الكتابة بسيخٍ مُحَمًّى على جسد القارئ!
مع السيرة الذاتية لرئيس إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة رضا عبد السلام: "نقوش على الحجر"

إبراهيم عوض

منذ عدة أسابيع كنت ضيفا على برنامج "سيرة ومسيرة" بدعوة كريمة من أ. رضا بعد السلام رئيس إذاعة القرآن الكريم ومُعِدّ البرنامج ومُقَدِّمه، وبعد تسجيل الحلقات الخاصة بى وعودتى إلى البيت وجدته، بناء على طلبى منه قبل تسجيل الحلقات المذكورة، يرسل لى نسخة ضوئية من كتابه: "نقوش على الحجر"، وفيه ترجمة ذاتية له فى أسلوب مباشر صريح صاحبه واثق بذاته وقلمه وفكره ومشاعره مما أمتعنى متاعا عظيما لم أتوقع أن أجده بكل هذه الغزارة.
لقد تحدث الرجل عن نفسه حديثا قويا صادقا منذ هَلَّ على الدنيا وليدا صغيرا ضعيفا لا يملك من أمر نفسه، مثلنا جميعا، شيئا، ولكن على نحو مختلف بعض الشىء وَصَفَه فأحسن الوصف لم يجمجم ولم يحاور ويداور ولم يحاول التجميل بل سلط مصورته القلمية على نفسه وكأنه كان من الحاضرين ساعة ميلاده فالتقط صورته فى ذلك الحين كأحسن ما يكون الالتقاط: فى غير حزن أو سخط أو ألم أو اعتذار، وفى إيمان بالله سبحانه وحَمْد له، وفى إقرار بالجميل لكل من له جميل عليه، وفى شكر لكل من كان له موقف كريم منه ومن مجيئه للحياة على هذا النحو.
لقد صور أولا الوضع الذى جاء به إلى الدنيا "إذ لم ير الناسُ هذه الحالة من قبل ولا عاصرها ولا حتى سمع عنها ولم يشهد المواقف المختلفة الناشئة عن وجود هذه الحالة الإنسانية... بأصبعيه اللذين تنتهى بهما يده التى لا يزيد طولها عن بضعة سنتيمترات". لقد ولد صاحبها "بلا ذراعين أو بالأحرى بضمور فى الذراعين لا يستطيع معه أن يؤدى كل شيء من ضرورات الحياة مما تعارف عليه الناس، خصوصا وأن اليدين هما اللتان تشبعان حاجات الإنسان عندما يريد أن يفعل معظم الأشياء فى حياته، فهما الأداة الموصلة للطعام والشراب حين يأكل أو يشرب، والوسيلة التى يستطيع الإنسان بها أن يتواصل مع الأشياء والأشخاص، فهو يلبس بها ويكتب بها ويلعب بها، وهى الجناحان اللذان يطير بهما الإنسان فوق الأرض ولو للحظات ليستقيم عوده ولا يسقط فى وهدة الفشل. وهى بالإضافة إلى كل ذلك كمال للشكل الإنسانى الذى يسعد به الإنسان من الناحية النفسية، فعدم وجودهما، أو وجودهما بهذا الشكل الذى سنفصله بعد ذلك، خلق حياة حملت كل ألوان الإبداع الإنسانى فى التحايل على العجز بل وهزيمة هذا العجز وجعله معدوما أو شبه معدوم".
وهو لا ينسى أبدا خالقه الذى يمتحن عباده بألوان الابتلاءات المختلفة، وإن لم يتركهم وابتلاءهم وحدهم، بل يلهمهم الإبداع فى مواجهة هذا الابتلاء. يقول كاتبنا فى إيمان بربه عز وجل مستمدا منه الطاقة والأمل والقدرة والقوة ومرجعا إليه كل شىء: "وهذا الإبداع هو فى الحقيقة إلهام ممن خلق فسوى سبحانه وتعالى".
وعلى نفس الشاكلة من الصراحة والوضوح صور كاتبنا مواقف الناس من الوضع الذى أتى به إلى الدنيا. فـ"الحياة التى عشتُها مع الناس وما رأيته منهم من مواقف لا بد أن تُحْكَى، ولا بد أن يعرف بها الناس لكى تكون لنا دروسا على الطريق، ولكى نعرف بها معادن الناس: ذهبها الأصيل وصفيحها الرخيص. فهناك من كان بطلا بحق وإنسانا بصدق تشبعت نفسه بكل معانى الإنسانية ورسخت فى نفسه مبادئ دين يكرم الإنسان من حيث هو إنسان". وعلى رأس الكرام الذين تقبلوا الوضع بإيمان ورضا وسكينة وشجعوا وساندوا ولم يتخلّ عنهم الأمل يوما "هذا الرجل العظيم أبى رحمه الله، الذى آمن أننى إنسان وأن الله ما دام قد أراد لى الحياة فإنه قد كتب لى القدرة على أن أعيش هذه الحياة، فنفخ فى نفسى روح المثابرة والأمل ورسم لى صورة للطريقين: طريق التعب والصبر والجِدّ والسهر وعدم الالتفات إلى المثبِّطين والمُحْبِطين. ونهاية هذا الطريق احترام نفسك واحترام الناس، ومن قبل ذلك وبعده رضا الله سبحانه وتعالى. والطريق الثانى أن تتكفَّف الناسَ وأن تعيش عالة على من حولك. حينئذ تكون قد أهنت نفسك فتكون هينا على الناس وتصبح أداة لمصمصة الشفاه ودموع أصحاب القلوب الرحيمة، وتكون حينئذ لا قيمة لحياتك. جئتَ إليها وخرجتَ منها بلا أثر يذكر".
وكوالده بل ربما قبله "هذه السيدة العظيمة أمى رحمها الله، التى رأت شكلا لمولود لم تر له شبيها فى دنيا الأطفال على امتداد حياتها. وهذا المولود الذى تراه هو ابن بطنها الذى تخلّق فيها ونما وأصبح جنينا يضرب برجليه الصغيرتين فى أنحاء بطنها وكأنه كان يعلن عن غضب لما قد يراه بعد نزوله إلى ساحات الدنيا الواسعة. جاء بوجومٍ رسَمه شكلُه على كل الحاضرين وبدت اليدان قصيرتين جدا، والأصابع قليلة وقصيرة جدا عن الطفل العادى". بَيْدَ أن تلك السيدة العظيمة كان لها "مع هذه الصدمة الصاعقة" موقف آخر، موقف كله حنان وعطف وحب ورجاء وثقة فى الله الذى أعطى ووهب وكانت له هذه المشيئة. لقد "أخذته هذه السيدة العظيمة التى أضاء فطرتها النقية نورُ بصيرتها وألهمها قلبها الوضيء أن تأخذه فى حضنها ترضعه الأمل وتغذيه بالحب وتغدق عليه الحنان لينشأ سَوِىَّ النفس بلا عُقَدٍ ولا التواءٍ نفسى".
وهذا من أعجب العجب، فهى سيدة ريفية، وربما كانت لا تقرأ ولا تكتب كمعظم الأمهات فى الريف فى ذلك الوقت، ورغم هذا كان موقفها موقفا رائعا فلم تَنْهَرْ ولم تنهزم ولم تسخط ولم تنكفئ على الأحزان بل ظلت فاتحة قلبها للنور متذرعة بشحنات الأمل واليقين والثقة فى الله، الذى قدَّر هذا الوضع لها ولوليدها الصغير الضعيف الذى لم يكن له حينذاك أى حول أو طول مثلنا جميعا فى تلك الظروف. والحق لقد كان قلبى يدق بكل قوة وحب وإعجاب وأنا أقرأ السطور الجميلة التى صور بها المؤلف مشاعر أمه تجاهه فى ذلك الحين.
على أنه لم ينس بقية أولئك الذين كان لهم منه ومن وضعه موقف كريم نبيل مثل "هذه السيدة الوقور المعلمة الأولى أبلة فادية، التى كانت تقدمه على أقرانه لأنه يستحق التقديم وتعامله كما تعامل زملاءه لا تبخسه حقا له ولا تميزه على أحد ولا تميز أحدا عليه إلا ما يستوجبه السبب"، بالإضافة إلى بشر كثيرين وضعهم الله فى طريق حياته وقد زودهم سبحانه، كما يقول صاحب الترجمة، "بالأخلاق العالية والقلوب التى امتلأت جنباتها بالحب ففاضت على هذا الإنسان على رأسهم أمى الثانية (زوجة أبيه)" التى وصفها على النحو التالى المتفرد: "حملتنى فى بطن رحمتها وعطفها، وهى التى جاءت لتكمل المسيرة بعد وفاة أمى الأولى. وهذه سيكون لها فضل الأم، وسيكون لنا معها فى سيرة الحياة مواقفها المضيئة".
على أن أمهاته اللاتى وهبهن الله له لم ينحصرن فى والدته التى أنجبته وخالته زوجة أبيه التى أكملت معه المسيرة بعد موت الوالدة رحمها الله، بل كانت له كما يقول "أمهاتٌ كُثْرٌ: فزوجتى التى حملتنى ورعتنى وقامت بى حياةً ورعايةً وسهرًا هى أمٌّ أخرى حملتنى فى بطن قلبها وعين حياتها حقا وحملت معى الأمانة وحملت أعباء جساما بحق، فهى تقوم بى فى كل صغيرة وكبيرة بحيث أصبحتُ مدينا لها بدَيْن ليس عند أحد من البشر أجره لأن أجره ليس إلا عند من خلق الرحمة فى قلب كقلبها، وأختى التى حملت فى بداية عهدها بالحياة كل حاجاتى، وكانت إذا رأتنى من بعيد تفرّغ نفسها تماما لكل ما أريد. وابنتى، التى ما إن أشير حتى تسرع بالشيء الذى أريد وهى فى أشد حالات الرضا، وابنى الذى يشبهنى فى كثير من شخصيتى بل وتفكيرى، وأحس أننى أرى نفسى تتحرك أمامى لكن فى روح أخرى، وإخوتى الذين جمعنى معهم بيت واحد ودخلنا قلبين معا نستقى منهما روح الحياة والحياء والأدب هما قلب الأب وقلب الأم، هؤلاء الذين أعطونى فى مسيرة الحياة الثقة التى تدفع إلى الأمام. فكل واحد منهم كأنه عُيِّن خادما لى فى كل أمورى. لم يأت على واحد منهم لحظة غضب ولا ضجر ولا قال واحد منهم يوما كلمة تغضبنى، بل كنت أنا الذى أغضب عندما لا يكون ما أريد، والاعتذار يكون من الواحد منهم دليلا على قلوب نقية ونفوس صافية وعلى أب وأم أثمرت تربية لهما فى هؤلاء الملائكة الكرام".
