السلطان الصوفي الثامن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح

نظام الدين إبراهيم أوغلو
الباحث الآكاديمي

مقدمة

ولد السلطان بايزيد الثاني في ديماتوقا اليونانية (Dimetoka) عام 1447م، وكان أكبر أولاد أبيه السلطان محمد الفاتح. حكم في عهد أبيه مقاطعة أماسيا. وبعد وفاة والده السُّلطان محمَّد الفاتح تولَّى السُّلطة في البلاد وأصبح ثامن سلاطين الدولة العثمانية.
وتنُصُّ المصادر أنَّ السُلطان محمد الفاتح ترك وصيَّةً لِوليّ عهده بايزيد، وهو على فراش الموت، يُوصيه فيها بِالاستقامة وحُسن الحُكم والإدارة والانقياد لِأوامر ونواهي الشريعة الإسلاميَّة والإحسان لِلرعيَّة. وسنبين ادناه نص الوصية.
كان السلطان بايزيد الثاني ورعاً تقياً، يقضي العشرة الأخيرة من شهر رمضان في العبادة والذكر والطاعة، وكذلك كان سلطاناً وديعاً هادئاً، نشأ محبَّاً للأدب، شاعرًا ومكرماً للشعراء والعلماء وقد خصص مُرتَّبات لأكثر من ثلاثين شاعراً وعالماً، وكذلك كان متفقِّهاً في علم الشَّريعة الإِسلاميَّة والعلوم العربية، وشغوفاً بعلم الفلك. لقد استعان بالخبراء الفنِّيِّين اليونانيِّين، والبلغاريِّين في تحسين شبكة الطُّرق، والجسور؛ لربط أقاليم الدَّولة ببعضها. وكان بارعاً في رمي السهام، ويباشر الحروب بنفسه، وكان يؤلف الموسيقى ويتقن فن الخط العربي لقد أخذ الخط عن الشيخ حمد الله الأماسي، كما أخذ العُلُوم العسكريَّة عن كبار القادة وأُمراء الجيش، وبسبب هذا التحصيل العلمي الكبير وُصف بايزيد الثاني بِأنَّهُ «أعلم بني عُثمان» بعد أبيه الفاتح.
لقد درس على يد عدد من أشهر علماء وأُدباء واساتذة عصره ، بمختلف العلوم لتثقيفه بِعُلُوم ذلك العصر، منهم، لقد عيَّن لهُ أتابك (Atabeg أي مربو الابناء) هو علي باشا الخادم لِيُشرف على تربيته وتأديبه، وأخذ بايزيد العُلُوم الشرعيَّة عن أحد أكبر عُلماء زمانه، وهو شيخ الطريقة البيرميَّة، الشيخ مُحيي الدين مُحمَّد الإسكليبي، الذي يُروى أنَّهُ عندما اعتزم الذهاب لِلحج قال لِتلميذه بايزيد: «إنِّي أَجِدْكَ بَعْد إِيَابِيَ مِنْ الْحِجَازِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِ السَّلْطَنَةِ»، وكان كما قال، فأحبَّهُ بايزيد محبَّةً عظيمة حتَّى اشتهر بين الناس بِـ«شيخ السُلطان»، لقد بنى له بايزيد، حينما أصبح سُلطانًا، زاويةً في العاصمة إسلامبول. كما تلقَّى السُلطان المُستقبلي علمي التفسير والحديث على يد المولى الخطيب قاسم بن يعقوب الأماسي. وإلى جانب العُلُوم الشرعيَّة، أخذ بايزيد الرياضيات والفلسفة عن أعلام تلك العُلُوم في عصره، وكذلك أخذ دروسه من علماء أخرين مثل ملا لطفي ومؤيد زادة عبدالرحمن وابن كمال، وإدريسي بتليسي، والشيخ يافاسي، وتاجي زادة جعفر جلبي، وزنبيللي علي أفندي والشاعر سعدي جلبي وإلى أخره. وأتقن اللُغات الشرقيَّة: العربيَّة والفارسيَّة بالاضافة إلى اللهجة الجغطائيَّة لغة التركستان الشرقية والشماليةÇağatay Türkçesi ) ( والأبجديَّة الاويغورية القريبة من اللغة التركية، مع آدابها، إلى جانب لُغته الأُم التُركيَّة، وتعلَّم القليل من الإيطاليَّة، وتعلَّم تأليف الشعر والتلحين والتذهيب وصنع الأقواس.
وكان للسلطان بايزيد الثاني ثمان اولاد كلهم ماتوا عدا ثلاثة منهم، فعين أولاده الثلاثة الذين بقوا أحياء على الولايات، فكان شيخ قُرقود زادة والياً على شرقي الأناضول، وشيخ أحمد زادة على أماسيا، وسليم الأول على طرابزون، كما عين حفيده سليمان بن سليم على مدينة (كافا) في شبه جزيرة القرم.
ومن المواقف التي واجهت ا لسلطان بايزيد الثاني كان اربع إخوان: سلطان جم، وجوهر خان خاتون، وشيخ زادة مصطفى. وبعد توليه السلطنة أن نازعه أخوه جم عليها، وحصلت خلافات في عهده بين دولته والدولة المملوكية وتحاربت الدولتان حربا وتم بعدها إبرام الصلح بين الطرفين. ومن مواقفه وقوفه مع مسلمي الأندلس يرنو المورسكيون بأنظارهم إِلى ملوك المسلمين في المشرق، والمغرب لإِنقاذهم، وتكرَّرت دعوات وفودهم، ورسائلهم إِليهم للعمل على إِنقاذهم ممَّا يعانونه من ظلمٍ، وخاصَّةً من قبل رجال الكنيسة، (المورسكيون بالقشتالية في الاندلس هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي).
وفي زمنه ظهرت علاقاته الدبلوماسيَّة مع الدُول الغربية وروسيا بعد أن أدرك الآعداء، أنهم لا يستطيعون مواجهة القوات الجهادية في حرب نظامية يحققون فيها أطماعهم لهذا لجأوا إلى أسلوب خبيث تستروا به تحت مسميات العلاقات الدبلوماسية لكي ينخروا في عظام الأمة ويدمروا المجتمع المسلم من الداخل. وفي زمنه ظهر السلالة الصفوية الشيعيَّة في أذربيجان، وسيطرت على أغلب البلاد الإيرانيَّة بزِعامة قائدها الشاه إسماعيل بن حيدر وفرض الشاه التشيُّع على الناس، قاومهم بايزيد الثاني فالحق بهم هزائم في عدة مناسبات. وقد توفي عام 1512، وتولى الحكم من 1481م حتى 1512م. حكم 31 سنة، ودفن في منطقة الفاتح باسطنبول.

