المستشرق البريطانى الزنيم
ديفيد صمويل مرجليوث
إبراهيم عوض
ديڤيد صمويل مرجليوث David Samuel Margoliouth (1858- 1940م) مستشرق بريطانى معروف عمل قسا فى كنيسة إنجلترا لبعض الوقت، واشتغل أستاذا للغة العربية فى جامعة أكسفورد من 1889م إلى 1937م. وهو يهودى الأصل، ومتعصب أشد التعصب على الإسلام. وقد بدأ حياته العلمية بدراسة اليونانية واللاتينية، ثم اهتم بدراسة اللغات السامية وتعلم العربية. وكان أبوه وخاله قد تحولا من اليهودية إلى الأنجليكانية. ومن مؤلفاته "التطورات المبكرة فى الإسلام"، و"محمد وظهور الإسلام"، و"المحمدية"، و"العلاقات بين اليهود والعرب قبل الإسلام" و"أصول الشعر العربى". كما نشر كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي، ورسائل أبى العلاء المعري، و"نشوار المحاضرة" للتنوخى... وشارك فى تحرير "دائرة المعارف الإسلامية"، وكان عضوا فى الجمعية الآسيوية الملكية من 1905م فصاعداً، وصار رئيسها بين 1934-1937م. وانتخب عضوًا فى المجمع العربى العلمى بدمشقوالمجمع اللغوى البريطانيوالجمعية الشرقية الألمانية وغيرها.
وكان مرجليوث، كما قلنا، من أشد المستشرقين بغضا للإسلام وكتابه ونبيه. ومن يرغب فى أن يأخذ فكرة عن هذا البغض القتال فليرجع إلى كتابه: "Mohammed and the Rise of Islam"، الذى يأخذ فيها دائما جانب وثنيى مكة حتى فى تعذيبهم للمسلمين الأوائل، وينحاز دائما لليهود، الذين تآمروا على قتل النبى عليه السلام رغم مده يده لهم بالحسنى وإقامته نظاما سياسيا يكفل لهم حريتهم ويضعهم على قدم المساواة مع المسلمين ويلزم كل طرف من أهل المدينة بمعاونة الأطراف الأخرى وقت الخطر، والذين أرادوا أن يدمروا الإسلام تدميرا نهائيا، وحمل عليهم مرجليوث حملة شعواء لأنهم لم يحكموا أمرهم جيدا ويتعاونوا على القضاء عليه وعلى دينه.
ولقد وصف هذا المستشرق الوقح النبى صلى الله عليه وسلم بأنه "a robber chief: شيخ منسر" لا لشىء إلا لأنه كان يرد على العدوان الوثنى بمثله ولا يتلقى الضربة ثم يسكت. وهو لو فعل كما يريد مرجليوث وأشباهه لانتهى الإسلام من فوره وصار فى خبر "كان"، وهذا ما يتمناه ذلك الحقود الذى يغلى مرجل الغيظ فى قلبه فيحرمه السكينة والسلام. ولم يحدث مرة أن بادأ الرسولُ عليه السلام أحدًا بعدوان. ثم هل يصح أن يقال عن النبى عليه السلام إنه "شيخ منسر"، وهو الذى جاء بالتوحيد الراقى بدل الوثنية المنحطة التى تغزَّل فى جمالها مرجليوث تغزلا عجيبا يجعلنا نتساءل: إذا كان الأمر كذلك وكانت الوثنية بهذا الجمال فلم كان الاستعمار الغربى يصر على نشر النصرانية فى البلاد الإفريقية والأسترالية الوثنية التى يستعمرها لا يترك وسيلة تؤدى إلى تلك الغاية دون أن يستخدمها، ولم يترك أهاليها على ما هم يتمرغون فيه من سعادة وانشراح؟ وكان الرسول عليه السلام يتلو على قومه ما ينزل عليه من وحى كريم أو يحدثهم بحديثه الشريف مخاطبا عقولهم ومثيرا تفكيرهم ولافتا إياهم إلى وجوب النظر فى الكون ومظاهره ونظامه وقوانينه، والتأمل فى أنفسهم وأوضاعهم وفى التاريخ الماضى وفى الحاضر الحالى، ومطلقا طاقاتهم وباعثا حيويتهم، وداعيا إياهم إلى كل راق من الأخلاق وكل طاهر من السلوك، وموجبا العمل والإتقان على أتباعه، وحاثا لهم على طلب العلم وجاعلا إياه فريضة من الفرائض وليس فقط حقا من حقوقهم يمكنهم أن يتنازلوا عنه إذا شاؤوا بل واجبا دينيا يحاسَبون أشد المحاسبة إذا ما قصَّروا فيه، وحاضًّا لهم على النظافة والنظام، وباثًّا فيهم معانى العزة والكرامة، ورافعا من شأن المرأة رفعة كبيرة... إلخ، ونجح نجاحا باهرا فى أن ينقل العرب من حال إلى حال، ففتحوا البلاد ونشروا هذه القيم والمعانى فى كل مكان وصلوا إليه. أيصح أن يفضل أحدٌ الوثنيةَ على التوحيد، والهمجيةَ على التحضر، الذى دعا إليه محمد حتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إن محمدا كان نبيا زائفا، أستغفر الله؟
وكان مرجليوث يرى أننا لا ينبغى أن نعير أقواله عليه السلام كبير ثقة. ويتساءل المرء: لماذا، وقد كان رسول الله مثال الإنسان الكامل تواضعا وصدقا وكرما ولين جانب ودماثة خلق ورُقِىَّ تصرف وطولَ بال وصبرٍ ومعرفةً بجوانب الضعف البشرى ومراعاةً له وتسامحًا ودعوةً إلى الرقى والتحضر فى كل مجالات الحياة حتى صار العرب أسياد العالم فى الثقافة والسياسة فى وقت مثالى فى القِصَر وفى السهولة العظيمة التى فتحوا بها أبواب العالم فى وجه الدين الذى أتاهم به رسول الله؟ هذا من ناحية ما جاء به محمد ودعا إليه، فإذا انتقلنا إلى ما أعلن أنه سوف يقع ثم وقع فعلا فكيف يقول المستشرق البريطانى الحقود إننا ينبغى ألا نعير أقوال محمد كبير ثقة؟ ومن ذلك تأكيد القرآن منذ وقت مبكر من الفترة المكية أن الإسلام سوف ينتصر على الدين كله، وأن الروم سوف يهزمون فى بضع سنين الفرس، الذين كانوا قد انتصروا عليهم لتوهم، وأن المسلمين سوف يفتحون مكة. ومنه أيضا تبشير الرسول أتباعه بأنهم سيغنمون القسطنطينية من أيدى البيزنطيين، وأن دينه سيبلغ من أرجاء الأرض ما بلغ الليل والنهار، ثم وقع الأمر كما قال وتنبأ فعلا وصدقا وحقا مع أن إمكانات الإسلام المادية والبشرية والعسكرية كانت شديدة الضآلة ولا قيمة لها. فانظر أيها القارئ إلى مدى فعل الحقد فى نفوس بعض البشر، إذ يمنعهم من رؤية الشمس فى رائعة النهار.
