محمد أحمد خلف الله وكتابه: "الفن القصصى فى القرآن الكريم"
إبراهيم عوض

فى كتاب "الفن القصصى فى القرآن الكريم" يتنفج د. محمد أحمد خلف الله بأنه بهذا الكتاب إنما يريد تجنيب القرآن تكذيب المكذَّبين من خلال القول بأن القرآن لا يورد القَصَصَ الموجود فيه بوصفه وقائع تاريخية حدثت فعلا بل بوصفه فنا أدبيا يقوم على الخيال لا الحقائق. وهل يريد أعداء الإسلام شيئا آخر غير هذا؟ الواقع أن هذا الذى يقوله د. خلف الله يؤكد ما يتهمون به كتاب الله من أنه ممتلئ بالأخطاء التاريخية. ومع هذا فإن د. خلف الله يريد منا أن نصدق أنه إنما يدافع عن القرآن. وقد ضرب الدكتور أمثلة متعددة وحللها لينتهى منها إلى ما يريد. ولن أقف لدن جميع ما أورده من تلك الأمثلة بل لدن بعضها فقط مما يبين أن ما يزعمه لا نصيب له من الصحة.
فهو مثلا ينقل عن الرازى المفسر عند قوله جل جلاله فى سورة "آل عمران" عن عيسى عليه السلام: "ويكلم الناس فى المهد" أنه لو كان عيسى تكلم فى المهد لعض النصارى على تلك الواقعة بالنواجذ لأنها معجزة ومن ثم تدعم موقفهم منه وأنه إله، ولكانت عداوة اليهود له أعنف حتى ليفكرون فى قتله. ولأن هذا وذاك لم يحدثا علمنا أنه لم يتكلم فى المهد. هذا ما نقله خلف الله عن الرازى بغية تدعيم رأيه أن هذا الكلام ليس تاريخا حقيقيا بل فنا أدبيا خياليا. ولكن ماذا يقول خلف الله حين نقول إن هناك إنجيلا يذكر كلامه فى المهد؟ صحيح أن الكنيسة لا تعترف بهذا الإنجيل، لكن عدم اعترافها به لا يضر، فهى لم تعتمد على أسس علمية فى قبول ما قبلت من أناجيل ورفض ما رفضته منها. وهذا الإنجيل اسمه "إنجيل الطفولة". وقد ذكرت هذه المعجزة فى أول فقرة من فقرات ذلك الإنجيل. وهو عندى مكتوب بالإنجليزية، وهذا هو النص المشار إليه.
“IN the name of the Father, and the Son, and the Holy Spirit, one God.
With the help and favour of the Most High we begin to write a book of the miracles of our Lord and Master and Saviour Jesus Christ, which is called the Gospel of the Infancy: in the peace of the Lord. Amen.
1. We find (1) what follows in the book of Joseph the high priest, who lived in the time of Christ. Some say that he is Caiaphas. (2) He has said that Jesus spoke, and, indeed, when He was lying in His cradle said to Mary His mother: I am Jesus, the Son of God, the Logos, whom thou hast brought forth, as the Angel Gabriel announced to thee; and my Father has sent me for the salvation of the world”.
وهو نفسه ما قاله القرآن فى هذا الصدد من أنه عليه السلام تكلم حين كان راقدا فى المهد، مع فارق واحد هو أنه فى القرآن يقول: "إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا" أما فى الإنجيل المذكور فيقول مخاطبا أمه: "إنى عيسى ابن الله، الكلمة، الذى أَنْجَبْتِه... أرسلنى أبى لخلاص العالم". إذن فعيسى قد تكلم حسب إنجيل الطفولة، الذى لم يكن الرازى، فيما هو واضح، يعلم عنه شيئا، فوقع فى الخطإ وأعطى د. خلف الله وأعداء الإسلام الفرصة ليقولوا إن هذا خطأ تاريخى فى القرآن. ومن الطبيعى أن يصحح القرآن ما فى قصة ذلك الإنجيل، إذ عيسى فى الإسلام مجرد عبد من عباد الله ورسول من رسله وليس ابنا لله. وهذا أكبر دليل على أن القرآن حين يحكى شيئا مما عند أهل الكتاب لا يحكيه كما يعتقدون به بل يصححه بعكس ما يزعمه خلف الله، الذى يؤكد أن القرآن يقص ما عند أهل الكتاب كما هو بغض النظر عن صحته أو لا. ولا ريب أن خلف الله كان مندفعا لا يبالى أين يقع كلامه.
وأخيرا فكيف يظن ظانٌّ، سواء كان هذا الظان هو الرازى أو خلف الله أو غيرهما، أن كلام رضيع فى المهد يمكن أن يكون دليلا على أنه إله أو ابن للإله؟ ترى هل يكون الإله بشرا أصلا فضلا عن أن يكون رضيعا؟ ألا إن هذا خوف فى غير موجب للخوف بل هو خوف قائم على الوهم والجهل بطبيعة الألوهية. ولو كانت المعجزات دليلا على الألوهية لكان الأنبياء السابقون كلهم آلهة لأن كلا منهم قد أيده الله بمعجزة أو أكثر.
كذلك ينقل د. خلف الله عن الرازى تعجبه من جهل سليمان بمملكة سبإ وبسجود السبئيين للشمس رغم ما يقال من أنه كان يملك الدنيا كلها وكانت تحت رايته بلقيس. والرد على ذلك من أيسر ما يمكن، إذ كيف نحكِّم ما يقال عن ملك سليمان للدنيا كلها، وهو كلام شعبى لا حقيقة له، فى ما يقوله القرآن من أنه لم يكن يعرف سبأ ولا ملكة سبإ؟ يجب على من يريد محاكمة القرآن أن يحاكمه إلى ما يقوله هو نفسه أو إلى الوقائع التاريخية المقطوع بها على وجه اليقين. وأما كيف حصل للهدهد معرفة الله ووجوب السجود له سبحانه وإنكار سجود السبئيين للشمس فإنه معجزة، والمعجزات لا تُنْكَر عليه سبحانه، فهو الذى خلق الكون وأجراه على قوانين معينة، وهذه القوانين ليست طبيعية فى الأشياء ولا الأحياء بل الله هو الذى أرادها أن تكون كذلك فكانت، ولو أراد أن يغيرها لكان له ما يريد. وكان الغزالى يقول بأن النار تحرق لا لأن طبيعتها الذاتية الإحراق بل لأن الله جعلها تحرق، ولو أراد عز وجل ألا تحرق لما أحرقت. وهل يختلف هذا الأمر عن النبوات؟ إن النبوات معجزات هى أيضا لأنه لا يمكن أى شخص أن يكون نبيا بناء على رغبته مهما حاول ومهما أنفق ومهما استعان بالبشر أو بالمال أو بالحِيَل، بل على مشيئة الله وحدها ليس إلا.