وهنا أقف أنا كاتب هذا المقال لأبتهل إلى الله أن يكافئهم بكرمه العظيم لقاء ما قدموه لرضا الصغير من حب ورحمة ومعونة ومبادرة جعلت حياته سلسة دمثة سائغة على قدر ما يمكن أن تكون عليه الحياة من سلاسة ودماثة وما يجعلها سائغة مستساغة، أبتهل إلى الله من عمق أعماق قلبى وكأنى أنا الذى وقفوا معه وساندوه وأحبوه وقدموا لهم من مشاعرهم ومواقفهم ونبلهم وإنسانيتهم العالية ما قدموا.
وبالمثل لم ينس أ. رضا أصدقاء العمر ورحلة الحياة الذين نشأ معهم وزاملهم وصاحبهم وتربى معهم أو علموه فى المدرسة والجامعة أو رافقوه فى العمل أو كانوا رؤساء له فلم يحس يوما فى رفقتهم أنه مختلف عنهم أو أن هناك شيئا ينقصه، بل كثيرا ما وجد أنهم، بدون أن يطلب، يقدمون له كل ما فى وسعهم منذ كان طفلا صغيرا إلى أن صار مذيعا يجلس على كرسى فى أستديو الإذاعة يخرج منه صوته إلى الدنيا، فيلهج قلبه بالشكر لكل هؤلاء الإخوة والأصدقاء الذين مازالوا يحيطونه بالحب الصادق والمودة المخلصة وفى كل مرحلة من مراحل الحياة.
لقد تعاملوا معه بكل أريحية وعلى نحو طبيعى للغاية، فلم يصدر عنهم ما يمكن أن يعد على أى تفسير إهانة أو إهمالا أو ضيقا. لقد كان فى عيونهم، وكانوا هم أيضا فى عينيه، واستمرت صداقتهم له وصداقته لهم العمر كله شاركوه متعة الحياة بالإخلاص الذى يدل على معدنهم النقى الطيب الأصيل.
وعن صفحات أخرى من كتاب حياته يقول الأستاذ المؤلف: " ثم اتسعت الدائرة حين خرجتُ إلى رحاب أوسع فى مدرسة المساعى الإعدادية فى مدينة قويسنا حيث اتسعت الدائرة بأصدقاءَ جُدُدٍ أصبحوا علامات فى دنيا النجاح والتفوق ليس فى المنوفية فقط بل فى مصر كلها بعد ذلك، مثل إبراهيم عيسى الكاتب والصحفى الكبير والدكتور هشام عبد الرحمن الأستاذ فى كلية طب بنها والمرحوم الأستاذ الدكتور حاتم عبد السميع الأستاذ فى كلية الهندسة والذى كان موته فجيعة لى ولكل جيلى وصديق عمرى الأستاذ أحمد جمال ومواقف لا تنسى فى بيوتهم وبيتى الريفى البسيط وفى حوش المدرسة وفى فصول جمعت قلوبنا البريئة آنئذ. كل واحد من هؤلاء الأعلام، وغيرهم كثير، كان لى معه مواقف تُحْكَى وتُرْوَى، ورأيت منهم دروسا لا بد أن يعرفها الجيل الجديد حتى يعلم أن النجاح والتفوق فى الحياة له معالم لا بد أن ينتهى إليها كل من أرادها وخطب ودها، وأن الأخوة والصداقة لها فى قلوب ذوى المروءة مكان رفيع ومكانة محفوظة.
ثم مرحلة الجامعة وهؤلاء الأعلام من أساتذتى العظام الذين عرفتهم فى قاعات المحاضرات وعرفت بعضهم وجها لوحه إنسانيا كالأستاذ الدكتور حسين فتحى أستاذ القانون التجارى، الذى أصبح بعد ذلك عميدا لكلية حقوق طنطا والذى كان السبب فى دخولى الإذاعة بعد ذلك، وكيف كانت علاقتى بعميد كلية الحقوق الذى أصبح بعد ذلك رئيس جامعة طنطا الأستاذ الدكتور عماد الشربينى والوعد الذى وعدنى به... وأستاذى الأستاذ الدكتور مصطفى عفيفى أستاذ القانون الدستورى وأساتذة كُثْر فى هذه الفترة الخصبة من حياتى حيث كنت معروفا فى أنحاء الكلية كلها إذ كان مجموعى فى الثانوية العامة أكبر مجموع لطالب فى هذه الكلية، والمواد التى صاغت طريقة تفكيرى مثل مادة "أصول الفقه ونظريات الإجرام والعقاب وفقه الأحوال الشخصية والقانون المدنى والجنائى" ودنيا واسعة من إعمال الفكر كانت بمثابة الروح التى عشت بها حياة العقل والفكر بعد ذلك.
ثم مرحلة الإذاعة وموقف لا ينسى بين قامة إذاعية كبيرة وبين من جاء من ريف مصر المهمَّش المهمَل بقصة من قصص الخيال البشرى الممكن، وليس المستحيل، يلتمس مقعدا فى غرفة البث الإذاعى كى يقول ما عنده، وظن أن الأمر هين، ولكن هذه القامة جاءت عنده وخفضت رأسها لتعلن فى أذن صاحبنا بأنك فى عهدى يستحيل عليك أن تكون شيئا عندنا. ولكن الله شاء بعد ثلاث سنين من الشقاء والتعب ومحاولة إثبات الذات بكافة الطرق. هذه القامة الإذاعية الكبيرة رأتنى ضيفا فى برنامج تليفزيونى فنثرتْ على مسامعى فى طرقات الإذاعة الطويلة كثيرا من حروف الثناء المعطرة لتكون شهادة النجاح ممن كان يوما لا يريد لى أن أكون صوتا يغنى للحياة.
وكانت مسيرتى فى إذاعة القرآن ببرامجى التى أصبح لها اسم فى سجل ما قدمت إذاعة هى الأولى التى تسمت باسم الكتاب المبين: "القرآن الكريم". سأحكى وأحكى على مدى حوالى ربع قرن عشتها أمام ميكروفون الإذاعة. سأحكى كيف أصبح المولود بلا ذراعين والذى تمنى أحدهم فى قريته الصغيرة حينما رآه أن يرحمه الله بالموت أول مذيع للهواء فى العالم بهذا الشكل يحلق صوته فى فضاء كوننا العظيم. سأحكى عن أساتذة وزملاء فى فنون الكلمة المذاعة وفى إعلام يحترم عقل المستمع ويقدم له ما يفيده ويقدم له القيم الأصيلة فى أشكال يقبلها ويقبل عليها، وسأحكى أيضا عن مسيرة إذاعة القرآن منذ دخلتُها صوتا يقدم نفسه وروحه وثقافته ووعيه فى خدمة مستمع يريد أن يعرف الطريق أو يستدل على حق يريد ألا يحيد عن سبيله.
محظوظ أنا بأن لى كل هذه القلوب التى حملتنى كما تحمل الأم جنينها حبا ورعاية وحنانا وودا لا يعرف قدره إلا من عاين وشاهد. وهؤلاء كُثْرٌ على امتداد هذا الحياة، وعلى الجانب الآخر هؤلاء الذين وقفوا فى طريقى وأرادوا أن يوقفوا المسيرة لا لشيء إلا لعجز مركب فى عقولهم وقسوة طبعت فى قلوبهم لا يرَوْن فى شخصى إلا العجز لأن اليدين ليست كما عند بقية الناس، فتراهم يؤخروننى حيث أستحق التقديم، وتراهم يبخسون حقى لا لشيء إلا لأننى مطالب بحقى ومتمسك به.
وترى بعضهم نظراته تفضحه أو لفظ يخرج منه يدل على خبيئة نفسه، وهؤلاء سنجد لهم مواقف كثيرة على امتداد هذه الحياة. وما أقسى نظرة العجز التى يصوبها مَنْ مَلَك العجز عليه كيانه ولم يعرف أن العجز فى نظرته تلك. كثيرا ما كنت أشفق على من كان يفعل هذا لأنه ساقط الإنسانية محروم المشاعر قليل العقل خالى القلب. وكثير ما كنت أنفجر فيه لأقتل فيه معنى الغفلة وأثبت بهذا الانفجار حقى فى الحياة. لكن هيهات لمن مات حسه أن تعيده صرخة أو انفجار. قال لى أحدهم يوما: أنت عنيد يا أخى. لن أسمح لك أن تذهب حيث تريد. وكان حقى، وظللت أكافح بعد صبر طويل حتى أصبح هو مَنْ قدمنى بعد ذلك، وأصبح أكثر الداعمين لى. وكثير من هؤلاء سنراهم على صفحات ورق أبيض علَّ البياض يمحو ما كان لهم من سواد النية وسوء الطوية.
وهناك نوع آخر سنصادفه أيضا، وهو الذى يريدنى أن أجلس بلا عمل وأن أعيش بلا قيمة، ويتذرع بأنه لا يريد أن يسبب لى عنتا ولا جلبا لمشقة وتعب. فهذا، وإن كانت نيته حسنه، فعمله هذا يهين النفس التى تريد أن تحيا حياة الكرامة الإنسانية وتعيش كما يعيش الناس من كد أيديهم وثمرة أعمالهم. وهؤلاء سأحكى كيف كنت رفيقا بهم شفوقا على عجزهم عن فهم حقيقة الإنسانية وقيمة الإنسان فى هذه الدنيا.
والذى دعانى أيضا لأكتب هذه السيرة أن يتعلم الناس كل الناس أن الإرادة الإنسانية قد أوجدها خالقها لكى تعمل عملها فتسعد وتسعد الناس حولها. وأردت أن يكون هذا مثالا لمن يضعون أقدامهم على أول الطريق أن النجاح ينتظر من يخوض مثل هذه التجربة سواء كان معوقا أم سليم الأعضاء معافًى.
وهنا قصة لا بد أن أحكيها للتدليل على هذا وهى أن الأستاذ عمرو الليثى قد استضافنى فى برنامج له لكى أحكى عن تجربتى فى الحياة، وبعد إذاعة البرنامج اتصل بى أحد الزملاء فى الإذاعة وقال لى: إن أحد الناس يريد أن يتحدث معك بشأن هذه الحلقة. وجاءنى بعد قليل صوت هذا الرجل، وكان شخصية مهمة، عبر التليفون وعرفنى بنفسه. وبعد التحية قال لى إن لى بنتا تعيش قى الولايات المتحدة وإنها وضعت منذ عدة شهور مولودا بنفس شكلك أنت وبنفس الضمور الذى فى ذراعيك وبنفس الأصابع، فأصيبتْ بحالة من الحزن الشديد إلى أن شاهدتِ الحلقة التى ظهرتَ فيها مع عمرو الليثى فدبَّ فيها الأمل من جديد فطلبت منه أن تتصل بى، فأحسستُ بعد أن كلمتها كم كان لزاما علىَّ أن أنقل صورة هذه الحياة إلى كثير ممن يضعون أقدامهم على أول طريق الحياة.
