السلطان التاسع ياووز سليم خان الأول

د. نظام الدين إبراهيم أوغلو

الباحث الاكاديمي التركماني ـ تركيا

مقدمة

السلطان سليم خان الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح ولد في مدينة أماسيا يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1470، وهو أصغر أولاد بايزيد الثاني، تلقى تعليمه على يد أبرز علماء الدولة في ذلك العصر منهم الحاج عبدالله خليفة، وسعد الدين أفندي وتلقى دُرُوسًا في العُلُوم الشرعيَّة والسياسيَّة والآداب على يد المولى عبد الحليم بن علي القسطمونئي، الشهير بِـ«مولانا عبد الحليم أفندي». وكان يحضر مجالس الشيخ زنبيللي علي أفندي، وكمال باشا زادة، وإدريسي بتليسي.
لقد عينه والده السلطان بايزيد الثاني أميرًا على سنجق طرابزون وظل هناك ما بين 1487 إلى 1510. ثم تولى حكم الدولة العثمانية بتأييد من الإنكشارية في 24 أبريل/ نيسان 1512 الى 1520م ، وحكم 8 سنوات. وهو أول من لقب بالخليفة الاسلامية بشكل رسمي من بين الخلفاء العثمانيين كذلك بخادم الحرمين الشريفين وأيضًا حمل لقب أمير المؤمنين، وهو تاسع سلاطين أل عثمان. وخليفة المسلمين الرابع والسبعين، ولقب بلقب ياووز بمعنى القاطع والشجاع.
ومن مزايا السُلطان سليم كان مُتدينًا مُتمسكًا بِالعقيدة والشريعة السنيَّة، وتذكر بعض المصادر أنَّهُ كان مُتصوفًا يتبع الطريقة المولويَّة. وكان يُتقن اللُغات التُركيَّة والفارسيَّة والعربيَّة والروميَّة والتتريَّة، وكان شاعرًا يُجيد النظم بِاللُغات الثلاثة الأولى، وأحبَّ الآداب والموسيقى، فكانت مجالسه حافلة بِالشُعراء والأُدباء والعُلماء والفُقهاء والفنَّانين. وتنص المصادر كذلك أنَّهُ كان يكره البذخ والإسراف ويميلُ إلى البساطة في مأكله وملبسه وزينته. وهو أوَّل من حلق لحيته وأطلق شاربيه من آل عُثمان. ومن أهم المآخذ على هذا السُلطان أنَّهُ كان شديدًا مع رجاله وحاشيته وأتباعه ووزرائه، فقتل سبعة من وُزرائه لِأسبابٍ سياسية، وكان كُلُّ وزيرٍ مُهدَّد بِالقتل لِأقل هفوة تدفع السُلطان لِلشك بِأمر من أمور الدولة، أمَّا مع الرعيَّة فكان يتحرَّى العدل فيه. وصفهُ المُؤرِّخ أحمد بن يُوسُف القرماني بِقوله: «وَكَانَ رحمه الله عَالِمًا فَاضِلًا ذَكِيًّا حَسَنَ الطَّبْع بَعِيدَ الْغَوْر، صَاحِبَ رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ الْأَلْسِنَة الثَّلَاثَة: الْعَرَبِيَّة وَالتُّرْكِيَّة وَالْفَارِسِيَّة وَيَنْظُمُ نَظُمًا بَارِعًا حَسَنًا، وَكَانَ دَائِمَ الْفِكْرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُمَلَكَةِ». كما وصفه المُؤرِّخ شمس الدين مُحمَّد بن أبي السُرُور البكري المصري بِقوله: «وَكَان سُلْطَانًا قَهَّارًا ذَا هَيْبَةٍ وَشَهَامَةٍ مُتَكَاثِرَة، كَثِير التَّفَحُّص عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وَكَانَ فِي التَّجَسُّسِ لَهُ الْغَايَةُ، وَلَهُ الْجَوَاسِيس لِنَقْل الْأَخْبَار، وَمَهْمَا نَقَلُوه فَعَل بِمُقْتَضَاه. وَكَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِلتَوَارِيخِ، جَمْعَ مِنْهَا جُمْلَةً كَبِيرَة بِالتُّركِيَّة وَالْعَرَبِيَّة وَغَيْرِهَا. وَكَانَ حَسَنَ النُّظْمِ بِالتُّركِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ».
كانوا سبعة أخوة وهم؛ شاهان شاه، عالم شاه، أحمد، قورقود، سليم، محمد، محمود، وافاتهم المنية في حياة والدهم، أما سليم وأحمد وقورقود فبقي على قيد الحياة.
وكان للسلطان سليم الاول ثلاثة عشر ولدًا: من زوجته عائشة حفصة (سليمان الأول، شاه زادة أورخان، شاه زادة موسى، و قورقود وخديجة سلطان، وشاه سلطان، وفاطمة سلطان، وبيهان (بيخان) سلطان / ومن زوجته عائشة منكلي جيراي الاول (أويس باشا، وصالح، وحفيظة سلطان، وهانم، وقمر شاه).
وفي أواخر عهد والده بايزيد عصفت بِالدولة العُثمانيَّة اضطراباتٍ نتيجة صراع أبناءه، بما فيهم سليم، على العرش. كان السلطان سليم محارباً طموحاً فأراد أن يكون والياً على بعض المقاطعات في أوربا ليمارس الجهاد، وكان يؤيده في ذلك الانكشارية والعسكريون عامة، ولكن السلطان بايزيد الثاني رفض من ابنه أمر ولايته في مقاطعات أوروبا، كما رفض الولد ولاية طرابزون، فانتقل سليم إلى ابنه سليمان في ولاية كافا، ثم جمع جيشاً، وسار إلى أوروبا وحاول السلطان تهديد ولده الذي أصر على القتال، ونتيجة حبه للسلم تراجع عن قراره وعينه على بعض المقاطعات.
وفي نهاية الأمر بقيت السلطة لِلأخير نتيجة بدعم الإنكشاريَّة له، فتنحَّى والده وترك للسليم تدبير شُؤون البلاد والعباد. فاستطاع سليم من تصفية أخويه قورقود وأحمد زادة وأكثر أبنائهم خِلال السنة الأولى من حُكمه بعد أن استشعر منهم الخيانة والغدر، ثُمَّ حوَّل أنظاره شرقًا لِحرب الصفويين الذين كانوا يُغالون في تشيُّعهم ويضطهدون أهل السُنَّة والجماعة في بلاد إيران والعراق. وقد ألحق بالدولة الصفوية هزيمة قاسية في معركة جالديران في 23 أغسطس 1514 بِفضل الأسلحة المُتطوِّرة التي تزوَّد بها جيشه، ولِكفاءة طوائف الجُند العُثمانيَّة وبالأخص طائفة الإنكشاريَّة، وكذلك حارب المماليك وانتصر عليهم وتم اخراجهم من الشام ثم قضى على دولة المماليك في مصر المتحالفة مع الصفويين وضم أملاكها إلى الدولة العثمانية.
لقد توفي السلطان سليم في 22 سبتمبر/ أيلول 1520م، بسبب ظهور دُمَّل أي كيس إلتهابي في ظهره، ذهب إلى مدينة جورلو لأجل التداوي وبعد اربعين يوما توفي هناك. ودفن في منطقة الفاتح بمدينة اسطنبول.