ومما أورده خلف الله من مشاكل يتوهم وجودها فى القصص القرآنى ما أورده القاضى عبد الجبار وفحصه ووجهه بحيث ينتفى عنه الاتهام بالخطإ، ثم أبدأ فيه وأعاد المستشرق البريطانى سانكلير تسدال صاحب كتاب "مصادر الإسلام" بوصفه خطأ تاريخيا لا سبيل لجبره، ودليل على أن القرآن من صنع محمد لا من عند الله، فمما أورده خلف الله من تلك المشاكل المتوهمة قول القرآن عن مريم أم عيسى: "فأتت به قومها تحمله (أى تحمل طفلها). قالوا: يا مريم، لقد جئتِ شيئا فَرِيًّا * يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بَغِيًّا" رغم أنه كان بين مريم أم عيسى وهارون أخى موسى، كما يقول المبشر المذكور، 1570 عاما. وقد وجه عبد الجبار الآية إلى أنها قد يكون لها أخ اسمه هارون، أو تكون من نسله كما يقال عن أى شخص من نسل العرب: "يا أخا العرب".
لقد شغب المبشرون وما زالوا على هذه الآية متسائلين: كيف ينسب القرآن مريم أم عيسى إلى هارون باعتبار الأخوة مع ما يفصل بينهما من القرون المتطاولة؟ وذلك رغم أن القرآن ليس هو الذى نسبها إلى هارون، بل هو مجرد راوٍ لما وقع فحسب. كما أن الكتاب المقدس مفعم بمثل ذلك النسب أبوةً وبنوةً وأخوةً على ما توضح موادّ "أب" و"أخ" و"أخت" فى "دائرة المعارف الكتابية". وما أكثر ما سمعنا هذا الشاعر الشعوبى أو ذاك وهو يتنفج على العرب بأنه ابن قيصر أو ابن كسرى رغم أنه لا يربطه شىء لا بهذا ولا بذاك، بل كثيرا ما يكون صعلوكا حقيرا لا قيمة له فى عالم الأنساب. وهذا من الشهرة بحيث لا أحتاج إلى سوق الشواهد عليه.
وما دام الشىء بالشىء يذكر فإن المسيح يسمى فى الأناجيل: "ابن داود" مع أن داود ليس جده بيولوجيا، إذ مريم أمه ليست من نسل داود، على عكس عبد المطلب، الذى قال محمد ذات مرة: "أنا ابن عبد المطلب"، إذ ينحدر محمد من صلبه فعلا، علاوة على أنه هو الذى رباه منذ ولادته إلى أن بلغ ثمانى سنوات. وبطبيعة الحال فإن محمدا ليس ابن عبد المطلب بل حفيده. وفى الكتاب المقدس كثيرا ما ينسب الشخص إلى من ليس بأبيه أو أخيه البيولوجى لكثير من الاعتبارات كما قلت. ومن يرد التحقق من هذا فليرجع إلى مواد "أب" و"أخ" و"أخت" فى "دائرة المعارف الكتابية". وعلى هذا فلا معنى للقول بأن محمدا، حين انتسب إلى جده عبد المطلب، قد تحدى قوانين البيولوجيا. وكيف يتحدى قوانين البيولوجيا، وهو فعلا من ظهر عبد المطلب عبر عبد الله بعكس الأُبُوّات والأُخُوّات الكثيرة فى الكتاب المقدس التى لا تسندها أية قوانين بيولوجية بحال؟ وكانت قريش، تعبيرا عن غيظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسميه بـ"ابن أبى كبشة" تشبيها له برجل لا نسب بينه وبينه خالَفَها فى عبادتها الشِّعْرَى مثلما خالف محمد قومه فى عبادة الأوثان. كما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يسمى عبد الله بن مسعود: "ابن أم عبد". أتراه كان يجهل أن أباه هو مسعود؟ وكانت خديجة أحيانا ما تنادى رسول الله بـ"يا ابن عم" مع أنها كانت من عشيرة غير عشيرته.
وأما بالنسبة إلى قول القاضى عبد الجبار إنه كان لمريم أخ اسمه هارون سمى بهذا الاسم تبركا بهارون أخى موسى عليهما السلام فالذى نعرفه أن مريم لم يكن لها أخ. ولو كان لها هذا الأخ لأرسلته أمه إلى المحراب بدلا من أخته لكونها أنثى، وليس الذكر كالأنثى كما قالت الأم. ثم إن أباها وأمها قد ماتا سريعا ولم نسمع أنهما أنجبا طفلا سواها. وعلى كل حال فليس القرآن هو الذى نادى مريم بذلك بل قومها كما قلنا. فإذا كان هناك خطأ فهو خطأ القوم، وما القرآن إلا ناقل للحوار كما نطق به أصحابه ليس إلا. ولو كان فى الأمر أدنى خطإ فكيف سكت اليهود فى عهده صلى الله عليه وسلم، وكانت بين الفريقين خصومات، فلم يهتبلوا هذه السانحة لضرب القرآن فى مقتل؟ ألا إن سكوتهم لأكبر دليل على أنهم لم يجدوا فى الأمر شيئا. صحيح أن أعضاء وفد نجران قد أبدَوْا أمام المغيرة بن شعبة وبعض الصحابة استغرابهم من أن تكون مريم أخت هارون رغم المدة الزمنية الطويلة التى تفصل بينهما. لكن لا بد أن نتنبه إلى أنهم، لو كانوا صادقين، لاعترضوا على هذا فى وجه النبى لا أمام بعض الصحابة، إذ حين قابلوه صلى الله عليه وسلم ودارت بين الطرفين المناقشات لم تكن تلك المسألة منها بتاتا. كما أنهم قد اكتفَوْا بهذا الاستغراب ثم أكفأوا على الخبر ماجورا، فلم يفتحوا بابه بعد ذلك قط. فلو كانوا صادقين فى استغرابهم لانطلقوا يطنطنون بهذا الاستغراب ولحولوه إلى اعتراض وفضيحة. إلا أننا لم نسمع لهم فى هذا الموضوع بعد ذلك حِسًّا. فعلام يدل هذا؟
أتصور أنهم إنما أرادوا إثارة الشبهات فى عقول من قابلوهم من الصحابة على عادة أمثالهم ممن نعرفهم فى عصرنا، إذ يحاولون إثارة الشبهات مع من يظنونهم عاجزين عن الرد، ويغلقون أفواههم تماما فى حضور من يتيقنون أنه قادر على نسف شبهاتهم. وعلى كل حال لقد قدَّم النبى صلى الله عليه وسلم الجواب فوضع حدا لذلك اللغط السخيف. عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه: "لما قَدِمْتُ نجرانَ سألونى فقالوا: إنكم تقرأونَ "يَا أُخْت هَارُونَ"، وموسى قَبْلَ عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسَمّونَ بأنبيائِهم والصالحينَ قبلهم". أى أنهم كانوا يسمون أولادهم وبناتهم بأسماء الصالحين السابقين أو يضيفون أسماء أولادهم وبناتهم إليهم تيمنا وتبركا. فكأنهم يقولون على سبيل التبكيت والتقريع: "كيف تجترحين إثم الزنا يا من تنتسبين إلى هذا النبى الصالح بالخدمة والعبادة والانقطاع
للهيكل؟". وواضح أنه صلى الله عليه وسلم يعزو الأمر إلى بنى إسرائيل لا إلى القرآن، الذى لم يصنع أكثر من إيراد عبارتهم بنصها دون أن ينشئها. كذلك لا ينبغى أن نمر مرور الكرام على تفسيره هذا من حيث دلالته على أن الأمر ليس أمر خطإ تاريخى كما يريد المشككون أن يزرعوا فى رُوعنا.