نص وصية محمد الفاتح لولده بايزيد الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
ها أنا ذا أموت ولكنني غير آسف لِأنِّي تاركٌ خلفًا مثلُك: كُن عادلًا صالحًا رحيمًا، وابسط على الرعيَّة حمايتك بِدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإنَّ هذا هو واجب المُلُوك على الأرض. قدِّم الاهتمام بِأمر الدين على كُلِّ شيء، ولا تفتر بِالمُواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمُّون بِأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفُحش، وجانب البدع المُفسدة، وباعد الذين يُحرِّضونك عليها. وسِّع رُقعة البلاد بِالجهاد، واحرُس أموال بيت المال من أن تتبدَّد. إيَّاك أن تمُدَّ يدك إلى مال أحدٍ من رعيَّتك إلَّا بِحق الإسلام، واضمن لِلمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك لِلمُستحقين. وبِما أنَّ العُلماء هم بِمثابة القُوَّة المبثوثة في جسم الدولة، فعظِّم جانبهم وشجعِّهُم، وإذا سمعت بِأحدٍ منهم في بلدٍ آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بِالمال. حذارِ حذارِ لا يغُرَّنَّك المال ولا الجُند، وإيَّاك أن تُبعد أهل الشريعة عن بابك، وإيَّاك أن تميل إلى أيِّ عملٍ يُخالف أحكام الشريعة، فإنَّ الدين غايتنا، والهداية منهجنا، وبِذلك انتصرنا. خُذ منِّي هذه العبرة: حضرتُ هذه البلاد كنملةٍ صغيرة، فأعطاني الله تعالىٰ هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحذُ حُذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ أو أكثر من قدر اللُّزوم، فإنَّ ذلك من أعظم أسباب الهلاك.