وهذا ما قصدته من عرض هذه الحياة الزاخرة بطاقات الأمل المشحونة بالطموح المشروع لمن قدم الثمن من جهد وتعب ولكى نقول للناس كل الناس إن الحياة الكريمة لابد لها من ثمن يدفعه كل ناجح: يستوى فيها من كان سليم الأعضاء كاملها أم كان ممن أصابه ابتلاء ".
ثم انطلق قلمه فى الصفحات الأولى فطاف طوفة سريعة بمراحل حياته فى البيت والمدارس والجامعة والعمل متعرضا لموقف كل من حوله من الأهل أو الصحاب أو الأساتذة أو رؤساء العمل تجاهه. وكان كلامه عن أمه وكيف استقبلته على ما هو عليه قويا على مشاعرى، وكذلك كلامه عن أخته وإخوته وحبهم له ومسارعتهم إلى تلبية مطالبه أيا كانت وإيثارهم إياه على أنفسهم. كما شدنى بكل قوةٍ وصفُه لموقفِ مَنْ ثبَّطوه فى البداية وتوعدوه بأنه لن يفلح بل لن يتركوه يفلح ثم عادوا فاقتنعوا بمواهبه وابتهجوا لنجاحه وانقلبوا على أنفسهم وغيروا رأيهم، وموقف من كانوا يفضلون له الابتعاد عن مجرى الحياة وما فيها من مغالبة وصراع رأوا أنه غير مؤهل له أو لا ينبغى فى ظل ظروفه الخاصة أن يرمى نفسه بين براثن مزعجاته المرهقة المكلفة لا كراهية منهم له ولا استصغارا لشأنه بل عطفا عليه وإشفاقا من العواقب التى توهموها وظنوا أنها ستؤلمه. وما أكثر هؤلاء الطيبين بيننا أصحاب النيات الكريمة النابعة من رغبتهم فى راحتنا غير دارين أننا نفضل التعرض للمتاعب، والنجاح فى مواجهتها بغية التلذذ بالفوز عليها والشعور بقوتنا، على الانسحاب من أمامها واللِّوَاذ بعالم الصمت والاستسلام والهزيمة المسبقة.
وما زلت حتى الآن أتذكر كيف كنت أقرأ سيرة هيلين كيلر الذاتية فاغرا فمى من شدة المعاناة التى خاضتها تلك السيدة وخاضتها معها السيدة التى سبَّلت نفسها ووهبت حياتها لكيلر العمياء البكماء الصماء التى لم تكن بينها وبين العالم أية صلة إدراكية حتى أتت هذه السيدة ودخلت حياة كيلر وعملت كل ما فى وسعها وخارج وسعها حتى نجحت أخيرا فى إفهامها معنى "ماء" حين ظلت تحرك يد الطلمبة وتستخرج لها الماء من باطن الأرض وتمسك بيد كيلر فى ذات الوقت وتضعها تحت الماء المتدفق من الطلمبة وتكتب لها على راحة يدها كلمة "ماء" فى كل مرة ينزل الماء على يدها حتى أشرقت على مخها أنوار الإلهام وفهمت أن هذه الكلمة تعنى "ماء". وكانت هذه هى البداية لدخول كيلر العالم قليلا قليلا حتى انهارت الجدران الصماء التى كانت تفصل بينها وبينه من كل الجوانب.
كذلك هناك كتاب "ربع قرن فى القيود"، الذى ألفه المرحوم صبحى الجيار (فى ثلاثة أجزاء) فى أسلوب محكم قوى، والذى رأيته فى يد طالبة من طالباتى فى مدرسة الحلمية الثانوية الجديدة الخاصة قريبا من القلعة آخر شارع محمد على سنة 1971، فاشتريته من سور الأزبكية وقرأته وكنت أشعر بنشوة عجيبة طوال المطالعة رغم أن كل ما فيه تصوير للمقاساة العجيبة التى مر بها المؤلف ومرت معه بها تلك الفتاة المختلفة عنه فى الدين، إذ كانت مسلمة بينما كان هو نصرانيا بالميلاد رغم أنه قد عبر فى الكتاب عن إيمانه بنبوة محمد وعظمته وسموق الدين الذى كلفه الله تبليغه للبشر. لقد كان من قدر الله سبحانه أن يصاب الجيار، رحمه الله، بمرض أدى إلى تيبس أعضائه ما عدا وجهه فيما أذكر الآن واتخذ جسمه وضعا واحدا لا يمكن تغييره، وقضى حياته على ذلك الوضع لا يقف إلى جانبه سوى تلك الفتاة التى ألقى الله فى فؤادها التعاطف الشديد العميق معه والتفانى التام فى خدمته ومساعدته بكل أريحية وإخلاص وحب.
وقرأت منذ شهور عن طالب من إحدى القرى التابعة لمدينة الإسماعيلية فى الثامنة عشرة من عمره بُتِر ذراعاه بعد انفجار محول كهربائى أثناء لعبه بجواره وهو فى الرابعة من عمره، ومر بموقف مؤلم وهو فى سن السابعة عندما رفض مدير المدرسة قبوله، وبعد إلحاح شديد قرر إخضاعه لاختبار ذكاء حصل فيه على 92%. وهو يؤكد أن الفضل فى اندماجه فى الحياة، وتعلمه الكتابة وكيفيه عمل كل شيء بأصابع قدمه يعود إلى والدته، التى تقف بجواره منذ الحادث وحتى الآن، ولا تمل ولا تكل من خدمته، مشيرًا إلى أنه يستطيع أن يعمل كل شيء بنفسه إلا دخول الحمام، الذى يساعده شقيقه فى المنزل فيه، بينما فى المدرسة يوجد صديق له يقوم بهذه المساعدة.
وقبل ذلك بعدة أعوام قرأت عن شاب تونسى فى الثالثة والثلاثين من عمره اسمه أشرف النمرى وُلِد وهو يعانى من ضمور فى الذراعين والساقين، لكنّه تحدى هذا الوضع وتسلح بالإرادة ليبدع لوحات تصويرية رائعة اشترك بها فى معارض محلية وأوربية. وقبل ذلك بعام طالعت تقريرا عن شاب جزائرى فى البكالوريا يدعى: على شعيب نجح بتفوق فى الامتحان مستخدما أصابع قدميه. وهناك رجب عبد المقصود، وهو رجل مصرى ريفى يعانى من إعاقة خِلْقِيّة فى يديه تمنعهما من العمل، فلما كبر درب نفسه على استخدام قدميه فى التحكم بالأشياء بما فى ذلك تناول الطعام والكتابة والخياطة وإصلاح الساعات وقيادة السيارة. وقال إن عملاءه الذين لا يعرفون بأمره حين يدخلون عليه الدكان ويقدمون له ساعاتهم ليصلحها يُؤْخَذون عندما يمد لهم قدمه لأخذها منهم بدلا من يديه. وهو يؤكد بحق أن الإعاقة الحقيقية ليست إعاقة الأعضاء الجسدية بل إعاقة المخ والعقل. وقرأت فى اليوتيوب عن عازف ألمانى، هو فيليكس فليسر، وُلِد بدون ذراعين أصلا. وكان يعزف على البوق (الهورن) فى حفلات عامة حوْل العالم بكل براعة ويسوق السيارة بقدميه ليس إلا.
وكان بين طلابى شاب ذكى يستخدم فمه وأسنانه فى الكتابة لأن ذراعيه ويديه وقدميه لم تكن مؤهلة لذلك، وكان يحب القراءة وصاحب أسلوب قوى ومعتدا بنفسه غاية الاعتداد. وكتب لى فى ورقة الإجابة ذات مرة مادحا إياى فى بداية الكلام لِمَا عودتُهم عليه من حرية فى مناقشتى والاختلاف معى فى النظر إلى الأشياء، ثم مسفِّها عقيب هذا رأيى كله فى الموضوع. وقد أعطيته مع هذا الدرجة النهائية إلا درجة واحدة رغم أن الإجابة لم تغطّ سوى ثلث السؤال ولا أقنعنى كلامه، لكن أعجبنى رغبته فى الاستقلال الفكرى وأسلوبه القوى وشجاعته فى إبداء رأيه، وإن كنت نبهته حين قابلته بعيد ذلك إلى أنْ ليس كل الأساتذة يتقبلون هذا.
وفى موضع آخر من الكتاب القيم الذى فى أيدينا الآن نُلْفِى المؤلف يخصص صفحات للبرامج التى قدمها فى الإذاعة سواء آلت إليه من زميل سابق له فطوَّرها أو كانت من بُنَيّات أفكاره وإبداعاته هو، ومنها البرنامج الذى استضافنى فيه وأهدانى بعده نسخة ضوئية من كتابه: "نقوش على الحجر"، والذى لا أدرى مَنْ دله علىَّ فاستضافنى فيه وأنا غير المعروف جماهيريا. وعن هذا البرنامج يقول: "فى هذا البرنامج: "سيرة ومسيرة" التقيت مع مجموعة من المفكرين الذين يحمل كل منهم رؤية علمية أو فكرية فى الإصلاح بل ويمثل كل منهم حالة نادرة من التفوق العلمى أو الفكرى كل فى مجاله. يمكن أن تتفق أو تختلف مع الطرح، لكن لا يمكن إلا أن تعجب بقصة النجاح الرائعة لكل منهم. ذلك لأنها رحلة مع التعب والسهر والقراءة والبحث حتى وصل كل منهم إلى هذه المكانة. وسأختار منهم مجموعة قليلة للتعريف بهم وكيف تأثرتُ بأفكارهم من خلال حوارى معهم: ففى مجال التربية كان العلامة الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل على، الذى أنشأ أول قسم للتربية الإسلامية فى كليات التربية على مستوى العالم العربى والإسلامى، وأسهب معى فى البرنامج فى الكلام عن هذا الموضوع من خلال كتابيه اللذين يجب أن يكونا العمدة والمرجع فى هذا الموضوع: الكتاب الأول "القرآن الكريم- دراسة تربوية"، والكتاب الثانى "السنة النبوية- دراسة تربوية"، وتلميذه العبقرى الأستاذ الدكتور مصطفى رجب أستاذ التربية والمفكر الكبير والشاعر الذى حصل على رسالتين للدكتوراه درس فيهما الأدب والتربية والدين وأصبح مبرِّزا وعالما كبيرا فى كل منهما، وله رؤية فى نظام التربية والتعليم يختلف تماما عن هذا النظام الذى لا يراعى تربية ولا ينشئ متعلما، والشخصية الثالثة العلامة الكبير الأستاذ الدكتور محمد السيد الجَلَيَنْد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة وصاحب مجموعة من الكتب ترفع اللثام عن قضايا الفلسفة وتعطى للفلاسفة المسلمين حقوقهم من حيث العطاء الحضارى لهم للإنسانية كلها... وهو دائما ما يقول فى مؤلفاته: بحثنا ماذا قال ابن سينا فى الفلسفة، ولَمْ نبحث ابن سينا الطبيب والكيميائى والفلكى، وقرأنا الرازى فيلسوفا، ولم نقرأه طبيبا ولا فلكيا ولا عالما، وعرفنا ابن رشد الفيلسوف المتكلم، ولم نعرفه عالما بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية...".