ولا ينبغى كذلك أن ننسى أن عبارة "يا أخت هارون" نزلت ضمن سورة "مريم" فى مكة سنة أربع للبعثة، وزار وفد نجران المدينة سنة تسع أو عشر للهجرة. فكيف سكت النجرانيون وغيرهم من النصارى طوال ثمانية عشر عاما فلم يتخذوا من تلك العبارة مادة للتشنيع على الإسلام؟ ليس ذلك فقط، بل لقد تلا المسلمون صدر سورة "مريم"، وفيه تلك العبارة، على نجاشى الحبشة، الذى كانوا أيامذاك لاجئين فى بلاده احتماء من أذى القرشيين، ولم نسمع لا من النجاشى ولا من كبار رجال دينه الذين كانوا حاضرين ذلك اللقاء وسمعوا ما تلاه المسلمون أى اعتراض على قول القرآن بلسان بنى إسرائيل: "يا أخت هارون". ولقد كان اليهود، وهم المعنيون قبل غيرهم بهذه المسألة، يساكنون النبى بالمدينة وعلى مقربة منها، ولكن لم يحدث أن اعترض أحدهم على تلك الكلمة أو جعلها موضع سؤال كما سبق أن أشرنا.
ولسوف نرى، من خلال الكتاب المقدس ذاته، أن اليهود والنصارى كانوا يتوسعون فى استعمال كلمة "أخ" و"أخت" توسعا شديدا بحيث يدخل فيها هذا الاعتبار بمنتهى السهولة والسلاسة. ومن المضحك أن يُظَنّ بالقرآن ارتكاب هذا الخطإ التاريخى الأبلق رغم ما كرره من أن المسيح (ابن مريم، التى لُقِّبَتْ بأنها "أخت هارون") قد أتى بعد موسى وهارون ومن تبعهما من الأنبياء بزمن طويل، بما يدل على أنه لا يقصد أبدا أن تكون مريم أخت هارون أخوّة جسديّة. ومرة أخرى حتى لو كان هذا التلقيب رغم ذلك كله خطأ لكان الخطأ خطأ بنى إسرائيل لا خطأه هو حسبما كررنا.
كما أننا نجد فى أول سطر من إنجيل متى هذا العنوان: "كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ" مع ما يفصل بينه وبين كل منهما، وبخاصة ثانيهما، من الأزمان الطويلة، وكذلك رغم أن المسيح لا ينتمى إلى داود، لأنه من جهة الأب لم يكن له أب، ومن جهة الأم لم تكن أمه من سلالة ذلك النبى الكريم، بل الذى ينتسب إلى داود هو يوسف النجار، ويوسف النجار ليست له أية علاقة نَسَبِيّة بالسيد المسيح عليه السلام، وإن ذُكِر فى الأناجيل أحيانا على أنه أبوه رغم أنه ليس أباه، وهى أشد من "يا أخت هارون". بل إن المسيح عليه السلام قد دعا زكا رئيس العشارين: "ابن إبراهيم" (لوقا/ 16/ 9). وبالمثل قال عن امرأة ممسوسة شَفَاها من مرضها إنها "ابنة إبراهيم" (لوقا/ 13/ 16). كذلك نسمع أحد الأغنياء يستغيث من الجحيم بإبراهيم عليه السلام أن يخف لنجدته مما يقاسيه من أهوال العطش قائلا: "يَا أَبِى إِبْرَاهِيمَ"، فيؤمِّن إبراهيم على ذلك بقوله: "يَا ابْنِى" (لوقا/ 16/ 24). كما أشار جيفرى لانج الأستاذ الجامعى الأمريكى المسلم، فى كتابه: "Struggle to Surrender" إلى وصف العهد الجديد لأليصابات قريبة مريم ومعاصرتها بأنها "ابنة هارون" مع ما يفصل بينها وبينه من نفس المسافة الزمنية التى تفصل مريم عنه. وما دام النصارى يقبلون هذا فكيف يقيمون الدنيا ويقعدونها بسبب ما جاء فى القرآن رغم أن الأمرين واحد؟
ولماذا نذهب بعيدا، وعندنا الكتاب المقدس نفسه يستخدم كلمة "أخ" و"أخت" بتوسع شديد لا تُعَدّ عبارة "يا أخت هارون" بالقياس إليه شيئا مذكورا؟ تعالَوْا نطالع معا "قاموس الكتاب المقدس" ونقرأ ما يقوله فى مادة "أخ": "1- لفظ أُطْلِق على الابن فى علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك27: 6) أو نفس الأب فقط (تك28: 2) أو نفس الأم فقط (قض8: 19).
2- كذلك أطلق على قريب من الأسرة الواحدة، ابن الأخ مثلا (تك14: 16)، أو من نفس الجنس (نح5: 7) أو من أُمَّة قريبة (تث23: 7) أو من أمة حليفة (عا1: 9).
3- وأطلق أيضا على إنسان من نفس الدين الواحد (أع9: 17). وكثيرا ما دُعِى المسيحيون: إخوة (مت23: 8).
4- كما أطلق أيضا على الصديق المحبوب. فقد دعا داود يوناثان: أَخًا (2صم1: 26). وكذلك أطلق على إنسان غريب كنوع من حسن الخطاب، فقد دعا آخاب بنهدد: أخا (1 مل 20: 32).
5- وكذلك أطلق على أى إنسان من الجنس البشرى مراعاة لأُخُوّة البشر (تك9: 5).
وفى "معجم اللاهوت الكتابى" أن "لفظ "أخ" يدل، فى أقوى معانيه، على الأشخاص المنحدرين من أم واحدة (تكوين 4: 2). ولكن فى العبرانية وفى العديد من اللغات الأخرى ينطبق هذا اللفظ على أعضاء الأسرة نفسها (تكوين 13: 8، أحبار 10: 4، راجع مرقس 6: 3)، أو على أعضاء القبيلة نفسها (2 ملوك 19: 13)، أو حتى على أعضاء الشعب نفسه (تثنية 25: 3، قضاة 1: 3) تمييزا لهم عن الغرباء (تثنية 1: 16، 15: 2- 3). وهو يشير أخيرا إلى الشعوب المنحدرة من الجدّ الأصلى نفسه، مثل آدوم وإسرائيل (تثنية 2: 4، عاموس 1: 11). وبجانب هذه الأخوّة القائمة على الجسد يشير الكتاب إلى أخوّة أخرى ذات طابع روحى هى أخوّة الإيمان (2: 29)، فى التعاطف (2 صموئيل 1: 26)، فى الوظيفة المتماثلة (2 أيام 31: 15، 2 ملوك 9: 2)، فى العهد المعقود (عاموس 1: 9، 1 ملوك 20: 32، 1 مكابيين 12: 10). وهذا الاستعمال المجازى للكلمة يدل على أن الأخوّة الإنسانية هى، كاختيار حياتى، لا تقتصر فقط على القرابة الدموية رغم أن هذه الأخيرة تشكّل دعامتها الطبيعية".