صراعه مع أخيه الامير جم

كان الأمير «جم» حاكماً في عهد أبيه في مقاطعة القرمان وعندما بلغه نبأ وفاة أبيه السلطان محمد الفاتح إلى ابنه جم سار إلى بورصة، واحتلها عنوة، وقد استطاع أن يتحصَّل على اعتراف السُّكان به سلطاناً على الدَّولة العثمانيَّة في المناطق الخاضعة له، وبعد أن استتبَّ له الأمر في بورصة وما حولها؛ أرسل إِلى أخيه بايزيد يطلب منه عقد الصُّلح، ويقترح عليه التَّنازل، أو تقسيم الدَّولة العثمانيَّة إِلى قسمين: القسم الأوربيِّ لبايزيد، والقسم الآسيويِّ له، لكن بايزيد رفض؛ وأصرَّ على أن تبقى الدَّولة موحَّدةً تحت سلطته، وأعدَّ جيشاً ضخماً سار به إِلى بورصة، وهاجمها، وفرَّ منها «جم» إِلى سلطان المماليك قايتباي Kayıtbay في مصر والتجأ إلى المماليك عام 886 ه/ 1482م حيث بقي عاماً كاملاً فرحَّب به، وأكرمه، وأمدَّه بجميع ما احتاجه من أموالٍ للسَّفر مع أسرته إِلى الحجاز؛ لأداء فريضة الحجِّ. وبعدها انتقل إلى حلب، لقد بدأ فتنة الأمير قاسم بيك القرماني حفيد أمراء القرمان، وبدأ جم يراسله ووعده بإعادة إمارة القرمان إن تمكن الأمير جم أن يحكم الدولة العثمانية، فسارا معاً للهجوم على قونيا لكنهما فشلا فشلاً ذريعاً. وحاول الأمير جم المصالحة مع أخيه السلطان أن يعطيه مقاطعة، فرفض ذلك السلطان حيث فهم تقسيم الدولة ، وانطلق الأمير جم إلى رهبان جزيرة رودوس فاستقبلوه، غير أن السلطان اتصل بهم ، وطلب منهم إبقاء الأمير جم عندهم تحت الإقامة الجبرية مقابل دفع مبلغ من المال من السلطان للرهبان، وعدم التعرض للجزيرة ما دام حياً فوافق الرهبان على ذلك، ورفضوا تسليمه إلى ملك المجر، ثم رفضوا تسليمه إلى إمبراطور ألمانيا ليتخذوه سيفاً يقاتلون به الدولة العثمانية، ولكنه سلم بعدئذ إلى فرنسا، ومنها إلى البابا، والمهم أنه توفي عام 900 ه/ 1495م وهو بهذه الصورة وقد استراح منه السلطان سواء أكان تحت الإقامة الجبرية أم عندما فارق الحياة.
ولما عاد من الأراضي المقدَّسة إِلى مصر أرسل إِليه السُّلطان بايزيد يقول له: (بما أنَّك اليوم قمت بواجباتك الدِّينية في الحجِّ، فلماذا تسعى إِلى الأمور الدُّنيويَّة، من حيث إنَّ المُلك كان نصيبي بأمر الله، فلماذا تقاوم إِرادة الله؟ فأجابه بقوله: هل من العدل أن تضطجع على مهد الرَّاحة، والنَّعيم، وتقضي أيامك بالرَّغد واللَّذات، وأنا أحرم من اللَّذة والرَّاحة، وأضع رأسي على الشَّوك؟! وقام «جم» بالاتِّصال بكبار أتباعه في الأناضول، وأثارهم ضدَّ بايزيد، وتقدَّم بأتباعه ليغتصب العرش، ولكنَّه هزم، واستأنف المحاولة، فهزم أيضاً.
والتجأ «جم» إِلى رودس حيث يوجد بها فرسان القدِّيس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقاً إِلا أنَّه نقضه تحت ضغط بايزيد، وأصبح «جم» سجيناً في جزيرة رودس، وكسب فرسان القدِّيس يوحنا بهذه الرَّهينة الخطيرة امتيازاتٍ، طَوْراً من بايزيد الثَّاني، ومرَّةً أخرى من أنصار «جم» بالقاهرة، فلمَّا تحصَّل رئيس الفرسان على أموالٍ ضخمةٍ؛ باع رهينته للبابا أنوست الثَّامن، فلمَّا مات هذا البابا ترك «جم» لخلفه إِسكندر السَّادس، ولكنَّ الأخير لم يبق على «جم» كثيراً؛ حيث قُتل، واتُّهم في ذلك بايزيد الثَّاني؛ الَّذي تخلَّص من خطر أخيه. وقيل أن السلطان جم وعائلته غيروا دينهم الى النصرانية.
وسبب الفتنة كانت رغبة الصدر الأعظم قرماني محمد باشا في تولية الأمير جم، لذا فقد أرسل من يخبره بوفاة والده كي يأتي وربما استطاع تسلم الأمر، غير أن حاكم الأناضول سنان باشا أدرك اللعبة فقتل رسول الصدر الأعظم إلى الأمير جم، قبل أن ينقل له الخبر، وكانت رغبة الانكشارية وعطافتهم مع الأمير بايزيد فلما أخبروا بما فعل الصدر الأعظم قاموا عليه وقتلوه ونهبوا المدينة ، وأقاموا (قرقود) نائباً عن أبيه حتى يصل إلى عاصمته.
وصل الأمير بايزيد فاستقبله الانكشاريون، وطلبوا منه العفو على ما فعلوا كما طلبوا منه طلبات نفذها لهم كلها، وبويع بايزيد سلطاناً، وتسلم الأمر، ومع أنه كان محباً للسلم وللاشتغال بالعلم إلا أن أحوال البلد اقتضت أن يترك ما عرف ويتسلم الأمر بشدة.

