عناوين الروايات والعنوانيون
( كلام لا يعرف المواربة)
إبراهيم عوض
بعض الذين يشتغلون بالنقد ويحرصون على السير على ما يقوله النقاد الغربيون حذوك النعل بالنعل فلا يخرجون عنه ولا فيمتو مليمتر رعبا من أن تحل عليه لعنة الحداثة وما بعد الحداثة، وهم حريصون على أن يكونوا حدثاء أكثر من حرصهم على أن يعملوا عقولهم ويركنوا إلى أذواقهم التى أكرمهم الله بها لا يمكن أن يبدأوا نقدهم لأى عمل أدبى إلا إذا بدأوا بالكلام عن عتبات النص مثلما يبدأ المسلم يومه بصلاة الفجر لا معدى له عن ذلك فيشغلون أنفسهم بموضوع عنوان الكتاب شغلانا رهيبا كأن الحياة سوف تتوقف إن لم يفعلوا، وتراهم يقولون إن عنوان الكتاب هو اختزال وتلخيص لمضمون ذلك الكتاب. والواقع أن هذا قلما يحدث كما سوف نرى من واقع النقد لا من تنظيراته. ولنقف عند عدد من عناوين الكتب العربية قديما وحديثا لنرى مصداق ما نقول. ونبدأ مثلا بكتاب "كَلِيلَة ودِمْنَة" لابن المقفع، فما الذى يمكن أن يفهمه القارئ من هذا العنوان. الواقع أنه لا يفهم منه شيئا أى شىء، إذ إن أحدا ممن لم يطلعوا على الكتاب مسبقا يعرف ما أو مَنْ كليلة وما أو مَنْ دِمْنَة أصلا؟
ولدينا كذلك كتاب "الحيوان" للجاحظ، فما الذى يمكن أن نستخلصه من هذا العنوان مما يساعدنا على معرفة موضوعه؟ ولا أظن الأمر هنا أسهل كثيرا من كتاب ابن المقفع. فمثلا هل الحيوان هنا حيوان معين يعرفه الكاتب والقارئ بمعنى أن "الألف واللام" فى الكلمة هى للعهد، أى الحيوان الذى رأيناه أنا وأنت أمس أو منذ أسبوع أو صباح اليوم يجرى فى الشوارع ويهاجم الناس ويريد أن يقضم ذراع واحد منهم؟ طبعا لا لأن الكاتب لم يؤلف كتابه لشخص بعينه بل للناس جميعا،ولا يعقل أن يكون الناس جميعا يعرفون جملا معينا له قصة معينة فى ظروف معينة. ثم هل هو الحيوان الجنس بمعنى كل الحيوانات التى خلقها الله فى كل بلاد العالم بأنواعه المختلفة من جمال وحمير وبقر وجاموس وخنازير ورنة وأسود وضباع وثعالب وذئاب ونموس...؟ ثم من أية زاوية يا ترى يدور الكلام فى الكتاب عن جنس الحيوان؟ أيدور الكلام عن تشريح الحيوان أم عن طباعه أم عن الفروق بينه وبين الإنسان أم عن حكايات مسلية عنه أم عن الأشعار والنصوص النثرية التى تتحدث عنه أم عن أنواعه وفصائله... إلخ؟
وننتقل إلى الأندلس فنجد على سبيل المثال كتاب ابن حزم المسمى: "طَوْق الحمامة فى الأُلْفة والأُلَّاف"، فنُلْفِى أنفسنا حيارى حيرة شديدة، إذ ما الذى أتى بالحمام هنا؟ ولماذا طَوْق الحمامة بالذات دون بقية أجزاء جسدها؟ وما علاقة ذلك بالألفة والألاف؟ بل ما معنى الألفة فى الكتاب؟ هل هى إلفنا فلانا الفلانى بطول المعاشرة وكثرة الاحتكاك اليومى أم ماذا؟ أم إن المراد بالألفة هو إلفنا طعاما أو تقليدا أو خلقا معينا من خلال تناولنا أو ممارستنا له مع مر الأيام وكرور الشهور والأعوام؟ إن الألفة فى الكتاب هى الحب بل العشق، والأدهى من ذلك أنه قد يكون حبا بين رجل ورجل، وإن كان هذا ضيقا لدن ابن حزم ولا يتعدى المشاعر العاطفية دون التطرق إلى اللواط ورجسه، عافانا الله من ذلك بوقايته وستره الكريم.
ولدينا كذلك كتاب "التحدث بنعمة الله" للسيوطى. فما المقصود بنعمة الله التى يريد السيوطى التحدث عنها؟ أهى غناه بعد افتقار؟ أهى عفو الحاكم عنه بعدما كاد يعاقبه؟ أهى برؤه من مرض عضال؟ أهى إكرام الله له بالذرية بعد أن كان قد حرم منها زمنا طويلا ويئس من الإنجاب؟ أهى حصوله على منصب كبير فى الدولة كان يتطلع له وأخذه دونه شخص آخر ثم مات ذلك الشخص فاختار المسؤولون السيوطى فجأة؟ كما يرى القارئ فإن العنوان لا يساعد بشىء البتة هنا أو لا يساعد بشىء يسعفنا فى تخمين موضوع الكتاب. التحدث بنعمة الله لدن السيوطى هو حديثه عن تفوقه فى العلوم كلها تقريبا على علماء عصره.
وفى العصر الحديث نجد كتاب "الأيام" لطه حسين. ولاحظوا أننى إنما أتكلم عمن يرى الكتاب لأول مرة وليس حوله أحد ممن سبق أن قرأ الكتاب يستطيع أن يسأله ليعرف منه موضوعه. فهل بمكنة ذلك الشخص أن يخمن أن طه حسين إنما قص علينا فى ذلك الكتاب تاريخ حياته؟ لا أظن أبدا. ذلك أن العنوان يقول: "الأيام" وكفى، وكلمة "الأيام" تأخذ قارئها أ و سامعها إلى جهات شتى دون أن يجد القارئ أو السامع ما يعينه على فهم معناها.
وفى العصر الحديث أيضا نقابل "سارة" العقاد، فما الذى يمكن أن يخرج به القارئ حينما يرى هذا العنوان دون أن يعرف شيئا عن قصة العقاد مع المرأة التى أحبها وكانت له معها وقائع رجته رجا وحولت حياته إلى شك يحرق قلبه ويبرجل عقله؟ هل يا ترى سوف يستخلص منه أنها قصة حب وشك ومسرات وعذاب وانفصال بعد التحام؟ لا. بل أغلب الظن أن ذهن كثير من القراء سوف يقفز إلى سارة زوجة الخليل وأم إسحاق، وهذا شىء مختلف تماما عن موضوع الرواية كما عرفناها بعد قراءتنا لها. فسارة تلك زوجة نبى من أنبياء الله الكرام عفيفة شريفة، وكانت سيدة متقدمة جدا فى السن وعاقرا، ووهب الله لها ولدا بعد بلوغها ذلك العمر المتقدم، وكانت تغار من هاجر لإنجابها ولدا بينما هى لم تنجب، وتسببت فى نقل إبراهيم لهاجر وإسماعيل بعيدا عن موطنه وتركه لهما عند بيته المحرم فى مكة. فأين هذا كله مما فى رواية "سارة"؟ إننا أمام عالمين مختلفين تمام الاختلاف ولا صلة بينهما على الإطلاق كما نرى. وهو ما يضرب مزاعم "العنوانيين" التى ينفخون فيها ويضخمون من شأنها ويجعلونه شأنًا إِدًّا على غير استحقاق.
وقد قرأت وأنا فى السادسة عشرة من عمرى رواية "مرتفعات وذرينج" لإيميلى برونتى، وزلزلتنى، وكانت أول رواية بعثتنى للتفكير فى سر استيلائها على نفسى ورجها لنفسى بعنف شديد. ومع هذا كنت أظن من عنوانها أول ما وقعت فى يدى أنها تتحدث عن قصة تدور أحداثها فى مرتفعات (جبال وتلال) فى بريطانيا بلد مؤلفتها تسمى: "مرتفعات وذرينج". بل إنى حتى هذه اللحظة، وبعد قراءتى لها ثمانى مرات: مختصرة وكاملة، مترجمة إلى العربية أو فى أصلها الإنجليزى، ما إن اسمع اسمها حتى يقفز ذهنى إلى المرتفعات بمعنى الجبال والتلال لا على أنها اسم للبيت والمزرعة التى كان آل هيرنشو يملكونهما وتقع فيهما وحولهما معظم حوادث الرواية تأثرا بالانطباع الأول حين وقع عينى على عنوانها فى صغرى البعيد، ولا أتنبه لخطئى إلا بعد شىء من التركيز.
وهناك رواية توماس هاردى التى قرأتها فى نفس ذلك الوقت والتى استعرت جزءها الأول من زميل لى بالقرية صيف ذلك العام واستكملت قراءتها فى طنطا فى السنة الدراسية اللاحقة بعدما وجدتها فى مكتبة الأحمدية الثانوية، وهى "عودة ابن البلدة"، وأقسم غير حانث إن هذا العنوان لم يعن لى أوانذاك شيئا على الإطلاق. إنه عنوان والسلام لرواية وقع فى رُوعِى أنها رواية تستحق القراءة. ومثلها مجموعة جوجول الروسى التى استعرتها كذلك من ذات الزميل الكريم رحمه الله: "أمسيات قرب قرية ديكانكا". فما القول فى هذا؟
هذه أمثلة سريعة تبين لنا ما أعتقده حول هذا الموضوع، موضوع عناوين الأعمال الأدبية. فماذا عن النقاد الذين يجعلون وكدهم حين يبدأون نقد أى إبداع أدبى أن يسمعونا مواويلهم الشجية الولهى حول عتبات النص, وبالذات وأولها عنوان ذلك النص، وإلا كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. كتب أحدهم حول هذا الموضوع ما يلى: "اهتمت مناهج النقد الحديثة بعتبات النص أو النص الموازى (paratexte) ، لما تمثله من أهمية كونها هى الجسر الأول الذى يعبره القارئ نحو العمل. كان جيرار جينيت (Gérard Genette) من السباقين فى تبنى قضية العتبات عبر دراسات معمَّقة على مستوى التنظير فى كتابَيْه: "أطراس" (Palimpsestes) و "عتبات" (seuils). و العتبات هى كل ما يحيط النص من عنوان و غلاف و إهداء و كلمه ناشر أو حتى من مقابلات مع الكاتب أو دراسات حول النص كما سنبين لاحقاً. و لعتبات النص وظيفتان: وظيفة جمالية تتمثل فى تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن فى استقطاب القارئ واستغوائه فتشجعه على تصفح الكتاب فى البداية ثم الاقتناع بالكتاب واقتنائه. بل إن المظهر الوظيفى لهذا النص المجاور يتلخص أساسا،كما أشار جنيت، فى كونه "خطابا أساسيا ومساعدا مسخرا لخدمة لشىء آخر يثبت وجوده الحقيقى، وهو النص"...