عصيان سليم الأول على والده السلطان بايزيد الثاني

في الفترة الأخيرة لحكم بايزيد الثاني، انزعج سليم الأول جدا ًمن سوء إدارة والده للدولة وشؤونها إذ انتشر الفساد داخل مؤسسات الدولة وتوقفت الفتوحات العثمانية، كما كان والده قد شاخ وبدأت تظهر عليه سمات الشيخوخة والهرم والزوال، هذه العوامل دفعت السلطان سليم الأول يبدأ بالتفكير لاعتلاء العرش والإمساك بزمام الأمور لإعادة إصلاح الشؤون الإدارية للدولة العثمانية.
اشتعلت نيران الحروب الداخليّة في أواخر عهد السلطان بايزيد الثاني للعديد من الأسباب، والتي لم تهدأ إلا بعد وفاته، حيث عين السلطان بايزيد بن سليمان ابنه سليم والياً على ولاية كافا بالقرم، ولكنّ سليم لم يرضى عن هذا التعيين، وترك مقر ولايته مسافراً إلى كافا، وطلب من أبيه تعيينه والياً على ولاية من الولايات الأوروبيّة، ولكن السلطان رفض، وأصرّ على بقائه والياً في طرابزون. خشي أخو سليم الأمير أحمد من كون سليم يسعى للعرش، ولذلك استغلّ فرصة انتصاره على جيش التحالف التركماني الصفوي في آسيا، وذهب إلى القسطنطينيّة لاستعراض قوته العسكريّة أمام السلطان وإخوته الأمراء، ولكنّ سليم أثارَ الفتنة في تراقيا رداً على فعل أخيه أحمد، وعصى والده جهاراً، ثمّ سار بجيشٍ جمعه من قبائل التتار إلى بلاد الروملي، ولكنّ والده بعث إليه جيشاً لإرساله، ولما وجد ابنه مصراً على الحرب عيّنه السلطان والياً في أوروبا حقناً للدماء، كما أنّه منع دخول ابنه أحمد إلى العاصمة حتى لا يخلعه أو يقتله لتولي الحكم. في هذا الوقت دعا السلطان بايزيد ديوانه للانعقاد والتشاور لتنصيب أحد أبنائه خلفاً له، واجتمع الرأي على ابنه أحمد، ولكن ما إن وصل الخبر إلى سليم حتى غضب، وأعلن الثورة على والده، وذهب إلى مدينة أدرنة، وسيطر عليها، وأعلن نفسه سلطاناً، ولكنّ أباه السلطان بعث جيشاً يقدر بأربعين ألف جندي، وهزمه في الثالث من آب لعام 1511م، وجعله يلجأ فاراً إلى بلاد القرم.

اعتلاؤه العرش ومحاربة إخوته

عفا السلطان بايزيد الثاني عن الأمير سليم الأول، وسمح له بالعودة إلى ولايته، وأتى إليها مع الانكشاريّة باحتفال زائد، وذهبوا إلى سرايا السلطان، وطلبوا منه التنازل عن الملك للأمير سليم، وقبل السلطان، وتنحى عن عرشه بتاريخ 25 نيسان عام 1512م، وتولى مقاليد الحكم بشكلٍ رسمي بتاريخ 23 من أيار من نفس العام.
لقد أقدم سليم بعد أن تُوّج سلطانًا على توزيع المكافآت على الإنكشارية كما جرت العادة قبل عهده، وزاد من ضرورتها في أيامه أنه لم يكن ليتربع على العرش لولا مساعي هؤلاء وضغطهم على والده. وما أن تولّى سليم مقاليد الحكم حتى أعلن أخاه أحمد العصيان ورفضه الخضوع له، ونصب نفسه حاكمًا على أنقرة، وأرسل ابنه "علاء الدين" فاحتل مدينة بورصة في 19 يونيو سنة 1512، وراسل الوزير "مصطفى باشا" يخبره عن عزمه توطيد نفوذه وخلع أخيه ووعده بمنصب كبير إن نقل إليه جميع تحركات سليم ونواياه. وكان السلطان سليم قد عقد العزم على القضاء على إخوته، وأولاد إخوته حتى يهدأ باله بداخليته ولا يبقى له منازعٌ في المُلك، فعيّن ابنه سليمان حاكمًا للقسطنطينية، وسافر بجيوشه إلى آسيا الصغرى، أما أحمد فجمع جيشًا من محاربيه وقاتل الجنود العثمانية، فانهزم وقُتل بالقرب من مدينة يكي شهر في يوم 24 أبريل سنة 1513م، الموافق في 17 صفر سنة 919هـ.
فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة، ولم يتمكن من القبض عليه لوصول خبر قدومه إليه عن طريق الوزير "مصطفى باشا". لكن علم السلطان بهذه الخيانة فقتل الوزير شر قتلة جزاءً له وعبرة لغيره، ثم ذهب إلى بورصة حيث قبض على خمسة من أولاد إخوته بما فيهم "علاء الدين" سالف الذكر، وأمر بقتلهم جميعًا. وبعدها توجّه بسرعة إلى صاروخان مقر أخيه "قرقود" ففر منه إلى الجبال، وبعد البحث عنه عدّة أسابيع قُبض عليه وقُتل.
وبهذا استفرد سليم بالحكم واطمأن خاطره من جهة داخليته، فعاد إلى مدينة أدرنة حيث كان بانتظاره سفراء من قبل جمهورية البندقية ومملكة المجر ودوقيّة موسكو والسلطنة المملوكيّة، فأبرم مع جميعهم هدنة لمدة طويلة بما أن مطامعه كانت متجهة إلى بلاد فارس التي كانت أخذت في النموّ والاتساع في عصر ملكها، الشاه "إسماعيل الأوّل بن حيدر الصفوي".