وعن برنامج آخر من البرامج التى وُكِل إليه تقديمُها قرأت له السطور التالية وأنا واضع يدى على قلبى، الذى خشيت أن يطفر من بين أضالعى قلقا عليه، وكأنى أنا المذيع مقدم البرنامج لا هو، ولم تستقر نفسى إلا حين طالعتُ نجاحه فى التقديم وانطلق صوته وسيطر على أزمّة الموقف كلها. ولكن سرعان ما سرد موقفا آخر حساسا، فانتابنى القلق كرة أخرى خوفا من تعليق سخيف من أحد لا يعى الفرق بين ما ينبغى وما لا ينبغى فى مثل تلك الظروف. ولم أتنفس الصُّعَدَاء أيضا إلا حين انتهيت من قراءة الاقتباس كله. قال: "ومن الألوان الإذاعية التى شاركتُ فيها وأصبحت أحد نجومها هذا اللقاء المباشر مع المستمعين حيث الميكروفون أمامى، والناس شهود فى المسجد. وسواء كان اللقاء على الهواء أو كان مسجلا يكون معى فريق عمل مكون من صوت شجى من الأصوات التى تنقل القرآن الكريم مشخصا بمبناه ومعناه، وهذا الصوت يكون واحدا من مشاهير القراء فى مصر أو على الأقل مُجَازا من لجنة القراء التى تختبر هذه الأصوات وتفرزهم لتخرج إلى العالم أهم ما تتميز به مصر من قوتها الناعمة ممن أصبحوا من أكبر الدعاة إلى الله بأصواتهم الشجية التقية النقية الصافية، ومتحدثا يكون مؤهلا لمواجهة الجمهور والتأثير فيهم بما يحويه عقله من فهم وما يحمله لسانه من قدرة على نقل هذا الفهم إلى الناس بأسلوب يصل بسهولة ويسر لملايين يستمعون إلى الراديو. وفى نهاية هذا اللقاء يكون الدعاء والابتهال لتلاميذ النقشبندى ونصر الدين طوبار، الذى يتفنن فى صيغ الدعاء والمديح من عيون الشعر العربى فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه الصورة الإذاعية كان هناك شيء من التخوف بل والتردد فى دخولى إلى ساحتها خوفا من استقبال الناس لهذا الشكل مما يمكن أن يسبب حرجا، ولكن عندما عُرِض الموضوع وهل أنا قادر على القيام بهذا العمل، خاصة وأنه اختيارىٌّ لمن أراد ولمن يجد فى نفسه القدرة على القيام بهذا العمل الإذاعى الذى يشترط الجرأة والجسارة على مواجهة الجمهور، تلك الجسارة التى يختلف وضع المذيع فيها تماما عن مذيع الهواء الذى يجلس وحده أمام الميكروفون فى غرفة مغلقة ويختلف عن البرنامج الذى يجلس فيه مقدم البرنامج مع ضيفه أو ضيوفه يحاوره أو يحاورهم، أما فى هذه الحالة فإن المذيع يقف أمام جمع كبير يحدثهم وجها لوجه، وفى نفس اللحظة يستمع إليه مستمعوه عبرالراديو ينقل إليهم صورة كاملة عن المكان والزمان وعن الفقرات المقدمة بأسلوب يكون شاهدا على بلاغة صاحبه وعلى إجادته فى توصيل رسالته أو على وعى فى أسلوبه ومنطقه، حين عُرِض الموضوع أبديت استعدادا وقَدَّمْتُ بين يَدَىْ ذلك أننى منذ كنت طالبا فى الجامعة وأنا أصعد المنبر لخطبة الجمعة. لذا فإن مواجهة الجمهور لا تمثل مشكلة، بالإضافة إلى أنى قد حضَرْتُ بعض هذه الأمسيات مستمعا، فتقرر أن أذهب فى أول أمسية لى فى قرية تابعة للمنصورة، وما زلت أذكر اسمها إلى الآن: "ميت الفرماوى"، وكانت فى أكبر مسجد فى القرية، وتقرَّر أن تكون بعد صلاة الجمعة، وكان القارئ معى فى هذه الأمسية من القراء الكبار، وهو فضيلة الشيخ الشحات محمد أنور، ولم يكن يعرفنى. فلما رآنى لمحتُ فى عينيه آثار عجب يخفيه فى اختلاسه النظرات إلىَّ حتى لا يسبب لى حرجا.
وبعد أن انتهت الصلاة وضع فضيلته يده على كتفى وحيانى وضمنى إلى صدره وكأنه قد أشفق علىَّ من الموقف ثم شجعنى بأن الناس تنتظرنى، وقال لى كلمة تدل على ما فى نفسه من حرص على شخصى. هذه الكلمة قالها وهو يرفع عينيه وكأنه يقول: أيها الجواد، انطلق. فأدرت جانبى إلى الكاسيت الذى كان مُعَدًّا بوضع الشريط فى مكانه وضغطت بإصبعَىْ رجلى أمام عيون من يجلسون فى الصفوف الأولى على زر التسجيل وزر التشغيل لكى يتم التسجيل، وبدأت بالتقديم أمام المسجد، الذى امتلأ عن آخره بالذين كانوا فيه أثناء الصلاة وبرواد المساجد الأخرى التى جاءت لكى تستمع إلى الأمسية.
فما إن بدأت، وكنت قد زينتُ فى خزانتى اللغوية بداية أخاذة قوية وحرصتُ على أن تكون عينى أثناء الكلام فى عيون الجالسين أمامى لتكون أكثر تأثيرا، ولكى أزيل بهذا التقديم كل ما يكون من آثار ولو قليلة لنظرة عجز تفرض نفسها على بعضهم، وما هى إلا عبارات قليلة حتى وكأن خدرا قد سرى فيمن يجلسون أمامى قِوَامُه الكلمة المنتقاة والأداء القوى والصوت الجَهْوَرِى الذى يناسب المقام. وبقدر ما رأيت من نظرة عجب رأيت أيضا نظرات احترام وتقدير خصوصا من كتلة الأدب البشرى والاحترام الإنسانى والحَدْب الجميل من القارئ الشيخ الشحات محمد أنور، الذى قدمتُه للتلاوة، فقام أمام الناس جميعا واحتضننى لتكون صداقة وأبوة من هذا الرجل القرآنى الذى أصر أن يقرأ فى عَقْد قِرَانى فى المسجد الذى تربيت ونشأت فيه. وأصبح، وهو من أكبر مشاهير القراء فى مصر فى هذه الفترة، إذا كانت الأمسية معى لا يرفض مطلقا ويكون سعيدا جدا.
وكما كانت أولُ أمسيةٍ انطلاقةً قويةً كانت ما جاء بعدها على هذا الشكل وتلك الصورة حيث تعلمت أن المذيع المسئول عن خيوط الأمسية من قارئ ومتحدث ومبتهل يحدد لهم الوقت ولا يسمح لأحد أن يعبث أو يسيء إلى أحد منهم وأن يكون حازما ولا يسمح لأحد أن يخرج عن دوره وإذا حدث شيء من التجاوز لابد أن يكون حازما وحاسما فى اتخاذ القرار خصوصا إذا كانت الأمسية على الهواء
وأذكر أن بعض القراء الذين لم يتعرفوا إلىَّ ولم يعلموا أنى مذيع الأمسية كانت لهم مواقف لا تنسى لأن شكلى قد لا يوحى لمن يرانى أول مرة أن هذا مذيع إذاعة. أحدهم دخل المسجد، وكان هناك نقل لصلاة الفجر من مسجد نصر الدين بالهرم، وكنت أجلس مع الناس، فجاء وسلم على الجميع، ولم يسلم علىَّ ظنا منه أن هذا الجالس من هؤلاء الذين يَغْشَوْن المساجد لحاجة. وقتها غضبتُ، ولكن كتمتُ غضبى قسرا لأننى أستعد للخروج على الهواء، وقمت من مكانى وأخذت موضعا قريبا منه ووضعت الميكروفون أمامى وهو ينظر وقد أخذه العجب وبدأت فى التحضير مع الفنى: متى سنخرج على الهواء؟ فسأل الفنى: من المذيع؟ فقال الفنى بلغة عامية وكأنه يبكته: "انت ما نتاش شايف الميكروفون مع مين يا مولانا؟ الأستاذ رضا عبد السلام مذيع إذاعة القرآن". فأُسْقِط فى يد الرجل، الذى جاء معتذرا، ولكنى لم أفوت الفرصة وأخذت حقى برد فعل أردته درسا لصاحبنا بأن قلت له: ألم تقرأ الآية التى تقول: "ولقد كرمنا بنى آدم...؟"، فاعتذر الرجل وظل يذكرها بعد ذلك كثيرا كلما التقينا.
لكن هناك مواقف لا تنسى لشدة إنسانيتها كما كان مع القارئ الشحات أنور ومع المبتهل الفنان الكبير محمد الطوخى، الذى لحقتُه فى أواخر سنين عمره والذى كان إذا دخل المسجد وعلم أننى المذيع فَرَدَ ذراعيه من بعيد حتى أصل إليه ويضمنى إلى صدره. وكان عندما أبدأ كلامى فى الميكروفون ينظر لى نظرة إعجاب يعبر فيها عن قلب طيب يحب للإنسان أن يحيا كريما طيبا دون أن تضرّ به عواصف ظلم الإنسان لأخيه الإنسان".
ولا شك أن فى هذا الكلام فوائد كثيرة وجليّة يتعلم منها الإنسان بكل ألوانه وطيوفه، فهى تجارب بشرية وفنية واجتماعية ونفسية نحتاج كلنا إلى الإلمام بها ومعرفة الكيفية التى ينبغى اتباعها بسرعة ورباطة جأش لمواجهتها والخروج مما يصاحبها من مواقف صعبة بل من مآزق بالسلامة التامة أو على أدنى تقدير: بأقل قدر ممكن من المشاكل.
وفى الكتاب كلام عن حب المؤلف الهمام منذ كان طالبا للقراءة فى مجال الثقافة الدينية والأدبية وغيرها، وازداد هذا الحب على نحو خاص بعدما صار مذيعا، وازداد أكثر وأكثر حين أضحى مذيعا مرموقا. ويتفاعل القارئ بكل قوة مع ذكريات الكاتب عن الكتب التى اشتراها: لقد اشترى هذا الكتاب مثلا فى الظرف الفلانى وبالثمن العلانى، وكان ورق الكتاب أبيض اللون أو أصفره، ومن طبعة هذا الدار أو تلك... وهكذا مما نحب نحن عاشقى الكتب أن نسمعه أو نقرأه. وهو يحب كتب الشيخ الغزالى، وأنا أشاركه هذا الحب لما يتمتع به ذلك العالم من أسلوب أدبى مشرق حار ومن ذهن متفتح ومن فكر مستنير ومن فهم للإسلام رحب وعميق.