يعتبر العنوان أول العتبات وأهمها, حيث هو أول ما تقع عليه عين القارئ: فإن شده العنوان أخذ الكتاب ليتصفحه، و إن لم يشد انتباهه فإنه لن يمسك الكتاب أصلاً. وهكذا فإنه يقوم بعمل "دعائى” لكتاب. وكما قال محمد مفتاح عن العنوان: "العنوان معرفة لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذى يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذى يحدد هوية "الرواية"، فهو إن صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد، والأساس الذى تبنى عليه، غير أنه إما أن يكون طويلا فيساعد على توقع المضمون الذى يتلوه، وإما أن يكون قصيرا، وحينئذ فإنه لابد من قرائن فوق-لغوية توحى بما يتبعه". لكن لم يهتم النقاد العرب بالعنوان كعلم رغم الاهتمام المبكر للنقاد الغربيين به، فقد أسسوا علم العنوانيات (la titrologie). ويعد لوى هويك (Leo H. Hoek) أحد أكبر المؤسسين المعاصرين للعنوانيات فى كتابه: "سمة العنوان: la marque du titre" حيث عرَّف العنوان بأنه "مجموعة من الدلائل اللسانية يمكنها أن تثبَّت فى بداية النص من أجل تعيينه و الإشارة إلى مضمونه الإجمالى ومن أجل جذب الجمهور المستهدف". و على الرغم من أن العنوان يدل بمظهره اللغوى على وضعية لغوية شديدة الافتقار فهو لا يتجاوز حدود الجملة إلا نادراً، وغالباً ما يكون كلمة أو شبة جملة, إلا أنه ينجح فى إقامة إتصال نوعى بين المرسِل (الكاتب) والمتلقِّى, وتعد وظائف العنوان من المباحث المعقدة، وقد اختلف الكثير من النقاد فى بعض تفاصيل هذه الوظائف، و لكنى هنا أورد رأى جيرار جينيت حيث يرى أن للعنوان أربعة وظائف هي: الإغراء، الإيحاء، الوصف، التعيين...".
والمضحك بعد كل هذا أن يورد الكاتب عددا من عناوين الكتب التى غيَّرها مترجموها إلى لغة أخرى لأنهم رَأَوْا أنها ليست دقيقة فى التعبير عن مضمون الكتب التى تحملها أو ليست جذابة للقرء بما فيه الكفاية. ومعنى تصرفهم ذلك أنهم لا يعتقدون فى العناوين ما يزعمه لها المنظرون لهذا الموضوع، وإلا فلماذا يتدخلون فى أخص أعمال المؤلفين، وهو اختيار عناوين أعمالهم؟
أنا أنظر إلى عنوان العمل الإبداعى بالدرجة الأولى على أنه لتمييزه عن غيره لنفس المبدع أو لغيره مثلما تميزنا أسماؤنا عن سوانا من البشر. فأنا مثلا أسمى: إبراهيم. وهو اسم لا يعنى شيئا سوى أنه يميزنى، فأنا لا أشبه سيدنا إبراهيم فى شىء لا شكلا ولا موضوعا. وحتى لو افترضنا أننى فيما بعد عندما كبرت عملت كل ما فى مكنتى لأسير على خطا إبراهيم الخليل فلا وشيجة بين هذا وبين الاسم الذى سمانى به أهلى إذ كنت آنذاك طفلا رضيعا لا يعى شيئا ولا يعد بشىء بل لا يستطيع أن ينطق أو يفكر. وربما سَمَّوْنى بذلك الاسم على اسم عمى إبراهيم رحمه الله، وربما اختاروا عدة أسماء ووضعوا شمعة مشتعلة على رأس كل ورقة تحمل اسما من تلك الأسماء بحيث يأخذون الاسم الذى تنطفئ شمعته آخر شىء كما كنت أرى أبى يصنع ذلك مع إخوتى الأصغر منى، وربما وربما... لكن ما لا يقبل المماحكة من ذلك كله أن اسم "إبراهيم (محمود عوض)" صار من يومها يميزنى عن غيرى من الأولاد.
المهم أنى أشبّه عنوان الرواية باسم الشخص وتمييزه له عمن سواه. أعلم أنْ سيقال إن المبدع إنما يضع العنوان ليشير به إلى موضوع روايته كما هو الحال مثلا فى عنوان رواية "وليمة لأعشاب البحر"، الذى يشير إلى ما انتهت به الرواية من انتحار بطلها مهدى جواد الشيوعى المجرم الوقح بعد أن ضحك على الفتاة الجزائرية التى كان يعلمها وافتض عذريتها ثم رمى بنفسه فى البحر منتحرا تاركا البنت المسكينة تواجه المجتمع فى وضعها الجديد بعد أن مارست الزنا مع ذلك المجرم الزنيم مرارا وصار هناك احتمال لأن تحمل من السفاح. هذا ما يمكن أن يقوله العنوانيون السطحيون الذين يجعلون من الحبة قبة تطول عنان السماء ويَعْدُون لاهثين خلف كل ما يرمينا به نقاد الغرب ويصيرون أكثر سطحية من هؤلاء السطحيين رغم تصورهم أنهم بتدثرهم بعباءة الغرب قد صاروا متقدمين مثله.
لماذا؟ تعالَوْا ننظر معا فى كلام عنوانيينا المقلدين الذين لا يتكلمون من أدمغتهم بل من ألسنة الغربيين. ترى هل ذلك العنوان يشير إلى انتحار بل هل يشير إلى أى موت أيا كانت وسيلته؟ فليرنى أحد فى العنوان شيئا من ذلك؟ وبطبيعة الحال لا يوجد. لكنهم يمكن أن يجدوا توجيها للعنوان، وإن كان عنوة، إلى ناحية أن المقصود هو صيرورة الشيوعى المجرم حين ألقى بنفسه إلى البحر وليمة لأعشاب البحر النابتة فى قاعه. ولكن هل الأعشاب تتغذى على جثث البشر أم الأسماك المتوحشة هى التى تفعل ذلك؟ وبعيدا عن هذا الخلاف من الواضح أن العنوان لم يُفْهَم على ما كان يريد صاحبه إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية. وإذن فإن القول بأن العنوان يشير إلى موضوع الرواية ومن ثم يغرى القارئ بشرائها وقراءتها أو على الأقل يعطيه الفرصة ليختار شراءها أو الانصراف عنها هو قول كاذب. وفضلا عن ذلك فانتحار الشيوعى المجرم ليس هو موضوع الرواية بل نهايتها، أما الموضوع فهو أوسع من ذلك وأضخم وأكثر تشابكا مهما كان حكمنا الفنى على الرواية. إذن فكلام العنوانيين عن العنوان هو كلام مقلوب، فنحن لا نقرأ العنوان لنعلم مضمون الرواية بل نقرأ الرواية لنعرف معنى عنوانها.
وهذا الكلام يصدق على سبيل التمثيل على "دعاء الكروان" و"شجرة البؤس" للدكتور طه حسين، و"بداية ونهاية" و"أولاد حارتنا" و"الشحاذ" و"أفراح القبة" لنجيب محفوظ، و"لا أنام" و"غابة من السيقان" و"الرصاصة لا تزال فى جيبى" لإحسان بعد القدوس، و"شمس الخريف" لمحمد عبد الحليم عبد الله، و"الشارع الجديد" للسحار، و"السائرون نياما" لسعد مكاوى"، و"سلمى الأسوانية" لعبد الوهاب الأسوانى، و"أصوات" لسليمان فياض، و"الساعة تدق العاشرة" لأمين يوسف غراب، و"فديتك يا ليلى أو آثار على الرمال" ليوسف السباعى... إلخ. إن هذه العناوين جميعا لا يمكنها أن تدلنا على موضوع الروايات التى تتسمى بها إلا بعد أن ننتهى من قراءة تلك الروايات بما يبرهن على أن ما يقوله العنوانيون زعم لا يقوم على أى أساس وأن العكس من ذلك هو الصحيح. ونرجو أن يفيق النقاد العرب من تلك العبودية لنقاد الغرب التى يضع نقادنا سلاسلهم فى رقابهم متبرعين مبتهجين ظنا منهم أن ترديد ما يقول أولئك النقاد يجعلهم غربيين متحضرين مثلهم وأنهم بتكرارهم لكلمة "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" قد صاروا حداثيين مع أن شوارعنا وتصرفاتنا وعقلياتنا ورضانا بأوضاعنا المزرية فى كل مجال تقول بأعلى صوت إننا شعوب متخلفة تخلفا شنيعا. وإنى والله كلما رأيت الباحثين والنقاد عندنا يحرصون على ترصيع ما يكتبون بأسماء فلان وعلان وترتان من نقاد الغرب وأسماء المدارس والحلقات التى أسسوها ووصلوا من خلالها إلى ما يقولون من مفاهيم النقد أحسست بالرثاء لهم والشفقة عليهم من هذا الانسحاق أمام كل ما هو غربى مهما كان مستواه من التفاهة، وما أكثر ما يصدر عن الغرب التى لا أشاح أبدا فى تقدمه وتفوقه علينا من تفاهة وسطحية، وبخاصة أن كثيرا من أولئك الباحثين والنقاد إن لم يكن معظمهم لا يعرف لغة أجنبية واحدة بل لا يعرف لغته العربية معرفة مقبولة.