موقفه وصراعه مع المماليك

حدثت معارك بين العثمانيِّين، والمماليك على الحدود الشَّاميَّة، إِلا أنَّها لم تحتدم إِلى حدِّ التهديد بحدوث حربٍ شاملةٍ بينهما، وإِن كانت قد أسهمت في أن يخيِّم شعورٌ بعدم الثِّقة بينهما، الأمر الَّذي أدَّى إِلى تعثُّر مفاوضات الصُّلح سنة 1491م ومع أنَّ السُّلطان المملوكي «قايتباي Kayıtbay» قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حربٍ واسعةٍ بينه وبين العثمانيِّين سواءٌ لإِدراكه ما كان عليه العثمانيُّون من قوَّةٍ، أو لانشغال جزءٍ هامٍّ من قوَّاته في مواجهة البرتغاليِّين، إِلا أنَّ السلطان العثمانيَّ «بايزيد الثاني» قد بدَّد له هذه المخاوف، حيث قام بإِرسال رسولٍ من قبله إِلى السُّلطان المملوكي سنة 1491م ومعه مفاتيح القلاع الَّتي استولى عليها العثمانيُّون على الحدود: وقد لقي هذا الأمر ترحيباً لدى السُّلطان المملوكي، فقام بإِطلاق سراح الأسرى العثمانيِّين، وأسهمت سياسة بايزيد السِّلميَّة في عقد صلحٍ بين العثمانيِّين والمماليك في السَّنة نفسها (1491م) وظلَّ هذا الصُّلح سارياً حتَّى نهاية عهد السُّلطان بايزيد الثَّاني عام 1512م، وأكَّد هذا الحدث حرص السُّلطان بايزيد على سياسة السَّلام مع المسلمين.
ولقد حصلت خلافات مع مصر التي كان لها نفوذ على بعض الإمارات في جنوب الأناضول، ووقع قتال بين الطرفين غير أن باي تونس قد أصلح بينهما، خوفاً من زيادة القتال بين المسلمين على حين أن النصارى يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويسرون للخلافات التي تحدث بينهم.