وإذا كان لى أن أنتهز هذه السانحة وأدلى بدلوى مثله أضيف إلى الغزالى الشيخ شلتوت والشيخ عبد المتعال الصعيدى والأستاذ عباس العقاد، الذى تشربت من كتاباته الاعتزاز الشديد بالإسلام وبالدور العظيم الذى نهض به فى تاريخ البشرية وترقيتها وانتشالها من وهاد الوثنية والتحلل الخلقى والإجحاف بحقوق الضعفاء كالرقيق والأطفال والفقراء والبنات والنساء ومكافحة قوى البغى والعدوان قديما كالفرس والروم، وحديثا كالشيوعية والرأسمالية والاستعمار.
وقد ظهرت ثمار هذه القراءات المتنوعة الرائعة فى فهم مذيعنا لدينه العظيم، فصار يركز على جوهر الدين ومبادئه السامقة ولا يقف كثيرا عند الشكليات التى يغرم بها الفارغون الخاوون مفصِّصو الشعرة على الفاضى ومالئو الدنيا ضجيجا من أجل هذا الشىء التافه أو ذاك مما لا يقدم أو يؤخر لا فى دنيا الناس ولا فى دينهم. وقد ذكر أنه مر عليه وقت وهو شاب فى مقتبل حياته أطلق فيه لحيته ظنا منه أنها من الأمور ذات الشأن فى الدين، وأن أباه لم يكن يشاركه هذا الرأى، وأنه عاد بعد قليل فلم يعد يهتم بالأمر. وأنا مع والده فى هذا، ودائما ما أقول إن الإسلام لم ينشئ اللحية، وإنما جاء فوجدها تقليدا متبعا بين العرب فدعا إلى تهذيبها، وأرى أنها ليست من الدين فى شىء بل مجرد سمت اجتماعى من لم يلتزم به فليس عليه من حرج. وبالمناسبة فهذا ما يفهم من كلام الشيخ شلتوت فى ذلك الموضوع رحمه الله وأنار جَدَثَه.
وقد لاحظت أن أ. رضا قد هَشَّ لكلامى حين قلت له فى إحدى الحلقات التى سجلتها معه من برنامجه: "سيرة ومسيرة" إن الإسلام الذى أفهمه وأدعو إليه ولا أرى لنا نحن المسلمين سبيلا إلى الانعتاق من التخلف والهوان الذى نحن فيه منذ قرون إلا من خلاله هو الإسلام الحضارى الذى جاء به سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام، وإننى أدعو الله أن يوفقنى إلى وضع كتاب عنه صلى الله عليه وسلم باسم "محمد نبى الحضارة" كما وضع قبلا عبد الرحمن الشرقاوى كتابه: "محمد رسول الحرية".
وفى كتاب "نقوش على الحجر"، الذى نحن بصدده فى هذه الصفحات، اقتباسات رائعة من الكتب التى طالعها صاحبه بارك الله فيه. ومنها هذا النص الذى ينفى فيه الشيخ محمد الغزالى رحمه الله ركوب الجن للبشر، وهو ما يصفه العامة بقولهم: "فلان عليه عفريت"، إشارة إلى اضطراب الشخص النفسى أو العقلى. وهذا هو النص المذكور وتقديم الأستاذ رضا عبد السلام له: "ومما أورده (الشيخ الغزالى) من أمراض للمجتمع دفاعا عن هذا الدين الذى أصبح مطية لبعض المنتفعين به على غير ما يريد الله سبحانه وتعالى، وهى مسألة شاعت فى المجتمع المصرى بتأثير الجن فى الإنسان حتى قالوا إنه يدخل داخل الإنسان ويتكلم بلسانه مما يروج له من فقد عقله منهم أو من يريد أن يسرق أموال الناس بهذه الطريقة. وهنا لمح الشيخ الغزالى هذا المرض المستشرى فكتب فى هذا الكتاب وفى مفتتح كلامه عن هذا الموضوع. قال:
طرق بابى رجل يقول إنه بحاجة الى عونى، فقمت لاستقباله وأنا متعب، ودهشت لمرآه، فقد كان عملاقا بادى الصحة، ولم تكن عليه سيماء الفقر! وبدأنى بالحديث من غير مقدمات! قال: إنه مسكون! واستعدتُ ما قاله، فكرر شكواه مؤكدا أنه مسكون! قلت: من سكنك؟ قال: جِنِّى عاتٍ غلبنى على أمرى! فقت وأنا أضحك: لماذا لم تسكنه أنت؟ إنك رجل طويل عريض! فسكتَ حائرا. وأخذت أتأمل فى ملامحه وحالته العامة ثم قلت: ما أظنك مريضا بالصرع. أتعتريك نوبات ما؟ فلم يزد على القول بأنه مسكون.
إن عددا كبيرا من النساء وعددا قليلا من الرجال يجيئنى بمثل هذه الشكاة، وكنت أبذل شيئا من الجهد فى تثبيت القَلِق وتسكين الحائر، وإعادة الاستقرار النفسى والفكرى إلى هذا وذاك. وشعرت بأن الأزمات الروحية والاضطرابات العصبية من وراء الادعاء بأن الجن تحتل هذا الجسد أو تحتكّ بهذا البائس. وربما استعنت ببعض الرُّقَى والتلاوات والنصائح لجعل أولئك المرضى أحسن حالا. وإن تبديد أوهامهم شيء يطول.
وتحدث معى بعض أهل العلم الدينى، وكأنهم رأوْا إنكارى على أولئك المرضى، وقالوا: لماذا ترفض فكرة احتلال الشياطين لأجسامهم؟ كان جوابى محددا: لقد شرح القرآن الكريم عداوة إبليس وذريته لآدم وبنيه، وبيَّن أن هذه العداوة لا تعدو الوساوس والخداع: "واسْتَفْزِزْ مَنِ استطعتَ منهم بصوتك وأَجْلِبْ عليهم بخَيْلكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهم فى الأموال والأولاد وعِدْهم، وما يَعِدُهم الشيطان إلا غرورا". وليس يملك الشيطان فى هذا الهجوم شيئا قاهرا. إنه يملك استغفال المغفلين فحسب: "وما كان لِىَ عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى، فلا تلومونى ولوموا أنفسَكم". وقد تكرر هذا المعنى فى موضع آخر: "ولقد صَدَّقَ عليهم إبليسُ ظَنَّه فاتَّبَعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان". إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب الى المسجد ولا يدفع سكران فى قفاه ليكرع الإثم من إحدى الحانات! إنه يملك الاحتيال والمخادعة، ولا يقدر على أكثر من ذلك...
قال لى أحدهم: هذا صحيح. لكن ما أوردتَه لا ينفى أن بعض المَرَدة قد يساوِرُ بشرا مسلما وينال منه! قلت وأنا ضَجِرٌ: هل العفاريت متخصصة فى ركوب المسلمين وحدهم؟ لماذا لم يَشْكُ ألمانى أو يابانى من احتلال الجن لأجسامهم؟
إن سمعة الدين ساءت من شيوع هذه الأوهام بين المتدينين وحدهم. إنكم تعلمون أن العلم المادى اتسعت دائرته ورست دعائمه، فإذا كان ما وراء المادة سوف يدور فى هذا النطاق فمستقبل الإيمان كله فى خطر. فَلْنَبْحَثْ علل أولئك الشاكين برَوِيّة، ولْنُرِحْ أعصابهم المنهكة، ولا معنى لاتهام الجن بما لم يفعلوا!".
وهذا يذكرنى بطالبة كانت تأتى بين الحين والحين إلى مكتبى بالكلية وتسألنى عن هذا الأمر أو ذاك من أمور الحياة. وذات مرة دخلتِ المكتب ومرتْ بى دون أن تتلبث عندى، وجلست أمام زميل لى يجاورنى فيه وأخذتْ تناقشه لبعض الوقت وأنا منشغل فى بعض أمورى، ولما انصرفتْ أبديتُ له استغرابى أن يستغرقها استفسارٌ علمىٌّ إلى هذا الحد على غير عادة الطلاب. فقال مبتسما: إنها لم تكن تستفسر استفسارا علميا بل كانت تشكو أنها كلما عَنَّ لها أن تقرأ أى شىء من القرآن لم يطاوعها لسانها فى ذلك ولم يستطع أن يتلفظ ولو بكلمة واحدة. قلت له: عجيب! إنها تكلمنى فى أمور الدين والدنيا، ولكنها لم تشر فى أى حديث لها معى إلى شىء من هذا الموضوع من قريب أو من بعيد. فكان جوابه: لقد سألتُها عن هذه النقطة وهل صارحتْكَ بهذا الذى حدثتنى فيه، فكان ردها: إن د. إبراهيم عقلانى ولا يؤمن بهذا الكلام. فقلت له: وهل تعرف بنتُ الحلال هذه كلمة "عقلانى" ومعناها فى هذا السياق؟ قال: والله العظيم هذا ما قالته بالنص. فقلت معقبا وأنا أضحك: اللهم اجعلنى عقلانيا على الدوام. والآن أقول للأستاذ رضا مداعبا: لقد جاءتنا الاتهامات بالعقلانية ودخلنا التاريخ بسببك يا صديقى العزيز، وكنا قبل ذلك نعيش فى ستر لا يزعجنا فيه أحد. ابسط يا عم!
ومن آراء الأستاذ رضا عبد السلام التى تدل على أنه يقرأ قراءة متعمقة ويستخدم جيدا عقله النقدى استخداما رائعا قوله فى الكتاب الذى بأيدينا: "قرأت "سيرة ابن هشام" كاملة. وكنت قد اشتريتها من معرض الكتاب فى إحدى السنوات، وكانت تستوقفنى فيها بعض الروايات، وأُبْدِى اعتراضى عليها: فمثلا أذكر فى رواية من الروايات أن امرأة عرضت لعبد الله والد النبى قبل زواجه من آمنة ورأت بين عينيه نورا فأرادت أن يقع بها، فرفض لأنه لا يفعل هذا الفعل، وهو الزنا، ولما تزوج من السيدة آمنة رجع إليها، وأراد هو أن يقع بها، فرفضت وقالت: لقد ذهب النور الذى بين عينيك. فقلت فى نفسى:كيف يرفض الزنا ويرجع ثانية ليطلبه هو نفسه؟". معك كل الحق يا صديقى العزيز! وكم فى كتبنا التراثية وغير التراثية مما ينبغى أن نتنبهَ له ونفتح أعيننا جيدا ونحن نقرؤه، ونرفضَه بكل قوة وعزم رفضا باتا بلا مثنوية.