ولنأخذ "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ، فعلام يدل هذا العنوان بالله عليكم مما يهرف به هلاسونا العظام بناء على ما يرددونه من فضلات النقد الغربى؟ الحق أنه لا يدل على أى شىء بالمرة. فما من واقعة من وقائع الحياة أو قصة من القصص إلا ولها بداية ونهاية. وخذ أيضا "خان الخليلى"، وقل لى: ما الذى تفهمه من هذا العنوان قبل أن تقرأ الرواية أو تقرأ عنها أو تسمع بها ممن قرأها؟ لا شىء سوى أن هذا اسم منطقة من مناطق القاهرة. ثم ماذا بعد؟ لا شىء. وخذ ثالثا "اللص والكلاب"، وقل لى: هل تفهم بالله عليك من هذا العنوان سوى أن هناك لصا نبحته الكلاب وجرت وراءه تريد أن تعضه أو تمسك به؟ ورغم هذا فليس فى الرواية أية كلاب بالمرة ولا لص. إنما هو رجل خانته زوجته وهو فى السجن، ولما خرج شعر أن الدنيا كلها ضده بما فيها الشرطة والمباحث للقبض عليه. ونحن لم نفهم هذا إلا بعد قراءتنا الرواية لا قبلها. ولننظر كذلك فى عنوان "أولاد حارتنا". أتراه يوحى لأى أحد ممن يراه لأول مرة بشىء غير الإشارة إلى الحارة التى يسكنها الكاتب والأولاد الذين يساكنونه هذه الحارة؟ ومع هذا فالمقصود من الحارة هو العالم كله، وبأولادها البشر جميعا ومن أرسل إليهم من الرسل. وشتان بين ما يقوله العنوان فى حد ذاته وبين ما يقصده المبدع ونستخلصه نحن من قراءة الرواية. فالقول بأن العنوان كذا وكذا وكيت وذيت... إلى آخر هذا الكلام المجعلص هو كلام فارغ. والمضحك أنك ترى الناقد من أولئك النقاد الذين لا يساوى العشرة منهم قرشا واحدا وقد انتفخت أوداجه وراح يزحر كأنه ست تلد ولادة متعسرة، وهو يستنطق العنوان بما لا يعرفه العنوان، ويعمل بكل جهد وسبيل على أن يطبق بالضبط ما قاله جينيت وجولدمان ولا أدرى من أيضا فى هذا الموضوع وكأنه الحداد الإغريقى بروكروست، الذى كان يقطع الطريق، ويهاجم الناس ثم يقوم بمَطّ أجسادهم أو قطع أرجلهم لتتانسب أطوالهم مع سريره الحديدى المصنوع مسبقا. والمقصود أن هؤلاء النقاد الببغائيين يعملون على تطبيق ما وصلهم من بضاعة النقد الغربى المزجاة بالقوة على النصوص الإبداعية عن طريق قولبة الأفكار، وهى النزعة المسماة على سبيل المصدر الصناعى بـ"
البروكروستية"، أى فرض قوالب جبرية مسبقة على الأشياء والأشخاص والأفكار، ولى الحقائق وتشويه المعطيات لتدعم تلك القوالب الإكراهية بقوة الذراع لا بقوة المنطق والذوق المرهف السليم.
أما أنا فأراهم نفرا من "بتوع التلات ورقات" يذكروننى بما كان يقوله لى رجل شبه كفيف من قريتى رحمه الله أيام شبابى حين كنا نخرج معا فى الليالى المقمرة ونتفسح على الطريق الزراعى إما فى اتجاه مشال بلدة د. زغلول النجار أو فى اتجاه أبو جندى بلدة الفنان محمد فوزى وأخته هدى سلطان، إذ قال لى ذات مرة: إن أحد المهندسين الإنجليز الذين كانوا يشرفون على إنشاء السكة الحديدية فى مصر كان ينحنى وينظر إلى قضبان القطار لمسافة بعيدة متظاهرا بالتدقيق والتحقيق ثم يقول للمهندسين المصريين الذين يعملون تحت إشرافه إن هناك عوجا صغيرا فى قضبان القطار على بعد كيلومترين، فيسارع المهندسون المصريون إلى البحث عن هذا العوج لتقويمه، ولا عوج هناك ولا يحزنون بل كل ما هنالك أن المهندس البريطانى يعرف أن كلمته لديهم مقدسة ولا يمكن أن يخر منها الماء، وبطبيعة الحال سوف يجدون حقيقة أو توهما عوجا ما ولو لم يكن له أثر يذكر. فكذلك نقادنا العنوانيون لا بد أن يعكفوا على العنوان ويستولدوه بالجبر والإكراه ما ليس فيه.
فى ظل ما أوضحته فى الفقرات الماضية يمكنكم أن تقرأوا ما كتبه أحد المنتسبين إلى النقاد القصصيين عن عنوان إحدى المجموعات القصصية: "كورونا الزمن الضائع"، الذى هو فى حد ذاته لا يعنى شيئا لأننا لم نقرإ المجموعة بعد ولا ندرى ماذا يقصد مؤلفها به طبقا لما قد قر فى نفوسنا وعقولنا فيما سبق حين وقفنا إزاء عناوين بعض الأعمال القصصية وتحققنا أننا لا يمكننا فهم المراد بالعنوان إلا بعد انتهائنا من قراءة العمل القصصى.
قال الناقد المشار إليه: "إن العنوان هو الذى يوجه قراءة المجموعة القصصية: "كورونا الزمن الضائع"، ويغتنى بدوره بمعان جديدة بمقدار ما تتوضح دلالاتها، فهى المفتاح الذى به تحل ألغاز الأحداث وإيقاع نسقها الدرامى وتوترها السردى، علاوة على مدى أهميته فى استخلاص البنية الدلالية للنص وتحديد تيمات الخطاب القصصى وإضاءة النصوص بها". أناشدكم الله هل فهتم شيئا مما قال ذلك الناقد؟ أقطع ذراعى إن كان هو نفسه قد فهم شيئا مما كتب.
ثم يمضى ناقدنا الهمام فى هلسه وهجصه هذا موردا اسم أحد النقاد الغربيين مستخرجا إياه من مخلاته التى يجمع فيها كل ما هب ودب مما يتصدق به عليه المحسنون من النقاد القصصيين البكاشين مثله من أسماء ومصطلحات رطانية يظن أنه سوف يشل بها عقول القراء فلا يفتح أحد منهم فمه بنبسة: "إن العنوان، كما كتب كلود دوشيه، عنصر من النص الكلى الذى يستبقه ويستذكره فى آن بما أنه حاضر فى البدء وخلال السرد الذى يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة. وهو فى الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي, واسم فارغ. وهذا يعنى أنه علامة ضمن علامات أوسع هى التى تشكل قوام العمل الفنى باعتباره نظاما ونسقا يقتضى أن يعالَج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لا تراكميا بدلالات أخرى, ومن ثم فإن العنوان قد يجسد المدخل النظرى إلى العالم الذى يسميه، ولكنه لايخلقه، إذ إن العلاقة بين الطرفين قد لا تكون مباشرة كما هو الشأن فى الآثار الفنية التى يحيل فيها العنوان على النص, والنص على مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنص إلى كونه لعبة فنية وحوارية بين التحدد واللاتحدد، بين المرجعية المحددة وبين الدلالات المتعددة، وذلك فى حركة دائبة بين نصين متفاعلين فى زمن القراءة".
وبعد هذا الكلام الذى لو عرض على محلل نفسانى لحكم بأنه يدل دلالة قاطعة على أننا إزاء هلاوس لفظية هى ثمرة لنوع من الخبل العقلى ينطلق الكاتب فيهلوس بألفاظ وعبارات لا معنى لها، ويساعده على هذا أنه يقول كلاما نظريا مجردا يصلح أن يستعمله البكاشون لأى شىء، وإن كان لاينفع فى الواقع لأى شىء. ثم يستمر فى هلوساته قائلا: "وقد جسد ذلك كاتبنا إياد خضير فى مجموعته القصصية: "كورونا الزمن الضائع", إذ يحلل عنوان كتابه بطريقة قصة السيرة الذاتية, فنراه يقول: انتابنى قلق قاتل. سرت أبحث عن السراب لأمتلك كنوزه. لم أسمع ضجيجا. كل شىء حولى هادئ. كان همى أن أبتعد عن جدران غرفتى الآيلة للسقوط. بسبب تقدمى بالعمر لم أعد أميز الألوان. إن "كورونا الزمن الضائع" عنوان يقع ضمن ما يعرف بالسهل الممتنع إذا ما قرأناه قراءة سطحية عابرة تكتفى بالنظر إليه نظرة جانبية. على أن النظرة المحايثة العميقة ربما تكشف لنا عما دفنه فيه مبدعه من إشارات وعلامات دالة. وانطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان فى النص والشروع فى نمذجة تصنيفية للعناوين فى المجموعة القصصية وفقا لعلاقاتها بالشرح القصصى بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى. فإما أن القصة تعبر عن عنوانها: تشبعه, وتفك رموزه, وتمحوه. وإما أنها تعيد إدماجه فى جماع النص, وتبلبل السنن الدعائى عن طريق التشديد على الوظيفة الشعرية الكامنة للعنوان، محولة المعلومة والعلامة إلى قيمة، والخبر إلى إيحاء يلتصق به العمل القصصى قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وتيمته العامة، وتجمع شذراته فى بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أو الترميز, وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، وقيامه بدور المركز فى الحركة القصصية, وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية فى القصة, ويفرض نفسه على عنوانها، ويبلور رؤية المؤلف لعالمه. ومن هنا فهو صيغة مطلقة للقصة وكليتها الفنية والمجازية. إنه لايتم إلا بجمع الصور المشتتة وتجميعها من جديد فى بؤرة لموضوعات عامة تصف العمل الأدبى، وتسمه بالتواتر والتكرار والتوارد. إذن فهو الكلية الدلالية أو الصورة الأساسية أو الصورة المتكاملة التى يستحضرها المتلقى أثناء التلذذ والتفاعل مع جمالية النص القصصى ومسافاته, فالصورة العنوانية قد تندرج ضمن علاقات بلاغية قائمة على المشابهة أو المجاورة أو الرؤيا، فيتجاور العنوان مجازيا مع دلالات الفضاء النصى للغلاف، وتنصهر الصورة العنوانية اللغوية فى الصورة المكانية لونا ورمزا".
