حياة السلطان السادس مُراد الثاني

د. نظام الدين إبراهيم أوغلو
الباحث الأكاديمي التركماني

مقدمة

السلطان مُراد الثاني بن محمد الجلبي الأول. سادس سلاطين الدولة العثمانية، ولد في مدينة أماسيا عام 1404م، تولى الحكم وهو في الثامنة عشر من عمره. في الفترة الاولى من عام 1421م. حتى عام 1444م 27 سنة، وفي الفترة الثانية سنتان من عام 1446م حتى وفاته في أدرنة عام 1451 ـ ثم نقل الى بورصة ودفن في مرادية. وأولاده السلطان محمد الفاتح، وشيخ زادة علاء الدين (توفي عن عمر 18 سنة)، وفاطمة خاتون، ويوسف عادل شاه (الذي حكم سلطنة بيشابور في الهند). اشتهر بين قومه بالعدل والتقوى، وحبه الشديد للجهاد، كما اتصف بالشجاعة، وحبه للعلم، وتعلقه باللغة العربية، فكان أول من تعلم فن الخط العربي من سلاطين الدولة العثمانية، وكان محباً للشعر وينظم الشعر أيضاً، وقد أُطلِق عليه لقب "كُجا سُلطان" وتعني السُلطان الكبير. وقد وصفه المؤرخ يوسف آصاف بأنه: "كان تقيّاً صالحاً، وبطلاً صنديداً، محبّاً للخير، ميَّالاً للرأفة والإحسان".
لقد حوَّل مُراد الثاني قصره إلى نوعٍ من الأكاديميَّة العلميَّة، إذ كان تحصيله العلمي مُمتازًا، وكان المُؤرِّخ والأديب والرحَّالة الشهير شهاب الدين ابن عربشاه أحد أساتذته، ويُفهم من بعض المصادر أنَّهُ كان يمتلك مكتبة شخصيَّة، جمع فيها الكثير من الكُتُب القيِّمة المنسوخة، وفي مُقدِّمتها الملاحم القوميَّة والدينيَّة القديمة نظرًا لِدورها السياسي والاجتماعي، كما اهتمَّ بِالكُتب السياسيَّة من كلاسيكيَّات الثقافة الإسلاميَّة. وكان مُراد الثاني من أكابر المُهتمين بِالإعمار، فأنشأ عدَّة جوامع وكُليَّات ومدارس في بورصة وأدرنة، ومن أبرز الإنجازات المعماريَّة التي تمَّت في عهده: جامع دار الحديث، ومسجد الشُرُفات الثلاث (بُني ما بين سنتيّ 1438 و1447م) ومدارسه، وجسر أوزون كوبري على نهر أركنة (الذي تصب على بحر إيجة) الذي استغرق تشييده 16 سنة وافتُتح سنة 1443م، وكان طوله 392 مترًا. ومن الجدير بِالذِكر أنَّ أغلب مشاريع مُراد الثاني المعماريَّة شُيِّدت بِأموال الغنائم التي عادت بها الجُيُوش العُثمانيَّة من حُرُوبها مع الأوروپيين.
واسماء زوجات مراد الثاني وهن هُما خاتون ولدت في فرنسا، وأسلمت وتوفيت عام 1449م ودفنت في بورصة. و خديجة حليمة خاتون، و مارا خاتون.