وتبقى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وما من مرة وعد إلا أوفى. كتبت الصحيفة بين طوائف سكان المدنية، فظل يحترمها ويحافظ على بنودها ويحرص على ألا يخرج عليها أى خروج، لكن اليهود شرعوا يخرجون عليها قبيلة منهم إثر قبيلة ويحيكون المؤامرات، ويختلقون المشاكل، ويدبرون لقتله صلى الله عليه وسلم ويعتدون على سيدة مسلمة أَمَّتْ سوقهم فكشفوا سوأتها وهتكوا سترها وأساؤوا إلى سمعتها وعرضها، وانحازوا كما ينحاز مرجليوث، إلى الوثنية والوثنيين والشرك والمشركين رغم ما نسمعه من الدارسين الغربيين كذبا وزورا وبهتانا من أن اليهود هم حفظة التوحيد فى العالم مع أن العهد القديم يقول على لسان ربهم وأنبيائهم فى انحرافهم عن التوحيد وميلهم المغروس فى طباعهم اللئيمة إلى الأوثان ما قال مالك فى الخمر، ووضعوا أيديهم فى أيدى المكيين متعاهدين على ضرب الإسلام ونبيه وأتباعه ضربة تقضى عليه وعليهم. وبلغ الأمر ذروته فى حرب الأحزاب، ولولا أن الله ستر لكان الإسلام الآن فى خبر "كان". ولقد سأل المشركون أسلاف مستشرقنا اليهودى الأصل: أى الدينين خير وأقوم قيلا؟ فكان جواب الكذابين الأفاكين: بل دينكم خير وأفضل من دين محمد.
وبالمثل نجد الرسول عليه السلام فى صلح الحديبية الذى انعقد قريبا من مكة فى العام السادس من الهجرة، وقد انتهى هو وأهل مكة لتوهم من إقرار ذلك الصلح، فأتاه مكى مسلم مضطهَد يرسف فى القيود هاربا من محبسه بمكة يستغيث به عليه السلام أن ينقذه من القيود والهوان والتضييق والأذى الذى يتعرض له ليل نهار، فكان رده عليه السلام أنه لا يستطيع له شيئا لأن شروط الصلح تمنعه من قبوله بين أتباعه هو وأمثاله من الفارين من مكة. وكان من بين يهود فى المدينة مَنْ حذرهم من الغدر بمحمد والانحياز إلى المشركين ضده فى غزوة الأحزاب وأعلن أن لن ينضم إليهم فى حربهم له لأنه لم تصدر عنه خيانة ولا غدر بل كان مثالا للصدق والأمانة ومراعاة الاتفاقات. وهناك ما قاله أبو سفيان لقيصر حين استدعاه، وكان وقتها فى الشام فى قافلة تجارية، وسأله عن الرسول ومدى صدقه وأمانته واحترامه لكلمته، إذ لم يستطع أبو سفيان باعترافه هو نفسه، أن يقول شيئا معيبا فى حق النبى، فكان كل ما قدر عليه أن المكيين لا يدرون ماذا سيصنع بالمعاهدة التى وقعوها معه فى الحديبية. أى أنه لم يستطع أن يتهم النبى بشىء لكنه لم يقدر على قول الحق دون أن يسرب كلمة يتصور أنها قد تمس النبى ولو مسا رقيقا بعدما عجز عن أن يغمزه بشىء حقيقى. فهذا كل ما استطاع أبو سفيان لمزا للإسلام ورسول الإسلام فى ذلك الوقت. وأبو سفيان هو هو من دخل الإسلام ومعه كل أهل مكة بعد قليل حين رأوا أن محمدا موفقٌ مُعَانٌ لا يمكن هزيمته وتبين لهم أنهم فى حربهم لمحمد إنما يحاربون الحق والصدق والاستقامة والنظافة، ويقفون فى وجه القدر ذاته.
فكيف يصف مرجليوث محمدا عليه السلام، وهو الصدق والنبل والشرف واحترام العهد بعينه، بأننا لا ينبغى أن نعير أقواله أية ثقة؟ الواقع أن من لا ينبغى أن نعير أقواله أى قدر من التصديق هو مرجليوث نفسه وأهله، الذين دخلوا النصرانية لكن اليهودية لاصقة بأعماقهم وأعماقه حتى إنه ليأخذ جانب اليهود ضد التوحيد الإسلامى الكريم ويفضل الوثنية كأسلافه من سكان المدينة اليهود على الإسلام، ويكتب عن العلاقات بين اليهود والعرب خصوصا دون سائر الموضوعات، ويشغله حقده على محمد فيشنع عليه وعلى دينه فى كل سانحة، ويعيد ويبدئ فى الكتابة عنه ليجد فرصة لنفث حقده عليه.