تميزت المجموعة القصصية: "كورونا الزمن الضائع" بالسهولة والبساطة والوضوح. وعندما نعود إلى العنوان يتألف من مقطعين: الأول "كورونا" المرض المنتشر فى أجواء العراق والعالم, والثانى "الزمن الضائع" الذى بينه الكاتب إياد خضير من خلال المقطع الثانى الذى دل على الضياع أيضا فى كل زمان ومكان, ويتوسط المقطعين اسم القاص إياد خضير". أعظم الله أجرك أيها الناقد العنوانى اللوذعى ولا ابتلانا بما ابتلاك به أبدا، فهو داء ليس له دواء، ومرض عضال لا يرجى منه شفاء.
ويقول ناقد آخر: يعرف جيرار قيقنز العنوان بأنه "نص جزئى MICOTEXTE ذو شكل وحجم متحيزين (كلمة، عبارة، جملة...) والذى يهدف إلى تعيين شىء، أو نظام سيميائى معين (نص، رسم، عمل موسيقى، عرض...) لصالح قارئ عمومى”. ويمكننا أن نستخرج من هذا التعريف الملامح الكبرى للعنوان، والتى سنعود لدراستها بالتفصيل فى الفصول القادمة من البحث. وهذه الملامح الكبرى يمكننا تحديدها فيما يأتي: 1- العنوان/ النص. وهذا يطرح إشكالا حيث إن العنوان من حيث الحجم يعد صغيرا مما يجعله فى الكثير من الأحيان يطابق الجملة، وهذا يجعله يتميز بثنائية هى الجملة / النص إذا كانت الجملة على حد بول يلويفليد هى الوحدة الكبرى التى يتناولها النحو فإن العنوان من هنا يتواجد على مستويين: مستوى النحو/ الجملة، ومستوى اللسانيات النصية/ النص، مما يحتم دراسته من حيث بنيته كجملة، وذلك بتناوله فى مختلف مستوياته اللغوية: الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، ثم الارتقاء بالدراسة إلى مستوى النص الذى يحتم الدراسة الوظائفية على اعتبار أن النص جزء من عملية الاتصال. 2- لكن العنوان على الرغم من كونه نصا فإنه لا يتوفر على كل خصائص هذا الأخير. ذلك أنه نص جزئى، أى أنه ناقص؛ لأنه غير مستقل بذاته، بل يرتبط بنص أو نظام سيمائى آخر يأخذ معناه منه، أو على حد تعبير جيرار قيقز أن العنوان سؤال، والنص أو النظام السميائى جواب لهذا السؤال. ومن هنا فإن العنوان واسطة اتصال بين النظام السيميائى الذى يرتبط به وبين المتلقى لهذا النظام.
وعلى هذا نستنتج وجود ثنائيتين هما أ- ثنائية العنوان / النظام السميائى . ب- ثنائية العنوان /المتلقى على أساس أن كلا من النظام السيميائى والمتلقى لا يمكنهما أن يتصلا مباشرة إلا عبر العنوان. ووفقا لهاتين الثنائيتين يمكننا دراسة العنوان، هذه الدراسة التى يركز فيها كثير من الباحثين على وظائف العنوان بالدرجة الأولى. ثالثا: إننا فى هذه الفقرة سنعرض لبعض اجتهادات الباحثين، وضبطهم لوظائف العنوان، والتى نعقب عليها بتصورنا الخاص لتصنيف هذه الوظائف، والتى على أساسها سنبنى دراستنا لعناوين المؤلفات النقدية القديمة. أ- يحدد جيرار قاقنز للعنوان الوظائف الآتية: 1- التسمية 2- التعيين 3- الإشهار 4- الشرح. ب- ويحدد GRIVEL.C للعنوان الوظائف الآتية: 1- التحديد 2- الاستحضار . 3- التثمين. ج- عند كل من RESSOUG .S .ACHOUR.C فإن للعنوان الوظائف الآتية: 1- التعبئةEMBALL 2- التذكر 3- الإزاحة 4- القطيعة 5- الاستهلال. د- عند MITTERAND.H نجد للعنوان الوظائف الآتية: 1- التعيين 2- التحريض 3- الإيديولوجية ، وهى الوظيفة التى يشاركه فيها رولان بارث. هـ- عند GENETTE.G فنجد 1- الإغراء 2- الإيحاء 3- الوصف 4- التعيين. ز- أما عند صبرى حافظ فإن للعنوان وظائف هي: 1- التلخيص 2- التبسيط 3- الترميز. ومن خلال كل هذه الوظائف نجد أنفسنا أمام فوضى كبيرة تحتم علينا تصنيف كل هذه الوظائف حتى يسهل التعامل معها. ونحن هنا نقترح تصنيفا لهذه الوظائف وفق الثنائيتين المذكورتين سابقا، فنقسم الوظائف إلى مجموعتين: أ- المجموعة الأولى تضم الوظائف التى تربط العنوان بالنظام السيميائى، ونسميها بـ"الوظائف الداخلية" للعنوان (الوصف، التعيين، التسمية، الشرح، التحديد، التثمين، التعبئة، الاستهلال، التلخيص، التبسيط، الترميز، الإيديولوجية...) ب- المجموعة الثانية وتضم الوظائف التى تربط العنوان بالمتلقى للنظام السيميائى، ونسميها بـ"الوظائف الخارجية" للعنوان (الإرغاء، الإيحاء، الاستحضار، الاستثمار، التذكر، القطيعة، الإزاحة، التحريض). لكن هل يكفى التحليل الوظيفى لدراسة العنوان؟ رابعا: إن السؤال السابق يطرح علينا إشكالا آخر يتعلـق بـالعنوان، وهـو كيف ندرس العنوان؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول إن هناك مقاربتين لدراسة العنوان: 1- المقاربة التى تعتبر العنوان بنية لغوية فتدرسه مـن خلال المستويات اللغويـة (الصوتية، الصرفية، النحوية، الدلالية). ومن الدراسات التى نهجت هذا المنهج دراسة MOLIND.J ورفاقه. 2- المقاربة الوظيفية، وهى التى تدرس العنوان على أساس أنه عنصر من عناصر عملية الاتصال. 1- مستوى بنية العنوان، والذى يشمل المستويات الآتية: أ- المستوى الكمى (الحجم). ب- المستوى الصوتى, ج- المستوى الصرفى, د- المستوى النحوى, هـ- المستوى الدلالى, و- المستوى المسكوكى, 2- مستوى الوظيفة الخارجية للعنوان أو العنوان ضمن عملية الاتصال. 3- مستوى الوظيفة الداخلية للعنوان، أى العنوان ضمن علاقته مع النص النقدى”.
الحق أننى، وأنا أقرأ هذا الكلام، يستولى علىَّ شعور بأن الكاتب بصدد إعلان الحرب الكونية الثالثة. ما هذا التنطع؟ ما هذا اللف والدوران حول شىء ليس له كل تلك الأهمية التى يدعيها له الفارغون؟ ما هذه الرطانة الاصطلاحية؟ من أى عقل فارغ يا ترى يأتون بها؟ ما هذا التصارع النارى حول لاشىء؟ ترى ما غنية هذا كله؟ الشىء الوحيد الصحيح الذى يقابلنا فى النص السابق هو أن "العنوان على الرغم من كونه نصا فإنه لا يتوفر على كل خصائص هذا الأخير. ذلك أنه نص جزئى، أى أنه ناقص لأنه غير مستقل بذاته، بل يرتبط بنص أو نظام سيميائى آخر يأخذ معناه منه، أو على حد تعبير جيرار قيقز أن العنوان سؤال، والنص أو النظام السميائى جواب لهذا السؤال". ومعنى هذا أننا لا يمكننا فهم عنوان الرواية إلا بقراءة نص الرواية، أما قبل ذلك فلا، اللهم إلا على سبيل التخمين الذى قد يخطئ وقد يصيب. وهذا ما قلته مرارا.
وعن عتبة العنوان فى رواية القصاص الأردنى أيمن العتوم: "يا صاحبى السجن" تقول باحثة أردنية، وقد صححتُ عددا من أخطائها الإملائية واللغوية والترقيمية: "يحيلنا الكاتب فى هذا العنوان إلى سورة "يوسف"، ويتناص مع الآية القرآنية: "يا صاحبى السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟" (آية39). وهذه الآية كما ورد فى تفسيرها بمعنى "ياصاحبى السجن"، أى يا ساكنى السجن". وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه". وهى "استئناف ابتدائى مصدَّر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعى سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به، وعبر عنهما بوصف الصحبة فى السجن دون اسميهما إما لجهل اسميهما عنده، إذ كانا قد دخلا السجن معه فى تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما، وهى صلة المماثلة فى الضراء، الإلف فى الوحشة، فإن الموافقة فى الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها. واتفق القراء على كسر سين "السجن" هنا بمعنى البيت الذى يسجن فيه المعاقَبون لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان. والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية، مثل "مَكْر الليل"، أى يا صاحبيْن فى السجن".
يدلف القارئ إلى هذه الرواية بعد قراءته للعنوان، وهو يتمثل فى ذهنه هذه التفاسير. لذا يتكون لديه تأويلات معينة يتوقع تحققها داخل النص السردى نفسه، فيتوقع أن البطل مسجون، ولديه صاحبان فى السجن اكتسب صحبتهما من خلال وحدة المشكلة وتماثل الضرر الواقع عليهم، وبذلك يمثل العنوان هنا خطابا موازيا قائما بذاته منبثِقا من السياق التاريخى ومستمَدا قوته وايحاءاته من النص القرآنى السابق. وقد يتوافق هذا الخطاب الموازى مع النص السردى الأصلى الذى يمثل هو الآخر خطابا. ومن المفترض أن الخطاب السردى يرتكز على الخطاب الموازى ويتقاطع معه، ولكن كما قال جيرار جينيت: "احذروا النصوص المحاذية" فلا تبقى التأويلات الخاصة بهذه النصوص ثابتة عندما يبدأ القارئ قراءة النص السردى، فقد تتعمق هذه التأويلات وتتحقق، وقد تلغى ويحل محلها تأويلات أخرى مختلفة عن التأويلات الأولى.
