شهماً ومحباً للعدل وأطلق عليه رعاياه لقب (جلبي) يعني النبيل وكذلك يعني معنى الظرافة أو الحُسن والجمال.
انفرد بالسلطة بعد أن تخلص من إخوته الثلاثة عيسى وسليمان اللذين فرا من معركة أنقرة أمام تيمورلنك ومعهم محمد جلبى، وتخلص كذلك من أخيه موسى الذى تم أسره مع أبيه. وهو أوَّلُ سُلطانٍ عُثمانيٍّ أرسل الهديَّة السنويَّة إلى شريف مكَّة، التي أُطلق عليها اسم «الصرَّة»، وهي قدرٍ مُعيَّنٍ من النُقُود يُرسل إلى الشريف لِتوزيعه على فُقراء مكَّة والمدينة المُنوَّرة، كما عُرف عنهُ تديُّنه وحرصه على تطبيق مبادئ الشريعة الإسلاميَّة.
لقد مرت الأمة الإسلامية بفترات طويلة من القوة والضعف، والفتية والشيخوخة، ثم النهوض لتعود لمرحلة الشباب مرة أخرى بقوة وبأس شديدين في دورة حياة الأمم، ومن فترات المحن التي مرت بالأمة الإسلامية، كانت الفترة التي تلت معركة أنقرة التي انهزم فيها السلطان بايزيد الصاعقة، ووقع في الأسر على يد تيمورلنك، حيث تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة، مثلما حدث بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ ذلك لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قستموني وصاروخان وكرميان ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد، حيث كان هدفه الرئيسي هو إشعال نار الفتنة في البلاد كي لا تستطيع أن تقوم مرة أخرى.

حياته قبل السلطنة

تنص بعض المصادر العربيَّة على مولد مُحمَّد چلبي بمواليد مختلفة ولكن الاصح سنة 1389م. كان مُحمَّد چلبي ثالث أولاد السُلطان بايزيد الأوَّل، أنجبه من زوجته دولت خاتون بنت عبد الله، على أنَّ الأخيرة لم تحمل لقب «السُلطانة الأُم» في المُؤلَّفات العُثمانيَّة كونها تُوفيت قبل ارتقاء ابنها عرش السلطنة. لقد تلقَّى مُحمَّد الأوَّل تعليمه على يد نُخبة من المُدرِّسين والعُلماء الذين عيَّنهم والده لِتأديبه وتربيته، في كُلٍ من السراي الجديدة الأميريَّة في أدرنة، ثُمَّ في مدارس بورصة وقصرها السُلطاني، وكان من أبرز مُعلميه: بايزيد باشا الأماسيالِّي (الذي أصبح صدرًا أعظمًا فيما بعد)، وحمزة بك التوقادلي كما ذكرنا.
لقد اصطحب بايزيد أبناءه معه خِلال حملته على إمارات بحر البنطس (الأسود) الأناضوليَّة في سنة 1391م، وذلك لمَّا ثار صاحب إمارة قسطموني سُليمان الجندرلي على الدولة العُثمانيَّة، بِفعل خشيته من نجاح العُثمانيين في توحيد الأناضول ما يُهدِّد إمارته، فتحالف مع القاضي بُرهانُ الدين أحمد، أمير سيواس، وانضمَّ إليهما أميرا مُنتشا وصاروخان، وأبدى الجميع استعدادهم بِمُساعدة علاء الدين أمير القرمان، الذي كان قد هرب من قونية بعد سُقُوطها بِيد العُثمانيين لِيحتمي في هضبة «طاش إيلي» في قيليقية، ما دفع السُلطان بايزيد إلى تبريد الجبهة القرمانيَّة والتفرُّغ لِلجبهة الشماليَّة، فدعا الأمير القرماني وأمَّنهُ وأخبرهُ بِأنَّهُ سيترك قسمًا من الإمارة لهُ، شرط الإخلاص لِلعُثمانيين وعدم الخُرُوج على تبعيَّتهم، فوافق علاءُ الدين. بع ذلك هاجم بايزيد إمارات بحر البنطس (الأسود) في الشرق والوسط، فضمَّ إمارة قسطموني في شهر رجب سنة 793هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) سنة 1391م وقتل أميرها سُليمان الجندرلي، وهاجم سينوپ بحرًا في السنة التالية، واستولى على مُدن صامصون وجانيت وعُثمانجق، وشرع بعد ذلك في إخضاع القاضي بُرهانُ الدين أحمد، فأرسل ابنه مُحمَّدًا على رأس جيشٍ لاستخلاص مدينة أماسية، لكن أي اصطدام جدِّي لم يحصل بين الطرفين، إذ فضَّل القاضي الانسحاب أمام الجيش العُثماني القوي، فضمَّ مُحمَّد، باسم أبيه بايزيد، أماسية وسيواس وتوقاد إلى الممالك العُثمانيَّة. وانضمَّ إليه الأُمراء الصغار في المنطقة واعترفوا بِسيادة العُثمانيين عليهم. بِهذا النجاح، برهن مُحمَّد چلبي عن حُسن قيادته العسكريَّة، كما أثبت قُدرته الإداريَّة عندما دخل أماسية وعمل على تنظيم أُمورها، لِذلك قرر والده تعينه واليًا عليها، بعد أن جعلها عاصمة إيالةٍ جديدةٍ هي إيالة الرُّوم.

الوضع بعد معركة أنقرة

كان الوضع بعد معركة أنقرة مأسويًا لأقصى الدرجات؛ إذ تمزقت الدولة على نحو كبير، وتصارع الأبناء وانتهز الأعداء الفرصة للانقضاض على الدولة، سواء من الداخل أو من الخارج، فتشتت الدولة وتجزأت أوصالها، ناهيك عن كون كل أمراء التركمان يسعون بكل جد واجتهاد لنيل رضاء تيمورلنك، بل وعيّن تابعه المخلص «طهارتن» في حكم أرزينجان وزاد في أملاكه، وفعل مثل ذلك مع تابعه الآخر «عثمان قرايلوك»، حاكم ديار بكر وزعيم الآق قويونلي.
وبعد استقلال الأمراء التركمان، تشجع كل من البلغار والصرب والفلاخ على الخروج عن الدولة وإعلان العصيان، وبالتالي لم يبقَ للدولة العثمانية إلا قليل من البلدان تحت سيطرتها، وقد أتاحت موقعة أنقرة وهزيمة آل عثمان، الفرصة الكبيرة للدولة البيزنطية لالتقاط الأنفاس، بعد أن كانت على وشك فتح أبواب مدينة القسطنطينية، الأمر الذي مهّد الطريق للمؤامرات على الدولة العثمانية من جديد، والاستعداد بحملة عسكرية لإجلائهم بالكامل من أوروبا. ولكن خلافات زعمائهم جنوب الدانوب وضعف هذه الحملة كانت سببًا لفشلها، وإن كان قد بدأ بالفعل الإمبراطور البيزنطي بطرد المسلمين من الحي المخصص لهم في القسطنطينية.
أما الذي زاد من شدة الفتنة أن رؤوس الأمر في تصارع وتناحر شديدين، فكل أولاد بايزيد يتصارعون لأخذ السلطة، كلٌ على طريقته؛ «فسليمان بن بايزيد»، الذي انسحب من المعركة مع عدد وفير من الجند إلى بورصة لإنقاذ الأموال والنساء والأولاد من القوات التيمورية التي كانت تتعقبه، قد وجه أنظاره نحو الغرب الصليبي البيزنطي، حيث عقد محالفة مع «مانويل الثاني» ليساعده على محاربة إخوته الذين ينافسونه على الحكم. ولأجل ذلك، تزوج سليمان من إحدى قريبات الإمبراطور، بل وعقد معاهدة مع الوصي على العرش «جان السابع» والجمهورية البندقية والجمهورية الجنوية، وهم من أشد أعداء الدولة العثمانية وأكثرهم رغبة في إجلاءها من أوروبا بالكامل، وتتضمن تلك الاتفاقية وجوب فتح المعابر في السلطنة لتجارتهم، وبالتالي موافقة السلطان على عدم دخول السفن العثمانية إلى الدردنيل أو الخروج منه دون إجازة منهم. بل وتنازل سليمان فيها عن “سالونيك” ومنطقتها التي كانت سقطت بيد القائد العثماني «أفرقوس بك»، وإعفاء الإمبراطور البيزنطي والجاليات الجنوية في البحر الأسود من الضريبة المفروضة عليهم.
وكان تحالف سليمان يضم بجانب الإمبراطور البيزنطي، كلًا من فرسان القديس يوحنا في رودس، و«أسطفان لازار» الصربي، وحاكم ناكسوس وجنوه، وفي الوقت الذي أعلن فيه سليمان نفسه سلطانًا على الروميلي متخذًا أدرنة عاصمة له، كان إخوته «عيسى» و«موسى» و«محمد» يتناحرون في الأناضول سعيًا لتحقيق الغلبة المطلقة هناك. ولأجل زيادة الشقاق والخلاف، فقد عمد أمراء الأناضول والدولة البيزنطية إلى توسيع هوة الخلاف بين الإخوة ومساعدة أحدهم على الآخر من أجل عدم استعادة الدولة هيبتها مرة أخرى، ولتصبح مجرد تابع إلى حين تأتي الفرصة لطردهم جميعًا من أوروبا.
لذلك؛ لما تُوفي السلطان بايزيد ـ رحمه اللّه ـ وأُرسِل جثمانه إلى ابنه موسى ليدفنه في بورصة ـ كما كانت وصية والده، غادرها أخوه عيسى، ولكنه استعادها بعد ذلك؛ ما جعل موسى مضطرًا للجوء إلى خاله «يعقوب بك ابن كرمان» في كوتاهية؛ فحُجزَ هناك، ولم يستطع الخروج منها إلى أن استطاع بعد ذلك أن يحرره ويفك أسره أخوه «محمد جلبي». وكان عيسى قد استقر في “باليكسير” و”بورصة”، واستقر محمد جلبي الذي وطد مقامه في “أماسيا” و”توقات” و”نيكحصار” و”سيواس”، وعرض محمد جلبي تقسيم الأناضول فيما بينه وبين عيسى حقنًا للدماء فرفض؛ فكان لا مفر من المواجهة بين الفريقين، وكان سليمان في ذلك الوقت مكتفيًا بمساعدة عيسى على أخيه محمد دون تدخل بقواته بشكل فعلي، وحدثت الموقعة بين الفريقين عند “أولوباد” التي هُزم فيها عيسى، وفر هاربًا والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطي الذي سلمه لأخيه الأكبر سليمان في “أدرنة”، ثم سعى لإعادته مرة أخرى إلى الأناضول ليواجه محمد جلبي كي لا ينفرد بالحكم. وفي ذلك الوقت، سعى محمد جلبي إلى فك أسر أخيه موسى من الكرمان كي يساعده في حربه ضد إخوته، إي أن الوضع في ذلك الوقت محتدم بشدة وإلى أقصى الدرجات.
والذي نحمد اللّه عليه أن تيمورلنك انشغل بحملته على الصين؛ ما أبعده عن الدولة العثمانية، إذ كانت لديه القدر الكافي للقضاء عليها تمامًا، وكأن اللّه أراد أن يمنح هذه الدولة فرصة أخرى ومنحة جديدة لتساهم في نشر دين اللّه تعالى وتستكمل مسيرة الفتوحات.