وقوفه مع مسلمي الأندلس

تطوَّرت الأحداث في شبه الجزيرة الأيبيريَّة في مطلع العصور الحديثة، فأصبح اهتمام الأسبان ينحصر في توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصاً بعدما خضعت لسلطةٍ واحدةٍ بعد زواج إيزابيلا ملكة قشتالة، وفرديناند ملك أراغون، فاندفعت الممالك الإسبانيَّة المتَّحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإِسلامي في كلِّ إسبانيا، حتَّى يفرِّغوا أنفسهم، ويركِّزوا اهتمامهم على المملكة الإِسلاميَّة الوحيدة غرناطة، الَّتي كانت رمزاً للمملكة الإِسلاميَّة الذَّاهبة.
وفرضت إسبانيا أقصى الإِجراءات التَّعسُّفيَّة على المسلمين في محاولةٍ لتنصيرهم، وتضييق الخناق عليهم؛ حتَّى يرحلوا عن شبه الجزيرة الأيبيريَّة.
نتيجةً لذلك لجأ المسلمون ـ المورسكيون ـ إِلى القيام بثوراتٍ، وانتفاضاتٍ في أغلب المدن الإسبانية والَّتي يوجد بها أقليَّةٌ مسلمةٌ، وخاصَّة غرناطة، وبلنسية، وأخمدت تلك الثَّورات بدون رحمةٍ، ولا شفقةٍ من قبل السُّلطات الإسبانيَّة الَّتي اتُّخذت وسيلةً لتعميق الكره والحقد على المسلمين، ومن جهةٍ أخرى كان من الطَّبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إِلى ملوك المسلمين في المشرق، والمغرب لإِنقاذهم، وتكرَّرت دعوات وفودهم، ورسائلهم إِليهم للعمل على إِنقاذهم ممَّا يعانونه من ظلمٍ، وخاصَّةً من قبل رجال الكنيسة، ودواوين التَّحقيق الَّتي عاثت في الأرض فساداً، وأحلت لنفسها كلَّ أنواع العقوبات، وتسليطها عليهم.
وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إِلى المشرق، فارتجَّ لها العالم الإِسلاميُّ. وبعث الملك الأشرف بوفودٍ إِلى البابا، وملوك النَّصرانيَّة يذكِّرهم بأنَّ النَّصارى الذين هم تحت حمايته يتمتَّعون بالحرِّيَّة في حين: أنَّ أبناء دينه في المدن الإسبانيَّة يعانون أشدَّ أنواع الظُّلم، وقد هدَّد باتباع سياسة التَّنكيل، والقصاص تجاه الرَّعايا المسيحيين؛ إِذا لم يكف ملك قشتالة، وأراغون عن هذا الاعتداء، وترحيل المسلمين عن أراضيهم، وعدم التَّعرض لهم، وردِّ ما أخذ من أراضيهم. ولم يستجب البابا، والملكان الكاثوليكيَّان لهذا التَّهديد من قبل الملك الأشرف، ومارسوا خطَّتهم في تصفية الوجود الإِسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السُّلطان العثماني بايزيد الثَّاني، فوصلته هذه الرِّسالة: (..الحضرة العليَّة، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهَّد أقطارها، وأعزَّ أنصارها، وأذلَّ عداتها! حضرة مولانا، وعمدة ديننا، ودنيانا السُّلطان الملك النَّاصر، ناصر الدُّنيا والدِّين، سلطان الإِسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإِسلام، وناصر دين نبيِّنا محمَّد عليه السَّلام، محيي العدل، ومنصف المظلوم ممَّن ظلم، ملك العرب والعجم، والتُّرك والدَّيلم، ظلُّ الله في أرضه، القائم بسنَّته، وفرضه، ملك البرَّين، وسلطان البحرين، حامي الذِّمار، وقامع الكفَّار، مولانا، وعمدتنا، وكهفنا، وغيثنا، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقروناً بالانتصار، مخلَّد المآثر، والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف به الأجر الجزيل في الدَّار الآخرة، والثَّناء الجميل، والنَّصر في هذه الدَّار، ولا برحت عزماته العليَّة مختصَّةً بفضائل الجهاد، ومجرِّدةً على أعداء الدِّين من بأسها ما يروي صدور السَّحر، والصِّفاح، وألسنة السِّلاح باذلةً نفائس الذَّخائر في المواطن الَّتي تألف فيها الأخاير مفارقة الأرواح للأجساد، سالكةً سبيل السَّابقين الفائزين برضا الله، وطاعته يوم يقوم الأشهاد).