وفى الكتاب أيضا سطور كثيرة غاية فى الأهمية كلها عبر ودروس حياتية لا تقدر بثمن على رأسها محور هذا الكتاب العجيب الممتع رغم ما فيه من ألم ومعاناة وعوائق خفف منها ولطَّف من وقعها ما عند بعض البشر من نبل وإنسانية عالية وصبر عظيم وأمل غلاب. يقول أ. رضا عبد السلام عن ليلة ولادته فى أسلوب كله قوة وبسالة وصمود وحيادية كأنه يتحدث عن شخص سواه فى أمر لا يهمه هو، وكل مبتغاه هو توصيل ما عنده إلى القراء فحسب، ويزيد كلامه إمتاعا أن القارئ يطالع فى ثنايا ذلك أشياء كثيرة مما كنا نعرفه فى مجتمعنا من مراسم وعادات وتقاليد ومرافق وآلات وأدوات وتسميات لم تعد موجودة الآن ورحلت إلى غير رجعة. يقول أعزه الله:
"أبدأ بالغرفة التى كانت معلقة فى جانب منها اللمبة البنّور نمرة عشرة تلك التى يتخلل نورها بين ظلام الغرفة، فيبدو النور حولها قويا وخافتا فى جنبات الغرفة الأخرى، وتجلس الداية، ستى خضرة، هذه العجوز التى يبدو فى وجهها رضا، وفى كلماتها طيبة مصحوبة فى نفس اللحظة بيدها تحنو على من تكلمه. أقول هذا الكلام عنها لأنى عاصرتها بعدما كبرتُ وكنت طفلا ورأيت هذا بعينى قبل أن ترحل.
وأستطيع أن أصف ما حدث فى هذه الليلة من هذه السيدة الطيبة الوقور، ومعها مساعدتها دولت، التى شربتْ منها من معين طيبتها ومن إناء خبرتها فأصبحتْ معها فى كل ولادة تتعلم وتتقن وتجرب حتى أصبحت خبيرة بهذا الفن: فن إخراج إنسان من إنسان آخر على سنة الخالق المبدع الله سبحانه، وفى الغرفة أيضا بعض النسوة الأقارب لأمى: منهم الحاجة مبروكة خالتها وزوجة أبيها. وأخذتْ أمى تمشى فى الغرفة واضعة يدها أسفل ظهرها ومقدّمة بطنها بما تحمله أمامها، وقد ارتسمت على وجهها علامات الألم وزغدات الوجع الذى تعبر عنه بصك أسنانها ببطء وتدعو بين الفينة والأخرى: "يا رب! يا رب!"، وجميع من فى الغرقة يعبر عن تضامن معها بكلمة مطمئنة أو ببسمة أمل ونظرة تشجيع تخرجها من جو الألم أو تقوم إحداهن بأن تمسك يدها وتمشى بها فى الغرفة أو تحكى الداية عن فلانة التى لم تحس أبدا بالولادة وأنها ومولودها الآن فى أحسن حال، فتبعث برسالة اطمئنان إلى قلب الأم التى تنتظر نفس اللحظات الصعبة. وخارج الغرفة فى ساحة البيت الصغيرة أو ما يسمى: الدهليز يتجمع الخالات... ويجلس معهم الأب الذى يأكله القلق ويبدأ فى برنامج للتسبيح لله سبحانه وتعالى كى يثبت القلب ويهدئ النفس ويكبح جماح القلق. وقام يتوضأ وصلى ركعتين وجلس جلسته ينتظر ماذا يأتى به القدر، وإن كانت الولادتان السابقتان كانتا فى منتهى السهولة عَلَّ هذه الولادة تكون كذلك. وأخذ يطمئن نفسه بهذه الخواطر التى تزور باله فى هذا الوقت.
... وعندما اشتد وجع الولادة بدأت الأم تخرج أنفاسها بعد أن تملأ بها صدرها ثم تدفعها لتدفع به المولود وكأنها تدفع ثقلا من أعلى إلى أسفل، وأخذت الداية تشجعها وتشد أزرها بكلمات معهودة فى هذه اللحظات مثل "قولى: يا رب!"، وامرأتان كل واحدة منهما تمسك يدا، والأم تحاول أن تدفع وفى نَفَسٍ شديد وصرخة متمكنة، وتدفع بهذا النَّفَس وهذه الصرخة للمولود إلى أسفل كأنهما أمر أن يرفع عنها كل هذا الألم وكل هذا العناء بفرحة النزول، وها هو ينزل على يدى الداية، وجميع العيون فى الغرفة ترقب اللحظة الأولى لهذا القادم الجديد: فمنهن من ترى من قريب كالداية ومساعدتها، ومن ترى من بعيد كاللاتى يمسكن يدى الأم، ومن كانت تجهز المياه للأم بعد الولادة، كلهن عيون على لحظة النزول، والأم تنتظر أن ترى مولودها الجديد. وفى نفس هذه اللحظة سكت الجميع، وخيَّم وجوم وصمت مطبق، وفُتِحت الأفواه جميعا، ولم يشق جدار هذا الصمت إلا صراخ المولود يعلن عن حياة له على الأرض أصبحت، وعن قدرة على التعبير يظهرها صوته الصارخ فى فضاء الغرفة. وبعد لحظات قليلة خرجت من فم الداية، بعد أن تماسكت وثبتت، البسملة وأخذت تردد "بسم الله! ما شاء الله!". ولما وجدت الوجوه الحاضرة قد ألجمتها صورة المولود نظرت نظرات فيها غضب لكل الحاضرات. ولما رأت الأم كل من فى الغرفة قد ألجمه الصمت، وعلى وجوههم نظرة العجب، وبدأت هذه الوجوه فى نفس هذه اللحظات ترسل لها نظرات المواساة وكأننا فى مهمة عزاء وليس فى فرحة ولادة، وفى لحظة صاعقة شديدة أطلق صوت صراخ من الحاجة مبروكة، وكأن المولود قد مات، فنهرتها الداية وطردتها من الغرفة.
ماذا يحدث؟ تتساءل الأم فى نفس اللحظة: إذا كان صوت المولود يملأ أنحاء الغرفة إذن فهو حى. فلماذا إذن تصرخ خالتها الحاجة مبروكة؟ ولماذا تطردها الداية؟ ولماذا هذه النظرات الحزينة؟ وأين الفرحة الواجبة فى هذه اللحظات؟ وسألت الدايةَ ومساعدتها: ماذا حدث؟ فطمئنتها وقالت: إنه مولود جميل. فطلبت الأم أن ترى المولود، فترددت الداية الحكيمة ومساعدتها، التى ربتت على كتف الأم وأخذت تقسم لها أنه بصحة جيدة وأن وجهه يدل على أنه مثل أخويه: حسن وياسر، فلم تطمئن الأم. هنا حملت الداية المولود وأعطته لأمه، ومساعدتها وضعت ذراعها من خلف الأم كى تعتدل فى جلستها حتى تستطيع أن تحمل وليدها. وكانت الداية قد لفت المولود بلفائف كعادة أهل الريف بحيث لا يظهر منه إلا وجهه ونظرت الأم إلى وليدها الذى نزل توا وأحدث كل هذا الصمت، فرأت وجهه وجه طفل أبيض الشكل كأخويه مكتمل أعضاء الوجه ويصرخ صراخ المولود توا، ثم رفعت لفافة من اللفافات فظهر جزء من بطنه. ما زالت الأمور تسير سيرها العادى! ثم رفعت لفافة أخرى لتجد المفاجأة المذهلة وصورة الصدمة: أين يداه؟ أين كفه الذى ينتهى بأصابع؟ أين ذراعاه؟ ما هذا؟
كل هذه الأسئلة وردت على بالها فى نفس اللحظة، لكن أعاد لها الأمل أنه يتحرك وأن شكله هو شكل إنسان طبيعى وأن صوت صراخه يملأ أنحاء الغرفة. فأعادت النظر والفحص مرة أخرى ورفعت اللفافة التى تحيط بصدر المولود فوجدت الذراع اليمنى عبارة عن قطعة من اللحم تتحرك بإرادة المولود طولها لا يتعدى بضع سنتيمترات قليلة تنتهى بثلاثة أصابع تتحرك مع تحرك الذراع القصيرة، وفى الذراع الشمال نفس هذا الوصف إلا أن هناك أصبعين وليست ثلاثة. فنظرت إلى وجه الداية ومساعدتها وكل من فى الغرفة وكأنها تسأل: ما هذا؟ فرد الجميع بالصمت، ولم يستطع أحد أن ينظر إلى الأم فى هذا الموقف العصيب، وأصبحت جميع الوجوه فى الغرفة حائرة ينظر بعضهم إلى بعض ويهرب من لقاء وجه الأم الذاهلة حتى إنها لا تستطيع أن تبكى من هول ما رأت، فهى لم تستوعب الشكل ولا تريد أن تصدق بل تتمنى أنْ لو كان حلما، وستفيق منه بعد قليل. فهى قد توثقت بعينيها لكنها ما زالت فى وقع حدث لم تعمل له حسابا ولا خطر لها فى يوم على بال، والداية ومساعدتها تواصلان عملهما فى تجهيز أمور ما بعد الولادة الخاصة بالأم والمولود.
ومرت هذه اللحظات قاسية على الأم، التى كانت قد أعدت نفسها لاستقبال مولودها الثالث الذى يشعل فتيل الفرحة بعد أن انطفأت بموت آمنة سيدة البيت وعمود الخيمة فيه. وها هى تتمنى وجودها فى هذه اللحظة بحكمتها وخبرتها. لكن هل يستطيع زوجها ابن آمنة ووالد هذا المولود أن يكون بديلا عنها أو تلميذا فى مدرسة الأم آمنة؟
حكى لى أبى هذا الموقف بكل تفاصيله وكيف كان الموقف صعبا، لكن فى نفس الوقت حكى لى كيف يحمى الإيمان صاحبه وماذا يفعل الثبات فى المواقف الحرجة فى نفوس من يعايشون الحدث ومن يكون واجبا عليك أن ترفعهم من وهدة اليأس وتنقذهم من سقوط الفكر والعقل وترغبهم فى نفس اللحظة فى رحمة الله الواسعة حتى ولو كنت مهموما مصدوما.