على أن حقد مرجليوث على الإسلام ونبيه لا يتوقف هنا، إذ قال عن أبى عامر الراهب، هذا اليثربى العميل للروم، إنه كان لديه قبل هجرة الرسول إلى المدينة ميل إلى الإصلاح الدينى، بيد أن القليل الذى خبره من محمد بعد هجرته إليها قد أقنعه بأفضلية الوثنية. والواقع أن الجزء الأخير من كلام مرجليوث كفيل بتنفيرنا منه ومن أبى عامر الفاسق كما كان المسلمون يلقبونه بحق وصدق. ذلك أنه لا يمكن أن يفضل الوثنية على الإسلام إلا منحط زنيم. ولكى نعرف أبعاد كلام مرجليوث اليهودى المستخفى فى رداء النصرانية وما فيه من تلفيق وكذب فلنقرأ السطور التالية عن أبى عامر هذا: لقد كان معروفًا بـ"أبي عامر الراهب"، وكان يدعى أنه على دين الحنيفية، ولَبِس المُسُوح، وكان رأس الأوس في الجاهلية.
وتبدأ قصته بالنسبة لنا من وقت دخول النبى صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، إذ ذهب إليه أبو عامر يسأله: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال صلى الله عليه وسلم: جئت بالحنيفية دين إبراهيم. قال أبو عامر: فأنا عليها. فقال: إنك لست عليها. قال أبو عامر: بلى عليها. إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها. فقال صلى الله عليه وسلم: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية. قال أبو عامر: الكاذب أماته الله طريدًا وحيدا غريبا. قال صلى الله عليه وسلم: أجل، مَنْ كَذَبَ فَعَلَ اللهُ تعالى به ذلك. ولم يستطع أبو عامر أن يمكث في المدينة بعد أن فشا فيها الإسلام ودانت القيادة فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة مهاجرا إلى مكة حيث الأصنام والأوثان والشرك بالله تعالى، واشترك فى تحزيب الأحزاب على رسول الله، فلما ردهم الله بغيظهم ظل أبو عامر بمكة مظهرًا لعداوته إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، ففر من مكة إلى الطائف، ثم لما أسلمت الطائف في سنة تسع من الهجرة خرج هاربًا إلى الشام يريد قيصر الروم مستنصرًا به على رسول الله، وعاش هناك حتى مات طريدًا وحيداً غريبًا، وحقت عليه لعنة الله التى دعا بها هو نفسه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجدًا في بني عمرو بن عوف، وهو مسجد قباء، وتشرف القوم بذلك، فحسدهم حينئذ رجال من بني عمهم، وكان فيهم نفاق، وكان أبو عامر منهم، وكانت أمه من الروم، فذهب إلى هرقل ليستعين به على قتال المسلمين، ومن الشام كتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجدًا فى حيكم مضادا لمسجد قباء، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدًا وأصحابه من المدينة، فَبَنَوْه أملا فى أن يأتى أبو عامر ويتخذه متعبَّدًا ويُسَرّ به. وأثناء عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أراد المنافقون أن يصلي رسول الله فى ذلك المسجد إقرارا له، لكن الله أخبره بما ينتوونه، فأرسل مِنْ صحابته مَنْ هدمه.
هذا هو أبو عامر الفاسق، الذى زعم مستشرقنا الكذاب أن القليل الذى بلاه من رسول الله جعله يكره دينه ويفضل الوثنية. فما الذى يا ترى خَبَرَه هذا الفاسق من الرسول أول مَقْدَمه عليه السلام المدينة؟ لقد عالَنَه الفاسقُ بالكفر، لكنه عليه السلام تركه على هواه ولم يتعرض له بأدنى سوء لا بالكلام ولا بالفعل. ولو كان الفاسق صادقا فى التمسك بالحنيفية ما آثر الوثنية على التوحيد بأى حال. كما أنه دعا على أيهما كان كاذبا، هو أو رسول الله، أن يميته الله غريبا طريدا، فحقت عليه الدعوة وأماته الله ذليلا فى الغربة ورَفَعَ راية محمد خفاقة عالية ونصره ونصر دينه نصرا مؤزرا كما وعده فى آيات قرآنية كثيرة. والحق أن مرجليوث هو الصورة البريطانية من أبى عامر الفاسق بكراهيته للطهارة والنور والنبل والشرف، وقد أماته الله والحقد يهرى قلبه وديدان الغيظ ترعى فيه وتأكله أكلا. ومن عجب أن يكون هذا المبغض لرسول الله وللإسلام عضوا فى بعض المجامع اللغوية العربية. أرأيتم خيبة كهذه الخيبة؟
ومن أعاجيب هذا المستشرق كذلك دعواه المضحكة أن كلمة "مسلم" معناها فى الأصل "الخائن". ترى أَنَّى لهذا الجهول الكذاب هذا الكلام؟ أولا: لا وجود لهذا المعنى فى المعاجم. ثانيا: أين ذلك فى النصوص الشعرية أو النثرية فى الجاهلية أو بعد الإسلام؟ ثالثا: إن هذه المادة بالعكس مما قاله تدل على السلام والسلم والسلامة والتسليم، وكلمة "مسلم" تدل على إسلام النفس لله. فأين الخيانة هنا؟ رابعا: لو كان كلام المستشرق الجاهل صحيحا لكانت فرصة للمشركين واليهود والنصارى كى يسخروا منه عليه السلام ومن دينه ولاتخذوا المسلمين هزوا ولعبا وسخرية واحتقارا كلما مر بهم أحد منهم فيطاردونه فى الشوارع منادين له بـ"يا مسلم. يا مسلم" ويضحكون ويصيحون. خامسا: لو كانت الكلمة تعنى شيئا من هذا الذى يقوله المستشرق لما اقترب الرسول منها ولا فكر فى إطلاقها على أتباعه. وقد كان صلى الله عليه وسلم كلما رأى اسما مسيئا لصاحبه نزعه عنه وأعطاه عوضا عنه اسما جميلا. بل لقد غير اسم "يثرب" ذاتها إلى المدينة" لأن اسمها القديم به إيحاءات غير طيبة. الواقع أن مرجليوث غليظُ جلدِ الوجه لا يعرف معنى الحياء. ومن الواضح أن يهوديته لا تتركه يهدأ دون أن يتهجم على الإسلام فى كل مناسبة وفى كل غير مناسبة.