وكانت ضمن الرِّسالة أبيات قصيدةٍ يمدح صاحبُها فيها الدَّولةَ العثمانيَّة والسُّلطان بايزيد، ويدعو للدَّولة بدوام البقاء، وقد وصفت القصيدة الحالة الَّتي يعاني منها المسلمون، وما تعرَّض له الشُّيوخ والنِّساء من هتكٍ للأعراض، وما يتعرَّض له المسلمون في دينهم، وقد كانت هذه هي رسالة الاستنصار الّتي بعث بها المسلمون في الأندلس لإنقاذ الموقف هناك، وكان السّلطان بايزيد يعاني من العوائق الّتي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النّزاع على العرش مع الأمير «جم» وما أثار ذلك من مشاكل مع البابويّة في روما وبعض الدّول الأوربيّة، وهجوم البولنديّين على مولدافيا، والحروب في ترانسلفانيا، والمجر، والبندقيَّة، وتكوين التَّحالف الصَّليبي الجديد ضدَّ الدَّولة العثمانيّة من البابا جويلس الثَّاني وجمهورية البندقيَّة، والمجر، وفرنسا، وما أسفر عنه هذا التَّحالف من توجيه القوّة العثمانيَّة لتلك المناطق، ومع ذلك قام السّلطان بايزيد بتقديم المساعدة، وتهادن مع السّلطان المملوكي الأشرف لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة، ووقَّعا اتفاقاً بموجبه يرسل السُّلطان بايزيد أسطولاً على سواحل صقلِّية باعتبارها تابعةً لمملكة إسبانيا، وأن يجهّز السّلطان المملوكي حملاتٍ أخرى من ناحية أفريقية.
وبالفعل أرسل السُّلطان بايزيد أسطولاً عثمانيَّاً تحوَّل إلى الشّواطئ الإسبانيَّة، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع، والخوف، والرّعب في الأساطيل النَّصرانية في أواخر القرن الخامس عشر، كما شجَّع السُّلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه، وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيُّون قد بدؤوا في التَّحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السَّهلة الحصول من النَّصارى، كذلك وصل عددٌ كبيرٌ من المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثمانيّ، ودخلوا في خدمته. بعد ذلك أخذ العثمانيُّون يستخدمون قوَّتهم البحريَّة الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، ، وكذلك أصدروا أمرًا إلى اليهود بِترك البلاد دون استصحابهم أيَّة حاجة ثمينة، في حال عدم قُبُولهم اعتناق المسيحيَّة على المذهب الكاثوليكي خلال أربعة أشهر اليهود، فأرسل بايزيد أساطيله. بقيادة كمال ريِّس لِحمل المُسلمين واليهود النازحين الهاربين من الاضطهاد والقتل فأنقذهم ووزعهم إلى البلاد الإسلاميَّة المُجاورة، بما فيها الأراضي العُثمانيَّة.
وعلى العموم، فقد استطاع بايزيد أن يحرز نصراً بحرياً على البنادقة في خليج لبانتو ببلاد اليونان عام 1499م/905هـ وفي العام التَّالي استولى على مدينة لبانتو، وباستيلاء العثمانيين على مواقع البنادقة في اليونان، أقام البابا (إِسكندر السَّادس)ـ بناءً على طلب البنادقةـ حلفاً ضدَّ العثمانيِّين مكوَّناً من فرنسا، وإسبانيا. وتعرَّض العثمانيُّون لهجوم الأساطيل الثلاثة: الفرنسي، والإِسباني، والبابوي، واستطاعت الدَّولة العثمانيَّة أن تعقد صلحاً مع البنادقة.
وكان بايزيد ميَّالاً للسَّلام، ونشطت العلاقات الدِّبلوماسيَّة بين الدَّولة العثمانيَّة وأوربا، وكانت من قبل مقصورةً على البلاد الواقعة على حدودها، ولكنَّها أقيمت بينها وبين البابوية، وفلورنسا، ونابلي، وفرنسا، وعقد صلحاً مع البنادقة، والمجر.