ويقول القس بولس فغالى فى قاموس "المحيط الجامع فى الكتاب المقدس والشرق القديم": "أخ- أخت: أولاد أب وأم (تك 4: 2)، أولاد أب وأمّهات عديدات (تك 20:12)، أولاد أم وآباء عديدين (تك 43:7؛ لا 18:9؛ 20:17). فى معنى واسع الإخوة هم أيضًا العم وابن الأخ (تك 13:8؛ 14:14)، وأناس من العشيرة الواحدة (لا 21:10)، أو من العشيرة المجاورة (تث 2:4، 8؛ 23:8). فى الرسائل يُخاطب الملكُ ملكًا مثله باسم أخ (1 مل 9:13؛ 20:32-33). وقد يُسَمِّى الرجل زوجته: "يا أختى"، وتسمّى المرأة زوجها: "يا أخى" (نش 4:9-12؛ 5:1-16). فى العهد الجديد، يُسَمَّى المسيحيّون: "الإخوة" قرابة 160 مرّة، ويسمّى يسوع تلاميذه: "الإخوة" (يو 20:17؛ رج عب 2:11-12). ويقول بولس الرسول إنّ ابن الله هو بكر إخوة كثيرين (رو 8:29)".
أما ما كتبته "دائرة المعارف الكتابية" تحت عنوان "أخ" و"أخت" على الترتيب فهو، كما يقول المثل: "قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قولَ كل خطيب"، إذ يمثل ضربة ماحقة لكل الضجيج المثار حول عبارة "يا أخت هارون":
- "يطلق لفظ الأخ على:
1- الابن فى علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلا، فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه إنه "أخوه" (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أطلق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليف أو أحد أفراد شعب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر فى صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر فى المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13).
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخا للذئاب" (أيوب 30: 29).
12- على زميل فى العمل أو فى الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أى إنسان من الجنس البشرى للدلالة على الأخوة البشرية ( مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8). كما استخدم الرسل والتلاميذ لفظ "إخوة" للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله، وأن كلا منهم أخ للآخر فى المسيح (أع 9: 17، 15: 1 … الخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 9). وقد كان الربيون اليهود يفرقون بين "أخ" و"قريب"، فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجرى فى عروقهم الدم الإسرائيلى، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أى لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هى من منطلق هذا المفهوم المسيحى لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)". وهو نفسه ما تقوله "International Standard Bible Encyclopedia" تحت عنوان "Brother".
- "أخت: تستخدم هذه الكلمة كثيرا فى العهد القديم... للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12، لا 18: 9).
3- امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أى 42: 11).
4- امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5- يقال مجازيا عن مملكتى إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
6- تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
7- تستخدم نفس الكلمة العبرية لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التى يقال عنها: "بعضها موصول ببعض" (وفى العبرية "موصول بأخته"- خر 26: 3 و6)، كما تطلق أيضا على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8- لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل: "قل للحكمة: أنت أختى" (أم 7: 4، أى 17: 14).
9- لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفى العهد الجديد تستخدم... "أخت" فى المعانى الآتية:
1- لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
2- أخت فى المسيح: "أختنا فيبى" (رو 16: 1، انظر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تى 5: 1، يع 2: 15).
3- قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13)". وهو نفسه ما تقوله "International Standard Bible Encyclopedia" تحت عنوان "Sister".
والآن أتركك، يا قارئى العزيز، تقوم بنفسك بتسكين أُخُوّة مريم لهارون تحت ما تراه مناسبا من هذه البنود، وكثير منها ملائم تماما لهذا الاستعمال. وبالمناسبة لا يقتصر ذلك التوسع فى الاستعمال على كلمة "أخ" و"أخت" وحدهما بل يمتد إلى ألفاظ القرابة الأخرى ككلمة "ابن" و"أب". وبالمناسبة أيضا فواضعو هذه الموسوعة ليسوا مجرد كتاب نصارى، بل من كبار رجال الدين والمتخصصين فى الدراسات الدينية الكتابية. ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن إثارة د. خلف الله لهذه المسألة وتصوره أنها تحرج القرآن وتعرضه للاتهام بأنه قد أخطأ خطأ تاريخيا أبلق لا يغتفر، هذه الإثارة لا معنى لها. والدرس الذى نخرج منه هنا هو أنا لا ينبغى أن نتسرع ونتصور أن فى القرآن الكريم ما يعتذر عنه.
وقد كتب تسدال فى هامش الفصل الخاص بـ"قصة مريم العذراء" من كتابه المذكور آنفا أن نصارى نجران سألوا المغيرة بن شعبة عن الخطإ المزعوم الخاص بـ"يا أخت هارون" فراجع المغيرة النبى عليه السلام، ولكنه لم يحصل على أى جواب مقنع. وكلام تسدال كذب صراح وقح، فقد أجابه النبى بإجابة واضحة تتسق مع أكثر من اعتبار من الاعتبارات التى ذكرتها مادة "أخت" من الموسوعات الخاصة بالكتاب المقدس وأوردناها آنفا. وإلى القارئ العزيز مرة أخرى نص الحديث المذكور فى "صحيح مسلم" والذى أشار إليه سنكلير تسدال: "عن المغيرة بن شعبة: لَمّا قَدِمْتُ نَجْرانَ سَأَلُونِى فَقالوا: إنَّكُمْ تَقْرَأونَ "يا أُخْتَ هارُونَ"، وَمُوسى قَبْلَ عِيسى بكَذا وَكَذا. فَلَمّا قَدِمْتُ على رَسولِ اللهِ ﷺ سَأَلْتُهُ عن ذلكَ، فَقالَ: إنَّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأَنْبِيائِهِمْ والصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ". أى أنهم سَمَّوْها بـ"أخت هارون" لأن هارون كان نبيا من أنبياء بنى إسرائيل. فأين عدم الإقناع فى هذا الجواب؟ بل كيف عرف تسدال أن المغيرة لم يقتنع بهذا الجواب؟ ترى هل أسرَّ له المغيرة بهذا دون سائر البشر؟ وكيف، وبينهما كل هذه القرون المتطاولة؟ ثم ألم يجد الصحابى الكريم إلا ذلك الكذاب الأشر ليسر إليه بما اعتمل حينئذ فى عقله وقلبه؟