ولا تقف سخافاته وتنطعاته عند هذا بل يقول إن الرسول كانت تعتريه النوبات العصبية كثيرا. يقصد أن الوحى ما هو إلا نوبات عصبية لا نصوص تنزل من السماء. ولكن هل حدث أن أنشأ مصابٌ بتلك النوبات دينا عظيما حضاريا كالذى أنشأه محمد؟ إن المرضى بتلك النوبات مكانهم هو عيادات الأطباء للعلاج، أما التمحض لدعوة الأفراد والجماعات إلى دين جديد قوامه المبادئ الراقية الكريمة المتحضرة، والتعرض لأذى الناس ومؤمراتهم، والصبر على كل ذلك دون فتور أو إحباط، والمضى فى إيصال الرسالة حتى النهاية فهذا لا يقع فى طوق المرضى من هذا النوع. كما أن أصحاب النوبات العصبية، حين تأتيهم النوبة، يسقطون من طولهم على الفور، ويخرج الزبد من بين شفاههم، وكثيرا ما يعضون ألسنتهم أثناءها، وقد يقطعونها وهم لا يدرون، ويسارع من حولهم فى التو واللحظة إلى حمايتهم من أنفسهم، وعندما يستيقظون تكون أذهانهم مشوشة ولا يتذكرون شيئا مما مر بهم خلالها. ولا شىء من هذا كله يصدق على حالة النبى عليه السلام، فلم يحدث أن سقط من طوله ولا خرج الزبد من فمه ولا عض لسانه ولا صرخ ولا تشنج، ومن ثم لم يكن أحد ممن حوله يهب لمساعدته، وحين يفيق من غاشية الوحى كان يتلو على الفور آيات قرآنية مجيدة كلها بلاغة وروعة أسلوب ورقىّ مضمون وحكمة عميقة ردا على سؤال سُئِلَه فورا أو موقف واجهه أو واجه أحدا من أتباعه. كما أن أعراض النوبة العصبية لا تتسق أبدا مع عوارض الوحى. وقد اتهمه المشركون بأنه كاهن وبأنه شاعر وبأنه كذاب، وهذه التهم لا صلة بينها وبين النُّوَب العصبية. وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يقولون أو يصنعون. إنما هى اتهامات كاذبة يرددونها كراهية منهم للدعوة الكريمة التى أتاهم بها. ثم لا ننس أن العرب قد دخلوا جميعهم بعد ذلك فى الإسلام مكذبين بذلك كل ما كانوا يتهمونه به زورا وبهتانا.
واستمرارا من مرجليوث فى نفوره وتنفيره من الإسلام نراه يزعم أن النبى عليه السلام قد عاشر بعض النصارى واستفاد منهم كثيرا مما فى القرآن من قصص. ولكن لو أن هذا هو الواقع فلماذا لم ينبر أحد من أولئك النصارى فيفضحه بأنه هو الذى علمه ما فى القرآن من قصص حتى يضع حدا لهجومه المستمر على دينه فى القرآن؟ ثم إن قصص القرآن تختلف فى حالات كثيرة عن قصص الكتاب المقدس من حيث إنها تخلو من التجديف فى حق الله والتجرؤ على رسله ونسبة الجرائم المنحطة والأخلاق الخسيسة إليهم، وتهاجم كثيرا من عقائد اليهود والنصارى. كذلك لو كان النبى هو مؤلف القرآن لما أورد فى القرآن شيئا من معجزات الأنبياء السابقين حتى لا يتعنت عليه بها قومه ويطالبوه بأن يأتيهم بمثلها. لقد كان يمكنه الصمت عن هذا الموضوع، فإذا ما طالبه أحد. بمعجزة استنادا إلى معجزات السابقين من النبيين والمرسلين تحداهم بأعصاب مستريحة أن يثبتوا أنه كانت هناك معجزات أصلا، وهو ما لا يستطيعون إثباته لأن المعجزات قد راحت مع الماضى، وما راح مع الماضى لا يمكنه أن يعود. ثم لقد دخل فى دين الله فى عصره كثير من النصارى واليهود، وتلاهم مئات الملايين بعد ذلك، ومنهم ساسة ورجال دين وعلماء وأدباء وفنانون ومشاهير وإعلاميون ورياضيون، وكثير جدا منهم من الدول الغربية المتقدمة. فهل كانوا ليفعلوا ذلك لو رأوا أنه من الممكن أن يكون بعض النصارى قد علموه؟
لقد كان مرجليوث ملتويا خبيثا، والكلمة التالية التى كتبها الشيخ عبد العزيز جاويش عن الكتاب الذى نحن بإزائه الآن تدل على ذلك أقوى دلالة. قال الشيخ جاويش: "ظهر هذا الكتابُ من نحوِ سبعةِ أعوامٍ، ونُفوسُ الإنجليز والأمريكيين تَرقُبُه لِمَا لذلك الرجل عندهم من المكانةِ العِلميَّةِ الرفيعة، ولا سيَّما وهو مشغوفٌ بدعوى أنه محيطٌ بأكثرِ لغاتِ العالم، فتراه يَدَّعَى العِلمَ بالإسبانية والفرنسيةِ والإيطالية والألمانية والعربية والفارسية والعِبْرانية. وقد كُنتُ إِبَّانَ ظُهورِ الكِتابِ فى مدينة أكسفورد حيث المؤلّف، ولَمَّا ذَكرتُ له رغبتى فى شراءِ كتابه وَعَد أن يُقدِّمَ لى منه نُسْخةً، ثم جَعَل يتباطأ تارةً، ويتناسى أخرى، حتى مَلِلْتُ وُعودَه، وظَننتُ أنه لا بد لهذا الكِتابِ مِن سرٍّ يُريدُ إخفاءَه عنى، ولا سيَّما والمؤلفُ يعلمُ أننى ضعيفُ الثقةِ بكثير من المستشرقين، سيئُ الظنِّ بهم. وقد كنتُ فى الواقع كذلك ولكنْ بعد أن خَبَرتُهم، وسَبَرْتُ غَوْرَ معلوماتِهم، وتَتبَّعتُ مَبلغَ كفاءتَهم. ولولا أننى وَجدتُ مِن بينهم أفذاذًا قليلينَ جدًّا لَمَا اطمأنَّت نفسى إلى أحدٍ منهم. فلما حَصلتُ على الكِتابِ وتصفَّحتُه ثم درستُه بابًا بابًا وكلمةً كلمةً حتى جِئتُ على آخِرِه وجدتُه عند ظنِّى به: وجدتُه حارَبَ التاريخ كما حارَبَ الإنصافَ، وحَمَل على الرسولِ صلى الله عليه وسلم حَملاتٍ منكرةً. ويَظهرُ أن المؤلِّفَ توقَّع ألا يَقَعَ كتابُه إلّا فى أيدى البُلْهِ، ولا يَطَّلع عليه إلّا الأغرارُ، فلم يُبالِ أنْ جاء فيه بمُحدَثاتٍ لو أنه تَدبَّر لَمَا اجترأَ على الإقدام عليها".