حرب المماليك والعثمانيين.. بين السلطان الشاب والسلطان المُحنّك

كانت الدولة المملوكيّة التي نشأت في مصر على أنقاض الدولة الأيوبيّة وتوسّعت حتّى ضمّت إلى مصر النوبة وشمال السودان وأراضي الحجاز واليمن وكامل الشام وبعض الإمارات التركمانيّة التي تقع على الحدود مع الدولة العثمانيّة، كانت أراضيها ضعف ونصف أراضي الدولة العثمانيّة، وكذلك كانت الدولة تشيخ، فقد مرّ عليها أكثر من قرنين ونصف من الزمان، استطاعت خلالهما مدّ نفوذها على كلّ هذه الرقعة الضخمة، بعدما طردت الصليبيين نهائياً وإلى الأبد من ديار المسلمين، وبعدما قضت على الخطر المغوليّ في معركة عين جالوت الشهيرة.
وبعد قبول المماليك لعدد كبير من رجال الدولة الفارين وبعد إجراء اتفاق باطني مع الصفويين وبعد ورود معلومات استخباراتية للسلطان سليم الأول تفيد بتحريك الممالك لجيوشهم إلى القرب من الحدود العثمانية استعدادا ً للهجوم على الدولة العثمانية بعد انطلاق سليم الأول صوب إيران.
وجد السلطان سليم الأول أنه من الصواب تصفية الدولة المملوكية قبل الانطلاق نحو إيران، وبعد رفض المماليك مرور الجيش العثماني بقيادة خادم سنان باشا من سوريا، عام 1916، فاض غضب السلطان سليم الاول وأمر بتجهيز الجيش وبتاريخ 5 يونيو 1516 انطلق بجيشه الجرار نحو مصر، قبل الانطلاق نحو مصر أراد السلطان سليم الأول فتح الشام، التي كانت تُعتبر أحد ولايات مصر، ومن ثم الانطلاق نحو القاهر معقل المماليك.
خاض السلطان سليم الأول، في 24 أغسطس 1516، معركة مرج دابق بالقرب من حلب ومن خلالها استطاع فتح بلاد الشام وبعد اتمامه لفتح جميع ولايات الشام أكمل مسيره نحو مصر، خلال طريقه نحو مصر وصل إلى القدس، بتاريخ 30 ديسمبر 1516، وأعلن الحماية العثمانية عليه، وفي 2 يناير 1517 وصل إلى غزة ودخلها دون حرب.
وصل السلطان سليم الأول مشارف القاهرة وواجه الجيش المملوكي بقيادة طومان باي، في 22 يناير 1517، وانتصر على طومان باي وجيشه، وبعد وقوع طومان باي بالهزيمة فر وبعض جنده من أرض المعركة وفي 24 يناير 1517 دخل السلطان سليم القاهرة.