أما أن القرآن قد سمى مريم: "ابنة عمران"، وتصوُّر تسدال بناء على ذلك أن الرسول قد أخطأ وخلط بين المريمين، فالرد عليه هو أن الأنساب فى الكتاب المقدس كثيرا ما تكون متناقضة ومضطربة كما هو الحال فى نسب عيسى نفسه عليه السلام، إذ فى الأناجيل الأربعة المعتمدة من الكنيسة هناك سلستا نسب له مختلفتان فى ترتيب أسماء الأجداد وعددهم بل وفى الأسماء نفسها أحيانا. بل إن إحدى السلستين تربط لا بين مريم وداود بل بين يوسف النجار وذلك النبى الكريم، وكأن يوسف هو أبو عيسى عليه السلام. وهذه مشكلة كبيرة. كذلك هناك أشخاص فى الكتاب المقدس لهم أكثر من اسم كحَمِى موسى، الذى له ثلاثة أسماء: يثرون ورعوئيل بن يثرون (أى ابن نفسه!) وحوباب. بل إن عيسى نفسه له عدة أسماء، ومن بينها عمانوئيل، الذى يقول الكتاب المقدس إن معناه "الله معنا"، ورغم ذلك لا نجد أحدا قد ناداه به فى أى مكان بالعهد الجديد، وإنما هو كلام نظرى لا حصيلة له فى الواقع. وبالمثل فإن لنبينا عدة أسماء: محمد وأحمد والمصطفى والأمين وأبو القاسم، وكذلك طه وياسين فى الأوساط الشعبية. ومن ناحية أخرى فإن والد مريم أم عيسى ليس مذكورا فى أى موضع من العهد الجديد بأناجيله الأربعة وأعمال الرسل ورسائلهم ورؤيا يوحنا اللاهوتى، لكنه "يواقيم" فى إنجيل آخر لا تعترف به الكنيسة، فلماذا يُحَاجُّ القرآن بما لا ثقة فيه عند أهل الكتاب؟ وإذا افترضنا أن اسمه فعلا يواقيم فهل يمنع هذا أن يكون له اسم آخر ككثير من أسماء أشخاص الكتاب المقدس؟ الواقع أنه كان له اسمان آخران هما بوناخير وصادوق. وعلى هذا فمن الجائز جدا أن يكون له اسم آخر هو عمران لقبًا له بمعنى "صَدِيق يهوه"، فهذا هو معنى "عمران" فى الأصل، أو يكون عمران هو نفسه اسمه الأساسى. ولقد قرأت فى موقع (
https://www.drghaly.com/articles/display/10277) النصرانى أن اسم والد العذراء هو هالى. وبناء على هذا فإن ما جاء فى إنجيل لوقا من أن هالى هو أبو يوسف النجار غير صحيح، والصواب هو تحويل هذه البنوة عن يوسف النجار إلى مريم عليها السلام. بل لقد كتب عبد الله عبد الفادى فى الجزء التاريخى من كتاب "هل القرآن معصوم؟" أن إنجيل لوقا (3/ 23) يقول إن مريم العذراء هى بنت هالى رغم أن هذا الكلام لا وجود له فى الموضع المذكور من الإنجيل المذكور. وحتى يستطيع القارئ أن يقدِّر مدى مصداقية ما يقوله القوم عن مريم عليها السلام أذكُر هنا أنهم لا يعرفون شيئًا يُذكر عنها بعد أن توفَّى اللهُ ابنَها، بل لا يعرِفون كم من الأعوام لبثَت بعده على قيد الحياة، إذ يختلفون فى هذه النقطة ما بين ثلاث سنوات وخمس عشرة (انظر مادة "Mary" فى "Wikinfo, an internet encyclopedia")، بل إنهم لا يعرفون بالضبط من يكون إخوة عيسى، أو كما يقولون: إخوة الإله، الذين جاء ذكْرهم فى العهد الجديد: أهم إخوته فعلًا من أمه بما يُفيد أنها قد تزوَّجت بعد ولادته من يوسف؟ أم هل هم مجرد أقارب له من جهة تلك الأم؟ أم هل هم أبناء يوسف من امرأة أخرى غير مريم؟ (انظر الجزء الخاص بمريم العذراء من مادة "Mary" فى "International Standard Bible Encyclopedia ")
ليس هذا فقط، بل يقول الكتاب المقدس فى سفر "التكوين" إن آدم ابن الله، وهذا يناقض عقيدة النصارى فى أن عيسى وحده هو ذلك الابن. وهو ما يزيد الأمر اضطرابا وتعقيدا، ويدل على أن من يخطِّئ القرآن لقوله إن مريم هى ابنة عمران إنما يخطئه على غير أساس وبلا دليل. فالأمور عند القوم يسودها الاضطراب والتضارب. أما أن النبى محمدا لم يكن يعرف أن هناك فارقا زمنيا بين مريم أخت موسى وهارون وبين مريم أم عيسى فهذا ما لا يمكن أن يكون، فقد كان عليه السلام، بعيدا عن أن القرآن وحى سماوى لا يعتريه الخطأ، يعلم تمام العلم أن عيسى أتى بعد موسى بوقت طويل بُعِثَ فيه رسل كثيرون بنص القرآن فى سورة "البقرة": "وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" وأن اليهود قد وقفوا منه موقفا عدائيا وحاولوا صلبه وقتله لكن الله نجاه منهم ورفعه إليه، ومن ثم لا يخطر على بال عاقل أن نبينا عليه السلام كان يجهل أن مريم أخت موسى وهارون غير مريم أم عيسى، وإلا لكان هناك موسى وهارون يدعوان فرعون إلى عبادة الله الأحد، وكان هناك أيضا عيسى يكفّر اليهود فى نفس الوقت، وهو لو حدث لكان أمرا فكاهيا. ولم يحدث قط أن قال القرآن أو الرسول إن موسى وعيسى كانا يعيشان فى نفس العصر. ولو كان قد خلط بين مريم أخت موسى ومريم أم عيسى لأفلت منه ما يدل على أن موسى وعيسى كانا متعاصرين بل متزاملين، وهو ما لم نجده فى أى نص من نصوص القرآن أو الأحاديث. وفى الحديث الشريف "أولُ أنبياءِ بنى إسرائيلَ موسى، وآخرُهم عيسى. وأولُ الرسلِ آدمُ، وآخرُهم محمدٌ ". وواضح أن النبى عليه السلام كان يعى جيدا الفرق الزمنى الكبير الذى يفصل عيسى عن موسى.
والملاحظ أن اسم "عمران/ عمرام" كثير فى بنى إسرائيل. فما الذى يمنع أن يكون اسمُ أبى مريم العذراء عمرانَ أيضا، أو أن يكون عمران اسما ثانيا له كما قلت قبلا؟ ومعروف أن هناك كثيرا من الناس يشتهرون بألقابهم، وكثيرا ما تجهل الجماهير أسماءهم الحقيقية. وعندنا من الشعراء النابغة والأعشى وتأبط شرا والشنفرى وكُثَيِّر عزة وجميل بثينة والفرزدق والأخطل وأبو العتاهية وأبو نواس وصريع الغوانى والمتنبى والخبز أرزى وسلطان العاشقين والشاب الظريف وأمير الشعراء وشاعر النيل وشاعر القطرين، ومن المغنين مطربة القطرين وكوكب الشرق وموسيقار الأجيال وقيثارة الحب والعندليب الأسمر، ومن اللاعبين المعاصرين الظهير الطائر وبيبو والعمدة والعميد وأوباما وبكهام وقفشة. وقد لصقت هذه الأسماء بهم، ويفضلها كثير منهم على أسمائهم الحقيقية.