تولِّيه إيالة الرُّوم

تولَّى مُحمَّد چلبي إيالة الرُّوم ما بين سنتيّ 1391 و1402م، مُكتسبًا خِلال هذه الفترة مزيدًا من الخبرة والمهارات الإداريَّة الضروريَّة، ولمَّا أحسن حُكم الإيالة وأصلح شُؤونها، ازدهرت عاصمتها أماسية وأصبحت أهم مُدن الحُدود الشرقيَّة لِلدولة العُثمانيَّة. ومُنذ ذلك الحين وحتَّى عهد السُلطان مُراد الثالث، دأب سلاطين بني عُثمان على إرسال أبنائهم إلى أماسية لِيتدربوا على شؤون الحُكم. خِلال هذه الفترة، كان السُلطان بايزيد قد تمكَّن من توحيد الأناضول وضمِّه كاملًا تحت الراية العُثمانيَّة، كما كان قد هزم حملةً صليبيَّة كبيرة في أوروپَّا جُرِّدت في مُحاولةٍ لِدفع المُسلمين خارج البلقان، وكان يُحاصر القُسطنطينيَّة أيضًا مُحاولًا فتحها، وقد شارك مُحمَّد چلبي في بعض هذه الحملات العسكريَّة، خُصوصًا تلك التي جرت في الأناضول، وولَّاه أبوه إمارة بعض الجُيُوش في بعض الأحيان. يُعتقد أنَّ ما ساعد مُحمَّد چلبي على اكتساب مهاراته الإداريَّة والسياسيَّة خلال فترة ولايته في أماسية، كان لُجوء كبار المُستشارين والساسة المغول الإلخانيين إلى بلاطه بُعيد انهيار الإمارات التُركمانيَّة الأناضوليَّة التي كانوا يعملون في خدمة أُمرائها الذين استقلُّوا عن إلخان فارس سنة 1335م بُعيد انهيار الدولة الإلخانيَّة. فلمَّا ضمَّ مُحمَّد تلك الإمارات الصغيرة، التحق به ساستها واعترفوا بِسُلطته. وكان هؤلاء الساسة واسعي الاطلاع على شؤون القبائل التُركمانيَّة وأساليب حُكم الأُمراء التُركمان في شرق الأناضول، واجتمعت لديهم خبرة سنين طويلة في إدارة دفَّة تلك الإمارات تحت راية حُكَّامها، فتشرَّبها الشاهزاده العُثماني منهم طيلة سنيّ حُكمه الإحدى عشر.

اعتراف الخِلافة العبَّاسيَّة والسلطنة المملوكيَّة بِمُلك مُحمَّد الأوَّل

مسجد المؤيد شيخ، السُلطان القائم على العرش المملوكي يوم تربَّع مُحمَّد چلبي على عرش آل عُثمان، في القاهرة. امتازت العلاقات العُثمانيَّة المملوكيَّة بِالود والتقارب الشديدين، مُنذُ أن قامت الدولة العُثمانيَّة وأخذت على عاتقها فتح بلاد البلقان ونشر الإسلام في رُبُوعها، وخطب السلاطين العُثمانيين ودَّ السلاطين المماليك باعتبارهم زُعماء العالم الإسلامي والقائمين على حماية الخِلافة الإسلاميَّة، واعترفوا لهم بِالأولويَّة السياسيَّة والدينيَّة، بينما خطَّطوا لِأنفُسهم دورًا مُتواضعًا هو دور البكوات حُماة حُدود ديار الإسلام. هذا وقد ظلَّ المماليك ينظرون إلى تحرُّكات العُثمانيين الجهاديَّة كجُزءٍ من المسألة الإسلاميَّة العامَّة. وعلى الرُغم من أنَّ العلاقات المملوكيَّة العُثمانيَّة عرفت بعض الجفاء خِلال عهد بايزيد الأوَّل بِسبب طُمُوحاته التوسُّعيَّة، إلَّا أنها سُرعان ما عادت إلى سابق عهدها عند جُلُوس ابنه مُحمَّد، الذي كان عليه أن يحصل على مُباركة ومُوافقة كُلٍ من الخليفة العبَّاسي المُقيم بِالقاهرة والسُلطان المملوكي على تولِّيه عرش آبائه وأجداده بِصفته سُلطان بني عُثمان الأوحد، خاصَّةً بعد الفوضى والاقتتال الذي جرى نتيجة أسر السُلطان بايزيد ووفاته. وصودف في تلك الفترة أن تولَّى عرش الدولة المملوكيَّة سُلطانٌ جديد هو أبو النصر شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري، فأرسل إليه السُلطان العُثماني كتابًا بِاللُغة العربيَّة، حُرِّر بيد قاضي قصبة إینه‌گول في أواسط ذي الحجَّة سنة 817هـ المُوافق فيه أواخر شُباط (فبراير) سنة 1415م، يُهنأه فيه ويدعو له بِدوام المُلك والعزَّة، ويُخبره بانتصاره وانفراده بِحُكم بلاد آبائه، ويُعلمه أنَّ تحالفه مع الإمبراطور البيزنطي ضدَّ أخيه موسى كان لِدفع الفتنة وتوحيد كلمة المُسلمين، وأرسل له أقمشة فاخرة كهدايا. أمَّا نص الرسالة فهو:
بسم الله الرحمن الرحيم

(أدام الله تعالىٰ عزَّ الجناب العالي العالمي العاملي العادلي الكبيري العوني الغوثي الغيَّاثي النظامي الهمَّامي المُشيدي المُنعمي المُفضلي النصيري المُرابطي الأوحدي الأمجدي الكاملي الكافلي مُحيي مراسم الإسلام، مُبدي الشرائع والأحكام، قاتل الطُغاة وأعداء الدين، ناصر الغُزاة والمُجاهدين، لا زال جنابه الرفيع منبع الشرف الجم ومطلع المجد الأشمّ، محفوفًا بِدولةٍ لا يتهدَّم دارها، وعزَّةٍ لا ينفصم آثارها، المُحب المُخلص الوارث لِمحبَّة المجالس الشريفة، والمقار المُقدَّسة المُنيفة، الحامي بِسُكَّان الحرمين الشريفين من آبائهم العظام، نوَّر الله مضاجعهم، الباذلين حال الحبوة مهجعهم في إعلاء كلمة الله وقهر أعدائه، بعد تقديم محبَّة أصبحت مُنوَّرة بِأنوار الوفاء والإخلاص الصافي، وأضحت مُحجَّلة بِصفاء الولاء والاختصاص الوافي، وأزهرت بِصدق الطوية رياضُها، وامتلأت من زُلال المحبَّة حياضها، ورفع أدعيةً صالحةً مُستجابةً شريفة، وعرض أثنية خالصة مُستطابةً لطيفة، يُنهى ويُبدلى لِعلمه الشريف:
إنَّ سبب التأخير في إرسال الكتاب إلى ذلك الجناب وُقُوع الفترة وامتداد المُنازعة بيننا وبين الإخوان، أصلح الله شأنهم، لا سيَّما كثرة المكر، ووفرة الاحتيال الصادر عن تكفور القُسطنطينيَّة، لعنه الله ودمَّره، ومُعاونته لهم وتحريكه إيَّاهم، فلمَّا يسَّر الله لنا في هذه الأيَّام الفُرصة والنصر وبرخًا من [...] الانتقام بِلُطفه الشَّامل العام، جدَّدنا رُسُوم آبائنا العظام وأجدادنا الكرام، أنار الله براهينهم إلى يوم القيام، في إرسال الرُّسل والرسائل إلى عتبتكم العليَّة وسُدَّتكم السُنيَّة، فجهَّزنا قدوة الأماجد والمُقرَّبين مولانا قوَّامُ المُلك والدين، دام فضله، القاضي يومئذٍ بِقصبة إینه‌گول من أعمال بورصة المحميَّة، صانها الله عن الآفات والعاهات والبلبلة، لِتجديد قواعد المحبَّة القديمة، وتمهيد مراسم المودَّة المُستقيمة، بِالرسالة المُنبئة عن خُلوصٍ الطويَّة، والآن يُؤدي نيابة من حضرتنا البهيَّة تهنئة جُلُوسكم على سرير السلطنة في نفس القاهرة، ويُعظِّم في التكاليف العاديَّة الملكيَّة المُلوكيَّة، وينقل عنَّا كلمات الألفة وحكايات الصداقة، كما قرأنا عليه وقرَّرنا إليه بلا زيادة ولا نقيصة، وأصدرنا معه بِرسم الهديَّة من الأقمشة المُتنوعة الروميَّة خمس طقوزات، ومن الإفرنجيَّة ثلٰث طقوزات، ومن العجميَّة بوقجتين، فالمأمول من كرمكم القبول حين الوُصُول، وأن تلتفتوا إلى القاصد المذكور، وتُعيدوه بِالخير الموفور، وتُعلنوا به أخبار سلامتكم وآثار صحتكم، وكيفيَّة أطواركم اللطيفة المُنيفة، والأجوبة المُطابقة لِأسئلتنا الخفيَّة، الله يُؤيدكم وينصُركم إلى قيام القيامة، وجعلنا وإيَّاكم من الهادين المُهتدين غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين.
حُرِّر في أواسط شهر ذي الحجَّة الحرام سنة سبع عشر وثمانمائة
»ولم يتأخَّر السُلطان المملوكي بعد أن سلَّمه قاضي إینه‌گول رسالة السُلطان مُحمَّد عن كتابة رسالةٍ جوابيَّةٍ إليه وصفه فيها بِـ«سُلطان الإسلام والمُسلمين.. نصيرُ أمير المُؤمنين»، والمقصود بِأمير المُؤمنين الخليفة العبَّاسي المُقيم في القاهرة. ودلَّت رسالة السُلطان المملوكي أنَّهُ والخليفة العبَّاسي يتمنون القضاء على بقايا الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وإلحاق أراضيها بِالدولة العُثمانيَّة، كما أكرم السُلطان وفادة المبعوث العُثماني وعيَّن أحد الأُمراء وهو قرطباي الخاصكي لِيُرافقه في القاهرة. كما أهدى السُلطان المملوكي هو الآخر لِلسُلطان العُثماني هدايا تليق بِمقامه، وعيَّن رسولين لِإيصالها. أمَّا نص الرسالة فهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنمنمة عُثمانيَّة يُحتفظ بها في جامعة إسطنبول تُصوِّرُ السُلطان مُحمَّد ومُستشاريه وبعض السُفراء المماليك.
(حامدًا لله ومُصليًا على نبيِّه مُحمَّد وآله وصحبه، أعزَّ الله تعالىٰ أنصار المقر الكريمي الأعلمي الأعدلي الأمجدي المُثاغري المُرابطي الظهيري النصيري العوني الغوثي الغيَّاثي الإمامي الهمَّامي المُجاهدي الأعزِّي المُعزِّي، سُلطان الإسلام والمُسلمين، ملاذ الغُزاة والمُجاهدين، قاتل الكفرة والمُشركين، نصيرُ أمير المُؤمنين، المُؤيَّد من عند الله الملكُ الصَّمد، مُمهد الدولة والدين، السُلطان مُحمَّد، خلَّد الله تعالىٰ ظلال عدله وإحسانه على مفارق الأنام بِالعزَّة الأبديَّة والسعادة السرمديَّة بِحق صفته الأحديَّة ذي الجلال والإكرام، وبعد:
فلمَّا ورد كتابكم الشريف وخطابكم المُنيف عن يد قُدوة الأماجد والمُقرَّبين، مولانا قوَّامُ المُلك والدين من جُملة قُضاتكم، زيدت فضائله في أحسن الزمان وأطيب الأوان، أخذناه بيد المحبَّة، وقبلناه بِشفاء المودَّة إثر تعظيم القاصد المزبور، وتفخيم المولى المذكور، فقرأناه من أوَّله إلى آخره، واطلعنا ما في باطنه وظاهره، وفرحنا من غلبتكم على العدوان، بِعون الله الملك المنَّان، خُصوصًا عن دفع مكائد التكفور الكفور الوالي بِقُسطنطينيَّة، دمَّرها الله وسخَّرها، وجعل مُلكه وسلطنته مُنتقلة إلى سُدَّتكم العليَّة وعَرَصَتكم الإسلاميَّة، ورفع ظُلمة الفترة بِطُلُوع شمس إقبالكم على تلك المملكة، وانعكس مرآة سُروركم إلينا، وانكشف عنها جمالُ المحبَّة لدينا، وتلألأ مصابيح الاتحاد، وتضأضأ قناديل الوداد، وبششنا زيادة البشاشة عن تشييد مراسم المحبَّة والتهنئة، وشُرِّفنا غاية الشرافة عن تلزيم لوازم المودَّة البهيَّة، وعظَّمناه غاية التعظيم، وكرَّمناه نهاية التكريم، وقُلنا له بيت:
عباراته في النَّظم والنثر كُلُّها غرائبٌ تصطادٌ القُلُوب بدائعُ
وصرنا محظوظين من الهدايا المُتبرَّكة، والخطابات المُختفية، وأجرنا الرسول المُشار إليه بِكمال الرعاية مع رفاقة الأميري الأمجدي الأكرمي قرطباي الخاصكي، دام عزُّه، وبِالخير أعاده، وأرسلنا معهُ الفرسين الجيدين، والسّرجين المُتخذين من الذهب والفضَّة، وخمس طقوزات من الأقمشة المصريَّة، وأربع طقوزات من الأمتعة الهنديَّة والإسكندريَّة، فالمرجو من ألطافكم الحميمة أن تقبلوها بِأخلاقكم الكريمة، وأن تُفتشوا المُشافهات عنهما، وتُرخِّصوا رسولينا بعد التفحُّص منهما بِالخير والسلامة، وأن تفتحوا أبواب المُكاتبات، وتُهيؤوا أسباب المُراسلات، لئلَّا يُنسج بيننا عناكب النسيان في بُيُوت الحدثان وزوايا الملوان، ختم الله لكم ولنا بِالخير والحُسنى، وأدامكم لِسد الثُغُور الإسلاميَّة في الدُنيا، وحشركم مع الشُهداء والصالحين والغُزاة والمُجاهدين في العُقبى بِحق سيِّد الأنبياء وسند الأصفياء مُحمَّدٍ المُصطفى عليه التحيَّة والثناء وعلى آله وصحبه نُجُوم الهُدى ورُجُوم العدى وسلَّم تسليمًا دائمًا أبدًا. حُرِّر في أوائل شهر شعبان المُعظَّم سنة ثماني عشرة وثمانمائة).