دخل السلطان سليم القاهرة وسط مراسم استقبال شعبية ورسمية مُهيبة، وبعد وصوله للقاهرة تسلم الخلافة من الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث، بعض المصادر تُشير إلى أنه أخذها غصبا ًوبعضها تؤكد أنه تُوج بها من قبل محمد المتوكل على الله الثالث عن سابق رغبة، وبذلك يُعد السلطان سليم الأول أول الخلفاء العثمانيين، وحمل سليم بعد هذا التاريخ لقب خادم الحرمين الشريفين كأول زعيم إسلامي يحمله .
استمر طوماني باي في محاربة الجيش العثماني في إطار حرب فر وكر، ولكن في 13 أبريل 1517 تمكن الجيش العثماني منه وأُعدم بنفس اليوم على باب قلعة القاهرة، وبذلك تكون عتبة التاريخ الخاصة بالدولة المملوكية قد انتهت وبدأت عتبة التاريخ العثمانية التي بدأت بسيطرتها على منطقة الشرق الأوسط بعد هذا التاريخ. وقبل انطلاق السلطان سليم الأول نحو بلاد الشام ومصر وبعد فرض حكمه عليهم أرسل الشاه إسماعيل العديد من الرسل والرسائل التي تحتوي مضمون عقد السلام مابين الدولة الصفوية والدولة العثمانية. رفض السلطان سليم الأول جميع عروض السلام التي عُرضت عليه من قبل الشاه إسماعيل قبل فتح بلاد الشام ومصر، وتروي الوثائق التاريخية بأن الشاه إسماعيل أصابه القلق خوفا ً من إمكانية إزدياد قوة السلطان سليم الأول بعد فتحه لبلاد الشام ومصر ورأى بأن الغنائم التي سيحصل عليها سليم الأول، ستمكنه لا محال من محو وجوده في إيران تماما ً.
بعد استمرار إرسال الشاه إسماعيل للرسل والرسائل الداعية للسلام بين الدولتين، لاحظ السلطان سليم الأول الإرهاق الشديد الذي طال جنده نتيجة لحرب فتح الشام والمصر، التي امتدت لقرابة العام، لذا قرر قبول إقامة السلام مع الشاه إسماعيل، ولكن حتى يضمن غدر الشاه إسماعيل أمر بتقوية الحماية على الثغور الشرقية الواقعة بمحازة الدولة الصفوية.
عاد السلطان ياووز سليم إلى إسطنبول عام 1517، بعد قدومه لإسطنبول على الفور أمر بتجهيز الجيش للإنطلاق نحو الغرب وأوروبا، استغرق تجهيزه للجيش والعتاد ثلاث سنوات، وبعد تحقيق العدة والعتاد المطلوبين انطلق، بتاريخ 26 أغسطس 1520، نحو أدرنة.
ولكن بسبب خروج بعض الرقاقات الحمراء في ظهره لم يستطع استكمال مسيرته نحو أوروبا، على الرغم من تلقيه علاج مستمر لمدة أربعين من قبل الطبيب الأعلى أحمد شلبي إلا أنه لم يتعافي من مُصابه وفي 21 سبتمتبر 1520 وفاته المنية منتقلا ً إلى مثواه الأخير.
بعد وفاته نُقل جسده من أدرنة إلى إسطنبول ودُفن بالقرب من جامع السلطان سليم، وتولى السلطنة من خلفة.