من المفترض أن يبدأ القارئ القراءة وهناك فراغ وبياض دلالى أو بُقَع إبهام تمتلئ تدريجيا مع تقدمنا فى القراءة، ولكن عندما يمثل العنوان خطابا يستند على إيديولوجية وعلى سياقات أخرى ممتدة فى نصوص تاريخية أو دينية فهناك بالفعل تأويلات ودلالات قد تتناسل وتتوالد إذا كان الخطاب الجديد يسير فى نفس الاتجاه القديم، وقد تنهدم ويحل محلها خطاب جديد إذا كان الخطاب الموازى مضللا وخادعا بشكل كلى أو جزئى,
وفى رواية "يا صاحبى السجن"، والتى تمثل نمطا من أنماط أدب السجون، وهو أكثر ما برع فيه الكاتب، تحكى الرواية عن تجربته فى السجن حيث زُجَّ به فى السجن شهورا نتيجة تأليفه قصيدة وإلقائه إياها فى قلعة عجلون، ويحكى فيها عن تجربة السجن وعن أنماط مختلفة من الشخصيات المتباينة فى المذاهب والإيديولوجيات، وعن طريقة مجابهتهم للسجن ومجابهتهم لمرور الوقت البطىء.
يتحقق فى تأويلات العنوان دلالات السجن وما يتعلق به من أوجاع وظلم، ويتقاطع مع قصة سيدنا يوسف عليه السلام فى الظلم الذى تعرض له الكاتب وسجنه بسبب هذا الظلم، ولكن يكمن الاختلاف الذى تهدم وحل محله غيره، هو عدد الأصحاب. فالرواى لم يتحدث إلى شخصين أو صاحبين بل كان هناك الكثير من الرفاق، ولذا لم يتحقق هذا التأويل. وذلك يظهر من خلال رسمه صورة لأصدقائه فى السجن قائلا: "واليوم ماذا ظل من سالم غير ما كان يرجه من اللبن الصافى ذى اللون الأبيض الناصع فى أصائل رمضان؟ وماذا تبقى من عكرمة غير أصابعه وهى تعزف موسيقى الثقافة والعشق؟ وماذا ظل من أحمد غير ضحكته وعينيه؟ وماذا ظل من يوسف غير تفانيه فى خدمتنا؟ وماذا ظل من على غير صوته القادم من أعماق وديان عجلون وجبالها؟ وماذا ظل من وماذا ظل منى؟ لا شىء".
ولا شك أن القارئ لاحظ كيف أنفقت الباحثة جزءا من جهدها فى نقل ما كتبه بعض المفسرين عن يوسف عليه السلام وصاحبيه فى السجن من شرح وإعراب وما إلى ذلك مما لا تحتاجه الكتابة عن عنوان رواية العتوم. ثم إنها بعد ذلك تفترض أن كل القراء يدخلون رواية العتوم وقد تمثلوا ما كتبه المفسرون حول الآية، وهو ما تكذبه الوقائع، إذ الذين يقرأون تفسير القرآن من بين مطالعى الروايات قليلون. كذلك تقول الباحثة إن عنوان الرواية يجعل القارئ يستنتج أن بطل الرواية قد سجن وأنه يتوجه بالنداء فى "يا صاحبى السجن" إلى زملائه فى السجن. وهو ما لا نوافقها فيه، إذ من الممكن مثلا أن يستنتج بعض القراء الذين يجهلون موضوعها أن العتوم قد ألف رواية تاريخية عن سيدنا يوسف وأورد فيها واقعة السجن ودخوله فى حوار مع رفيقيه هناك. ومن الممكن أن يتصور أن العتوم قد استعار هاتين الكلمتين واستعملهما خارج سياقهما فلا سجن ولا حوار حول وحدانية الله والشرك به.
وفى مقال لباحث آخر عن العتبات فى رواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى يقول صاحب المقال بخصوص عنوان الرواية إن "الناظر إلى رواية "قنديل أم هاشم" يلحظ أن العنوان من النوع الملفوظ بمعنى "من جملة واردة فى النسيج الروائى"، وهى جملة اسمية، وهذا يبرر اعتماد الكاتب على الاسم وتغييب الفعل مما يدل على اهتمامه بالاسم وما يحيل إليه من السكون والثبات. كما أنها مفارقة تدل على رغبة الكاتب فى الاختلاف، إذ عادة الكتّاب استخدام الأفعال فى عناوينهم".
وأول ما نقف عنده من كلام الباحث هو قوله إن "قنديل أم هاشم" جملة، فأين الجملة هنا، وليس أمامنا سوى اسم مثله مثل قولنا: "أسد، إبراهيم، طباشير، كتابان، ماء، سماوات، علىّ، أم سيد، دراجة، إله الكون... إلخ". فهل هذه كلها جمل؟ كيف؟ ولنفترض أننا لا بد أن نتعامل مع هذا الاسم على أنه جملة مقدر طرفها الآخر فلماذا بالله ينبغى أن تكون جملة اسمية على تقدير "هذا قنديل أم هاشم" (مبتدأ وخبر)؟ لم لا يكون المراد من العنوان هو "تعالَوْا لأحكى لكم قصة قنديل أم هاشم"؟ ثم قال الباحث إن الاسم يحيل إلى السكون والثبات. لكن هل أسماء مثل "التقافز، الحركة، الاضطراب، اللعب، البناء، الهدم، الغليان، القتال، جنى البرتقال، حرث الارض، صلاة الظهر، قطار يجرى، طائرة تحلق، سمكة تعوم... وهلم جرا" تدل على السكون والثبات؟ وهل أفعال مثل "خمد يخمد، مات يموت، سكن يسكن، هدأ يهدأ، نام ينام، رقد يرقد، شل يشل، توقف يتوقف، استراح يستريح، تجمد يتجمد، تماوت يتماوت، ركد يركد، تصلب يتصلب..." تدل على حركة وانتقال؟ وهل بقى القنديل ثابتا رغم أنه اسم لا فعل؟ ألا ينزله خادم المسجد كل يوم لينظفه ويملأه بالزيت؟ أليست هذه حركة؟ ألم يحطم إسماعيل القنديل تحطيما فلم يعد ثابتا فى مكانه بل تناثر قطعا ثم لم يعد له وجود أصلا؟ كذلك فإن حال إسماعيل وموقفه من كل شىء فى مصر لم يبق كما هو قبل أن يغادر البلاد إلى بريطانيا بل تغير تغيرا كليا. فماذا نقول فى هذا؟ ولنفترض أن العنوان يدل على الثبات والسكون فما دلالة هذا فى سياقنا؟ وما أهميته؟
كذلك كيف حكم الباحث على يحيى حقى بالاهتمام بالاسم وتغييب الفعل؟ هل الرواية تخلو من الأفعال (والحروف بالمرة) وليس فيها من أولها إلى آخرها إلا أسماء؟ بل هل كتابات حقى كلها أو غالبيتها تقوم على استعمال الأسماء وحدها وإهمال الأفعال والحروف كما يفهم من كلام الباحث؟ واضح أننا أمام خلل فى الفكر والتعبير. ثم كيف عرف أن الروائيين من عادتهم استخدام الأفعال فى عناوينهم؟ هل قام بجرد عناوين روايات المؤلفين فوصل إلى هذه النتيجة؟ تعالَوْا مثلا إلى عناوين روايات طه حسين وتوفيق الحكيم وتيمور والمازنى وباكثير وعبد الرحمن الشرقاوى لنرى طبيعة تلك العناوين: "شجرة البؤس، دعاء الكروان، ما وراء النهر، على هامش السيرة (طه حسين)، عودة الروح، حمار الحكيم، راهب الفكر، عصفور من الشرق (الحكيم)، سلوى فى مهب الريح، نداء المجهول (تيمور)، سارة (العقاد)، "إبراهيم الكاتب، إبراهيم الثانى، ثلاثة رجال وامرأة، عود على بدء، من النافذة (المازنى)، سلامة القس، ليلة النهر، وا إسلاماه، الثائر الأحمر، سيرة شجاع (باكثير)، الأرض، الفلاح (الشرقاوى). ولا مانع من إيراد عناوين الروايات التى ألفها الصديق نشأت المصرى، الذى انطلقت من إحداها: "كائن رمادى" لكتابة هذا المقال عن العنوان الروائى، وهى "دماء جائعة، بلباى، تاوسرت، أسطورة نفرتيتى، المهزوز، ملائكة فى الجحيم، كوتشينة، خاص جدا، اللحن المكسور، الكلاب لا تنبح عبثا، كائن رمادى"، وكلها كما نرى أسماء لا أفعال. واضح أن الباحث يقول ما يعن له دون أن يكلف نفسه شيئا من البحث والتفكير. فقلمه هو الذى يسوقه وليس هو من يقود القلم.
كذلك ما معنى أن عنوان رواية يحيى حقى التى نحن حيالها من النوع الملفوظ؟ ألا يوصف العنوان بأنه ملفوظ إلا إذا كان موجودا فى نص الكتاب؟ ما هذا الكلام العجيب؟ إن عنوان الكتاب هو الشىء الوحيد الذى يذكره القراء من الرواية ويكررونه على ألسنتهم فى كلامهم وكتاباتهم كما هو معروف للقاصى والدانى. ومع هذا فلنماش الباحث فى كلامه الغريب الخارج على العقل والمنطق، فهل هناك فى العادة عنوان لأى كتاب ليست ألفاظه موجودة فى نص الكتاب نفسه؟
ثم يستمر الباحث فى العزف على نفس النغمة موضحا أن العنوان يتحدث عن علاقة بين طرفين هما "قنديل" و"أم هاشم"، وأن القنديل يحيل المتلقى إلى مصباح فى وسطه فتيل يملا بالماء والزيت ويشعل (انظر الرطانة، فقد كان من السهل المريح له وللآخرين أن يقول إن القنديل "يعنى" كذا وكذا بدلا من "يحيل إلى"، ولكنه الغرام بمخالفة ما هو معروف مستقر تصورا منه أنه هكذا صار ناقدا عصريا حداثيا وما بعد حداثى بل ما بعد البعد كما يقول عنوان أحد دواوين العقاد الشعرية)، وقنديل المسجد/ نفط- يستخدم القنديل عند انقطاع الكهرباء. والحاصل أن القنديل يستخدم فى الإضاءة، أما "أم هاشم" مركب إضافى لعلم مؤنث. ومعنى "أم" يحيل إلى الأمومة، و"هاشم" معناها "مكسِّر".