ابتداء علاقاته الدبلوماسيَّة مع الدُول الغربية وروسيا

فشل العثمانيون في فتح بلغراد، وتوطدت الصلات مع بولونيا عام 895ه /1489م، ثم حدث الخلاف بينهما إذ كان كل من الجانبين يدعي الحماية على البغدان، وقد اعترف أمير البغدان بالحماية العثمانية، وقاتل معهم البولونيين.
وبدأت الدول تقترب من الدولة العثمانية، وتطلب عقد الحلف معها للإفادة منها في قتال خصومها ، وخاصة الإمارات الإيطالية، كذلك حارب العثمانيون دولة البندقية، وانتصروا عليها، فاستنجدت بملك فرنسا والبابا، وكانت حرباً صليبية بين الطرفين.
تُوفي البابا إنوسنت الثامن بعد سُقُوط الأندلُس بِبضعة شُهُور، وتحديدًا يوم 30 رمضان 897هـ المُوافق فيه 25 تمُّوز (يوليو) 1492م، وخلفهُ البابا إسكندر السادس، سليل آل بورجيا النُبلاء، وسارع إلى العرض على السُلطان بايزيد أن يُخلِّصهُ من أخيه جَمّ، الذي كان ما يزال مُقيمًا في روما، لِقاء مبلغ ثلاثُمائة ألف دوقيَّة. ويبدو أنَّ السُلطان رأى في تحريك قضيَّة أخيه مُجدَّدًا الفُرصة الضروريَّة كي ينفتح العُثمانيُّون دبلوماسيًّا على الدُول الأوروپيَّة، فطالما بقي جَمّ سُلطان في أيدي الغربيين يكون من المُفيد التفاهم معهم، فأرسل سفاراتٍ إلى عدَّة بلاطاتٍ أوروپيَّة، بما فيها البلاط البابوي في روما مُؤكدًا استمراره بِدفع الإتاوة السنويَّة لِقاء الحفاظ على أخيه. ويُروى أنَّ البابا إسكندر حاول، كما سلفه إنوسنت الثامن، أن يُقنع جَمّ سُلطان باعتناق المسيحيَّة، رُغم عرضه على السُلطان أن يقتُله كما أُسلف، فكان ردُّ جَمّ: «لَيْسَتِ السَّلْطَنَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ وَحَدَّهَا، بَلْ لَوْ أَعْطَيْتُم الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مَا غَيَّرْتُ دِينِي». والحقيقة أنَّ السعي نحو إقامة العلاقات الدبلوماسيَّة كان مُتبادلًا بين العُثمانيين والأوروپيين في تلك الفترة، وسببُ ذلك هو ازدياد قُوَّة الدولة ونُمُوِّها وانفلاشها الواسع في أوروپَّا، ممَّا جعل الدُول الأوروپيَّة تنظر إليها من زاوية مصالحها على أنَّها الدولة القويَّة التي يُمكن استغلالها لِتحقيق مصالحها الحيويَّة على حساب دُولٍ أوروپيَّةٍ أُخرى. ونتيجةً لِهذه النظرة في العلاقات السياسيَّة، تنافست الدُول الإيطاليَّة: مملكة النبلطان (ناپولي) ودوقيَّة ميلانو وجُمهُوريَّة فلورنسة، بالإضافة إلى الدولة البابويَّة بِشخص البابا إسكندر السادس، على اكتساب ود الدولة العُثمانيَّة والاستعانة بِجُنُودها وأساطيلها ضدَّ أعدائهم.
وفي هذه الفترة كانت الإمارة المسكوبيَّة (موسكو) قد برزت دولة روسيا عام 886 ه/ 1482م على المسرح السياسي، حيث استطاع أمير موسكو إيفان الثالث من تخليص موسكو من أيدي التتار، وبدأ بالتوسع. وتمكَّن من ضمَّ مُعظم الإمارات الروسيَّة تحت حُكمه وتوحيدها في دولةٍ كبيرةٍ، وأخذ يسعى في تأسيس علاقاتٍ اقتصاديَّةٍ ودبلوماسيَّةٍ مع الدُول المُجاورة، وعندما أدرك الأعداء، أنهم لا يستطيعون مواجهة القوات الجهادية في حرب نظامية يحققون فيها أطماعهم لهذا لجأوا إلى أسلوب خبيث تستروا به تحت مسمى العلاقات الدبلوماسية لكي ينخروا في عظام الأمة ويدمروا المجتمع المسلم من الداخل، ففي عهد السلطان بايزيد وصل أول سفير روسي إلى (إسلامبول) عام (898هـ/1492م). إن وصول السفير الروسي عام (1492م) على عهد دوق موسكو (إيفان) وما تابع ذلك، وما أعطى له ولغيره من حصانة وامتيازات، فتح الباب أمام أعداء الأمة الإسلامية لكشف ضعفها ومعرفة عوراتها ، والعمل على إفسادها والتآمر عليها بعد تدميرها وإضعاف سلطان العقيدة في نفوس أبنائها. وفي عهد بايزيد الثاني في عام (886ه/ 1482م) استطاع أمير موسكو (إيفان الثالث) أن ينتزع إمارة (موسكو) من أيدي المسلمين العثمانيين، وبدأ التوسع على حساب الولايات الإسلامية. ولا يعني ذلك أن السلطان (بايزيد) وقف موقفاً ضعيفاً أمام هذه الظروف ولكن الدولة كانت تمر بظروف صعبة في محاربتها لأعداء الإسلام على امتداد شبه جزيرة الأناضول، وأوروبا الشرقية كلها، فانشغلت بها.