عندما صرخت الحاجة مبروكة صرختها داخل الغرفة أحس الأب أن شيئا ما ليس طبيعيا حدث بالداخل وهو على الباب يسمع بكاء الطفل وصراخه. إذن فالأم قد أصابها شيء. ولكنه يسمع همهمات الأم ثم سمع كلامها وهى تسأل الداية ماذا حدث، وأصبح لم يطق أن ينتظر، فإذا بالحاجة مبروكة تخرج من الباب وكأنها تهرب ممن يلاحقها فتهيَّب أن يسألها لأن شكلها يوحى بشيء ما غير سعيد بالداخل، فاستجمع قوته وضرب الباب بيده ودخل ورأى خالته خضرة الداية هذه السيدة الحكيمة الطيبة سيدة الموقف ثم نظر إلى زوجته الوالدة فقرأ الذهول مكتوبا على صفحة الوجه ورأى الحيرة وقد تملكت كل الحاضرين ثم أرسل عينيه إلى المولود الذى يخرج صوته مكتوما بعد أن كان منطلقا، وكأنه كان يرى كيف كان الاستقبال له، فتبدى ذلك فى صوته المكتوم. سأل بصوت متهدج: ماذا حدث؟ فتجيبه الداية وسط صمت الجميع: ولد. ها تسميه إيه؟ فنظر إليها نظرة المستفهم عما يرى أمامه من ذهول وحيرة، فأمسكت بالمولود ووضعته على يديه. وما إن حملت يداه الولد حتى أحس بشيء ما من الأمان والسكينة قد حلت فى أنحاء نفسه، لكنه فى نفس الوقت أحس بأن شيئا ما مختلف فى هذا الولد.
هنا سأل الداية، فلم تستطع أن تجيبه، فرفع اللفافات فوجد ما رأت زوجه منذ قليل. هنا ثبت ثباتا يقول هو عنه: لم أعرف من أين جاءنى هذا الثبات. فقام بطبع قبلة على جبين هذا الطفل ثم ضمه إلى صدره وسلمه إلى زوجته التى اقترب منها وقبل جبينها وربت على كتفيها وأفسح مكانا لنفسه بجوارها وراح يمطرها بوابل الأمن والسكينة والثبات، وقال لها أمام الجميع ممن كانوا فى الغرفة بوجوههم الحائرة: الله الذى خلقه، والله هو الذى يوفقه فى حياته. لا تخافى.
فى هذه اللحظة بكت الأم، فأمسك بها وأخذها فى صدره وأخذ يربت على كتفيها ويطمئنها، وتحول جميع من فى الغرفة إلى جانب الزوج تحاول كل منهن أن تدلى بدلوها فى زرع الأمل بقلب الأم بعد أن رأوا قوة الأب أمامهن وثباته. ثم قام الأب، والطفل على يديه، فمشى به فى الغرفة وهو ينظر إليه ثم وضعه بنفسه بجانب أمه وترك الغرفة وذهب مباشرة إلى المسجد الذى يقابل البيت وكأنما أراد أن يخلو بنفسه وبربه فى هذه اللحظات الصعبة فتوضأ ثم دخل إلى ساحة المسجد ووقف يجهز نفسه للصلاة ونوى أن يصلى ركعتين علهما يرفعان عنه ما أهمه مما رأى وعاين من مفاجأة ثبته الله فيها أمام الناس، لكن رغم ذلك فهو يحتاج إلى قوة يعلم يقينا أنها هنا فى المسجد وفى هاتين الركعتين اللتين يعلم أنهما لرفع الهم والحزن، ورفع يديه إلى أذنيه يدفع بهما نزغات النفس وأوهام الشيطان وكبر "الله أكبر" وبدأ فى الصلاة.
وأثناء سجوده جادت عيناه بدمع دافئ، فراح يبكى على أعتاب رحمة الله، وانطلق لسانه بهذه الكلمات: يا رب، أنت خلقته بهذه الصورة، وأنت الذى بيدك أمره. فأعنه وساعده، وأعنا وساعدنا يا رب. وظل يردد ويدعو: "يا رب" عدة مرات وهو ينطق بالكلمات يستدعى شكل الطفل أمامه وهو ساجد حتى انتهى من الركعتين. وبعد أن سلم عن اليمين وعن الشمال أحس بهدوء قد اعتراه وسكينة قد ملكت عليه كيانه وكأن الرسالة قد وصلت، وكأن الركعتين قد آتتا أكلهما، فخرج من المسجد بغير الشكل الذى قد دخل به، وها هو يدخل إلى البيت ومازالت آثار الصدمة مطبوعة فى وجه كل من فى البيت حتى الأطفال الصغار، فدخل على زوجته ومن معها فى الغرفة وقد رسم على وجهه بسمة وفرحة وتفاؤلا كان واضحا فى قسماته التى أضاءت بفعل الركعتين، وأقسم أمام الجميع أنه على يقين أن الله سوف يعينه. وضرب لهم مثلا بطه حسين، الذى كان قد سمع عنه، هذا الذى كان أعمى، ومع ذلك كان وزيرا وكان أديبا كبيرا. وأخذ يتكلم، والكل ينظر إليه فى حالة الذهول التى مازالت حاضرة لم ينج منها إلا الداية ستى خضرة، التى أنهت عملها. وها هى تغادر المكان بعد أن أنهت مهمتها التى لم تشاهد مثلها فى حياتها. وربتت فى حنان وود على كتف الأم، وأخذت ابن أختها عبد السلام فى يدها وخرجت به خارج البيت وأخذت تملى عليه ما يفعله مع زوجته فى هذه الأيام الأولى وألا يتركها وحدها وأن يساعدها فى كيفية التعامل مع الطفل وأن يقويها فى هذه المحنة وأن يتفقا على كل ما يلزم هذا الطفل فى شؤونه، وأمسكت بيده بقوة وعيناها فى عينيه وكأنما تقول له: "اُثْبُتْ وكن رجلا"، وودعته وذهبت".
لقد جاشت عيناى طوال قراءتى وبعد قراءتى لتلك السطور المتفردة التى لا أذكر أنى قرأت شبيها لها فى حياتى الطويلة. وزاد الأمرَ صعوبة عندى أنى حُرِمْتُ أمى وعندى نحو خمس سنوات ثم بعد ثلاث أخرى حُرِمْتُ أبى فى حادث تصادم سيارة وموتوسيكل مأساوى جلَّل حياتنا كلها بالألم، فانضافت أحزانى الشخصية القديمة إلى ما اقتحم نفسى من مشاعر وانفعالات جراء قراءة هذه الفقرات العجيبة.
ومن تلك السطور المتميزة فى الكتاب، وجميعها فى الواقع متميز وفاتن، ما قاله كاتبنا عن جمال عبد الناصر. تعالوا نطالع ماذا يقول: "مدرسة وقرية كفر الشيخ إبراهيم الابتدائية فى أوائل السبعينيات كانت جزءا من مصر الكبيرة المكلومة الحزينة لتداعيات نكسة 1967 وموت عبد الناصر، الذى تغير رأى كثير من المصريين فيه بعد النكسة، ومنهم والدى، الذى كان لا يحب أحدا يتكلم عنه أمامه. قد يكون لأن شيئا ما فى شخصية عبد الناصر قد انكسر فى قلوب من أحبوه وتعلقوا به وصدقوه. هؤلاء البسطاء من المصريين الذين وجدوا فى عبد الناصر واحدا منهم وابن واحد من المطحونين معبرا عنهم وعن أحلامهم، فإذا به مغامر ينتهى به الأمر إلى هزيمة محطِّمة لكل الأحلام، وإسرائيل التى كان يتوعدها بالرمى فى البحر تضرب جنودنا فى سيناء. وأصبحت الأخبار التى كذَب فيها نظام عبد الناصر فى بداية الأمر فضيحة بعد أن اتضحت الأمور، ولا تجد بيتا إلا وعمه الحزن. وصديقه الذى ائتمنه على الجيش يتبرأ من المسئولية بل وينتحر أو يُقْتَل على رأى آخر.
كان كابوسا حقا على المصريين، وخصوصا من وثقوا فى عبد الناصر. ومع ذلك عند موته أذكر هذه الليلة عندما جاء أبى من الجيش حزينا كسيرا لما رآه أمامه فى جنازة جمال عبد الناصر وعجب له: رجل فوق الستين من عمره يلبس جلبابا يبدو عليه أنه من الريف وهو يصرخ بأعلى صوته ويلوح بشال يمسكه فى يده ويقول: "يا ابنى يا حبيبى"، وهو يبكى ويصرخ كطفل فقد أباه أو أمه مشيرا إلى الفقيد عبد الناصر، وسيدة يبدو أنها من الصعيد تولول وتطلق صوتها وكأن ابنها قد مات وتقول: "سايبنا لمين؟". هذا ما رآه وسجله من قريبٍ أبى، الذى كان المعهد الفنى للقوات المسلحة الذى كان يخدم فيه بجانب المسجد الذى دفن فيه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. لذا فقد أتاح له ذلك أن يشاهد هذه الصور شديدة الإنسانية فى هذه اللحظة التاريخية شديدة الأهمية فى تاريخ مصر الحديث وما سجله العالم كله فى هذا الوقت.
وعندما حدث عبور 1973 كنت فى بداية الدراسة الابتدائية، وكانت هناك واقعة لا أنساها تحققتُ منها بعد ذلك عندما هاجم الطيران الإسرائيلى مطار أبنهس العسكرى القريب منا ورأينا الطائرات الإسرائيلية فى الجو. أذكر أن أمى وقتها أخذتنا فى حضنها ودخلت سريعا إلى البيت كما فعل ذلك الأهالى جميعا. وأذكر فرحة أبى الكبيرة وافتنانه بالسادات خصوصا بعد الحرب والدعاء فى المساجد لأولادنا وقنوت الفجر الذى كان الناس يدعون فيه ويطيلون فيه من الدعاء، وخطب السادات التى كنا نسمعها من خلال الراديو. وأذكر الأغانى الوطنية فى هذه الفترة التى كانت تلهب حماس المصريين، وكنا نرددها ونحن صغار فرحا بهذا النصر العظيم".
وعن كيفية تعلم مؤلفنا الكتابة، وهذه أول مرة أتعرف إلى الطريقة التى يتعلم بها بعض الناس كيف يكتبون بأصابع أقدامهم وأتابعها مرحلة مرحلة رغم إيجاز الوصف، يقول مؤلفنا بصدق وواقعية تخلو تماما من أى شعور بالحرج أو التردد: "إن هذه الجلسات (يقصد جلوسه هو وأبيه مع أخويه خلال استذكارهما لدروسهما) قد فتحت لى ولأبى بابا لكل منا: ففتحت لى نافذة للتعلم الأوّلى الذى يكون فيه الطفل متجاوبا مع ما يسمع، وهذا يعطيه الثقة فى نفسه بعد ذلك فى قابل الأيام. وأما أبى فقد فتحت له باب الأمل فى هذا الولد الذى كان مشغولا دائما بأسئلة لم يَدْرِ لها جوابا مثل: هل سيتعلم هذا الولد بشكله هذا؟ هل ستنجح عملية تعليمه؟ كيف سيمسك الكتاب؟ كيف يكتب؟ كل هذه الأسئلة كانت تدور فى أنحاء نفسه، فجاءت هذه الجلسات الأولى لتفتح له باب الأمل لهذا الولد الذى يحفظ مما يردَّد أمامه من عبارات وأناشيد لأخويه ثم لإقباله الشديد على التعليم وحبه لجلسة المذاكرة.