هذا ما كتبه باحثنا، وهو كما ترى كلام خطير ما كان لنا أن نفهمه من تلقاء أنفسنا، وإلا فمن منا كان يعرف أن القنديل مصباح يضاء بالزيت، وأن الأم تعنى الأمومة، وأن هاشم تعنى الذى يهشم ويكسر؟ وللأسف نسى أن يقول لنا: يكسر ماذا؟ هل يكسر كل ما يقابله فى طريقه من أشياء وحيوانات وبشر أم ماذا؟ وبم يفيدنا هذا الشرح هنا؟ إن "هاشم" فى ذاته مجرد اسم علم لا يعنى شيئا سوى تمييز صاحبه من غيره من البشر مثل "نبيل، حسن، جمال، نور، كافور، خليل، البغل، الحصان، الأسد، هند، (خالتى) فرنسا...". صحيح أن "هاشم" بوصفه اسما لجد الرسول يعنى أنه، فيما يقولون، كان يهشم الثريد لحجاج بيت الله الحرام، لكنه بالنسبة للست أم هاشم لا يعنى شيئا من هذا مثلما لا يعنى اسمى أننى نبى الله وخليله. وهذا إن كانت هى زينب بنت على وفاطمة لأن هناك روايات أخرى تقول شيئا مختلفا. ثم ما الذى يفيدناه أن يكون التركيب فى "قنديل أم هاشم" تركيبا إضافيا أو مزجيا أو إسناديا؟ الواقع أن كل هذا كلام فى الهجايص. وهل كان القنديل فى مسجد أم هاشم لا يُشْعَل إلا عند انقطاع الكهرباء؟ من قال ذلك؟ إن الرواية لم تقل هذا بل تقول إنه كان يشعل فوق الضريح ليلا على الدوام.
ولنمض مع الباحث الذى يقول عقب ذلك وكأنه أمسك بالذئب من ذيله: "من ثم فالبنية التركيبية للعنوان أوحت لنا بمصباح إضاءة لهذا العلم المؤنث بما يوافق إنتاجية الراوى إلى حد كبير". بالله عليكم هل يقال عن "قنديل أم هاسم" إنه أوحى لنا..." أم هل المفروض أن يقال "إنه يعنى..." هكذا على نحو مباشر؟ ترى أين وجه الغموض هنا حتى توصف الدلالة بأنها مجرد إيحا؟ وما هى "إنتاجية الراوى" يا إلهى التى يتوافق معها تركيب العنوان؟ أهو رص كلام، والسلام؟ إن الفكرة غير واضحة فى ذهن الباحث، فهو يقول أى شىء يحوم حول مخه دون تدبر. ودعنا من الكلام عن ركاكة أسلوبه.
على أن الباحث لا يكتفى بهذا التخليط بل يمضى قائلا: "هذا، وقد أسهم فى توسيع الدلالة فى العنوان أيضا أنه اعتمد على المبتدإ: "قنديل"، وهو مضاف، والمضاف إليه: "أم هاشم" دون ذكر الخبر. وقد حذفه الكاتب كى يثير مخيلة المتلقى إلى البحث عن خبر يناسب "قنديل أم هاشم"، وبذلك يشرك المتلقى فى البحث معه أثناء قراءة النص عما يكمل العنوان، ومن ثم فقد اتسعت دلالة العنوان".
ومعنى هذا الذى يقوله الباحث أن القارئ (ولا داعى لكلمة "المتلقى" بما فيها من رطانة يغرم بها أمثال الباحث ظنا منه أنه بها يصير ناقدا من آخر طراز مهما كان كلامه هلسا لا قيمة له) معنى هذا الذى يقوله الباحث أن القارئ يظل طوال الوقت يبحث عن خبر للمبتدإ الذى هو "قنديل أم هاشم"، فيتوقف كل عدة صفحات عاصرا مخه بحثا عن ذلك الخبر. يا خبر! وهو ما يثير تعاطفنا معه وابتهالنا لله من أجله أن ينتعه بالسلامة فيقوم ولو عند انتهائه من الرواية وقد قبض على الخبر المجرم الهارب الذى دوخه أياما وليالى لم يذق فيها طعم النوم.
ولكن هل يا ترى باحثنا ترك القارئ (الذى هو المتلقى بعينه وشحمه ولحمه) فى حاله يبحث عن الخبر بالتركيز المطلوب؟ لا بل نراه يخرج له لسانه قائلا بعد أن شاب شعر رأسه حتى توصل إلى الخبر الهارب إنه من المحتمل "أن يكون المحذوف هو المبتدأ، فالمتأمل فى عنوان رواية "قنديل أم هاشم" يجد تركيبا لغويا ناقصا، إذ إنه مسند يحتاج إلى مسند إليه، وهو نقص يتطلب من المتلقى أن يقدر المحذوف، ويمكن تقديره بـ"هذا"، فتكون الجملة "هذا قنديل أم هاشم"...".
وهذا الكلام يذكرنى بما كان يقوله لنا مشايخنا فى السيد البدوى أيام كنت أدرس معهم الفقه فى صباى الأول، إذ كانوا يشرحون لنا أن النية فى العبادة والصلاة محلها القلب، ثم سرعان ما يلتفون ويفاجئوننا من الناحية الأخرى بقولهم: لكن علينا أن ننطقها باللسان ليعضد اللسان القلب، فنقول: نويت أن أصلى العصر (مثلا) حاضرا أربع ركعات جماعةً مستقبلا القبلة مقتديا بهذا الإمام (المقصود الإمام الذى يصلى بنا فى المسجد). الله أكبر"، وقد علقت فى بعض كتبى حامدا الله أنهم لم يطلبوا من كل واحد فينا ألا يكتفى بالإشارة إلى الإمام من بعيد بل عليه أن يترك مكانه متجها إلى الإمام وهو يشير إليه بإصبعه حتى يصل إليه فيغرس الإصبع فى جسده منعا للخلط وهو يقول: "مقتديا بهذا الإمام". بالله أَوَلَوْ لَمْ يكمل القارئ هذا التركيب ألن يفهم العنوان، ومن ثم لن يفهم الرواية ولن يتذوقها ويظل طول عمره يتقلب على جمر النار؟
طيب! فماذا أنتم صانعون إذا قلت لكم إنى لم أعنّ نفسى يوما بهذا الأمر بل كنت أقرأ الرواية التى تقع فى يدى وأندمج فيها تمام الاندماج دون التفكير فى أبعاد دلالات العنوان؟ بل كثيرا ما كنت أخطئ فهم العنوان أصلا كما هو الحال حين كنت أظن أن "بين القصرين" هو بيت يقع بين قصرين معينين موجودين فى المكان الذى تدور أحداث الرواية فيه، وأن "قصر الشوق" هو قصر مملوك لإحدى أسر الرواية، وأن "السكرية" هى الإناء الذى نضع فيه السكر ونرشه منه على الطعام أو المشروب الذى نحبه مسكَّرا مثل "الملاحة" للملح. ذلك أنى لم أكن من أهل القاهرة بل إنى لم أذهب حتى الآن إلى تلك الأحياء. وحين سمعت، وأنا حديث عهد بالعاصمة، بأن المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة تقع فى "بين السرايات" لم أتوقف أمام هذه التسمية لأعرف ماذا تعنى، بل كنت أرددها والسلام.
ولنتابع مع الباحث: "ومن ثم توحى لنا الكلمة المقدرة: "اسم الإشارة" بمكانة وقدسية القنديل، فالتعبير باسم الإشارة القصد منه تعظيم المشار إليه، وهذا مقصد تقوم به أسماء الإشارة خير قيام. فللقنديل مكانة وقدسية، والعنوان أيضا يحمل دلالة على مكانة روحية للمضاف إليه: "أم هاشم"، إذ يتعذر على القارئ حذفه لئلا يخل بالمعنى. فالعنوان دلالته واضحة، إذ يؤكد على قدسية هذا القنديل، كما أن كلمة "قنديل" يستحيل حذفها كذلك. وتكتمل قدسية العنوان بـ"أم هاشم"، وهى السيدة زينب بنت على بن أبى طالب حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولها ضريح فى القاهرة. فالصورة التى رسمتها البنية التركيبة للعنوان صورة لقنديل له مكانة عظيمة لإضافته إلى شخصية لها مكانتها فى النفوس"...
وهكذا يمضى الباحث فى رص ذلك الكلام الفارغ الذى لا يعنى شيئا. عافانا الله من الكلام الفارغ ومن العك الذى يمطرنا به العنوانيون وتلاميذهم دون أن يشعروا بالخجل بل دون أن يطرف لهم جفن وهم يكتبون مثل تلك الأشياء التى ما أنزل الله بها من سلطان. ترى من قال إن اسم الإشارة يدل على التعظيم؟ أولو قلنا: "الشحاذ موجود أمامنا الآن" يكون المقصود أنه شحاذ تافه لا يتصدق الناس عليه إلا بالقروش القليلة وبصعوبة، بخلاف ما لو قلنا: "هذا الشحاذ أمامنا الآن"، إذ يتحول بقدرة قادر إلى شحاذ خمسة نجوم تنثال عليه الدولارات واليوروهات من أيدى الناس انثيالا ويصير من الأثرياء المتخمين بالمال ما بين عشية وضحاها؟ إن مرارتى سوف تنفقع! ثم مَنْ يا خلق هوه يمكن أن يخطر فى باله مجرد خطور أن يحذف من عنوان الرواية كلمة "قنديل" أو "هاشم" فلا يتبقى فى يديه سوى كلمة "أُمٍّ" على ما يشير إليه كلام الباحث؟ صحيح أن الجنون فنون!