مُسالمة البيزنطيين والأوروپيين

قيصر الروم الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني. سالمهُ السُلطان مُحمَّد الأوَّل في سبيل الانصراف إلى لملمة شتات دولته المُمزقة. كانت الأعباء المُلقاة على عاتق السُلطان الشاب كبيرة، وفي مُقدمتها إعادة الأمن والاستقرار المفقودين إلى دولته، فاتبع سياسة السلم والمُهادنة مع القوى المُجاورة، لِإبعاد دولته التي تمر بِمرحلة النقاهة عن الأخطار ولِينصرف إلى لملمة أجزائها التي كادت تتبعثر. فخاطب مبعوثي جُمهُوريَّات البُندُقيَّة وجنوة وراگوزة، ومُمثلي الصرب والأفلاق والأرناؤوط، الذين جاءوا يُباركون انتصاره وتربُّعه على العرش قائلًا: «قُولُوا لِحُكَّامِكُم وَأُمَرَائِكُم إِنِّي أُرِيدُ السَّلَامَ مَعَهُم، وَالذِي لَا يُريدُ السَّلَامَ فَخَصمُهُ الله رَاعِي السَّلَام الأَكبَر». ويُروى أنَّ الإمبراطور البيزنطي لمَّا قدَّم الدعم لِمُحمَّد چلبي ضدَّ أخيه موسى، كان قد أبرم معهُ مُعاهدةً في أُسكُدار نصَّت على تعهُّد مُحمَّد لِلإمبراطور البيزنطي بِإعادة جميع الأراضي التي استولى عليها موسى من بيزنطة، الواقعة بِجوار القُسطنطينيَّة وسالونيك، مُقابل مساعدة الإمبراطور له في العُبُور إلى الروملِّي وتقديم المُساعدة العسكريَّة عند الضرورة. لِذلك، أرسل الإمبراطور البيزنطي وفدًا إلى مُحمَّد الأوَّل لِتقديم التهنئة بانتصاره، والطلب منه إعادة الأراضي التي سيطر عليها موسى چلبي من الروم. ولمَّا كان السُلطان العُثماني حريصًا على المُحافظة على مُحالفة إمبراطور الروم في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الدولة، ويُدركُ أنَّهُ لولا مُساعدته له لخيف على عرى الدولة من الانفصام، فقد قبل أن يرُدَّ لهُ البلاد التي فتحها أخوه موسى على ساحليّ البحرين الأسود ومرمرة، كما أعاد إليه ضواحي سالونيك. وتذكر المصادر الغربيَّة بأنَّ السُلطان مُحمَّد خاطب مبعوثي الإمبراطور البيزنطي قائلًا: «بَلِّغُوا تَحِيَّاتِي إِلَى وَالِدِي الإِمبَرَاطور الذي بِمُسَاعَدَاتِهِ الفِعلِيَّةِ لِي تَمَكَّنتُ مِن اعتِلاءِ عَرشِ وَالِدِي، سَوفَ أَبقَى مُطِيعًا لَهُ طَاعَةَ الوَلَدِ لِأَبِيهِ». وقد أكَّد السُلطان مُحمَّد سياسته السلميَّة تجاه جيرانه الأوروپيين خوفًا من ظُهورٍ خطرٍ صليبيٍّ ضدَّ بلاده في تلك المرحلة الحسَّاسة، فاتبع سياسةً مرنةً مع القوى الأوروپيَّة، وأقام علاقاتٍ وديَّةٍ مع أُمراء الصرب والأرناؤوط ودلماسية والأفلاق والبُلغار ويانية، ومع أمير المورة البيزنطي تُيُودور پاليولوگ بن يُوحنَّا الخامس، شقيق الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل. أثمرت سياسة السُلطان مُحمَّد السلميَّة سريعًا، إذ رفض الإمبراطور البيزنطي إيواء الشاهزاده أورخان بن سُليمان في القُسطنطينيَّة، عندما بدأ يُعلن حقَّهُ في عرش آل عُثمان بِصفته وليّ عهد أبيه، الذي كان من وجهة نظره السُلطان الحق كونه أقام في العاصمة أدرنة وكان أوَّل من بويع بين إخوته بعد وفاة السُلطان بايزيد، وأيَّده في ذلك جماعة من المُتمردين على حُكم السُلطان الجديد. رأى الإمبراطور أنَّ مصلحته تقتضي الحفاظ على السلام القائم مع السُلطان مُحمَّد الذي ما يزال قادرًا عليه رُغم ما حل بِدولته من مصائب. سهَّل موقف الإمبراطور البيزنطي من الشاهزاده المذكور من عمليَّة القضاء عليه، فلمَّا أحسَّ أورخان بانعدام فُرصة مُساعدته، غادر القُسطنطينيَّة قاصدًا الأفلاق، وعند وُصوله إلى قصبة «قرين آباد»، اعترضته فرقة عسكريَّة من الآقنجيَّة، ومنعوه من مُتابعة التقدُّم. عند هذه النُقطة، ساق السُلطان مُحمَّد الأوَّل جيشًا لِلقضاء على ابن أخيه ومن والاه من العُصاة، فلقيهم وقاتلهم وأنزل بهم هزيمةً مُنكرة، وأُلقي القبض على أورخان بن سُليمان وسُلِّم إلى السُلطان مُحمَّد، الذي أمر بِسمل عينيه لِيمنعهُ من تكرار فعلته أبدًا، وأرسلهُ منفيًّا إلى بورصة. تنص بعض المصادر أنَّ من ألقى القبض على الشاهزاده المُدعي بِالحق في العرش كان الإمبراطور البيزنطي نفسه، الذي رغب ـ بحسب الظاهر ـ أن يُظهر حُسن نواياه تجاه السُلطان العُثماني، فسلَّمه ابن أخيه لِيظهر أمامه بِمظهر الحليف الوفي صائن العُهُود. بعد هذه الحادثة التي أقلقت مضجع السُلطان ووجهت أنظاره ناحية الروملِّي، ساد الهُدوء على الحُدود الغربيَّة لِلدولة العُثمانيَّة حتَّى حين، وأصبح بِإمكان السُلطان مُحمَّد التركيز على حل المُشكلات السياسيَّة بِالأناضول، وأوَّلُها عصيان الأمير القرماني.