حربه مع الصفويين

أرسل سليم الأول لشاه الصفويين رسالة، قائلًا: «أنا زعيم وسلطان آل عثمان أنا سيد فرسان هذا الزمان أنا الجامع بين شجاعة وبأس أفريدون الحائز لعز الاسكندر والمتصف بعدل كسرى أنا كاسر الأصنام ومبيد أعداء الإسلام أنا خوف الظالمين وفزع الجبارين المتكبرين أنا الذي تذل أمامه الملوك المتصفون بالكبر والجبروت وتتحكم لدى قوتي صوالج العزة والعظامات أنا الملك الهمام السلطان سليم خان بن السلطان الأعظم مراد خان أتنازل بتوجيه إليك أيها الأمير اسماعيل يا زعيم الجنود الفارسية، ولما كنت مسلماً من خاصة المسلمين وسلطاناً لجماعة المؤمنين السنيين الموحدين، وإذ قد أفتى العلماء والفقهاء الذين بين ظهرانينا بوجب قتلك ومقاتلة قومك فقد حق علينا أن ننشط لحربك وتخلص الناس من شَركك، إن علمائنا ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص يا إسماعيل بصفتك مرتداً وأوجبوا على كل مسلم حقيقي أن يدافع عن دينه وأن يحطم الهراطقة في شخصك أنت وأتباعك البلهاء ولكن قبل أن تبدأ الحرب معكم فأننا ندعوكم لحظيرة الدين الصحيح قبل أن نشهر سيوفنا وزيادة على ذلك فإنه يجب عليك أن تتخلى عن الأقاليم التي اغتصبتها منا اغتصباً ونحن حينئذ على استعداد لتأمين سلامتك.
ولم يضيع السلطان سليم الأول الوقت، وأعد العدة لمنازلة الصفويين، وخشي في طريقه أن يعترضه السكان الشيعة الذين هم داخل الدولة العثمانية على الحدود المتاخمة للصفويين، فأمر بقتلهم، ثم سار مباشرة في اتجاه عاصمة الصفويين (تبريز) وأراد الجيش الصفوي أن يخدع العثمانيين بالفرار من أمامه حتى يصاب الجيش بالإرهاق فينقضوا عليه، وحدث الصدام بين الجيشين في جالديران شرقي الأناضول عام 920هـ، وانتصر العثمانيون، وبعدها بعشرة أيام دخل السلطان سليم الأول مدينة تبريز واستولى على خزانتها، ثم اقترب فصل الشتاء ففترت عزائم الإنكشارية، فانتظر السلطان حتى انتهى فصل الشتاء ثم سار مرة أخرى في اتجاه الدولة الصفوية، واستولى على بعض القلاع في أذربيجان، ثم عاد إلى إستانبول وجمع ضباط الإنكشارية الذين فترت عزيمتهم وامتنعوا عن مواصلة الزحف عندما حل فصل الشتاء، فقتلهم جميعًا حتى يكونوا عبرة لغيرهم.