ومضى جاويش فى حديثه عن مرجليوث وغرامه بالحذلقة الجاهلة: "لا أريدُ أن أذكرَ هنا رأيى فى هذا المستشرق الشهيرِ اكتفاءً بحادثةٍ وقعت لنا فى جامعة أكسفورد. ذلك أننى كنتُ مدعوًّا معه فى بعض المنازل، فلمَّا كنَّا على المائدة سألنى بعضُ الحاضرين: هل سَبَق لى أكلُ لحم الجَزُور؟ فأجبته أننى لا أذكرُ ذلك، وربما اتفق لى هذا وأنا صغير. فلمَّا سمع الأستاذ مرجليوث هذا الكلام قال: كيف ذلك، وعلى كلِّ مسلم فَرضٌ أن يأكلَ لَحمَ الجِمالِ ولو مرةً واحدةً فى حياته لأنه من قواعدِ الإسلام؟ عند ذلك أجبتُه وأنا دَهِشٌ مما قال: يا سيدى، إنَنى أَعرِفُ أن قواعدَ الإسلام خمس، أمَّا هذا السادسُ فلا أعرفُه. بَيْدَ أنى أستميحُ الأستاذَ عَفْوًا أن يذكرَ لى مأخذَ هذا الحُكم! فقال إنه وَرَد فى "صحيح البخارى” أنه قد جاء أحدُ اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إنى جئت أشهدُ ألا إلهَ إلّا الله وأنك رسول الله. فأجلَسَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأَمَر له بلَحْم جَزورٍ". ومِن هنا استنبط مِسْتر مرجليوث أنه يجب على كلِّ مسلم أن يأكلَ لَحم الجَزور وأنَّ هذا من العوائدِ الإسلامية التى يَنهدم الدين بانهدامها. فلمَّا فَرَغ قلت له: إنْ صَحَّ وجود هذا الحديثِ فى”البخارى” فالذى يَفهمُه المسلم الذى يَفقَه اللغةَ العربيةَ منه أحد أمرين: فإمَّا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد يُقدِّم لذلك اليهودى شيئًا من الطعام لأنه ضَيفُه فى بيته، وإمَّا أنه أراد أن يمتحنَ إيمانَ اليهودى بإطعامه شيئًا ممَّا حَرَّمه اللهُ على بنى إسرائيلَ فى التوارة من أجزاءِ اللحم. ثم تَلَوْتُ الأدلةَ المفيدةَ لذلك، فبُهِت الأستاذ، ولكنْ لم تَجْسر قُوَّةُ المكابَرة وشِدُّة العنادِ التى فُطِر عليها الأوربيون، ولا سيَّما المستشرقون منهم، على أن تحوله عن رأيه. وبمثل كلام هذا الأستاذِ يقتدى واضِعو الكتبِ التاريخيةِ القانونية".
فانظر بالله عليك طريقة هذا المستشرق المتحذلقة التى تنبئ عن عقل طفولى فى البحث والاستنتاج. وأنا أميل إلى الاحتمال الأول الذى ذكره جاويش، ومعنى العبارة أنه كان هناك لحم جزور متاح، وكان الوقت وقت طعام، فأمر الرسول به لذلك المسلم الجديد. وسر استبعادى الاحتمال الثانى أن النبى لم يكن من طبيعته إحراج أحد، ولم نسمع أنه عليه لسلام قد لجأ إلى مثل ذلك الإجراء مع أى أحد أتاه يعلن إسلامه.
ومن سخافات مرجليوث أيضا ادعاؤه الضال المتهافت أن النبى والذين آمنوا به كانوا يكونون جماعةً سِرِّيَّةً على نحوِ ما يفعل الماسون، وأن هذا الجَمْعَ السِّرِّى قد اتَّخذ له بِضْعَة رُموزٍ منها قولهم: "السلام عليكم". ووجه الرقاعة فى هذا الادعاء أنه لو كان الرسول قد شكل جماعة سرية على الطراز الماسونى لما أعلن دعوته بتاتا على الملإ ولظل أمرها سرا لا يعلم به إلا من دخل فيها وآمن بها، ولما جعل رموزها علنية كـ"السلام عليكم"، التى تقال على رؤوس الأشهاد وعلى أسماعهم. فالماسون، حسبما قرأنا، كانوا مثلا حين يسلمون على أ حد بأيديهم يضغطون ضغطة معينة من كُلْيَة راحة الكف، فإن كان الطرف الآخر ماسونيا هو أيضا رد على الضغطة بضغطة مثلها وعرف كل من الطرفين أن الآخر زميل له فى الماسونية واطمأن إليه وتم بينهما التفاهم والتعاون، وإن لم يكن ماسونيا مر الأمر بسلام فلم يشعر أنه بإزاء ماسونى، وظل أمر الماسونية سرا خفيا.