الحرب في الأناضول والحصار القرماني لِبُورصة

قضى السُلطان مُحمَّد چلبي على إمارة صاروخان خِلال دور الفترة مُنذ سنة 1410م، واعترفت أكثريَّة الإمارات التُركمانيَّة الأناضوليَّة التي أحياها تيمورلنك بِسيادة بني عُثمان عليها مُنذُ عهد الفترة، لكن رُغم ذلك فإنَّ الأراضي التي كانت تحت حماية أو حُكم العُثمانيين في سنة 1413م، تراجعت مساحتها بِمقدار 247,000 كيلومتر مُربَّع عمَّا كانت عليه في عهد السُلطان بايزيد الأوَّل سنة 1402م، وهذه خسارةٌ كبيرة لا يُستهان بها. بلغت مساحة الأراضي الخاضعة لِحُكم مُحمَّد چلبي في سنة 1413م نحو 694,000 كيلومتر مُربَّع، منها 368,000 كلم2 في الأناضول و376,000 كلم2 في الروملِّي، تدخل ضمنها بلاد إمارات تكَّة وآيدين وذي القدريَّة والأفلاق والصرب وراگوزة. أمَّا إمارات كرميان وجندرلي ومُنتشا والقرمان، فقد كانت تدعي الاستقلال تمامًا أو تعترف بِسيادة بني تيمور. وكانت إمارة القرمان أشد تلك الإمارات نزعةً نحو الاستقلال ولطالما كان موقف حُكَّامها تجاه العُثمانيين مُتقلِّبًا، إذ كانت ترمي إلى إحياء سلطنة سلاجقة الروم عبر ضم جميع الإمارات التُركمانيَّة الأناضوليَّة تحت جناحها، لِذلك اتخذت تلك الإمارة موقفًا مُعاديًا من العُثمانيين خِلال فترة توسعاتهم في آسيا الصُغرى، وأذعنت لهم وحالفتهم لمَّا أيقنت عدم قُدرتها على مُقارعتهم، ثُمَّ عاد أُمرائها وأشهروا العصيان في أقرب فُرصة مُمكنة، ولم يتغيَّر الأمر في عهد السُلطان مُحمَّد الأوَّل، فعلى الرُغم من أنَّ الأمير القرماني ناصرُ الدين مُحمَّد بك كان قد أعلن تبعيَّته لِلسُلطان العُثماني خِلال دور الفترة، إلَّا أنَّه استغلَّ انشغال الأخير في توطيد حُكمه ومُحاربته أخيه موسى ثُمَّ ابن أخيه أورخان في الروملِّي، فهاجم إمارة كرميان وحاصر عاصمتها كوتاهية، التي لم تلبث أن سقطت بيده ومعها سائر بلاد الكرميانيين بحلول سنة 1411م، فاضطرَّ الأمير الكرمياني يعقوب بك بن عُمر إلى الهُروب من أمام خصمه، والتجأ إلى العُثمانيين في بورصة. مكث يعقوب بك في البلاط العُثماني حوالي سنتين حتَّى استتب الأمر لِلسُلطان مُحمَّد الأوَّل، وحينها أعلن خُضُوعه له، وتبعيَّة الإمارة الكرميانيَّة لِلدولة العُثمانيَّة، مما أثار غضب ناصر الدين مُحمَّد القرماني، فاجتاح الأراضي العُثمانيَّة المُجاورة لِإمارته حتَّى وصل بورصة وضرب الحصار عليها سنة 817هـ المُوافقة لِسنة 1414م. دام الحصار القرماني لِبُورصة أربعة وثلاثين يومًا وفق بعض الروايات، ووفق رواياتٍ أُخرى فقد استمرَّ 31 يومًا. دافع صاحب المدينة، الحاج عوض باشا، دفاعًا مُستميتًا، وردَّ هُجومات القرمانيين في كُلِّ مرَّة، حتَّى يأس ناصر الدين مُحمَّد من الاستيلاء على العاصمة العُثمانيَّة العتيقة، فصبَّ جام غضبه وبأسه على تُربة السُلطان بايزيد الأوَّل، فقام بِعملٍ شنيعٍ أثار حفيظة المُسلمين، إذ نبش قبر بايزيد المُتوفي قبل 10 سنوات، وأخرج رُفاته وأحرقها. وأثناء ذلك كانت وحدة عُثمانيَّة صغيرة تجلب نعش موسى چلبي إلى بورصة لِيُدفن بِجوار أجداده، فظنَّ الأمير القرماني أنَّ هذه الوحدة طليعة الجيش العُثماني الآتي لِنجدة المدينة، ولم يُصدِّق أنَّ مُحمَّد چلبي قد انتصر على شقيقه موسى وقتله، إلَّا بعد أن كُشف عن وجه جُثمان موسى، فامتلأ الأمير القرماني رُعبًا ورفع الحصار عن المدينة فورًا، وأعطى أمر الانسحاب. تنقل بعض المصادر روايةً مفادها أنَّ قائدًا عسكريًّا قرمانيًّا من خاصَّة الأمير ناصر الدين لم يتمالك نفسه بعد إعطاء أوامر الانسحاب، فقال لِسيِّده: «أَيُّهَا الأَمِير، هَرَبتَ مِن ابنَ عُثمَانَ المَيِّت، فَمَاذَا كُنتَ تَفعَل لَو كَانَ القَادِم ابنَهُ الحَي؟» فأُعدم هذا القائد شنقًا في الحال لِجُرأته على هذا القول.

الحرب في أوروپَّا وفُتُوحات الأرناؤوط

بعد انتهاءه من قضايا آسيا الصُغرى، يمم مُحمَّد الأوَّل وجهه شطر الروملِّي مُجددًا، لاستعادة هيبة الدولة العُثمانيَّة في الأرناؤوط، لا سيَّما أنَّ أُمرائها ووُجهائها قد أجبروا بعض الحاميات العُثمانيَّة على مُغادرة البلاد، مُستغلين مُدَّة ضعف الدولة وانشغالها في حرب الإخوة ومن ثُمَّ النزاعات في الأناضول. لِذلك، قرَّر السُلطان استهدافها أولًا، فهاجم مدينة آقچة حصار، الواقعة في مركز المناطق الجبليَّة، واستعادها لِلمُسلمين في سنة 1415م، رُغم مناعة استحكاماتها العسكريَّة، وكان الأمير الأرناؤوطي «نيكيتا طوپيا» قد أخرج الحامية العُثمانيَّة من هذه المدينة سنة 1403م، بعد أن انتزعها من شقيقته هيلانة، التي كانت تُدينُ بِالولاء لِلعُثمانيين. كذلك، سيطر السُلطان على كُل أراضي الإمارة الكستريوتيَّة، معقل مُلُوك وأُمراء الأرناؤوط، وأنزل بِأمير تلك الناحية، المدعو يُوحنَّا كستريو، هزيمةً ساحقة، فطلب الأمير المذكور الأمان، وأعلن طاعتهُ لِلسُلطان ودُخوله في تبعيَّته، فكافأه الأخير بأن سمح لهُ بِحُكم بلاد آبائه باسم السلطنة العُثمانيَّة، واصطحب معهُ ابنه الأصغر جرجس (عُرف لاحقًا يِإسكندر بك) البالغ من العُمر 18 سنة، لِيُقيم في البلاط العُثماني بِأدرنة لِضمان التزام والده بِبُنود الاتفاق مع العُثمانيين. ويبدو أنَّ جرجس المذكور أصبح من خاصَّة غلمان الشاهزاده مُراد بن مُحمَّد، فصادقه وقرَّبه إليه، وأُرسل فيما بعد، مع سائر الغلمان البلقانيين المسيحيين المُقيمين بين ظاهريّ العُثمانيين، إلى مكتب الأندرون، وهو المدرسة العسكريَّة المُخصصة لِتدريب وتخريج الإنكشاريين، ولِتلقين الفتيان المسيحيين أُصُول ومبادئ الإسلام بِالإضافة إلى اللُغتين التُركيَّة والعربيَّة وبعض العُلُوم الضروريَّة.

الحملة البحريَّة على جُزر بحر إيجة

كان البنادقة يحكمون أرخبيل جُزر الكيكلاد مُنذُ عهد الحملة الصليبيَّة الرابعة سنة 600هـ المُوافقة لِسنة 1204م، وكان هدفهم الرئيسي من السيطرة على تلك الجُزر هو تأمين الطريق البحريَّة التجاريَّة المُؤدية إلى الشرق، لِذلك أنشؤوا إلى جانبها مُستعمراتٍ مُتعددةٍ في سواحل الأرناؤوط والمورة واليونان لِتمُدها بالرجال والسلاح والمواد الأوليَّة اللازمة لِضمان صمودها في وجه أعدائها. وشكَّلت هذه الجُزر الهضابيَّة مركزًا عسكريًّا مرموقًا لدى البنادقة، وأسسوا فيها حُكُومةً محليَّة تُدين بِولائها لِلحُكومة المركزيَّة في الوطن الأُم، وتظل مُرتبطة بها على الدوام. اتخذ البنادقة من جزيرة نقشة (ناكسوس) مركزًا لِحُكم هذا الأرخبيل وجعلوا على كُل جزيرةٍ من الجُزر حاكمًا يتبع أمير نقشه، ومن تلك الجُزر جزيرة أندروس التي كان حاكمها في عهد السُلطان مُحمَّد چلبي يُدعى «بُطرس زنون» بالإيطالية Pietro Zeno، ويبدو أنَّهُ تخوَّف من توسُّعات العُثمانيين في الأرناؤوط ومن حركة سُفُنهم في بحر إيجة، خاصَّةً بعد أن سعى السُلطان مُحمَّد إلى تعزيز القُوَّة البحريَّة العُثمانيَّة، فزاد من عدد سُفنه وسعى لِلتضييق على حركة البنادقة في البحر المذكور، مُتحديًا سيطرتهم المُطلقة عليه. تعامل حاكم أندروس مع السُفن العُثمانيَّة بعدائيَّة، وبحسب المُؤرِّخ البُندُقي «مارينو سانوتو الأصغر»، فإنَّ بُطرس زنون أغار على سواحل الدولة العُثمانيَّة وسُفُنها التجاريَّة، مما أثار غضب السُلطان مُحمَّد، ولمَّا كان الحاكم المذكور من جُملة الحُكَّام المحليين الذين لم يقفوا بجانب العُثمانيين أثناء قتالهم الأمير الآيديني جُنيد بك بن إبراهيم، ولم يكن كذلك من ضمن الحُكَّام الذين أقبلوا على السُلطان لِتهنئته والاعتراف بِسلطنته عند انتهاء دور الفترة، فإنَّهُ لم يدخل في قائمة الحُكَّام الأوروپيين الذين شملتهم مُعاهدة السلام العُثمانيَّة، فاستمرَّ السُلطان ينظر إليه بِعين الريبة، فيما بقي هو يُغير على السُفن العُثمانيَّة بين الحين والآخر من تلقاء نفسه، لذلك قرَّر مُحمَّد الأوَّل مُعاقبته على تصرُّفاته، فأمر بإعداد أُسطولٍ في گليپولي، بلغ تعداده 30 سفينة، وأوكل قيادته إلى القُبطان جاولي بك وأرسله لِلإغارة على ممالك البُندُقيَّة. هاجمت السُفن العُثمانيُّة جُزر أندروس وبرَّة وميلوس ووابية، وعادت منها مُحمَّلة بِالأسرى والغنائم، ثُمَّ أغارت على ثغر نجربونت وعادت منه بما بين 1,500 و2,000 أسير بيع مُعظمهم رقيقًا، وقد اضطرَّ البنادقة المُقيمين في المُستعمرات المذكورة، أمام الضغط العُثماني المُتزايد، إلى الطلب من حُكُومتهم المركزيَّة أن تسمح لهم بِالدُخول تحت حماية العُثمانيين ودفع جزية سنويَّة لهم، في مُقابل احتفاظهم بامتيازاتهم التجاريَّة وحق الملاحة في البحار الشرقيَّة، لكنَّ الحُكومة رفضت هذا الطلب بِإجماع أعضائها، وقرَّروا غض النظر عن غارات بُطرس زنون، مما زاد من حدَّة الهجمات العُثمانيَّة على المُستعمرات البُندُقيَّة، فلاحت في الآفاق علائمُ حربٍ عُثمانيَّة بُندُقيَّة.