على أن هذا ليس هو كل شىء، إذ إن نسب عمران أبى موسى نفسه فيه خلاف: فبعضهم يقول إنه ابن قهات، وبعضهم يقول: بل كان من نسله، وبينهما عدة أجيال. ومرة أخرى ليس هذا فقط بل إن زوجة عمران بنت قهات بن لاوى (والد مريم) هى يوكابد بنت لاوى. أى أن زوجة عمران والد موسى وهارون هى عمة زوجها، وهو ما تقوله صراحة "
EncyclopediaJewish" فى مادة "عمرام أبو موسى". ومن الممكن أن تكون "دائرة المعارف الكتابية" قد قالت إن عمران هذا ليس ابن قهات بل من نسله كى يهربوا من تلك المشكلة! فبالله كيف يحاجّ القرآنَ أحدٌ بما فى الكتاب المقدس؟
لقد أخطأ د. خلف الله أيما خطإ حين جعل الكتاب المقدس عِيَارًا على القرآن؟ إن هذه لهى الهزيمة النفسية والحضارية بعينها. والملاحظ أن الموسوعات التى تتحدث عن "عمران" تذكر أنه عند المسلمين هو أبو مريم العذراء أيضا، ولا تحاول النيل من القرآن أو الإسلام فى هذه النقطة فى قل أو كثر. وفى النهاية جائز جدا أن يكون أبو مريم قد سماها: "مريم" حتى يقال: "مريم ابنة عمران" على اسم "مريم بنت عمران" أخت هارون وموسى" كنوع من الانتساب الاسمى إلى سيدة شهيرة كما فعل أحد رجال قريتنا، وكان اسمه "كامل"، فسمى ابنه: "مصطفى" كى ينادَى بـ"مصطفى كامل" الزعيم الوطنى المصرى المعروف، وأصل أسرته من قريتنا، وسمى ابنته بـ"فايدة" كى تنادى بـ"فايدة كامل" على اسم المطربة المشهورة. ومن المصادفة أن فايدة كامل المطربة خريجة حقوق، ودخلت سَمِيَّتُها عندنا كلية الحقوق أيضا وحصلت على شهادتها وتشتغل الآن محامية ومتزوجة من محام.
ورغم كل ما كتبناه هنا فى هذا الموضوع أحب أن أنهى الكلام فيه بإيراد الأفكوهة التالية من الكتاب المقدس، وهى أن سن الابن أكبر من سنِّ أبيه بعامين: "16وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين 17فصعدوا إلى يهوذا وافتَتحوها وسبوا كل الأموال الموجودة فى بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا ولم يبقَ له ابن إلا يهوآحاز أصغر بنيه، 18وبعد هذا كله ضرَبه الرب فى أمعائه بمرض ليس له شفاء، 19وكان من يوم إلى يوم وحسب ذَهاب المدة عند نهاية سنتين أن أمعاءه خرجت بسبب مرضه فمات بأمراض رديئة، ولم يعمل له شعبه حريقة كحريقة آبائه، 20كان ابن اثنتين وثلاثين سنة حين ملك وملك ثمانى سنين فى أورشليم وذهب غير مأسوف عليه، ودفنوه فى مدينة داود ولكن ليس فى قبور الملوك" (أخبار الأيام الثاني/ 21)، "1وملك سكان أورشليم أخزيا ابنه الأصغر عوضًا عنه؛ لأن جميع الأوَّلين قتَلهم الغزاة الذين جاؤوا مع العرب إلى المحلة، فملك أخزيا بن يهورام ملك يهوذا، كان أخزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين ملَك" (أخبار الأيام الثاني/ 22)، لاحظ أيها القارئ الكريم أن الأب قد مات وعنده من العمر أربعون، إذ كانت سِنّه حين تولَّى المُلك اثنين وثلاثين عامًا ثم ملَك ثمانية أعوام، ثم تولَّى ابنه الحكم بعده مباشرة وكان عمر هذا الابن وقتها اثنين وأربعين.
وقد نجم عن هذه الأخطاء والتضاربات التى يعج بها الكتاب المقدس أن لجأ العلماء الكتابيون إلى اختراع نظرية تُسوِّغ وجود هذه الأخطاء، ومؤدَّى هذه النظرية أنه لا بدَّ من التَّفرِقة بين الوحى من ناحية الشكل وبينه من ناحية المضمون: فمن الناحية الأولى تجدهم يقولون إنه ليس إلا إبداعًا أدبيًّا للكاتب، أما من الناحية الثانية فيؤكِّدون أنه صادر عن الله. ذلك أن الوحى بِناء على هذه النظرية لا يُلغى شخصية الكاتب، بل تتدخل ظروفه فى الصياغة، ويمكن أن يقع تحريف فى النص، ومن ثم لا بدَّ من عملية النقد والتمحيص (انظر مادة "Inspiration" من "The New Bible Dictionary "/ لندن/ 1972م/ تحريرJ.D.Douglas/ 565- 566). وهو نفسه ما يقوله "Hook’s Church Dictionary" (لندن/ 1887م)، الذى يرى أن الأنبياء وكتَبَة الكتاب المقدس قد أدَّوْا ما تلقَّوْه من الوحى كما هو بدون أدنى خطإ من الناحية اللاهوتية، لكن هذا لا يَصدُق على الناحية اللُّغوية والعلمية (ص 403، 964). وقد سمَّى المستشرق البريطانى مرجليوث هذه النظرية بـ"Colouring by the Medium"، ومعناها أن الوحى إنما ينزِل على النبى أو الرسول أو الكاتب كفكرة، ثم يقوم الوسيط بصياغة هذه الفكرة بأسلوبه هو، ومن ثَمَّ فالأخطاء التى تقع فى الكتاب المقدس مبعَثُها هذا الوسيط لا السماء، أى إن الوسيط هو بمثابة كوب الشراب الذى يُضفى على السائل لون زجاجه (D. S. Margoliouth, Mohammedanism, London,1921, p.63).
ومن الأمثلة التى ساقها د. خلف الله أيضا ليثبت أن القَصَص القرآنى الخاص بالأنبياء والأمم السابقة ليس أخبارا تاريخية بل تعبيرات فنية أدبية لا تؤدى إلينا حوادث حقيقية وقعت فعلا تنبيهُه إلى أن قصة النبى الواحد من الأنبياء تختلف تفاصيلها من سورة إلى سورة كما هو الحال فى قصة موسى، التى وردت فى سور "طه" و"النمل" والقصص" مختلفة بعضها عن بعض. وهذا كلامه نصا: "سؤال آخر سأله العقل الإسلامى نفسه فيما يخص هذا التكرار، وهو أنه على فرض قدرته على الوقوف على الأسرار التى من أجلها كان التكرار فلما ذا كان هذا الاختلاف؟ لماذا اختلف إيراد القصة الواحدة فى موطن عنه فى آخر؟ لماذا اختلف وصف القرآن لموقف موسى من ربه فى سورة "طه" عنه فى غيره من السور مع أن الموقف واحد والحادثة واحدة؟ لماذا قال القرآن فى سورة طه: "وهلْ أتاك حدِيثُ مُوسى‏* إِذْ رأى‏ نارًا فقال لِأهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّى آنسْتُ نارًا لعلِّى آتِيكُمْ مِنْها بِقبسٍ أوْ أجِدُ على النّارِ هُدًى * فلمّا أتاها نُودِى يا مُوسى‏ * إِنِّى أنا ربُّك فاخْلعْ نعْليْك إِنّك بِالْوادِ الْمُقدّسِ طُوًى * وأنا اخْترْتُك فاسْتمِعْ لِما يُوحى ‏* إِنّنِى أنا اللّهُ لا إِله إِلّا أنا فاعْبُدْنِى وأقِمِ الصّلاة لِذِكْرِى * إِنّ السّاعة آتِيةٌ أكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نفْسٍ بِما تسْعى‏ * فلا يصُدّنّك عنْها منْ لا يُؤْمِنُ بِها واتّبع هواهُ فتَرْدَى ‏* و ما تِلْك بِيمِينِك يا مُوسى ‏* قال هِى عصاى أتوكّأ عليْها وأهُشُّ بِها على‏ غنمِى ولِى فِيها مآرِبُ أُخْرى ‏* قال ألْقِها يا مُوسى ‏* فألْقاها فإِذا هِى حيّةٌ تسْعى‏ * قال خُذْها ولا تخفْ سنُعِيدُها سِيرتها الْأُولى ‏* واضْمُمْ يدك إِلى‏ جناحِك تخْرُجْ بيْضاء مِنْ غيْرِ سُوءٍ آيةً أُخْرى ‏* لِنُرِيك مِنْ آياتِنا الْكُبْرى‏ * اِذْهبْ إِلى‏ فِرْعوْن إِنّهُ طغى‏ * قال ربِّ..." إلخ؟ ولماذا قال فى سورة "النمل" عن نفس الحادثة والموقف:‏ "إِذْ قال مُوسى‏ لِأهْلِهِ إِنِّى آنسْتُ نارًا سآتِيكُمْ مِنْها بِخبرٍ أوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قبسٍ لعلّكُمْ تصْطلُون * فلمّا جاءها نُودِى أنْ بُورِك منْ فِى النّارِ و منْ حوْلها وسُبْحان اللّهِ ربِّ الْعالمِين * يا مُوسى‏ إِنّهُ أنا اللّهُ الْعزِيزُ الْحكِيمُ * وألْقِ عصاك فلمّا رآها تهْتزُّ كأنّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولمْ يُعقِّبْ يا مُوسى‏ لا تخفْ إِنِّى لا يخافُ لدى الْمُرْسلُون * إِلّا منْ ظلم ثُمّ بدّل حُسْنًا بعْد سُوءٍ فإِنِّى غفُورٌ رحِيمٌ * وأدْخِلْ يدك فِى جيْبِك تخْرُجْ بيْضاء مِنْ غيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعوْن وقوْمِهِ إِنّهُمْ كانُوا قوْمًا فاسِقِين..." إلخ‏؟ ولماذا قال فى سورة "القصص" غير هذين؟".