الواقعة السياسية التي وقعت في زمنه

الواقعة السياسية ذات الأهميَّة التي وقعت في عهد بايزيد ظُهُور السُّلالة الصفوية الشيعيَّة في أذربيجان وسيطرتها بزِعامة قائدها الشاه إسماعيل بن حيدر على أغلب البلاد الإيرانيَّة وقد فرض الشاه إسماعيل التشيُّع على الناس ثُمَّ أخذ دُعاته يتغلغلون بين قبائل التُركمان في الأناضول الشرقيَّة وأرمينية ويُهدِّدون الهيمنة العُثمانيَّة في تلك البلاد، فتصدَّى لهم الشاهزاده سليم بن بايزيد وألحق بهم هزائم في عدَّة مُناسبات.

أعماله الأخرى

اهتم بايزيد بإنشاء المباني العامة وفعل الخيرات، فبنى الجوامع والمدارس والعمارات ودور الضيافة والتكايا والزوايا والمستشفيات للمرضى والحمامات والجسور، ورتّب للمفتي ومن في رتبته من العلماء في زمنه كل عام عشرة آلاف عثماني ولكل واحد من مدرسي المدارس السلطانية ما بين سبعة آلاف وألفين عثماني ، وكذلك رتب لمشايخ الطرق الصوفية ومريديهم ولأهل الزوايا كل واحد على قدر رتبته، وصار ذلك أمراً جارياً ومستمراً ، وكان يحب أهل الحرمين الشريفين مكة والمدينة .
وحدثت في زمانه زلازل عظيمة في القسطنطينية فأخربت ألفاً وسبعين بيتاً ومئة وتسعة جوامع، وجانباً عظيماً من القصور وأسوار المدينة، وعطلت مجاري المياه، وصعد البحر إلى البر فكانت أمواجه تتدفق فوق الأسوار، ولبثت تلك الزلزلة تحدث يومياً مدة 45 يوماً، وما أن سكنت الأمور كلف السلطان 15 ألفاً من العمال بإصلاح ما تهدم.

وفاته

في آخر حياته أتى جيش الانكشارية بسليم إلى القصر مطالبين السلطان بايزيد بالتنازل له عن العرش لاقتناعهم بأنه الأصلح له، فتنازل السلطان بايزيد لابنه عن السلطة ثم توجه إلى ديماتوقا اليونانية (Dimetoka) وبعد أن ودعه ولده وفرض له عطاء يغنيه في إقامته، لكنه مات في الطريق عام 918هـ/1512م. وكان يجمع في كل منزل حلّ من غزواته ما على ثيابه من الغبار ويحفظه، ولما دنا أجل موته أمر بذلك الغبار فضرب منه لبنة صغيرة وأمر أن توضع معه في القبر تحت خدّه الأيمن، ففعل ذلك.

والله ولي التوفيق