الحملة على الأفلاق

كانت الإمارة الأفلاقيَّة تخضع لِلسيادة العُثمانيَّة مُنذُ أن قهر السُلطان بايزيد أميرها ميرݘه الأوَّل في معركةٍ طاحنةٍ يوم 26 رجب 797هـ المُوافق فيه 17 أيَّار (مايو) 1395م، وأكرهه على توقيع مُعاهدة يعترف فيها بتلك السيادة ويتعهَّد بِدفع جزية سنويَّة لِلعُثمانيين مع بقاء بلاده له يحكمها بِمُقتضى عادات وقوانين أهلها. ولمَّا وقعت الفوضى بعد وفاة السُلطان بايزيد، وعصى موسى چلبي أخيه مُحمَّد واستقلَّ ببلاد الروملِّي، صاهر الأمير المذكور وتزوَّج ابنته «آرينة»، فدعمه بالرجال والسلاح ضدَّ أخيه مُحمَّد. ولمَّا انفرد السُلطان مُحمَّد بِالمُلك، لم يلتفت ناحية الأفلاق لانشغاله بِوأد المُشكلات والفتن في الأناضول أولًا، ثُمَّ انشغاله بِالأزمة السياسيَّة والحرب مع البُندُقيَّة، وفي تلك الفترة كان ميرݘه قد أشرك معهُ ابنه ميخائيل بِالحُكم، وأصبح الأخير الحاكم الفعليّ لِلبلاد نتيجة مرض والده وانزوائه، فخلع طاعة العُثمانيين واستقلَّ ببلاده مُجددًا مُحتميًا بِسيگيسموند اللوكسمبورغي ملك المجر، قائد حملة نيقوپولس الصليبيَّة زمن السُلطان بايزيد، الذي ظلَّ على موقفه المُعادي لِلعُثمانيين رُغم هزيمته الكبيرة. وأوعز سيگيسموند المذكور لِميخائيل أن يستمرَّ بِعداء المُسلمين رُغم ما كان ينطوي عليه هذا الأمر من خُطُورة فيما لو قرَّر السُلطان العُثماني مُهاجمة الأفلاق، وذلك لِيجعل دولته حاجزًا بين بلاده والدولة العُثمانيَّة، فما كان من ميخائيل إلَّا أن امتنع عن إرسال الجزية السنويَّة المُقررة عليه لِلسُلطان مُحمَّد، ثُمَّ اتحد مع سيگيسموند وسارا بِجيشٍ كبير وسيطرا على مدينة «تورنو سورين» التي فتحها العُثمانيُّون قبل عدَّة سنوات، على أنَّ المدينة لم ترجع لِحوزة الأفلاق هذه المرَّة، بل وضع الملك المجري يده عليها واستخلصها لِنفسه. أمام هذا التحدي، عزم السُلطان مُحمَّد على تأديب الأفلاق، فنهض ونادى بِجمع الجُيُوش لِقتال ميخائيل وأبيه، واستصحب الوحدات التي أرسلها إليه تابعيه أميرا القرمان وجندرلي، واجتاز نهر الطونة (الدانوب) ودخل الأفلاق. أنزل العُثمانيُّون هزيمةً ساحقةً بِالأفلاقيين، وأجبروا الأمير ميخائيل أن يتنازل لِلدولة عن حصن جورجيو وغيره من الحُصُون الواقعة على امتداد نهر الطونة، وأن يدفع كُل المبالغ المُتوجبة على والده طيلة السنوات الثلاث المُنصرمة، كما فرض السُلطان على الأمير ميرݘه جزية سنويَّة مقدارها 3,000 قطعة ذهبيَّة، مُقابل أن يترك لهُ ولولده من بعده حُكم بلادهم ولا يضُمُّها إلى الدولة العُثمانيَّة. وعمل السُلطان على تمتين الروابط العُثمانيَّة الأفلاقيَّة لِيقطع الطريق على أي مُحاولة تمرُّد مُستقبليَّة، فشيَّد قلاع «تورنوه» و«يركوي» و«إيساقجي» و«يني سالة» على الطونة، وكان لِقلعة «يركوي» تحديدًا أهميَّة سوقيَّة واستراتيجيَّة كبيرة، فوُصفت بأنها «مفتاح قلاع الطونة المُسيطرة على الطريق المُؤدي إلى مركز سُهُول المجر»، وكان تشييدُها بِالذات يهدف إلى إخضاع أمير الأفلاق بشكلٍ دائمٍ. واصطحب السُلطان معهُ إبنا ميخائيل، وهُما «رادو» و«ميخائيل الأصغر»، رهائن لِضمان التزامه السلام وعدم الاعتداء، وأُجبر هذا أيضًا على تقديم مُساعدات عسكريَّة لِلجُيُوش العُثمانيَّة وقتما يُطلب منه ذلك.

الصُلح مع البُندُقيَّة

الجُزر التابعة لِدوقيَّة الأرخبيل في بحر إيجة. اعترف بها السُلطان مُحمَّد الأوَّل طرفًا مُستقلًا عن جُمهُوريَّة البُندُقيَّة بعد إبرامه الصُلح مع الأخيرة. وبعد عودته من حملته الأفلاقيَّة، سعى السُلطان مُحمَّد إلى مُسالمة البُندُقيَّة وإنهاء الأعمال الحربيَّة بين الدولتين، لِيتفرَّغ لِقتال المجر وملكها سيگيسموند الذي كان أصل الفتنة والبلاء في الحرب الأخيرة مع إمارة الأفلاق. فأرسل أحد وُزرائه، ويُدعى حمزة بك، إلى البُندُقيَّة، ومعهُ 200 أسير من الجُنُود البنادقة الذين وقعوا في قبضة العُثمانيين خِلال غزواتهم البحريَّة، فوصل الوزير المذكور إلى البُندُقيَّة يوم 6 مُحرَّم 820هـ المُوافق فيه 24 شُباط (فبراير) 1417م، واجتمع بِحُكومتها وطالب أعضائها بِإطلاق سراح الأسرى المُسلمين تمامًا كما أُطلق سراح أسراهم. رفضت الحُكُومة البُندُقيَّة هذا المُقترح قائلةً أنَّ هذا لا يصح كونه لا تجوز المُقارنة بين «أسرى الحرب» و«أسرى الغزوات» التي تمَّت دون إعلان الحرب، فلا يُمكن مُقايضة هؤلاء بِما لديها من أسرى عُثمانيين، على أنها قبلت إطلاق سراح كِبار السن والمرضى منهم. وبعد حوالي شهرين، أرسل البنادقة إلى سفيرهم في القُسطنطينيَّة يطلبون منه أن يسعى لِإقناع السُلطان بِقُبُول عرضهم الأوَّل لِلصُلح، وهو إحياء المُعاهدة المُبرمة مع موسى چلبي، فحاول السفير البُنُدقي مُقابلة السُلطان عدَّة مرَّات لكنَّهُ قوبل بِالرفض على الدوام، ويُعتقد أنَّ سبب ذلك هو إصرار السُلطان مُحمَّد على عرضه المُقدَّم إلى البنادقة سالف الذِكر. أمام هذا التصلُّب في المواقف، اضطرَّ البنادقة إلى أن يُوسطوا الإمبراطور البيزنطي بينهم وبين العُثمانيين؛ فقام الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني، الذي كان يُسالم المُسلمين ويُصادق السُلطان العُثماني، بِهذا التوسُّط، فجرت مُذكَّرات مُطوَّلة، وعُقدت مُعاهدة لِلصُلح بين الطرفين، في يوم الثُلاثاء 25 جُمادى الأولى 820هـ المُوافق فيه 21 تمُّوز (يوليو) 1417م، اتُفق فيها على ما يلي:
* تبادل أسرى الحرب من كلا الجانبين، فيُعيد البنادقة أسرى معركة گليپولي بينما يُطلق العُثمانيين أسرى غزوة ثغر نجربونت.
* الاعتراف بدوقيَّة أرخبيل جُزر بحر إيجة بوصفها طرف مُستقل عن البُندُقيَّة، فلا تتحمل الأخيرة وزر أعمالها العدائيَّة ضدَّ سُفن وثُغُور العُثمانيين.
* تأكيد حقوق الطرفان: العُثماني والبُندُقي، في التجارة بِأراضي الطرف الآخر بِسلام.
* اعتراف السُلطان مُحمَّد بسيطرة البُندُقيَّة على 38 حصنًا وجزيرة ومحلَّة، بِأسمائها الصحيحة التامَّة، في بحر إيجة وسواحل البلقان.
* تدفع البُندُقيَّة جزية سنويَّة قدرها 100 دوقيَّة إلى السُلطان مُحمَّد مُقابل سيطرتها على مدينة ليپانت، و200 دوقيَّة أُخرى لقاء سيطرتها على ثُغُور ليشة ودرشت وإشقودرة في الأرناؤوط.
وبِتمام الصُلح، استقرَّت أوضاع الدولة العُثمانيَّة على أطرافها الجنوبيَّة المُطلَّة على البحر المُتوسِّط، وعادت السُفن البُندُقيَّة تُبحر وتُتاجر مع مُدنها، وأضحى بِإمكان السُلطان مُحمَّد أن يُوجِّه اهتمامه ناحية المجر.