والآن آتى إلى رواية "كائن رمادى" لنشأت المصرى، وهى الرواية التى دفعتنى إلى دراسة موضوع العنوان فى الإبداعات الروائية، ونتريث قليلا إزاء عنوانها لنعرف من أين جاء ومدى ارتباطه بها. وقد قلت إن المنطق والواقع يقولان إن الرواية هى التى تضىء لنا السبيل إلى فهم العنوان لا العكس كما يدعى كثير من العنوانيين. وأود أن أستعرض أولا ما قاله غيرى فى تلك المسألة قبل أن أدلى برأيى. يقول د. عيد صالح فى مقال له على المشباك بموقع "أوبرا مصر" تحت عنوان " د. عيد صالح يكتب بين القلق الوجودى وأسئلة المصير الإنسانى في: كائن رمادى”: "أرى أن الكائن الرمادى هنا... هو صفة مجازية لوليد بطل الرواية الذى تفترسه الأسئلة الوجودية، لا كيف ولماذا ومتى وأين؟ ولكن تلك الحالة التى يعيشها الإنسان مقهورا بين قوسى الموت والحياة ولماذ تصدمنا النهايات، ومن ثم لماذا الحياة؟ هو لا يخاف الموت لأنه يعرفه، لكنه يخاف الواقع ومفاجآته ولا يخاف الغد الذى هو فى ظهر الغيب والذى لن يجىء لأنه إذا جاء فلن يكون الغد بل يكون اليوم، ومن ثم كل الأشياء رمادية: لون باهت كالح يصيب بالاكتئاب الذى يؤدى للثورة عليه ويدخله فى ثلاث زيجات ناجحة (ثلاث زوجات جميلات) تنتهى بالملل والقلق الوجودى الذى يجعله يترك زوجته وحبيبته الأولى وقد أقعدها المرض ليتزوج صديقتها وتفهمها لأحقيته، بل يترك صديقتها زوجته الثانية وينطلق فى رحلة بحثه عن إجابات مستحيلة لحصاره فى قوس البداية والنهاية لرحلته الاخيرة لزوجته الثالثة التى تنتهى فيها رحلة الأسئلة بلا إجابة إلى حين، وبين الرحلات الثلاث أبناء وأبناء زوجات وأحداث ورحلات تحقق بعضها لجبل سانت كاترين بسيناء ولأسطنبول بتركيا التى عاش بها خمس سنوات وافتتح بها محلات فول تديرها عائشة ابنة زوجته الثانية إيمان، لرواندا التى لم تتحقق والتى كان سببها كل هذا الموت والصراع والقتل على الهوية...". فاللون الرمادى إذن حسب هذا التحليل هو لون الأشياء من حول البطل، أو فلنقل: لون الحياة كلها، وهو لون مكتئب. كذلك فالكاتب، حسبما هو واضح، لم يحلل العنوان إلا من خلال قراءته للرواية لا قبلها.

وتقول عبير نعيم أحمد فى مقال بعنوان "قراءة عن رواية "كائن رمادى" للكاتب الكبير نشأت المصرى" منشور فى مجلة "بصرياثا" الضوئية العراقية، وقد أصلحتُ على قدر وسعى كما صنعت مع الآخرين أخطاء الاقتباس الإملائية والترقيمية واللغوية على الأقل حتى يكون الكلام مفهوما بدقة: "استهل الكاتب بعنوان الرواية: "كائن رمادى” عن تمخض الفكرة داخله وسكب كل أبعادها وما يود إيصاله للقارئ من خلال هذا العنوان الغامض كأنه يقول باختصار مسبق للأحداث التى ستتولد تباعا فى السرد داخل الرواية إنها مطوقة داخل هذه المنطقة الرمادية، أى المنطقة التى تتأرجح بين منطقتى الأبيض والأسود، أى المنطقة المحيرة التى لا يدعمها العقل والمنطق. استمال الكاتب القارئ ناحية هذا اللون فى معظم الأحداث بدءا من الإجابات التى طرحها على أسئلته الحائرة فى صوت المزمار فى ليلة عرس ابنة البطل الرئيسى فى الرواية وليد. هذا البطل هو المحرك الرئيسى لأحداث الرواية، وهو دائما شديد الحيرة فى أطروحات الأسئلة التى تحيط به نتيجة معايشته لواقع قد يرفضه مرة، وقد يتقبله مرات نتيجة لحياته الهلامية التى تشبه راكب القطار الممسك دائما حقيبة سفر رمادية. وهنا دلالة واضحة ورمزية لا تغيب عن وعى القارئ: أن الكاتب لم يزجّ بها هباءً فى الرواية، ولكن تكملةً لصورة تؤرق خيال الكاتب طَوَال السرد المتواتر فى الرواية نتيجة لهذا اللون الذى يقف كالشبح بين طريقين واضحين. طرح الكاتب بأدوااته المباشرة والغير مباشرة قضايا تكاد تكون داخل الرواية: حدث عابر، ولكن هو على يقين لا يود أن تكون كذلك". وكما نرى فالعنوان عند الكاتبة غامض، وأحداث الرواية رمادية غير واضحة ولا محسومة، وحياة بطلها هلامية مترددة.
وفى مقال للكاتب العراقى صباح الأنبارى بمجلة "العالم" الضوئية البغدادية نقرأ ما يلى عن عنوان الرواية: "قبل الدخول إلى عالم الرواية شدّنى عنوانها الغريب: "كائن رمادى”، فرحتُ أقلّبه فى ذاكرتى باحثاً عن مصدر العنونة وعن ماهية هذا الكائن وما إذا كان له وجود واقعى فعلى أو إنه مجرد ابتكار من الكاتب الروائى الذى سبق له وأن قدّم لنا شخصية "المهزوز" وأحاطها بما يعزز وجودها فى حياتنا على سبيل المثال، وجعلنا نتتبع خطواتها فى سياق خاص على مدى جغرافية الرواية. اعتقدت أول الأمر انه بصدد تناول الكائنات الرمادية الغريبة وعوالمها الخفية المجهولة وعلاقتها بنا كبشر لنا خصوصيتنا فى كون يمتد إلى آخره، ولا نزال نجهل عنه الكثير، وتبين لى خلال بحثى أن الكائن الرمادى يعيش فى منطقة الجوف-أرضية، وله مواصفات غير بشرية، لكن عقله كما تبين متقدم على عقليتنا بأشواط طويلة وأن التقنية التى توصل إليها تفوق التقنية البشرية بزمن ضارب فى القدم، وجلّ المعلومات التى وصلت إلينا جاءت على لسان أشخاص شاهدوا بأعينهم تلك الكائنات ثم دونوا مشاهداتهم فى رسائلهم الخاصة أو فى محاضراتهم مثل محاضرات المهندس الأمريكى المتخصص فى بناء القواعد التحت-أرضية فيليب شنايدر (Philip Schneider) وما رواه عن أنفاق الأرض السرية والكائنات الرمادية. ومع أن المعلومات التى وردت فيما زعمه شنايدر لم يتم التحقق منها علميا إلا أنها أخَذَتْ طريقها الى القراء المهتمين بشأن الظواهر الكونية الغامضة.
حقيقة لم أجد آصرة قوية بين الكائنين: الكائن الرمادى الغامض وكائن نشأت المصرى، وتُقْتُ إلى ترجيح رأيى القائل باستخدام المجاز والتشبيه حسب "عيناك تكاد تخترقان الجدران والسقف، حتى وجهك تبدل لونه، كأنك كائن رمادى خرج من جوف الأرض، أو هبط من السماء. أخافك أحيانا". ومن خلال متابعتى لشخصية الرواية وجدت أنها تتشابه أحيانا مع الكائن الرمادى المجهول. فمن هى هذه الشخصية التى استأثرت باهتمام نشأت المصرى فحولها الى عمل روائى بنى على سيرة وليد وتحولاته الاجتماعية والفلسفية؟
انطلق وليد من فكرةٍ حددت مسار حياته وبُنِيَتْ على رؤية فلسفية قوامها الثابت والمؤقت، ورُكْنَاهما الحضور والغياب وأيهما يستحق أن يكون هدفاً فى الحياة التى فُرِضَتْ علينا ولم نخترها بأنفسنا. يقول وليد: "أخاف أن يغيب الهدف فيحضر الاكتئاب بجحافله الصامتة الغبية. لا يصح أن أحيا مجردا من زخم الغاية. إذن لأبحث عن هدف لا يغيب عن خاطرى، وأصبح عبدا له، فأكتبه على الحائط أو فى مكان بارز من مفكرتى، وأصبِّح عليه كل يوم".
وليد إذن يريد من هدفه أن يكون ثابتا لا يغيب عن خاطره ليتشبه به، ويتمسك بخيطه على الدوام أملاً فى استقرار مشاعره، وتخلصاً من تقلباتها المضطربة. ونظراً لعدم ثباته فإنه ينظر الى هذا الهدف كأداة للاستعباد الذى يكرهه وليد بكل ما أوتى من قوة، فما البديل فى حالة كهذه؟ وكيف يتحول المؤقت الى ثابت خالد على مر العصور؟
يقترح وليد الزعامةَ كحل لهذه المعضلة فيقول: "لماذا لم أرشح نفسى للرئاسة منذ عشرين عاما مثلا قبل أن تتملكنى أفكار المؤقت والخلود؟ وهل هذه الوظيفة تجعل المؤقت خالدا؟ هل يفلت الرؤساء والملوك من نهاية كل البشر؟".
فى عيد ميلاد ابنته وقعت عينيه على صديقة للعائلة فأعجب بها، وفاتحها بمشاعره. ومع أنها كانت يوما ما شريكة رجل توفى ذات يوم من أيام شراكتهما إلا أنها لم تعد للتفكير فى الزواج ثانية. وبشكل مباشر وبلا مقدمات تمهيدية يقول لها:
"يا سمراء، أنا أحب اختصار المسافات وربما إلغاءها، ولهذا سأتزوجك غدا تحت أى شروط".