فتنة وعصيان الشاهزاده مُصطفى الجلبي الأصغر

مُصطفى الأصغر، الشهير بِـ«كُجُك مُصطفى»، وهو أحد إخوان مُراد الثاني، كان والده مُحمَّد قد عيَّنه واليًا على إقليم الحميد تحت إشراف مُربيه «لاله إلياس بك الشرابدار». وكان إلياس بك المذكور من أتباع سُليمان چلبي بن بايزيد، ولمَّا هُزم الأخير وآلت السلطنة إلى مُحمَّد الأوَّل، عفا عن إلياس بك وعيَّنهُ مُربيًا لابنه مُصطفى. وفي أثناء اشتغال السُلطان مُراد بِمُحاربة عمِّه مُصطفى بن بايزيد، حرَّك إلياس بك مخدومه مُصطفى الأصغر على العصيان وطلب المُلك، مُستغلًا حداثة سن الشاهزاده، البالغ من العُمر 13 سنة، وقلَّة خبرته بِالحياة وأُمُور السياسة. وأعانه في هذا التحريك الأمير الكرمياني يعقوب بك بن سُليمان، وكان قد تبنَّى مُصطفى الأصغر وأحبَّهُ حُبًّا شديدًا، فأراد نيله المُلك. وكذا وافقهُما الأمير القرماني ناصر الدين مُحمَّد بك بن عليّ بِدافع الحقد على الدولة العُثمانيَّة وإيقاظًا لِفتنةٍ جديدةٍ فيها في سبيل التوسُّع على حسابها في جنوب الأناضول. كما أنَّ الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني أغرى مُصطفى، شقيق السُلطان، بِالخُرُوج على أخيه في سبيل دفع الأخير بعيدًا عن القُسطنطينيَّة. وهكذا يبدو، في حقيقة الأمر، أنَّ مسؤوليَّة القيام بِالتمرُّد، لا تقع على عاتق الشاهزاده اليافع، وإنَّما على مُربيه وأميرا كرميان والقرمان والإمبراطور البيزنطي. وفي جميع الأحوال فإنَّ مُصطفى الأصغر توجَّه في جمعٍ من الأوباش القرمانيَّة والكرميانيَّة والحميديَّة إلى مدينة بورصة وضرب الحصار عليها، لكنَّهُ لم يتمكَّن من اقتحامها، فتوجَّه إلى إزنيق عوضًا عنها وحاصرها. فما كان من السُلطان مُراد إلَّا أن أرسل إلى إلياس بك الشرابدار سرًا يعده ببكلربكيَّة الروملِّي (أي رئيسا على الروملي) إن شغل أخاه إلى أن يكبسه السُلطان، وكذلك أرسل إلى علي بك صاحب إزنيق بِتسليم مُصطفى الأصغر إليه بِطريق الحيلة لِيمكُث في المدينة ريثما يصلها السُلطان، ففعلا ما أُمرا به، وأشغل إلياس بك الشرابدار مخدومه سليم الخاطر بِأنواع المشاغل، فشعر الأُمراء القرمانيين والكرميانيين بِما يدور في الخفاء، وحاولوا حمل مُصطفى الأصغر على مُغادرة المكان، فلم يُصغِ إلى قولهم، واعتمد على إلياس بك المكَّار، الذي حمله على فرسه وأدخله إزنيق وأجلسهُ في إحدى قُصُورها، ورتَّب له ديوانًا كديوان السلاطين لئلَّا يتوهَّم منه. أمَّا السُلطان مُراد فإنَّهُ فوَّض أُمُور الثُغُور الغربيَّة من الروملِّي إلى علي بك بن أفرنوس، والثُغُور الشماليَّة منها إلى فيروز بك، وسار هو في بقيَّة العسكر مُسرعًا إلى جانب إزنيق حيثُ جرت مُصادمة بسيطة قُتل فيها مُحمَّد بك ميخائيل أوغلي، لكنَّ جمع مُصطفى الأصغر تفرَّق تمامًا وهرب أكثره إلى داخل المدينة، ولمَّا وصل إليها السُلطان خرج إلياس بك الشرابدار ومعهُ الشاهزاده مُصطفى وسلَّمهُ إلى أخيه الذي أمر به فقُتل شنقًا، ثُمَّ حُمل نعشه إلى بورصة حيثُ دُفن بِجوار والده مُحمَّد الأوَّل. وقيل سُملت عيناه فمات من شدَّة السمل، وقد أُرِّخت هذه الحادثة بِسنة 826هـ المُوافقة لِسنة 1423م. وفي روايةٍ أُخرى أنَّ مُصطفى الأصغر هرب من إزنيق إلى القُسطنطينيَّة وعقد تحالُفًا مع الإمبراطور البيزنطي لم يصل الباحثين أي بندٍ من بُنُوده، ونتيجةً لِذلك تحصَّن في قوجه إيلي في الوقت الذي استعاد فيه مُراد الثاني مدينة إزنيق، إلَّا أنَّ الأُمراء تخلُّوا عنه، فوقع في أسر السُلطان الذي أعدمه في 9 ربيع الأوَّل 826هـ المُوافق فيه 20 شُباط (فبراير) 1423م.