انتقال الخلافة من بني العبَّاس إلى بني عُثمان بشكل رسمي

لقد أجمع عليها الكثير من المصادر التاريخيَّة، أن العثمانيون تسلموا الخلافة الإسلامية في زمن السلطان ياووز سليم الاول من الدولة العباسية عام 1516م، أما بشكل رسمي تسلموها عام 1517م، وحكموا إلى عام 1924م.فإنَّ الخليفة العبَّاسي محمد المُتوكِّل على الله تنازل عن الخِلافة لِلسُلطان سليم بُعيد انتقاله معه إلى إسلامبول. وتقول إحدى الروايات أنَّ هذا التنازل جرى بِمراسم في جامع آيا صوفيا، في حين تقول رواية أُخرى أنَّ المُتوكِّل قلَّد السُلطان سليم سيف الخلافة وألبسهُ الخُلعة في جامع أبو أيُّوب الأنصاري، وسلَّمهُ مُخلَّفات الرسول، وهي البُردة الشريفة التي كان يلبسُها الخُلفاء العبَّاسيُّون في بغداد، وبعضٌ من شعر لحية النبيّ، والسيف ذو الوشاح أي سيف الخليفة عُمر بن الخطَّاب. وقد اشترك في هذه المراسم عُلماء الأزهر الشريف الذين جُلبوا إلى إسلامبول، إلى جانب العُلماء العُثمانيين وقاضي قُضاة الشافعيَّة في مصر وابنا عُمومة المُتوكِّل أبا بكر وأحمد، ومُحمَّد بن قانصوه الغوري وعائلته. وأمر السُلطان سليم بِنقل مُخلَّفات الرسول وما بقي من أماناتٍ مُقدَّسةٍ في القاهرة ومكَّة إلى سراي طوپ قاپي في العاصمة العُثمانيَّة، حيثُ أودعها في جناحٍ خاص عُرف بِـ«جناح خُرقة شريفة». وهكذا أصبح العُثمانيُّون أوَّل سُلالة خُلفاءٍ مُسلمين غير قُرشيين، وقد أجاز العُلماء الأحناف صحَّة انتقال الخِلافة إلى بني عُثمان بعد أن اجتمعت لِلسُلطان سليم وخُلفائه من بعده ، وحتى أننا نجد داخل جامع آيا صوفيا. تنُصُّ إحدى الروايات أنَّ الخليفة العبَّاسي محمد المُتوكِّل تنازل عن الخِلافة لِلسُلطان سليم في مراسم أُقيمت بهذا المسجد. وعلى الحُقُوق الخمسة الواجب على كُلِّ خليفةٍ أن يتمتَّع بها:
1ـ حق السيف: ومعنى ذلك أنَّ طالب الخِلافة يجب أن يقوم بِدعوته أنصارٌ لا يقوى عليهم مُناظرٌ آخر على وجه الأرض، وقد كان ذلك شأن السُلطان سليم يوم التمس الخِلافة بعد ضمِّه الديار الشَّاميَّة والمصريَّة والحجازيَّة.
2ـ حق الإنتخاب: أي مُصادقة أهل الحل والعقد، وهو مجلسٌ من الأئمة والعُلماء، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ هذا المجلس كان في أوَّل عهد الإسلام بِالمدينة المُنوَّرة، ثُمَّ انتقل إلى دمشق، ثُمَّ إلى بغداد، ونُقل من بغداد إلى القاهرة، فيجوز أيضًا نقله من القاهرة إلى إسلامبول. فلمَّا سيطر السُلطان سليم على مصر حمل معهُ جماعةً من عُلماء الأزهر كما أُسلف، وأضاف إليهم عدَّة من العُلماء العُثمانيين، وألَّف من الفئتين مجلسًا صادق على انتخابه. ومُنذ ذلك الوقت أصبحت هذه هي العادة الجارية في تقليد الخُلفاء العُثمانيين السيف من أيدي العُلماء.
3ـ الوصاية: وهي وصاية الخليفة لِمن يخلفه بعد موته. وبحسب هذه الرواية فإنَّ المُتوكِّل كان قد أوصى بِمصر يوم أخذها السُلطان سليم بأن تؤول الخِلافة إليه، أي لِسليم.
4ـ حماية الحرمين الشريفين: أي يجب على الخليفة أن يكون قائمًا على حماية الحرمين الشريفين من الأخطار الخارجيَّة وخدمتهما وصيانتهما، وقد تحقَّق هذا لِلسُلطان سليم بعد أن مَلَكَ الحجاز وسلَّمه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين.
بعض الآثار النبويَّة المحفوظة في جناح الخرقة الشريفة بِسراي طوپ قاپي. نصلا السيفان باقيان من عصر الرسول، أمَّا الغمدان والمقبضان صُنعت خلال العصر العُثماني لِاهتراء الأصليَّة.
5ـ الاحتفاظ بِالأمانات المُقدَّسة: وهي المُخلَّفات النبويَّة التي سلمت من أيدي المغول حينما اجتاحوا بغداد، فحملها الخُلفاء العبَّاسيُّون معهم إلى القاهرة، وما زالت فيها حتَّى نُقلت إلى إسلامبول.
وأجاز عُلماءٌ آخرون عاصروا السُلطان سليم انتقال الخِلافة إليه، منهم الفقيه المُحدِّث عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني الشافعي، فقال في كتابه «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»: «… وَفِي كُتُبِ أَصْحَابِ إمَامِنَا الشَّافِعِيّ رضي الله عنه يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ بَالغًا، عَاقِلًا، مُسْلمًا، عَدلًا، حُرًّا، ذَكَرًا، مُجْتَهِدًا، شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَكِفَايَة، قُرَشِيًا… فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قُرَشِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَكِنَانِيّ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فغيره…».
إنجازاته وأعماله