هذا ما قاله د. خلف الله، ومعنى كلامه أن القرآن أورد فى كل مرة القصة كاملة بحوادثها وموقفها وأنها رغم هذا كانت مختلفة؟ والرد هو أن الموقف الذى تتناوله تلك النصوص المتعددة فعلا واحد، لكن القرآن لم يكن يورد القصة فى ذلك الموقف كاملة فى كل مرة، بل كان يورد منها ما يتسق مع السياق الذى أنزلها فيه. إن الحكاية يمكن أن تروى عدة مرات لكنها لا تروى كاملة فى كل مرة، بل يُذْكَر منها هنا شىء، وهناك شىء آخر، وهنالك شىء ثالث، وكل شىء من هذه الأشياء صحيح لأن الحكاية كبيرة تحتوى على تفاصيل كثيرة، لكنا لا نورد منها فى كل مرة إلا شيئا خاصا بتلك المرة فقط. ومثالا على ذلك أقول: لو أننى قابلت صديقا لى فى الطريق فتبادلنا التحية وسألته عن أحواله وأحوال أسرته وبنته المريضة، ثم تماشينا، ودعوته إلى الغداء فى مطعم، وإلى الشاى فى مقهى، ثم أتى معى لأعمل بعض التحاليل فى المستشفى، وهناك شاهدنا مشادة بين موظف الاستقبال وأهل أحد المرضى فى الطوارئ... إلخ، ثم حكيت هذه القصة على من لم يكونوا معنا، فقلت فى مرة: إننى قابلت صديقا لى فى الشارع فسألته عن أحواله، ثم سكتّ فلم أقل شيئا آخر، لكنت صادقا. ولو قلت إننى قابلت صديقا لى فعزمته على الطعام، فأنا صادق. ولو قلت إننى قابلت صديقا لى فذهبنا إلى القهوة وشربنا شايا، فأنا صادق. ولو قلت إننى قابلت صديقا وذهبنا إلى المستشفى، فأنا صادق. ولو قلت إننى كنت مع صديقى فى المستشفى، وكانت هناك مشادة بين موظف الاستقبال وأهل مريض بالطوارئ فأنا صادق. ولو قلت إننى سألت صديقى فلانا الفلانى عن بنته المريضة ولم أقل شيئا آخر فأنا صادق. ذلك أننى فى كل مرة أذكر جانبا من القصة لا يتعارض مع ما أذكره منها فى كل من المرات الأخرى. والقصة بعدُ تاريخية حقيقية لا قصة فنية أدبية خيالية.
كذلك يخلق د. خلف الله مشكلة من لامشكلة فى قوله جل شأنه عن ذى القرنين فى سورة "الكهف"، إنه حين "بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة..."، فيقول إننا لو أخذنا هذه القصة على أنها قصة حقيقية كان معنى هذا أن الآية تقرر أن الشمس قد غربت فى عين حمئة رغم أن الشمس طالعة أبدا، ومن ثم تخطئ الآية. وهذا كلام عجيب، إذ يمكننى مثلا أن أجلس أمام البحر، وأكتب أننى بقيت جالسا وحدى هناك أرقب الشمس وهى تهبط فى الأفق وتختفى فى عرض البحر، وأنا هنا لا أكذب ولا أدعى أن الشمس تغرب فعلا فى البحر، بل أصف ما شاهدته عيناى مع معرفتى العلمية بأن الشمس لا تغرب فى البحر أبدا. ود. خلف يقول إن الشمس طالعة أبدا، وهذا يتعارض مع قولنا إنها غربت، إذ هى لا تغرب ولا تشرق بل الشروق والغروب هما ما تراه أعيننا رغم أنه لا شروق ولا غروب بالنسبة للشمس الطالعة أبدا بتعبيره هو نفسه. لقد كان يمكن أن يكون هناك خطأ لو قال القرآن إن الشمس قد غربت فعلا فى العين الحمئة، لكنه لم يقل ذلك بل قال إن هذا ما رآه ذو القرنين. ولى فى هذه المسألة مقال طويل أتيت فيه بعبارات إنجليزية وفرنسية مشابهة لهذه استعملت فى وقائع حقيقية بناء على أن هذا هو ما يبدو للعين. وهل يحرم أن يذكر الإنسان وقائع حقيقية مستعملا بعض الأساليب البلاغية؟ هل يتعارض قولى إننى كنت ماشيا فى الشارع أمس فشاهدت حصانا هائجا يجرى فى اتجاهى، فركبنى الرعب وأخذت ذيلى فى أسنانى وقلت: "يا فكيك"، هل يتعارض كلامى بصوره البلاغية هذه مع كون ما ذكرته قد حدث فعلا؟ وبالعكس يمكن أن يقول أحد الفلكيين إنه كان جالسا أمام البحر ومضت الأرض فى دورانها حول الشمس فكانت النتيجة أنه لم يعد يرى الشمس لأن الجانب الذى هو فيه لم يعد يواجه الشمس، نعم يمكن أن يقول الفلكى هذا الكلام العلمى الذى لا يخر منه الماء، ومع هذا تكون حكايته كاذبة تماما لأنه لم يجلس أمام البحر ولم يرقب الشمس عند ابتعادها عن أعيننا، بل اخترع حكاية جلوسه أمام البحر اختراعا. إن الكلام العلمى الدقيق فى تضاعيف قصة مكذوبة لا يجعلها حكاية حقيقية، كما أن ورود بعض الأساليب البلاغية خلال قصة صادقة لا يصيرها قصة كاذبة. وهذا ما لا يريد أن يسلم به د. خلف الله. وهذه المسألة هى من المسائل التى يتعلق بها المستشرقون والمبشرون لإيهام المسلمين أن كتابهم فيه أخطاء تاريخية وعلمية... وهيهات. وقد ردد د. خلف الله هذا الذى يقوله المستشرقون والمبشرون للأسف، فسلم لهم بما يريدون مع تظاهره بأنه إنما يرد عليهم. وهل هم يريدون شيئا آخر غير أن نقول إن ما ورد فى القرآن من قصص الأنبياء والأمم السابقة هو كلام خيالى لا وشيجة تربطه بالواقع أو التاريخ؟