الحملة على المجر

كان ملك المجر سيگيسموند اللوكسمبورغي، قائد حملة نيقوپولس الصليبيَّة، قد تُوِّج ملكًا على ألمانيا وإمبراطورًا لِلرومانيَّة المُقدسة يوم 23 شعبان 817هـ المُوافق فيه 8 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1414م، بعد أن اختاره الأُمراء الناخبون لِخلافة الملك روبرت الڤيتلسباخي والإمبراطور كارل الرابع، على التوالي. وقد أعلن سيگيسموند استمرار عدائه لِلعُثمانيين عندما أوعز لِلأمير الأفلاقي بِخلع طاعتهم كما أُسلف، ثُمَّ ساعده في السيطرة على بعض المُدن التي كان العُثمانيُّون قد فتحوها؛ ولمَّا أصبح إمبراطورًا، جمع بين مُلك المجر وألمانيا وبوهيميا والكروات، وأصبح بين يديه قُوَّةً عسكريَّةً كبيرة قادرة على تهديد العُثمانيين في بلاد شمال الطونة، لِذا كان على السُلطان مُحمَّد اتخاذ التدابير اللازمة حيال تفاقم هذا الخطر. رتَّب السُلطان هجماتٍ مُنظمةٍ على الأردل (ترانسلڤانيا) عِقابًا لِسيگيسموند، فجهَّز جيشًا جرَّارًا ولَّى إمارته القائد إسحٰق بك، وهو أحد القادة العسكريين العُثمانيين المُخضرمين، من الذين خاضوا معارك عديدة تحت راية السُلطان بايزيد الأوَّل، وعيَّنه أميرًا على سنجق إسكوپية الحُدُودي لِيكون بِالمرصاد لأي مُحاولة تقدُّمٍ أوروپيَّة. في تلك الفترة كان سيگيسموند قد أعدَّ جيشًا صليبيًّا قوامه حوالي 15,000 مجريّ، وسيَّره تحت إمرة اثنين من قادته وفي نيَّته ضم البشناق إلى ممالكه، ولمَّا كان هذا الحراك العسكريّ قريبًا من الحُدُود العُثمانيَّة، فقد سار إسحٰق بك على رأس جيشه المُكوَّن من 15,000 جُندي، حتَّى بلغ مدينة دوبوية البُشناقيَّة حيثُ انضمَّ إليه عدَّة أُمراء على رأس 10,000 جُندي، وقد تهيؤا لِلدفاع عن بلادهم ضدَّ المجريين. تقابل الجمعان في المدينة المذكورة حيثُ أنزل إسحٰق بك هزيمةً كبيرةً بِالجيش المجري وبعثره، ووقع أغلب النُبلاء والقادة المجريين في الأسر. أخافت هذه الهزيمة أعداء العُثمانيين في البلقان، فأعلن دوق الهرسك طاعته لِلسُلطان مُحمَّد وتنازل لهُ عن بعض البلاد، وتابع إسحٰق بك زحفه ففتح بعض المناطق البشناقيَّة، وسيطر على قصبة البوسنة (سراييڤو) الصغيرة، فأمر السُلطان بِتعميرها وتجهيزها والعناية بها كي تكون مركزًا لِسُنجق البوسنة. أكمل إسحٰق بك مسيره فخرق الكروات ودخل شبه جزيرة إستريا وصار على مشارف مدينة تريستة، فجزع سيگيسموند جزعًا شديدًا وتخوَّف من سيطرة العُثمانيين على هذا الميناء التجاري المُهم، فجمع جيشًا جديدًا قوامه الألمان والمجريين وأرسله لِرد المُسلمين، لكنَّهُ مُني بِهزيمةٍ جديدة على يد القائد العُثماني، فخسر 12,000 جُنديٍ من المُشاة، و7,400 خيَّال، و3 قادة. أغرى هذا النصر إسحٰق بك، فسار إلى بلاد الأردل (ترانسلڤانيا) وضرب الحصار على مدينة بريشبوروك، فأرسل سيگيسموند جيشًا من النمسا لِفك الحصار، فاشتبكوا مع العُثمانيين وأرغموهم على فك الحصار، ولقي إسحٰق بك حتفه في هذه المعركة، على أنَّ الجيش العُثماني لم يتراجع، فحوَّل زحفه شرقًا ودخل منطقة بيسارابيا وحاصر قلعة آق كرمان لكنَّهُ لم يتمكن من فتحها، ثُمَّ حوَّل الجيش مسيره جنوبًا مُجددًا حتَّى دخل منطقة دبروجة، وأكمل فتح ما تبقَّى من بلادها، وفرض عليها روابط أمتن مع الدولة العُثمانيَّة. تمخَّضت هذه الحملة بِالعديد من الأسرى والغنائم، وأنهكت الملك المجري وجُيُوشه، فطلب الصُلح من العُثمانيين، وأجابه إليه السُلطان مُحمَّد، بعد أن أثبت له أنَّ الدولة العُثمانيَّة ما زالت قويَّة وقادرة على ردع القوى المُناوئة لها.

فتح أفلونية

بعد تأمينه الجبهة المجريَّة، تطلَّع السُلطان مُحمَّد مُجددًا صوب الأرناؤوط، وذلك لأنَّ إحدى إماراتها، وهي إمارة أفلونية، كانت تمر بِأزمةٍ سياسيَّةٍ شديدة، إذ تُوفي أميرُها وتولَّت أرملته «رجينا بالشا» شُؤون الحُكم، ولم تُحسن مُهمَّتها، فرأى السُلطان في ذلك فُرصةً مُلائمةً ينبغي استغلالها لِضم تلك الإمارة إلى الممالك العُثمانيَّة.
ولمَّا شعرت الأميرة سالِفة الذِكر بِعزم العُثمانيين على ضم بلادها إلى دولتهم، وأدركت عجزها عن مُقاومتهم، راسلت البنادقة وعرضت عليهم تسليمهم الإمارة مُقابل 10,000 دوقيَّة، ولمَّا كانت البنادقة يرغبون بِالسيطرة على هذه المنطقة مُنذُ زمن في سبيل الحيلولة دون وُصُول العُثمانيين إلى البحر الأدرياتيكي، فقد قبلوا هذا العرض، على أنَّهم اعترضوا على المبلغ المطلوب وطالبوا تخفيضه إلى 8,000 دوقيَّة، لكنهم لم يتمكنوا من تقديم مُقترحهم هذا، إذ سيطر العُثمانيُّون على أراضي الإمارة المذكورة، وفتحوا عاصمتها في الوقت الذي كان فيه الوفد البُندُقي مُتوجهًا إليها. وقد بقيت هذه البلاد جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة لِما يزيد عن أربعمائة سنة، حتَّى خرجت من حوزتها سنة 1912م نتيجة حرب البلقان الأولى.