وبهذه الزيجة يحقق لنفسه تغييرا طالما سعى خلفه ليكون ذا هدف دائم الحضور على الرغم من يقينه أن كلّ شىء آيلٌ لنهايةٍ محتَّمة، أو غيابٍ مقدّر. لقد حضرت ابنته وملأت حياتهم فرحاً، ولكن الغياب لفّها بعد أن تزوجت وغادرت بيت أبيها الى رجل آخر غيره. لقد تحول الزواج عنده إلى نقطة فى رأس سطر حياة امتدت من الولادة (الحضور) إلى الزواج (الغياب) أو انقلاب الحضور المؤقت الى غياب دائم ليستمر همه الكبير، ودأبه إلى التحرر من غاياته المغلقة. لقد كانت الابنة أول من قاد الرجل الى التفكير بهذا الوضع الطارئ المقيّد بالثابت والمؤقت، ولهذا نراه يقرر: "إن ابنتى أيضا شىء مؤقت، لقد غابت عنى”. ومع أنه تزوج المرأة التى يناديها كما يحلو له: "سمراء" إلا انه أحس أن زواجه الجديد لم يكن أداةً لثبات الهدف الذى لا يزال يسعى وراءه بإصرار وعناد. وبعد هذا بدأ وهج هدفه يتضاءل شيئا فشيئا مع أن المرأة الجديدة كانت له مثل نسمة جميلة: "إيمان نسمة جميلة حقا، إلا أنها ليست نسمة الضرورة التى تعادل الحياة، إذ لا تخرج عن دائرة المؤقت".
وهكذا يبدو المؤقت فى يقينه ضرباً من الخاتمة التى لا يحبها. فالمؤقت عنده لم ولن يتحول إلى دائم لأنه يموت بعد فترة وجيزة وينتهى مثل كل الأشياء الزائلة. إنه يبحث الآن عن شىء ربما يجهله أو يريد الوصول إليه مع علمه أن المجهول ينتهى أيضاً عندما يصبح معلوماً. حتى الموت لا يدوم طويلاً بوجود البعث، فهو الآخر من المؤقت الذى يؤرق وليد فى حياته المضطربة، فيعيد السؤال على نفسه مرارا وتكرارا: "عن أى شىء أبحث؟". وهو نفسه لا يعرف لهذا السؤال إجابة شافية وافية. لقد عاش النبى نوح ألف عام، وفى النهاية ألفيته مات، ومات غيره ممن عملوا على تخليص الإنسان من الأمراض ليكون خالداً. حتى الفصول تنتهى، وهى مجرد تنويعات على يقين النهاية على حد زعم وليد. ومن المفارقات بين وليد وزوجه إيمان هو أنها تختلف عنه فى رؤيتها الفلسفية، وهذا أمر يسخر منه. ولهذا يقول مفلسفا علاقتهما: "يا إيمان، نحن أيضا علاقة مؤقتة بحكم الزمن والموت". ويعتقد فى يقينه ألا وجود للاطمئنان ما دامت الأشياء موقوتة، ولأنها موقوتة فهذا هو أشدّ ما يدفعه للبحث عن خلودها ودوامها الى الأبد. وما الاطمئنان عنده إلا خدعة ابتكرها الإنسان ضد اللامعقول والمؤقت فى الحياة. لقد وصل الى اليقين الثابت حسب زعمه مدركا "أن كل شىء بين قوسين، لا شىء يحكمه قوس واحد، وما نلمسه مجرد أقواس مؤقتة".
وعودا على بدء يبدو لنا أن اتصاف شخصية وليد باللون الرمادى لم يأت من فراغ، بل من مجموعة ما زُرِع فى نفسه مِنْ قِبَل والديه أولا ومن كل المحيطين به ثانيا فانغرز فى نفسه مبدأ "التكيف"، ووفقا لهذا المبدإ صار جاهزا للتراجع أمام الحق والباطل والأبيض والأسود حتى اكتسب صفة الرمادى أسوة بمن حوله من غالبية البشر الرماديين: "يبدو أن اللون الرمادى هو المعبر عنا لأنه مثلنا مؤقت وليس آخر أو أول درجة فى لونه، ليس هناك لون رمادى واحد محدد يستطيع أن يعلن أنه هو الأصل".
ظل وليد متشبثا بفكرة السفر بحثاً عن المجهول الذى يروم الوصول إليه وكأن السفر غايته القصوى على الرغم من أنه قال بصريح العبارة: "ليس السفر هو الغاية، وإنما الوصول إلى إجابة عما يضطرم فى عقلى وصدرى، عن المؤقت والجدوى الكونية".
بعد أن أتعبه اللون الرمادى وجعل منه هامشاً على صفحة الحياة التى لم يخترها بإرادته يعود ليقرر السفر ثانية وثالثة، ولم تنفع معه النصيحة فى غباوة تضييع الوقت والراحة فى رصد نقطتى البداية والنهاية، فهو كغيره راحل بما عرف أو جهل. وليد كان يعتقد بالبعث الذى يجدد الحياة، فعندما يموت زواجه السابق فإنه يتبعه بزواج لاحق يبعث الحياة فى نفسه حتى تنطفئ جذوتها أو جذوة الزيجة الجديدة، وعليه اقترن آخر الأمر بالأستاذة رحمة وعاش معها فترة غير قصيرة وخلَّف منها ابنته صفاء، التى اعتبرها مؤقتة هى الأخرى: "يا ألله، قلبى يخوننى، ويلتصق بالمؤقت الجديد: صفاء".
وفى غمرة الأحداث والاضطرابات النفسية والفكرية يحدق فى المرآة فيفاجأ بوجود رجل ليس هو على ما بدا له لحظتها ولم يتعرف على وجهه الرمادى الذابل. وعندها يصل الكاتب الى ختام روايته بأن جعل وليد يفقد رمز سفراته المكررة ورحيله الدائم نحو المدن الجديدة كحالة من حالات البعث والتجدد والخلود وتركه أخيرا يفقد حقيبته الرمادية وينظر إليها متهاوية نحو المجرى المائى الذى ابتلعها وغيبها الى الأبد.
يقول فى سطر الرواية الأخير: "قررت أن أسافر غدا إلى الدكتور أحمد لإجراء العملية، ومعى صفاء وأم صفاء. وبهذا تنتهى رحلة الكائن الرمادى من دون أن يتحقق حلمه الكبير فى الوصول الى الدائم الحاضر الأبدى، والتخلص من المؤقت الآيل للغياب".
هذا ما وقع لى مما كُتِب عن عنوان الرواية. وقد كان أول ما قرأت فى الرواية عن الكائن الرمادى هو قول زوجته الثانية إيمان له فى أحد سرحاناته وهو معها إن عينيه تكادان تخترقان الجدران والسقف "حتى وجهك تبدل لونه كأنك كائن رمادى خرج من جوف الأرض أو هبط من السماء. أخافك أحيانا" (ص56). وبغض النظر عن احتمالية معرفة زوجته بهذه الكائنات التى يدعى بعض العلماء الغربيين أنهم كائات حقيقية أو لا فإن شكل البطل، طبقا لما نخرج به من الرواية، لا يشبه تلك الكائنات الرمادية، إذ هو أبيض اللون، كما أن وصفه على طول الرواية يخلو مما يمكن أن يكون غريبا أوشاذا أو حتى قبيحا. وإضافة إلى ذلك لم يرد فى الرواية ما يفيد أن تشبيه زوجته الثانية إياه بالكائنات الرمادية قد أُخِذ على محمل القبول بتاتا، وإن كان قد وصف نفسه ذات مرة وهو ينظر فى المرآة بأن وجهه رمادى ذابل (ص75).
أما البطل نفسه فيقول إن الطريقة التى رباه بها والداه غرست فى نفسه كراهيةَ التصادم وسرعةَ التكيف والرجوعَ عن الإصرار متى أحس أن التمسك بموقفه قد يؤدى به إلى الضرر حتى صار رماديا لا هو أبيض ولا هو أسود بل بين بين (ص60). ثم راح يدافع عن اللون الرمادى على طريقته. وهو يحمل فى معظم الأوقات على كتفه حقيبة رمادية إشارة إلى أنه جاهز للانطلاق والسفر وترْك كل شىء وراء ظهره فى أى وقت. وقد أكد أنه لا يحب المشاكل. وفى آخر الرواية نراه يصف نفسه لزوجته الثالثة رحمة بأنه ليس جبانا فيهرب ولا هو قوى فيبقى. ثم هو بعد ذلك متردد رغم قلقه الدائم فلا هو يرضى بالتأقلم مع طبيعة الحياة وأنها عارضة كل شىء فيها لا بد أن ينتهى إلى الفناء ولا هو يتخذ الخطوة التى يتخذها كثير من الغربيين حين يجدون أبواب السكينة مغلقة فى وجوههم فينتحرون ويغادرون المشهد. ذلك أنه كان رغم كل شىء مؤمنا متدينا يصلى ولا يشرب الخمر ولا يزنى. وأتصور أن هذا هو أفضل التفسيرات لعنوان الرواية الذى فهمتُه على هذا النحو فهما إجماليا فور رؤيتى عنوانها، ورشح لى هذا التصور أنه سبق أن أهدانى قبل ذلك بأشهر قلائل رواية له بعنوان "المهزوز" قطعت منها شوطا فى القراءة ثم غلبتنى مسؤولياتى الأخرى المتعاقبة فلم أكملها ولكنى شعرت أنه يريد فى روايته تلك تحليل شخصية أحد الأشخاص تحليلا نفسيا، فخطر لى أن هذه الرواية الأخيرة تسير فى درب السابقة. ومع هذا فقد ظل هذا التصور مجرد افتراض لا دليل عليه إلى أن قرأت الرواية فألفيتها تعضد هذا التصور. وهو ما يقوى ما سبق أن قلته مرارا على مدى الصفحات السابقة من أن العنوان لا يفهم حق الفهم إلا من خلال الرواية لا العكس.