استقال مرة فاضطرته الحرب للرجوع!
قرَّر مراد الثاني اعتزال الناس والعزلة في مدينة مانيسيا، ويقال إنّه انضمّ لإحدى التكايا الصوفيّة، كان هذا عام 1444 م، اعتزل وترك السلطنة لابنه الصغير، مُحمّد الفاتح، الذي كان في الرابعة عشرة فقط من عمره.
استغلّت الدول الأوروبيّة اعتزال السلطان الذي كان يخرج على رأس الجيوش، وتسليمه الحكم لسلطانٍ صغير لن يستطيع قيادة الجيوش ولا السيطرة على الجنود، وبدأوا في ترتيب تحالفٍ أوروبيٍّ آخر يجمع قوات المجرد وبلغاريا وكولونيا وألمانيا وفرنسا والبندقية وبيزنطة.
أرسل كبار رجال الدولة للسلطان مراد يستغيثون به، ويطلبون منه العودة لقيادة جيوش الدولة العثمانية في هذه المعركة، وأرسل السلطان الصغير لوالده يدعوه لقيادة الجيوش، لكنّ السلطان مراد أخبره أنّ الدفاع عن السلطنة من واجبات السلطان وهو ليس سلطاناً.
هنا أرسل محمد الصغير رسالته الأخيرة لوالده "إن كنّا نحنُ البادشاه (السلطان)، فإنّا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم. وإن كنتم أنتم فتعالوا ودافعوا عن دولتكم". فعاد السلطان مراد من فوره إلى أدرنه، وجهّز الجيوش والتقى الجيشان في مدينة فارنا.
استطاع السلطان مراد هذه المرة أن يهزم الجيوش الأوروبية كاملةً، وقُتل الملك المجري فلاديسلاوس، ويقال إنّ السلطان مراد هو من قتله بنفسه في ساحة المعركة، أمّا هونيادي القائد العام فقد هرب من المعركة، مخلِّفاً وراءه 15 ألف قتيل، حسب بعض المصادر.
بالطبع لم يسكت كبار رجال الدولة، ولا قادة الجُند، فقد طالبوا السلطان مراد بعد انتصاره بالعودة للسلطنة، لكنّه عاد دون أن يخلع ابنه، فضغطوا عليه مراراً حتّى نزل على رغبتهم، وعاد للسلطنة، لكنّه لم يتحملها أكثر من خمسة أشهر وعاد أدراجه لمانيسيا معتزلاً الحياة ومتفرغاً للعبادة! بعدما عاد هذه المرة لمانيسيا، بدأ الجند الانكشاريون (في التركية العثمانية يڭيچرى، تعني: "الجنود الجدد) بالتمرد بحجة نقص وزن الاقجة العثمانية، وأنهم العصب الحقيقي للدولة العثمانية، وفي محاولاتٍ منهم لإعادة السلطان، بدأوا يثيرون بعض المشكلات والاضطرابات في العاصمة، بالنسبة للانكشاريين يجب أن يكون سلطانهم فارساً يخرج معهم على رأس الجيوش ويقود المعارك، وهو ما ليس متوفراً في السلطان الصغير حينها محمد الفاتح. فاضطرّ السلطان مراد الثاني للعودة مرةً أخرى، متخلياً عن عزلته التي طلبها، عاد سلطاناً يقودُ الجيوش ويحكم الإمبراطورية المترامية، بعد خمس سنواتٍ فقط من عودته الثانية، صعدت روحه، واستقرّ في عزلةٍ إجباريّةٍ هي الموت.
بالإجمال حكم مراد الثاني 28 عاماً، وتوفي وعمره 47 عاماً، في سنة 1451، تاركاً السلطنة خلفه لسلطانٍ شابٍ طموح في سن الثانية والعشرين، سيملك الدولة العثمانية ويقودها بعد ثلاث سنوات فقط من حكمه إلى السيطرة على عاصمة الدولة البيزنطية "القسطنطينية" التي تحوّلت الآن وأصبحت "إسطنبول".
ويذكر المؤرخون أن مراد الثاني كان أول من استعمل سلاح المدفعية في التاريخ العسكري العثماني وخلفه ابنه السلطان محمد الفاتح.
فتوحاته واعدام عمه مصطفى بايزيد