و"مغرب الشمس" فى النص القرآنى الكريم هو وقت غروبها، مثلما أن مشرقها هو وقت طلوعها، لأنه لا يوجد مكان تغرب عنده الشمس أو تطلع منه، إذ الأرض فى تحركها حول الشمس هى التى تتسبب فى اختفاء الشمس شيئا فشيئا، فنسمى هذا: غروبا أو مغربا، وتتسبب بعد ساعات أخرى فى ظهور الشمس شيئا فشيئا، فنسميه: طلوعا للشمس أو مطلعا لها. وأما الذين يتهمون القرآن بأنه يتصور الشمس تسقط فى العين فيتجاهلون ما يقوله القرآن عن النجوم والكواكب: "وكلٌّ فى فلك يسبحون" مثلا. ثم ألم يشاهد ذو القرنين غروب الشمس فى أماكن أخرى ووجد أنها لا تسقط فى عين؟ وحتى لو قلنا إن محمدا هو مؤلف القرآن فهل شاهد الرسول يوما غروب الشمس عند بركة أو بحيرة فظن أن الشمس تسقط فيها؟ وإذا كان قد شاهد ألم يشاهد غروب الشمس أيضا فى البادية والأماكن المفتوحة وعلى قمم الجبال فعرف أن الشمس لا تسقط فى العيون؟ ويكثر فى النصوص الأدبية تعبيرات مثل هذا التعبير. وقد درست هذا الموضوع فى دراسة طويلة فى كتابى: "حقائق الإسلام الدامغة وشبهات خصومه الفارغة"، واستشهدت بنصوص شعرية ونثرية أجنبية على هذا الاستعمال. وهذا كله يعطينا فكرة عن تساخف خصوم القرآن وتخليهم عن العقل والمنطق فى اتهاماتهم له.
ومن المشاكل التى يخلقها د. خلف الله أيضا ثم يحاول إقناعنا أنه يقدم لها الحل السليم الذى يخرس المستشرقين والمبشرين فى حين أنه ورط القرآن فى التهمة التى يوجهها إليه هؤلاء المتربصون الأغبياء ما عقَّب به على قوله تعالى فى آخر سورة "الفتح" وصفا للنبى الكريم وصحابته النبلاء: "محمد رسول الله والذين معه أَشِدّاءُ على الكفار رحماءُ بينهم تراهم رُكَّعا سُجَّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا. سِيماهم فى وجوههم من أثر السجود. ذلك مَثَلُهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرعٍ أخرج شَطْأَه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يعجب الزراعَ ليغيظ بهم الكفار..." قال: "علينا أن نضع بين يدى الرجعيين و الجامدين ومن على شاكلتهم هذه الآية الكريمة التى تشير فى صراحة إلى أن القرآن الكريم كان يرد بعض تشبيهاته وأمثاله إلى مصادرها الأولى أو إلى التوراة والإنجيل". ذلك أن كلامه يفهم منه أن القرآن الكريم تأثر بأسلوب التوراة والإنجيل فى وصفه للصحابة والنبى الكريم. لكن الأمر ليس كذلك بل كل ما صنعه القرآن هو أنه قال إن التوراة والإنجيل قد بشرا به عليه السلام وبصحابته وأن وصفهم فيهما هو كذا وكذا. فهذا خبر من القرآن. ولو افترضنا أن القرآن قد استعمل بعض تعبيرات التوراة والإنجيل فعلا فإن ذلك لا يعطى خلف الله المسوغ لقول ما قال، بل كان ينبغى أن يقول إن المصدر الذى أخذت منه التوراة والإنجيل وأخذ منه القرآن واحد، وهو الوحى السماوى، ومن ثم فلا استعارة ولا يحزنون. وبالمناسبة ليس شرطا أن نجد هذين التشبيهين فى الكتاب المقدس لأن الكتاب المقدس شىء، والتوراة والإنجيل شىء آخر، علاوة على أن القرآن اتهم أهل الكتاب بالعبث بكتبهم. إن الترجمة الإنجليزية الأحمدية الموسعة، بالنسبة إلى عبارة "ذلك مثلهم فى التوراة"، تشير إلى ما ورد فى الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر "التثنية": "وَتَلأْلأَ (أى الرب) مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ"، وإن كانت ترجمتهم الإنجليزية لهذه العبارة تعنى "... وأتى ومعه عشرة آلاف قديس". وبلمحة خاطفة نستطيع أن نحكم بألا صلة بين النص القرآنى والنص الكتابى. وأما المثل الإنجيلى للنبى وصحابته فتشير نفس الترجمة إلى ما جاء فى إنجيل متى فى الإصحاح الثالث عشر على لسان عيسى: "هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. 5وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. 8وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ". وهنا أيضا نجد أن النصين مختلفان ولا يتحدثان عن ذات الموضوع. أما أبو بكرحمزة فى ترجمته الفرنسية فبالنسبة إلى عبارة "ذلك مثلهم فى التوراة" يشير إلى الجملة الأولى من الإصحاح الرابع عشر من رؤيا يوحنا اللاهوتى: "1ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا خَرُوفٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ". وهذا كلام مضحك بخلاف النص التالى من إنجيل متى (الإصحاح الثالث عشر)، الذى يومئ حمزة إليه بوصفه "مثلهم فى الإنجيل": "31قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِى حَقْلِهِ، 32وَهِى أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِى أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِى وَتَتَآوَى فِى أَغْصَانِهَا»" فهو قريب من التعبير القرآنى. ومثله النص التالى من إنجيل مرقس (الإصحاح الرابع): "26وَقَالَ: «هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِى الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، 27وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِى بِثَمَرٍ. أَوَّلًا نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِى السُّنْبُلِ".
ومرة أخرى لنكن على ذكر من أن الكتاب المقدس شىء، والتوراة والإنجيل شىء آخر: التوراة والإنجيل نزلا من السماء، أما الكتاب المقدس فهو تسجيل بشرى لتاريخ بنى إسرائيل وأنبيائهم، وإن كان يبدأ من أول الخلق لينتهى إلى ذلك التاريخ فيلزمه ولا يفارقه، وبطبيعة الحال فإن هذا العمل البشرى لا يخلو من بعض نصوص الوحى الإلهى حين يورد أقوال أولئك الأنبياء فتتخللها أشياء من تلك النصوص الإلهية.