سعى السلطان سليم الأول جاهداً نحو توحيد المناطق الإسلاميّة؛ وذلك من أجل جعلها يداً واحدةً في مواجهة التحالف الصليبي، خاصةً بعد سقوط الأندلس، كما ازدادت رغبته في توحيد المسلمين بعد احتلال البرتغاليين لبعض المواقع في جنوب العالم الإسلامي، ومحاولتهم للوصول إلى المدينة المنورة، ونبش قبر الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومساومة المسلمين على القدس الشريف.
وقام السلطان سليم ببناء عدد كبير من المساجد ورمم البعض الآخر، ومن أبرز هذه المساجد: مسجد فاتح باشا ومسجد ألبستان في ديار بكر، ومسجد ابن العربي في دمشق، وترميمه للمسجد الأموي، وبدأ العمل في عهده على بناء مسجد يحمل اسمه، ولم يكتمل إلا بعد وفاته.


مرض السلطان سليم الاول

وفي هذه الفترة أصيب السلطان بمرض عُضال يقول البعض أنه كان الجمرة الخبيثة، ويخمنون أنه أصيب به لشدّة تعرضه للجثث في ساحات المعارك واستنشاق روائح الأجساد المتحللة، بالإضافة إلى سفره إلى بلدان ذات مناخات مختلفة ومتناقضة أشد النقيض وتعرّضه لما في جوّها من أدواء. ويقول آخرون أن ما أصيب به السلطان لم يكن سوى سرطان جلديّ أصيب به جرّاء تعرّضه الطويل لأشعة الشمس خلال غزواته وسفره على صهوة جواده. بينما يقول البعض أنه جرى تسميمه من قبل طبيبه الخاص الذي كان يداويه. وعلى الرغم من ألمه، استمر السلطان بسيره إلى أدرنة لإتمام مشروع فتح رودس، لكن لم يمهله المنون ريثما يتم ذلك، فعاجله في رحلته هذه، وتوفي في يوم 22 سبتمبر سنة 1520م، الموافق في 9 شوّال سنة 926هـ، في السنة التاسعة لحكمه وحوالي الخمسين من عمره.

وفاة السلطان سليم الاول

لقد عاد إلى اسطنبول في 25 يوليو/ تموز 1518، بعد حملة استغرقت عامين، ليبدأ في أبريل/ نيسان 1519، بتزويد الأسطول العثماني بسفن جديدة وصناعة مدافع للقوات البحرية استعدادًا لحملة رودوس.
غادر إلى أدرنة في 18 يوليو/ تموز 1519 بعد انتشار وباء الطاعون في إسطنبول، إلا أن حالة الصحية بدأت بالتدهور على الطريق ولم يستطع الذهاب أبعد من جورلو (بلدة بين إسطنبول وأدرنة)، بسبب ورم كبير في ظهره، حيث توفي في 22 سبتمبر/ أيلول 1520.
وقد أخفى طبيبه الخاص خبر موته عن الحاشية ولم يبلغه إلا للوزراء، فاجتمع كل من پير محمد باشا وأحمد باشا ومصطفى باشا، وقرروا إخفاء هذا الأمر حتى يحضر الأمير سليمان من إقليم صاروخان خوفًا من أن تثور الإنكشارية كما هي عادتهم عند تولّي كل سلطان. فأُرسل إلى سليمان خبر موت أبيه، فقام قاصدًا القسطنطينية ودخلها في يوم 29 سبتمبر، الموافق في يوم 16 شوّال، من نفس السنة، وبعد ظهر ذلك اليوم وصل الصدر الأعظم پير محمد باشا من أدرنة وأخبر عن وصول جثمان السلطان سليم في اليوم التالي. وعند ظهر يوم 30 سبتمبر وصل الجثمان، فخرج السلطان سليمان والوزراء والأعيان لمقابلة النعش خارج المدينة، ثم ساروا في موكب الجنازة حتى واروا سليمًا التراب على أحد مرتفعات المدينة، حيث كان يبني مسجدًا يحمل اسمه، وأمر السلطان ببناء مدرسة وعمارة لإطعام الفقراء صدقة على روح والده.

والله ولي التوفيق