ولقد نزل الوحى مبكرا بأن يصدع الرسول بما يؤمر به. بل كان بعض المسلمين يتعرض تعرضا للمشركين فيقرأ القرآن عليهم وهم مجتمعون حول الكعبة مع علمه بأنه سوف يؤذَى أذى عنيفا. وقد كان الرسول يغادى الكفار ويماسيهم بتلاوة القرآن ولا يخافت به ولا يجمجم بل يقرؤه بقوةٍ وتحدٍّ. فهل هذا فِعْل الماسون؟ ولقد تحدى القرآن الدنيا كلها بأن الإسلام سوف ينتصر على جميع الأعداء وجميع الأديان، وسوف ينساح بطول العالم وعرضه، وقد كان. ولو كان الرسول يتبع منهج الماسون ما برز لأعدائه على هذا النحو ولظل يعمل فى الظلام صُنْع الماسون حتى اليوم. ثم قامت دولة الإسلام وظل المسلمون وظللنا نحن حتى الآن نقول: السلام عليكم. وكان ينبغى أن يكف المسلمون عن ترديدها بعدما أدت دورها وانتهت الحاجة إليها. ثم ما علاقة الماسون وأشباه الماسون بالإيمان بالله وتوحيده والاعتقاد فى الجنة والنار والدعوة إلى الخيرات ابتغاء وجه الله سبحانه؟
كذلك وقف مرجليوث عند موضوع المعجزات فأنكر أن يكون محمد عليه السلام قد أتى بأية معجزة بما فى ذلك القرآن. فأما القرآن فقد تحدى الكفارَ أن يأتوا ولو بسورة من مثله فلم يفعلوا رغم الصراع الطويل بينهم وبين النبى عليه السلام، وكل ما استطاعوا أن يردوا به على ذلك التحدى هو قولهم: "لو نشاء لقلنا مثل هذا. إنْ هذا إلا أساطير الأولين"، ثم لم يقولوا ولم يشاؤوا. كذلك يحمل القرآن طابعا إلهيا واضحا، ويتنبأ بالمستقبل تنبؤات كلها صحيحة، كما أن أسلوبه يختلف تمام الاختلاف عن أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم رغم اتفاق الموضوعات والسياقات والظروف والجمهور والتاريخ حسبما حللت الأمر فى كتابى الكبير: "القرآن والحديث- دراسة أسلوبية". وأما المعجزات المادية فإن القرآن كلما طلب المشركون شيئا منها أمره عليه السلام أن يرد عليهم بقوله: "سبحان ربى! هل كنت إلا بشرا رسولا؟"، "إنما الآيات عند الله". وهو كلام لا يقوله كذاب أبدا.
ومع هذا تخبرنا بعض الأحاديث أن هناك آيات تمت على يد النبى عليه السلام. ورغم أن كاتب هذه السطور لا يقف كثيرا عند المعجزات بل يركز اهتمامه على الجوانب الحضارية التقدمية فى الإسلام فإنى لا أستبعد أن تكون قد وقعت على يده عليه السلام تلك المعجزات التى أوردتها كتب الحديث، ولا أرى تناقضا بينها وبين ردوده صلى الله عليه وسلم على الكفار. ذلك أن المعجزات المذكورة هى معجزات فيما بينه عليه السلام وبين أتباعه وليست استجابة لاقتراحات المشركين كى يسلموا بناء على ما قالوا، إذ أكد القرآن أن المعجزات لن تفلح فى ليهم عن كفرهم بل ستزيدهم عنادا وطغيانا، بل لم يطلبها ولا حتى المسلمون أنفسهم، وفعلها النبى من تلقاء نفسه بقدرة ربه وإذنه بطبيعة الحال. فلا تناقض إذن بين الأمرين. ومرة أخرى أنا لا أعول على المعجزات كثيرا بل على القيم الحضارية النبيلة الباهرة التى تضمنها القرآن وفتحت له الطريق نحو الانتصار على كل العقبات والمعوقات والأعداء الحاشدين وتأسيس حضارة عظيمة امتدت قرونا، وقدرته حتى الآن على إلهام أتباعه لو أرادوا بإعادة الكرة والانتقال من التخلف والضعف الذى هم فيه إلى مقعد القيادة فى قاطرة البشرية.
ورغم هجوم مرجليوث على دين التوحيد وتغزله فى جمال الوثنية وتفضيله إياها عليه فى كتابه عن الرسول وظهور الإسلام فقد سبق أن تكلم عن "مستقبل الإسلام" عام 1904م فى أحد المجامع العلمية، فأورد قولَ برايس إن الإسلام لم يَبْقَ من عُمرِه إلّا قَرنان، وذكر ما قاله أحدُ المبشِّرين مِن أن الإسلام لا يَلبثُ أن يَذوبَ ذَوَبانَ الثلْج بين يَدَى العلو والتمدُّنِ والنصرانية، ونَقَل رأْى الدكتور بروين، الذى أكد أن "الإسلام يذهبُ بذَهابِ الدولةِ العثمانية"، وأنه لن يَبقَى بعدَ احتكاكِه بالتمدُّنِ الحديث، بل يموتُ لا محالةَ، وساق ما كتبه أحدُ كُتَّاب التغريب من أنَّ الانحطاطَ الذى يَعيشُه المسلمون فى هذه الفترة يَرجع إلى أسبابٍ متَّصلةٍ بالإسلام نفسه لأنه لا يوافقُ رُوحَ التمدُّنِ، ورغم ذلك كله فإن مرجليوث لم يوافق على معظم هذا الكلام ورأى أن الإسلام يمكنه التواؤم مع المدنية والعلم الحديث وأن مستقبله لا يعلمه سوى الله. ويجد القارئ تلخيصا لهذا البحث فى عدد نوفمبر 1904م من مجلة "الهلال" ص 90- 94. فكيف يقول مرجليوث هذا فى البحث المذكور ثم بعد ذلك بسنة يعيب الإسلام بكل وسيلة ويدعى عليه الدعاوى الجاهلة الحاقدة فى كتابه عن "محمد وظهور الإسلام"، الذى فرغنا لتونا من مناقشة بعض ما جاء فيه من تلك الدعاوَى؟
وعلى أية حال فإن النصرانية قد اختفت تقريبا من البلاد الأوربية وحل محلها الإلحاد أو فى أحسن الأحوال: اللاأدرية. وأما الإسلام فرغم كل الحرب الضروس التى تشنها عليه أوربا منذ قرون صار يعتنقه كثير من الغربيين من كل الأطياف، وبخاصة من الطبقات المثقفة، وأخذت وسائل الإعلام تعبر عن رعبها منه وخشيتها الشديدة من انتشاره فى بلادها، وكثرت المساجد فى المدن الأوربية وأصبح مشهدا جِدَّ مألوف أن نرى المصلين المسلمين يصلون الجمعة فى الشوارع حول المساجد، التى تغص بهم. كل هذا والمسلمون فى أحط حالات ضعفهم وتتبع كثير من حكوماتهم خطا الحكومات الغربية تبعية عمياء ولا يقومون بعشر معشار الدعاية التى تقوم بها الكنائس الأوربية فى كل مكان ولا ينفقون عليها ولو كسرا ضئيلا مما تنفقه دول الغرب على نشر نصرانيتهم.