عمل السلطان "مراد الثاني" منذ توليه الحكم على إعادة بسط نفوذه على إمارات الأناضول التي انفصلت عن الدولة العثمانية بعد غزو "تيمور لنك"، فعقد هدنة مع المجر، وأبرم صلحًا مع أمير القرمان.
لقد هدده إمبراطور القسطنطينية "عمانويل الثاني"، بإطلاق سراح عمه مصطفى بن بايزيد، إذا حاول السلطان قتاله إذ لم يعطه إخوى السلطان رهينة عنده، لضمان عدم الحرب، فلما رفض السلطان أطلق الإمبراطور مصطفى بن بايزيد ودعمه بعشر مراكب ليهاجم السلطان، والتقى بجيش السلطان بقيادة بايزيد باشا فانتصر عليه وقتله، واتجه نحو ابن أخيه. تخلى قادة وجنود مصطفى بن بايزيد عنه في وقت الشدة فقبض عليه وأعدم. حاصر السلطان مراد القسطنطينية انتقامًا من أمبراطورها ولكن لم يستطع أن يفتحها. خرج عليه أخوه مصطفى بمساعدة أمراء الدويلات في المنطقة فهزمه وقتله. قام بإعادة ضم إمارات الأناضول وهى: آيدين، ومنتشا، وصاروخان، والقرامان. وبدأ يتجه لأوروبا مستأنفـًا حركة الجهاد ومؤدبًا للأوربيين الذين أساءوا للعثمانيين أيام المحنة التى حلت بهم أيام السلطان بايزيد. فتح المجر وأخذ الجزية من أمير الصرب مع تقديم فرقة من جنود الصرب لمساعدة السلطان في حروبه. واستعاد مدينة سالونيك والأفلاق وألبانيا. وعندما تجهز لحصار القسطنطينية نقض أمراء أوربا العهد معه فاتجه إليهم مرة أخرى، فأدب ملك المجر وأمير الأفلاق وأمير الصرب، وهزم جيشه وقتل قائده في معركة عند ترانسلفانيا من أملاك المجر، وهزم جيشه مرة أخرى، وأسر قائده فذهب السلطان بنفسه ولكنه هزم أيضًا.
وكذلك تمكن السلطان "مراد" عام 834 للهجرة من فتح "ألبانيا"، كما تمكن من استعادة "سلانيك" من البندقية، لما فتح السلطان العثماني مراد الثاني مدينة سلانيك عام 1431 م وهزم البندقيين شر هزيمة ودخل المدينة منتصراً- أعلم الحاجب السلطان أن وفداً من مدينة (يانيا) قد حضر، وهم يرجون المثول بين يديه لأمر هام.. تعجب السلطان من هذا الخبر، إذ لم تكن له أي علاقة بهذه المدينة التي كانت آنذاك تحت حكم إيطاليا.
كما تمكن من الانتصار على ملوك أوروبا في واقعة "فارنا" عام 848 للهجرة، والتي تحالف فيها ملوك أوروبا بعد أن قام "بابا روما" بإقناع ملك المجر بنكث العهد الذي بينه وبين "مراد الثاني"، فجمعوا جموعهم والتقى الجيشان في مدينة "فارنا" البلغارية، حيث تمكن الجيش العثماني من دحر الجيش الصليبي بعد أن قُتِل ملك المجر في المعركة. وفتوحات اخرى كثيرة.

نصيحة مراد الثاني لولده محمد الفاتح

"ولدي الحبيب؛ أتمنى من الله أن يزيدك من فضله وأن يمدك بالمزايا الحسنة، ولكن أعلم يا بني بأن أجمل المزايا هي تلك التي تأتي من بشرى نبينا صلى الله وعليه وسلم الذي يقول "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، يابني احرص دومًا أن تكون صاحب هذا الشرف العظيم".
"يا بني إدارة الدولة تحتاج إلى براعة وحكمة، لذا إياك وتصديق كل ما يقال لك سواء من حبيب قريب أو عدو لدود، فكر جيدًا في جميع الأمور التي تواجهها وأعطي القرار السديد بعد التفكير مرة ومرة".

وفاته

مرض السلطان مراد الثاني بمدة قصيرة في مدينة أدرنة، فأوصى أن يدفن في قبر عادي مكشوف دون قبة ، وأوصى أن يُخصَّص مكان لتلاوة القرآن بجانب قبره.
ثم توفى في 3 شباط/ فبراير سنة 1451م، وقد بلغ سنّ التاسعة والأربعين إلا أربعة أشهر.
إمتدة حكمه 29 سنة وعشرة أشهر و26 يوماً، ونقلت جنازته إلى مثواه الأخير في مدينة بورصة، ودفن حسب وصيته في يوم الجمعة، وتمت البيعة لولده محمد الثاني الفاتح.

والله ولي التوفيق