حركة الشيخ بدر الدين

لم يكد السُلطان مُحمَّد الأوَّل يفرغ من حملاته في أوروپَّا ويُعيد لِلدولة هيبتها، ويضعها على الطريق الذي سيُرجع لها مجدها وقُوَّتها الكبيرة السابقة، حتَّى ظهرت لهُ مُشكلة جديدة على درجةٍ عاليةٍ من الخُطُورة، تتمثَّل بِعصيان قاضي العسكر السابق، زمن الشاهزاده موسى چلبي، الشيخ بدر الدين محمود بن إسرائيل السماوني، الذي عاد السُلطان مُحمَّد وعزله ثُمَّ نفاه إلى أزنيق ووضعه في الإقامة الجبريَّة بعد أن رتَّب لهُ معاشًا يليقُ به، كما أُسلف. ينحدرُ الشيخ بدر الدين من سلاجقة الروم، على الأغلب، فوالده ابن أُخت السُلطان السُلجُوقي علاءُ الدين كيقباد بن فراموزس، ووُلد ابنه بدر الدين في زمن السُلطان مُراد الأوَّل بِقرية «سماونة»، وهي إحدى قُرى أدرنة، التي عُيِّن أبوه قاضيًا لها وأميرًا على عسكر المُسلمين فيها، وكان فتح تلك القرية على يديه أيضًا لمَّا رافق السُلطان المذكور في حملته على اليونان. تلقَّى بدر الدين عُلُومه الأولى على يد والده، فحفظ القُرآن، ثُمَّ ذهب إلى أدرنة حيثُ تتلمذ على يد المولى المُشتهر بِالشَّاهدي، وتعلَّم الصرف والنحو على يد المُلَّا يُوسُف، ودرس على يد قاضي بورصة مُحمَّد أفندي والعلَّامة فيض الله في قونية، فتلقَّى من الأخير عُلُومًا شتَّى ومنها الفلك. انتقل بعد ذلك إلى مصر وأكمل دراساته العُليا في الجامع الأزهر، فقرأ على يد الشريف الجُرجاني والعالم مُبارك شاه المنطقي، وحجَّ مع هذا الأخير سنة 758هـ، وقرأ بِمكَّة على يد الشيخ جمال الدين الزيلعي، ثُمَّ تابع دُروسًا في التصوُّف على يد الشيخ حُسين الأخلاطي الساكن بِمصر وقتئذٍ، وبِتأثيرٍ من هذا الرجُل مال بدرُ الدين إلى التصوُّف وأولع بِالإلهيَّات والفلسفة والمنطق، وأصبح مُعلمًا لِوليِّ العهد زين الدين فرج بن برقوق، فكان عالمًا مُحترمًا بِمعايير التُراث الإسلامي السُني الواسع. لكنَّ تصوُّف الشيخ بدر الدين قاده بعيدًا، فأرسله مُعلِّمه حُسين الأخلاطي إلى تبريز لِلإرشاد، ولمَّا استقرَّ فيها دخل في نقاشاتٍ علميَّةٍ مع العُلماء الإيرانيين، فاعترفوا بِفضله، وقرَّبهُ تيمورلنك إليه بعد أن أُعجب بِسعة علمه، فأكرمه ومنحهُ مالًا جزيلًا. وعاش مُدَّةً في مدينة قزوين، المعروفة بِشُيُوع الأفكار الباطنيَّة فيها. وبعد موت أُستاذه حُسين الأخلاطي في مصر، عاد إليها، وعرج في طريقه على العراق حيثُ زار العتبات المُقدَّسة، ولمَّا وصل القاهرة خلف أُستاذه في رئاسة زاويته لِمُدَّة ستَّة أشهر، ما لبث بعدها أن غادر مصر إلى بيت المقدس فدمشق فحلب، ثُمَّ عاد إلى الأناضول مع جُيُوش تيمورلنك المُتوجهة لِقتال العُثمانيين بِقيادة السُلطان بايزيد.
مناطق توزُّع النُصيريين في آسيا الصُغرى. جال الشيخ بدر الدين على الكثير من هذه المناطق أثناء رحلة عودته من مصر إلى الأناضول، وعاش في بعضها لِفترةٍ من الزمن، خلال الفترة التي شهدت حُروبًا بين أبناء السُلطان بايزيد وأزماتٍ معيشيَّةٍ عديدة عانى منها الناس نتيجة غزوات المغول ونكسة أنقرة. فكانت حركته بِمثابة ثورة سياسيَّة - اجتماعيَّة - اقتصاديَّة ناجمة عن الفوضى وعدم الاستقرار. وعند هذه النُقطة، بدأت مرحلة جديدة من حياة الشيخ بدر الدين، حيثُ عاش وطاف في بلادٍ أغلب أهلها من النُصيريين في آسيا الصُغرى والبلقان، مثل بعض بلاد إمارتيّ القرمان وكرميان، ومغنيسية ودلِّي أورمان، كما كان الكثير من أهالي البلاد الأُخرى مسيحيين بقوا على دينهم بعد أن افتُتحت بلادهم، ومنهم الروم والبُلغار والصربيين والأفلاقيين والأرناؤوطيين، وكانوا ما يزالون في مرحلة التثاقف مع المُسلمين والتعرُّف على الدين الإسلامي، فعرفت تلك المُجتمعات أحاسيس دينيَّة مُتضاربة، زادها تضارُبًا التزاوج المُختلط بين الرجال المُسلمين والنساء المسيحيَّات، أو بين الرجال المسيحيين الذين أشهروا إسلامهم وتزوَّجوا بِنساءٍ مُسلماتٍ، وهُم ما زالوا غير مُنخرطين تمامًا في الثقافة الإسلاميَّة، وما زالت المُؤثرات الثقافيَّة البيزنطيَّة العريقة مُتجذرة في نُفُوسهم. وإلى جانب هؤلاء، عاشت جماعاتٌ من اليهود السفارديين الهاربين من محاكم التفتيش في الأندلس، وانخرطت في هذا المزيج العجيب من الأقوام والأديان واللُغات والثقافات، ويبدو أنَّ الجميع تنازعتهم الحاجة إلى ملء فراغهم الروحي، أو تبديد هواجسهم العميقة، أو الاستجابة لمن يدعوهم إلى مُعتقدٍ جديد. وقد دأب السلاطين العُثمانيين، مُنذُ عهد السُلطان أورخان بن عُثمان، على عقد الندوات الدينيَّة لاستمالة ودعوة الرعايا الجُدد من أهالي المناطق المفتوحة إلى الإسلام، فكانوا يسدُّون فراغهم الروحي بِهذه الطريقة ويضمنون عدم حُصُول اضطرابات ثقافيَّة أو فكريَّة بِقدر الإمكان، لكنَّ هزيمة أنقرة وتزعزع أركان الدولة، وقتال أبناء بايزيد، ثُمَّ انصراف السُلطان مُحمَّد إلى إعادة هيبة دولته، ترك مجالًا لِبعض الأشخاص الآخرين كي يتولُّوا هذه المُهمَّة. ومن هذا المُنطلق، شكَّل الشيخ بدر الدين جماعةً من المُريدين لمَّا عاد إلى أدرنة، وتقرَّب من الشاهزاده موسى چلبي، الذي تأثَّر بِأفكاره وعلمه، فعيَّنهُ قاضيًا لِلعسكر كما أُسلف، ثُمَّ سقط معه ونُفي إلى أزنيق، لكنَّهُ فرَّ من مكان إقامته ولجأ إلى أمير قسطموني عزُّ الدين إسفنديار بك الجندرلي، وحاول الهُروب إلى بلاد التتر بِالقرم، فلم يأذن لهُ إسفنديار خوفًا من السُلطان مُحمَّد، فأرسله إلى بلدة «زغرة» بالروملِّي، حيثُ أخذ يدعو إلى مذهبه القائم على المُساواة بين الأديان السماويَّة الثلاثة: الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة.
والواقع أنَّ الشيخ بدر الدين كوَّن فلسفةً خاصَّةً به: باطنيَّة صوفيَّة اجتماعيَّة، وكانت نظرته إلى الدُنيا وقضاياها وما يجري فيها من أحداث مُمتلئة بِالشك، لِذا مال فكره إلى الواقعيَّة، ونظر إلى الله والعالم على أنهما واحد، وتضمَّن مُؤلَّفه الشهير، وهو «كتاب الواردات»، أهم أفكاره القائمة على: وحدة الوُجُود، وإنكار الجنَّة وجهنَّم ويوم القيامة والملائكة والشياطين، وقصَّر الشهادة على نصفها الأوَّل أي «لا إله إلَّا الله» وحذف نصفها الثاني أي «مُحمَّد رسول الله»، ودعا إلى الزُهد المُطلق والمهدي المُنتظر. وقال بِتطوُّر الشريعة الإسلاميَّة كُلَّما تغيَّر العصر، وسعى إلى تحقيق المُساواة من واقع إلغاء الملكيَّة الفرديَّة، وقال إنَّ الثروات ملكٌ لِلشعب، فكان فكره أشبه بِالفكر الاشتراكي الذي ظهر في الغرب بعد بضعة قُرُون، واتهم الطبقات الغنيَّة بِأنها تتوارى وراء الأديان من أجل مصالحها، وكان يقوم بِنفسه بِالتجوال بين الناس، مُلاحظًا ودارسًا لِبُنية المُجتمع، وخلص إلى أنَّ لا حقَّ لِأحد في حرمان الناس من استخدام الأرض التي هي ملك الله، واتهم أصحاب الإقطاعات المُتكاثرة في الأناضول والروملِّي بِالتسلُّط واستغلال الناس. ومن هُنا بدأت حملة الشيخ بدر الدين ضدَّ الإقطاع مُستندةً على مُرتكزٍ سياسيٍّ، فاستغلَّ الأوضاع السياسيَّة المُضطربة في البلاد العُثمانيَّة وفراغ السُلطة، بعد نكسة أنقرة، ثُمَّ أتبع حملته من الناحية الاقتصاديَّة بِأنَّ توالي الحُرُوب الأهليَّة بين أبناء بايزيد الأوَّل أدَّى إلى خراب الكثير من القُرى، وإتلاف المزروعات، فانتشرت البطالة وعمَّ الفقر والظُلم الطبقات الشعبيَّة، وتعطَّلت الحياة الاقتصاديَّة. وازداد سخط الطوائف على ما آلت إليه الحالة الاجتماعيَّة من تردٍّ، يُضاف إليها الاضطراب الفكري والثقافي الذي كانت تعيشه، فكان من الطبيعي أن تتعلَّق بِمُخلِّص، وكان الشيخ بدر الدين أفضل من يقوم بِهذا الدور، وذلك بِقدر ما كان وجيهًا ومُنحدرًا من أوساط تتمسَّك بِنقاء العقيدة، وأيَّده السپاهيَّة وأصحاب التيمارات الذين حُرموا من تيماراتهم، وظاهره النصارى من أرباب الإقطاعات، وسانده اليهود، إذ انتشرت دعوته بين نصارى الدولة بِشكلٍ واسعٍ جدًا، كما انتشرت بين اليهود بِنسبةٍ أقل، وكذلك بين المُسلمين. ويُؤكِّد هذا الكلام المُؤرِّخ البيزنطي «دوكاس» الذي كان يعيش قريبًا من المناطق التي انطلق منها الثُوَّار، حيثُ تابع الأحداث الجارية، وقتئذٍ، باهتمامٍ بالغٍ، فيقول أنَّ ثورة بدر الدين لقيت تأييدًا قويًّا من الجماهير المسيحيَّة ومن خالطها، إذ بدا عليها الارتباك والتعثُّر حيال المسائل الدينيَّة؛ ولِذلك فقد سعت لِإيجاد وسائل لِلتعايش السلمي. خصَّ أتباع الشيخ بدر الدين زعيمهم هذا بِالنُبُوَّة، فقادهم في ثورته على الدولة العُثمانيَّة بِهدف امتلاك العالم وتقسيمه بينهم بِقُوَّة العلم وسر التوحيد، وإبطال قوانين أهل التقليد ومذهبهم وتحليل بعض المُحرَّمات، فكان يقول: «إِنِّي سَأَثُورُ مِن أَجلِ امتِلَاكِ العَالَم، وَبِاعتِقَادَاتِي ذَاتِ الإِشَارَاتِ الغَيبِيَّةِ سَأُقسِمُ العَالَمَ بِينَ مُرِيدِيِّ بِقُوَّةِ العِلمِ وَسِرِّ التَوحِيدِ، وَسِأُبطِلُ قَوَانِينَ أَهلِ التَقلِيدِ وَمَذهَبِهِم، وِسَأُحَلِّلُ - بِاتِسَاعِ مَشَارِبِي - بَعضَ المُحَرَّمَاتِ». وساعده في نشر أفكاره مُريدان كانا على درجةٍ عاليةٍ من الحيويَّة والنشاط، أحدُهُما يُدعى «طورلاق كمال»، يُقال أنَّ أصله يهودي، وكان يدعو في جهات أماسية وفي المناطق التي يكثر فيها النُصيريُّون، والآخر هو «پيرقليجه مُصطفى» (أي صاحب العلم مُصطفى) المعروف بِـ«ده ده سُلطان»، وهو مسيحي اعتنق الإسلام، وكان على علاقةٍ وطيدةٍ مع رُهبان جزيرة ساقز، ويُنادي بِالمزج بين المسيحيَّة والإسلام، وكان يدعو في مناطق إزمير وفي قره بورون.

اقتياد الشيخ بدر الدين إلى المشنقة لِتنفيذ حُكم الإعدام به

اتصف الشيخ بدر الدين بِالتأنِّي والحنكة السياسيَّة، فلم يُعطِ أتباعه إشارة البدء بِالثورة إلَّا عندما كانت الدولة مُنهمكة في لمِّ شعثها وهي غارقةٌ في بحرٍ من الفوضى والدماء، فأوعز إلى مُريده طورلاق كمال بِالبدء بِالثورة في مغنيسية وآيدين، وفي الوقت نفسه راح پيرقليجه مُصطفى يجمع الأتباع حوله في جبل أستيلاريوس عند الطرف الجنوبي من خليج إزمير، في قره بورون، وأغار على المناطق المُجاورة. وتمادى الثائرون في غاراتهم حتَّى أضحت تُهدد أمن الدولة، فأخذوا في نشر مذهبهم بِالقُوَّة وتعرَّضوا لِلناس والأموال، وقتلوا الآلاف، فخيف على الدولة العُثمانيَّة من امتداد المذهب الجديد، مما دفع السُلطان مُحمَّد إلى إعطاء الأوامر لِقادته لِلتصدي لِلحركة ومن يقودها. وعلى الرُغم من أنَّ بيزنطة كانت تُؤيِّد هذه الحركة بِقُوَّة، رُغم السلام القائم بينها وبين السُلطان العُثماني، أملًا منها في تقويض الدولة العُثمانيَّة واجتثاثها من جُذُورها، إلَّا أنَّ الكنيسة الروميَّة الأرثوذكسيَّة عارضتها كونها هدَّدتها كما هدَّدت الدولة العُثمانيَّة، وساهم رجالُ الدين الروم الأرثوذكس في مُقاومة الشيخ بدر الدين وأتباعه والحيلولة دون تمدد مذهبه. أمر السُلطان حاكم إزمير إسكندر بن يُوحنَّا شيشمان، ابن آخر قياصرة البُلغار، الذي اعتنق الإسلام، بِالتصدي لِلثائرين في منطقة إزمير، وكان پيرقليجه مُصطفى مُتحصنًا في شعاب جبل أستيلاريوس، فسار إليه إسكندر على رأس جيشٍ جرَّار، وما أن تلاقى الجيشان حتَّى انهزم جيش السُلطان وقُتل قائده المذكور، ولمَّا علم مُحمَّد الأوَّل بما أصاب جيشه، حشد جيشًا آخر وولَّى على قيادته الصدر الأعظم بايزيد باشا الأماسيلِّي والشاهزاده مُراد، وكلَّفهُما بِمُحاربة الثائرين. والتقى الجيش العُثماني بِجيش الثائرين في ضواحي إزمير وتغلَّب عليه، ووقع پيرقليجه مُصطفى وكثيرًا من أتباعه في الأسر، فأقام عليهم الصدر الأعظم حد الحرابة وقتلهم جميعًا، ثُمَّ تحوَّل نحو مغنيسية حيثُ تصدَّى لِطورلاق كمال، فهزمه وقبض عليه وصلبه. وهكذا أُخمدت الثورة بعد انتشارها بِشكلٍ خطر، ما دفع الشيخ بدر الدين إلى الفرار نحو دبروجة، واستقرَّ في بلدة دلِّي أورمان البُلغاريَّة، لِيُدير الثورة منها، والمعروف أنَّ هذه المنطقة كانت مأوى لِلباطنيَّة، وتعُجُّ بِأتباع بابا إسحٰق، الذي قاد ثورةً باطنيَّةً مُسلَّحةَ ضدَّ سلطنة سلاجقة الروم في سنة 638هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وفي هذه البلدة توسَّعت حركة عصيان الشيخ مُجددًا وتقوَّت بِفضل ما حصلت عليه من دعمٍ ماديٍّ وعسكريٍّ من أمير الأفلاق ميرݘه الأوَّل، وعندما سمع السُلطان مُحمَّد بِذلك قام بِنفسه لِحرب الشيخ بدر الدين، واتخذ من مدينة سيروز مركزًا لِقيادته، وأرسل جيشًا إلى الشيخ فقاتله وهزمه، وفرَّ الأخير بعد هزيمته وحاول أن يتوارى عن الأنظار، إلَّا أنَّ اثنين من قادته خاناه وسلَّماه لِلسُلطان. وعندما تقابل الرجُلان قال السُلطان مُحمَّد لِلشيخ: «مَا لِي أَرَى وَجهَكَ قَد اصفّرَّ؟»، فأجابه: «إِنَّ الشَّمسَ يَا مَولَاي، تَصفَرُّ عِندَمَا تَقتَرِبُ مِنَ الغُرُوبِ». أُقيمت مُناظرة علميَّة حُرَّة بين الشيخ بدر الدين وعُلماء الدولة الكبار، ثُمَّ أُقيمت محكمة شرعيَّة، ترك القُضاة فيها الكلمة الأخيرة لِلمُتهم نفسه لِيُصدر الحُكم الشرعي الذي يراه. وأصدر الشيخ بدر الدين حُكمه بِنفسه على نفسه، وكان الإعدام. وأفتى المولى بُرهانُ الدين حيدر بن مُحمَّد الخوافي الهروي أنَّ دم الشيخ بدر الدين حلال استنادًا إلى الحديث النبويّ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، أمَّا ماله فحرام، فلم يمس أحدٌ من رجال السُلطة ماله، ثُمَّ أُعدم شنقًا على شجرةٍ في مدينة سيروز، وبِمقتله انتهت ثورة الباطنيَّة ضدَّ الدولة العُثمانيَّة.