وأما أن الحضارة الحديثة تناقض الإسلام بوصفه دين التخلف فكيف يغفل غافل عن أن الحضارة الإسلامية بعلمها وتقدمها وإبداعاتها وابتكاراتها إنما نشأت وعاشت فى ظل الإسلام بل عاشت بفضل الإسلام وتحضيضه على تحصيلها من علم ونظام ونظافة وعمل وكد وإبداع واختراع واستقامة خلق واجتهاد فى الحفاظ على مقومات القوة والعزة والكرامة، وأن النصرانية لم تزدهر فى أوربا إلا أيام تخلف الأوربيين الشنيع؟ نقول هذا ردا على أولئك الذين أورد مرجليوث أحاديثهم عن مستقبل الإسلام.
على أن سخافات مرجليوث لا تتوقف عند الموضوعات الدينية بل كان له مع الشعر الجاهلى قصة، وقصة عجيبة. فقد أقدم على كتابة بحث شديد التفاهة والتهافت فى مجلة الجمعية الآسيوية الملكية سنة 1925م اسمه "The Sources of Arabic Poetry" ينكر فيه وجود شىء اسمه الشعر الجاهلى والشعراء الجاهليون، وادعى أن الشعر المنسوب للجاهلية مصنوع فى العصر العباسى صنعا، وكأن العرب والمسلمين كانوا نائمين ذات ليلة، ثم استيقظوا فوجدوا أشعارا يقال إنها نظمت قبل الإسلام ولم يكن لها وجود ومعها شعراء لم يعرفوا الحياة من قبل، فصار لهم وجود وسِيَرٌ وحكايات وعلاقات ومِهَنٌ وأوضاع اجتماعية اخترعها المخترعون اختراعا، ورغم هذا خرس العرب والمسلمون أجمعين فلم ينبسوا ببنت شفة مع أن سنة الله أن يختلف الناس حول كل شىء، فما بالنا بمسألة مثل هذه لا يمكن أن تمر مرور الكرام على أسلافنا إلا إذا تواطأوا كلهم على تقبل الباطل والرضا به والصمت حياله، وهو ما لا يمكن أن يكون؟
كذلك نرى فى القرآن كلاما عن الشعر واتهام المشركين للنبى عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر لا رسول وأن القرآن شعر من الشعر وليس وحيا إلهيا. ومعنى هذا أن الشعر كان موجودا آنذاك، وإلا فكيف اتهموا الرسول بأنه شاعر وهم لا يعرفون الشعر ولا يسمعون به إذ هو لم يوجد بعد عند العرب؟ وهنا يقفز مرجليوث إلينا فيتنطع ويدعى أن الشعر المذكور فى القرآن معناه العرافة غافلا عن أن المشركين قد اتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن عراف إلى جانب أنه شاعر، وهو ما يدل على أن الكهانة والعرافة غير الشعر. فضلا عن أن هذا المعنى لا يوجد فى أى معجم من المعاجم ولا ذكره أى كاتب أو شاعر من كتابنا وشعرائنا.
كما أن فى الشعر الأموى، الذى يقر به مرجليوث السخيف ولا يشك فى شىء منه، إشارات إلى عدد من شعراء الجاهلية بأسمائهم. أى أن شعراء الجاهلية كانوا معروفين للعرب قبل تزييف الأشعار عليهم بعد ذلك فى العصر العباسى طبقا لنظرية مرجليوث السخيفة التافهة.
ومما ارتكن إليه مرجليوث فى نفى وجود الشعر الجاهلى وأصحابه أن فى ذلك الشعر مصطلحات دينية إسلامية وكلاما عن البعث والحساب مثلا مع أن أحدا لم يقل إن كل أهل الجاهلية كانوا يرفضون الإيمان بالآخرة والثواب والعقاب. أما مصطلحات الركوع والسجود والقسم بـ"الذى أمات وأحيا" على سبيل المثال فلم يقل أحد عن شعر عنترة بن شداد الذى يحويها إنه شعر صحيح، بل هو شعر منحول عليه فى السيرة الشعبية التى تحمل اسمه، وليس من يطالعه محتاجا إلى إثبات أنه مصنوع مزيف لأن روحه ونكهته وأسلوبه تقول ذلك بأفصح لسان وأبلغ بيان. وقد فصلت القول فى ذلك فى الكتاب الذى ألفته عن الفارس الأسود المغوار وعن فنه الشعرى.
وأما أن العرب لم يكن لديهم أوراق يسجلون فيها ذلك الشعر إن كان له وجود، وبالتالى فكيف وصلنا ما دام ناظموه أو مستمعوه لم يسجلوه فى حينه كتابيا كما يتساءل مرجليوث، فالجواب سهل يسير، إذ كان العرب، بسبب أميتهم واعتمادهم على الذاكرة فى حفظ أمورهم وخطبهم وأشعارهم وأنسابهم وكلام كهانهم، يحفظون أشعارهم فى أدمغتهم. وكما حفظوا القرآن وأحاديث نبيهم فقد حفظوا قصائد شعرائهم. وأقصى ما يمكن قوله فى هذا السياق هو أن الشعر الجاهلى يمكن أن تكون قد حدثت فيه بعض التغييرات على هذا النحو أو ذاك أو اختلطت نسبته إلى هذا الشاعر أو غيره أو صُنِع بعض الشعر وأضيف إلى شاعر لم ينظمه. أما أن نرتب على ذلك أن الجاهليين لم يعرفوا الشعر أصلا فهذا تنطع ثقيل غليظ.