ظُهور حركة الشاهزاده مُصطفى بن بايزيد

لم يكد بال السُلطان مُحمَّد يهدأ بعد انتصاره على الشيخ بدر الدين وأشياعه حتَّى ظهر أخوه مُصطفى فجأة بعد غيابٍ دام 16 سنة، وهو الأخ الذي لم يوقف لهُ على أثرٍ بعد واقعة أنقرة التي أُسر فيها السُلطان بايزيد الأوَّل. لا توجد معلومات مُؤكدة عن حياة مُصطفى وأعماله خِلال سنوات اختفائه، لكن يُعتقد أنَّهُ وقع في أسر المغول بعد معركة أنقرة، فأرسله تيمورلنك إلى سمرقند في ما وراء النهر، وأُطلق سراحه بعد وفاة تيمور سنة 1405م، ويُعتقد كذلك أنَّ شاهرُخ بن تيمور أطلق سراح مُصطفى چلبي عن قصد، إذ اعتبر أنَّ تعزيز مُحمَّد الأوَّل لِلوحدة العُثمانيَّة في الأناضول تحديًا لِلدولة التيموريَّة، ولِذلك أطلق سراح أسيره في مُحاولةٍ لِإشعال الفوضى الدبلوماسيَّة، وردًا على تصرُّفات شاهرُخ كتب السُلطان مُحمَّد رسالة له قال فيها أنَّ تجزُّؤ الدولة العُثمانيَّة لن يُفيد أحدًا غير أعداء الإسلام. وبجميع الأحوال، فقد عاد مُصطفى چلبي إلى بلاده واستقرَّ في مدينة نيغدة بِالأناضول، التابعة لِإمارة القرمان. واختفى خلال مُدَّة صراع الإخوة، ثُمَّ التجأ إلى إمارة قسطموني، فحرَّضهُ أميرها على المُطالبة بِالعرش. ولمَّا كان مُصطفى المذكور أكبر سنًّا من مُحمَّد، فقد طالبه بِعرش آل عُثمان على اعتبار أنَّهُ الأحق به بعد وفاة والدهما، لكنَّ مُحمَّدًا لم يُصدِّق أنَّ هذا الشخص هو أخيه الحقيقي، فأعلن أنَّهُ رجلٌ مُحتال وسمَّاه «مُصطفى الدجَّال» (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: دوزمجه مُصطفى). فما كان من مُصطفى إلَّا أن توجَّه إلى الأفلاق فحصل على تأييد أميرها ميرݘه، الذي أمدَّهُ بِجُنُودٍ سعيًا وراء إيجاد الفتن في داخل الممالك العُثمانيَّة، ثُمَّ انطلق من الأفلاق وجاء إلى مقدونيا عن طريق بُلغاريا، واتصل بِالأمير جُنيد بن إبراهيم الآيديني، الذي عفا عنه السُلطان مُحمَّد سابقًا وعيَّنهُ أميرًا على سنجق نيقوپولس، فسانده في مسعاه، وانضمَّ إليه الإمبراطور البيزنطي، وطلب مُساعدةً من البُندُقيَّة، كما انضمَّ إليه أُمراء الروملَّي والفُرسان أصحاب التيمارات والآقنجيَّة الذين عرفوه سابقًا خِلال فترة حياة والده. بعد ذلك، أعلن الشاهزاده مُصطفى الثورة على أخيه مُحمَّد، ونزل إلى الجنوب مع بعض الوحدات التي انضمَّت إليه وأغار على إقليم تساليا بِبلاد اليونان، ويبدو أنَّهُ استولى على قسمٍ من الروملِّي على الأقل وحكمها في سنة 822هـ المُوافقة لِسنة 1419م، إذ تنص بعض فهارس المسكوكات العُثمانيَّة أنَّ هُناك سكًّا فضيًّا ضُرب في أدرنة بِالسنة المذكورة باسم «مُصطفى بن بايزيد خان»، كما وُجدت مكسوكاتٍ ضُربت باسمه أيضًا في مدينة سيروز، ولِهذا السبب ترد فترة حُكم مُصطفى چلبي في فهارس المسكوكات بأنها ما بين سنتيّ 822 و825هـ المُوافقة لِما بين سنتيّ 1419 و1422م، على أنَّ عُهُود هذه الفترة من التاريخ العُثماني تبقى غامضة ومُجرياتها غير مُؤكَّدة على وجه الدقَّة. بناءً على المصادر البيزنطيَّة، فقد حصلت المُواجهة بين السُلطان مُحمَّد والشاهزاده مُصطفى على مشارف سالونيك، وأسفرت عن انتصار مُحمَّد الأوَّل، وفرَّ مُصطفى إلى سالونيك واحتمى بِحاكمها البيزنطي «دمتريوس لاسكاريس»، والمعروف أنَّ هذه المدينة عادت إلى كنف الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد معركة أنقرة. وطلب السُلطان من الإمبراطور البيزنطي تسليمه الشاهزاده المذكور، فأبى الإمبراطور ذلك مُعتبرًا أنَّ مُصطفى ضيف الإمبراطوريَّة وأنَّ تسليمه لا يتوافق مع شيم الأباطرة، لكنَّهُ في الحقيقة كان يعُدُّه ورقة ضغط يُمكن تحريكها في أيِّ صراعٍ مُستقبليٍّ مع الدولة العُثمانيَّة، على أنَّه وعد بِأن لا يُطلق سراحه ما دام السُلطان على قيد الحياة، فقبل السُلطان مُحمَّد هذا الاقتراح ورتَّب لِأخيه راتبًا سنويًّا مقداره 300,000 قطعة ذهبيَّة، ثُمَّ أرسله الإمبراطور لِلإقامة في جزيرة لمنى (لمنوس) ووضع عليه حراسة مُشددة. واتخذ بعض المُؤرخين العُثمانيين والعديد من مُؤرخي الروم مسألة تعيين السُلطان مُحمَّد الراتب الكبير سالف الذِكر لِمُصطفى چلبي قرينةً على صحَّة نسبه الذي ادعاه، فقالوا أنَّهُ الأخ الفعلي لِمُحمَّد الأوَّل ولم يكن مُجرَّد شخصٍ طامعٍ في المُلك. عفا السُلطان مُحمَّد عن الأمير جُنيد بن إبراهيم الآيديني مرَّة أُخرى، رُغم دوره البارز في هذه الفتنة، كما عفا عن عدَّةٍ من مُحازبيه، وذلك في سنة 1419م، لكنهُ لم يُعده إلى منصبه السابق، بل سلَّمهُ إلى الإمبراطور البيزنطي الذي وضعه تحت المُراقبة في إحدى كنائس القُسطنطينيَّة. وبذلك نجا كُلٌ من مُصطفى وجُنيد بك، وكانت هذه الفتنة آخر الحُرُوب الداخليَّة التي خضَّبت أراضي الدولة العُثمانيَّة بِدماء أبنائها بِسبب إغارة تيمورلنك عليها، وتفرَّغ مُحمَّد الأوَّل لِبناء دولته.

مسألة قتل السلاطيين إخوانهم أو أولادهم

مسألة قتل او اعدام الإخوان والابناء تكون تيجة تطبيق وإقامة حد "البغي"، أي حد العصيان ضد الدولة، ويمثل المرتكز الشرعي الأول لمسألة القتل هو وجود جريمة العصيان بالخروج على الدولة "بالسلاح" وموالاة الأعداء، وتدخل هذه العقوبة في الإسلام ضمن جريمة حد "البغي"، والذي تتكون بنوده من محاولة الخروج على الإمام أو السلطان ومحاولة الإستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة، أي وجود هدف العصيان بشكل واضح. ولا يجوز بناء على ما سبق التعرض لمن يخالف رأي السلطان بصورة سلمية، أو لم يعلن عصيان مسلح، فإن أعلنوا عصيانًا توقع عليهم عقوبة الإعدام، أي في مصطلحات عصرنا هذا الإعدام لارتكابهم "خيانة العظمي"؛ وذلك صيانة للدولة. (لقد طبق ويطبق كافة دول العالم وموجودة في كافة القوانين المدنية). وقد عد "فقهاء" الدولة ومشرعوها كل تمرد بالدولة يؤدي للإخلال بالأمن العام وبـ"نظام العالم"، فسادًا وجريمة "بغي" القائمين بها يسمون "بغاة"، وأوضحوا في فتواهم بأن عقوبة هؤلاء هي الإعدام؛ ولو كان العاص شقيق السلطان أو ابنه. تطبيقًا لشريعة الله تعالى (وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓاْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ)، والسلاطين يأخذون أراء علماءهم والعلماء يعطون الفتاوى حسب ما جاء في كتب الفقه وفي قوانين الدولة العثمانية.
ونضرب مثال على الامتثال لهذه الأوامر الشرعية ما قام به السلطان "مراد الأول" مع ابنه "ساوجي" والذي سار على رأس جيش ضد والده متحالفا مع البيزنطيين، ووقع أسيرا في يد الجيش العثماني، وأسر السلطان وعرض أمره على علماء الشريعة وقضاتها، فحكموا عليه بالإعدام. أشفق رجال الدولة على السلطان من فاجعة قتل ولده، وتوسطوا لديه كي يعفوا عنه ويكتفي بنفيه، ولكنه أصر على تنفيذ الأوامر الشرعية وأمر بأن يقتل ابنه، وقتل بالفعل.

والله ولي التوفيق