وهناك الأشعار الموغلة فى القدم والتى تصل إلى عصر إسماعيل، وبعضها إلى آدم. فأما آدم فلا أظنه أبدا كان يملك لغة كاملة فضلا عن أن يعرف هو أو أحد من أبنائه الشعر، وأما إسماعيل فلا أستبعد أن تكون هناك أشعار صحيحة نظمت فى عصره، لكنى لا أجزم بشىء من ذلك. وها نحن أولاء ما زلنا نستعمل اللغة بنفس القواعد النحوية والصرفية وكثير جدا من المفردات والتعبيرات التى كان يستعملها امرؤ القيس وزهير وعنترة وأشباههم ونفهم عنهم ما قالوا فى أشعارهم رغم مرور ما يقرب من ألفى سنة. وإذا كان ابن سلام قد استنكر كل شعر منسوب إلى عاد وثمود تحت حجة أن عادا وثمود قد بادتا عن آخرهما بنص القرآن الكريم، ومن ثم لم يكن هناك من ينقل لنا أشعارهم، فقد فاته أن من بادوا هم الكافرون وحدهم لا كل القبيلتين بمؤمنيهما وكافريهما، وهذا ما وضحه القرآن الكريم حين نص على نجاة المؤمنين فى أكثر من موضع. ومعنى هذا أن ورود شعر إلينا عن هاتين القبيلتين ليس مستحيلا ولا مستغربا من الناحية المبدئية على عكس ما يظن ابن سلام. وعلى كل فحتى لو قلنا مع القائلين بأن عمر الشعر الجاهلى الصحيح الذى وصل إلينا هو على أكبر تقدير قرنان فإن الشعر الذى ينطبق عليه هذا الكلام شعر جد كثير.
وأما ما قاله مرجليوث من أن الأمر من الناحية الموسيقية فى اللغة العربية قد تم كالآتى: كان القرآن أول نص مسجوع، ثم ظهرت الأراجيز، ثم تلتها الأشعار فى العصر الأموى، ثم صُنِعَت الأشعار الجاهلية فى العصر العباسى، فهو خطأ بواح. فالشعر موجود منذ ما قبل الإسلام بقرنين على أقل تقدير طبقا للرأى السائد فى تلك القضية، كما عُرِف السجع فى خطب الجاهليين وفى كلام الكهان وفى الأمثال، وكانت الأشعار والأسجاع والأرجاز متواكبة لا متتالية كما يزعم مرجليوث على غير أساس، بل بمحض التحكم والتنطع.
ومما يعتمد عليه مرجليوث أيضا فى نفى وجود الشعر الجاهلى أن العرب كانت لهم لهجاتهم القبلية، فأين هى فى الشعر الجاهلى؟ والجواب هو أن لهجات البلاد العربية بعد الفتح بل اللهجات داخل كل بلد عربى طول عمرها مختلفة، ومع هذا فإن الشعر والنثر كليهما لا الشعر وحده لا يحمل آثار تلك اللهجات المستخدمة فى الحياة اليومية. على أن فى الشعر الجاهلى بعض آثار من اختلاف القبائل فى هذا المجال، وكلها فصيحة: فمن القبائل من يقول مثلا: "الحَكَمُ التُّرْضَى حكومتُه"، أى الحكم الذى ترضى حكومته. ومنها من يقول: "وبئرى ذو حَفَرْتُ وذو طَوَيْتُ"، بدلا من "بئرى التى حفرتها وطويتها"، أى وبطَّنتها بالحجارة. ومنهم من يقول: "ما هذا بشرا" ومن يقول: "ما هذا بشرٌ". ومنهم من يقول: "هذاك، هذالك" عوضا عن "ذاك، ذلك". ومنهم من يقول: عَسَيْتَ بخير"، ومنهم من يقول: "عساك بخير"... إلخ. فكلام مرجليوث هنا خاطئ يدل على جهل كبير.
ومن أعجب العجب أن يعود مرجليوث بعد عامين اثنين فحسب عما قال بعد كل تلك العواصف والزوابع التى أثارها، ففى كتابه: "Lectures on Arabic Historians"، الذى ألقى فصوله كمحاضرات عام 1927م، يتحدث عن أشعار الأوس والخزرج فى الجاهلية حديث المطمئن إلى صحتها بل وصلاحيتها لأن تكون مصدرا تاريخيا لما كان يقع قبل الإسلام من معارك بين تينك القبيلتين، وكأنه لم ينكر الشعر الجاهلى كله ويدَّعى عليه الدعاوى الفارغة ويقول إن العرب لم يعرفوا الشعر إلا بعد الإسلام بزمن غير قصير. ومن أعجب العجب أيضا أنه لا يحاول إزالة هذا التناقض فيقر مثلا بأنه فد اتضح له خطأ ما كان سائرا فيه فعاد عنه. قال فى فصل " Poetry as a Vehicle of History" من هذا الكتاب ما نصه: "one of the sources which the historical portions of the Old Testament acknowledge for early narratives is a Book called “And he sang”, i.e., a collection of tribal ballads which commemorated victories or defeats. We read similarly of odes wherein the struggles of the Aus and Khazraj prior to the arrival of the Prophet were recorded, which the Prophet, whose purpose was to institute fraternity between the tribes, forbade to be recited. Clearly only such odes as were of transcendent merit or recorded some overwhelming triumph or defeat would stand much chance of being preserved".
ليس ذلك وحسب، بل يقول بكل أريحية قبيل ذلك: "If history was in a measure commentary on the Qur’an, there is reason for thinking that it was also to some extent comment upon verses. We meet at times with the theory that poetry was the tribal method of recording history, and the earlier historians cite verses in illustration of the chief events; this they can the more easily do because the military organization is still tribal, and the successes or disasters which they sing belong to the tribe". ومعناه أنه إذا كان التاريخ على نحوٍ ما تعليقا على القرآن فثم سبب يدفع إلى التفكير بأنه أيضا إلى حد ما تعليق على الأشعار. ونقابل فى بعض الأحيان النظرية القائلة بأن الشعر هو الأسلوب القبلى لتدوين التاريخ، وأن المؤرخين الأوائل يستشهدون بالأشعار لتوضيح الأحداث الرئيسية. وهذا أمر يزيد سهولتَه عليهم أن النظام الحربى لا يزال قبليا وأن الانتصارات والمصائب التى كانوا ينشدونها هى انتصارات القبيلة ومصائبها.