ثم بعد فترة وهو جالس فى جلسة المذاكرة وجد رضا يحاول الإمساك بالقلم بإصبعَىْ رجله: الشمال الكبير والذى يليه لتبدأ مرحلة جديدة. لعل هذا الموقف هو من أهم العلامات فى المسيرة الحياتية على امتدادها لأنه كشف عن وازع يحرك صاحب القدم الذى أمسك القلم بهذا الشكل يقول إنه يريد أن يكون فى واقع الحياة التى يعيشها البشر فاعلا بما عنده من ابتكار يعوض ما فاته من نقص أراده له القدر. وهى فى نفس الوقت، وبنفس القدر، إشارة لمن حوله أننا أمام حالة ممن لا يرتمى فى حضن يأس عارض يقتل الطموح فيه ولا أمام أمنيات ليس لها فى واقع الحياة وجود. علم كل من حولى، وخاصة أبى، هذه الحقيقة. وكعادته لم يفوت فرصة حماس ابنه المتقد، وإنما شجعه وبدأ معه كيف يمكن أن يمسك بإصبعَىِ القدم قلما يخط به على الورق مما يجعل الحياة تفتح الذراعين له مرحبة. وكان الأمر صعبا جدا فى البداية حتى إن الأب قارب على اليأس وخاف من فشل التجربة فقال له: سنجرب فى وقت آخر. لكن رضا ترك أباه وراح يتدرب على الإمساك بالقلم ويعيد المحاولة بينه وبين نفسه: يضع القلم على الأرض ثم يمسكه بالقدمين ثم يفتح ما بين الإصبعين ليدخل القلم ويستقر فى مكانه وأخذ يحاول حتى أجاد تماما كيف تكون عملية وضع القلم بين الإصبعين سهلة، وأصبحت هذه كل شغله.
وعندما أعاود التفكير فى هذا الموقف أعجب: هل الإصرار على النجاح فى هذه الخطوة كان مما عَلِمَ رضا مآلاته بدليل حرصه الشديد؟ لكن كيف يكون ذلك وهو طفل صغير قد لا يرقى فكره إلى تمثل المآلات والمرامى من الأفعال التى يأتيها الإنسان، وخصوصا وهو فى مراحل عمره الأولى؟ لكن قفز إلى ذهنى موقف المعجزة البشرية هيلين كيلر عندما تعرفت على العالم حولها لأول مرة عن طريق معلمتها آن سوليفان فكتبت فى كتابها: "قصة حياتى العجيبة " تقول: "وقامت معلمتى بوضع يدى فى الماء المتدفق، وبينما كان تيار الماء البارد يتساقط على يدى راحت المعلمة تتهجى على اليد الأخرى ببطء أولا ثم بسرعة كلمة "ماء". وقد وقفتُ ساعتها هادئة، وكل انتباهى موجَّه نحو حركة أصابعها، وتكشَّف لى بطريقة ما أحد أسرار اللغة إذ علمت حينئذ أن "م ا ء" تعنى ذلك الشيء البارد الرائع الذى كان يتدفق على يدى. لقد أيقظت تلك الكلمة الحية روحى وأطلقتها من سجنها". وتقول: "لقد تعلمت فى ذلك اليوم عددا هائلا من الكلمات أتذكر من بينها الكلمات الآتية "أب وأخت ومعلم"، وكان من الصعب العثور على طفل أكثر منى سعادة حين رقدتُ فى سريرى فى تلك الليلة ورحت أفكر فى ألوان السرور التى جلبها إلىَّ ذلك اليوم. وإذا بى لأول مرة أتطلع فى شوق إلى طلوع اليوم التالى".
هكذا كان الموقف مع رضا عندما نجح فى تثبيت القلم بين إصبعَىْ رجله: الشمال الكبير والذى يليه. ولأنه كان يعرف رسم الحروف والأعداد مما كان يراه مع أخويه كانت الكتابة ورسم الحروف وكتابتها سهلة بعض الشيء. وعلم أبوه بهذه المفاجأة المذهلة، فكانت ليلة الاحتفال به. لكن كيف سيجلس وهو يكتب؟ وكيف سينظر إلى ما يكتبه وهو بعيد عن عينيه؟ فأجاب رضا عمليا وفى نفس اللحظة بأن وضع الكتاب أمامه الذى سيكتب منه ثم جلس ووضع رجله اليمنى تحت مقعدتيه وأقام رجله اليسرى كالزاوية القائمة ثم جاء بالقلم الرصاص وقد علقه بين إصبعيه، فدهش أبوه: متى فعلت هذا؟ فقال: حاولت عدة أيام حتى نجحت الفكرة كما ترى. وبدا الأب متحمسا جدا وأخذه فى صدره وهو يقبل رأسه ورَبَّتَ على كتفيه وأخذ يردد كثيرا وبصوت عال: "برافو يا رضا! برافو يا رضا!". وترك هذا الإطراء والمدح من الأب أثرا لم يَمَّحِ على مر حياتى.ذلك لأنه أدرك أهمية الخطوة ورمزيتها فى سبيل يعرف هو أنه سيكون شاقا وصعبا، وهذه الخطوة تكون لبنة قوية فى بناء الثقة فى نفس هذا الطفل وفى دفع العجز المتوهم من الناس تجاهه.
ورغم أن هذه المعانى تبدو بعيدة عن ذهن طفل فى مقتبل عمره ولكنها غريزة حب الحياة قد تدفع هذا الطفل لكى يعرف أهمية هذه الخطوة فى حياةٍ كلُّ العيون إليها شاخصة. وبدأ يعلمه كيف يكتب وكيف يحسّن خطه وكيف يضع النقط وكيف يصنع للفاء والقاف رقبة وكيف تختلف عن الميم. واستجاب صاحبنا بل كان يكتب برجله كثيرا على تراب الأرض ما يستحيل عليه حتى يدرب نفسه وينجح فى كتابتها عندما يستقر القلم بين قبضة الإصبعين. وظل كذلك حتى وصل إلى مرحلة متقدمة جدا حيث استطاع أن يكتب اسمه واسم أبيه واسم جده رضا عبد السلام حسن ويكتب الحروف منفردة ويكتب أيضا الأعداد حتى أصبح يكتب ما يكتبه تلميذ فى أول سنة دراسية.
ومن الفكاهات التى كنا نتندر بها ونحن صغار عندما يسأل بعضنا بعضا مثلا: خمسة زائد أربعة تطلع كام؟ فكان كل من زملائى يفردون أصابعهم العشرة ويقول الواحد منهم مشيرا إلى أصابع إحدى يديه الخمس ثم يطبقها ويعد الأربع من اليد الثانية، أما أنا فكنت أقول الخمس وأشير إلى أصابع القدم ثم أعد من أصابع اليدين الأربع الأخرى وأنا أفردهما دون أى شعور بالحرج. وكانت رغم ما تحمله من فكاهة إلا أنها كانت تعبيرا عن البحث الدائم عن البديل الذى لا يقل فى نتيجته وهدفه عن الأصل. وما زال هذا الثناء الجميل من هذا الرجل العظيم والدى رحمه الله يرن فى نفسى وتسمعه أذناى عبر رحلة الحياة كلها: برافو يا رضا! برافو يا رضا!".
ثم تعالوا معا نرى ماذا تخبئ السطور التالية لنا، تلك السطور التى زلزلتنى وجعلتنى والله أبكى رغما عنى، إذ ما إن وصلت إلى قمة تهديدات الأب بقتل ابنه (مؤلف هذا الكتاب العجيب) فى ميدان التحرير إن لم يُقْبَل فى مدرسة القرية حتى وجدت نفسى أشهق على غير إرادتى وتتلاحق أنفاسى وتغلبنى الدموع على عينى وتنساب على وجهى. لقد كانت تعاطفى مع الأم أكبر من تعاطفى مع الأب قبل ذلك، وإن كنت تعلمت درسا عظيما من ذلك الأب حين رُزِق بابنه هذا فذهب إلى المسجد يبث همه وحزنه إلى الله ويبتهل إليه ألا يترك ابنه وحده فى معمعة الحياة بل يرزقه ويوفقه ما دام قد خلقه، فأنا منذ عدة أسابيع أحاول غرس معنى الحمد لله والشكر له مهما جاءت الأقدار على غير مبتغاى، والاطمئنان إلى الغد مهما كانت الهواجس والمخاوف التى تعتلج فى صدرى وتلتهب فى عقلى فتحرمنى النوم أحيانا، وأقول لنفسى: يا فلان، إن لم ينفعك الإيمان بالله فى مدك بالسكينة والرضا فما الذى سينفعك؟ إن صلاة لا تهب لك هذه الطمأنينة لهى صلاة ينقصها شىء كبير! أما الآن فقد كان تعاطفى مع الأب شيئا لا يوصف.
يقول المؤلف بشأن اقتراح أحد المدرسين بمدرسة القرية على الوالد الذهاب بابنه إلى وكيل وزارة التربية والتعليم بشبين الكوم كى يستثنيه من القرار الخاص برفض الأطفال ذوى الإعاقة من قبول أوراقهم بالمدارس: "محطات فاصلة فى حياة كل إنسان تحددها ظروف الحياة التى يحياها كل شخص، وتتفاوت فيها المواقف والأحداث والأشخاص، ولكن يبقى أنها التى يتحدد على نتائجها بشائر المستقبل الذى ينتظر صاحبه غدا: فإما شروق كشروق الشمس، وإما غروب وأفول كظلمة ليل الشتاء عندما يحل فى قريتنا الصغيرة. صلى الوالد صلاة الفجر وجلس بعد أن ختم الصلاة يدعو الله ألا يرجع بولده كاسف البال حزينا. وتذكر رضا حينما وُلِد، وتذكر كيف وضع حبه فى قلبه وقلب والدته وكيف هيأ له وسيلة الحَبْو والوقوف وكيف خرج إلى الحياة محاطا بحبٍّ زرعه الله فى قلب معظم من يراه ثم حرصه الشديد أن يفعل كل شيء مما يفعله أخواه أو الأولاد حوله، ثم قفز إلى إلى ذهنه وهو يدعو هذا الدعاء الذى دعا به وقت أنْ وُلِد رضا: يا رب، أنت خلقته، وأنت يا رب الذى تيسر له سبل الحياة، فدعا به وظل يردد: يا رب! يا ربّ!
ثم خرج ليذهب بابنه إلى شبين الكوم، وكان قد مر على دخول الأولاد المدارس حَوَالَىْ شهر فى سنته الثانية بعد ضياع السنة الأولى التى رفضت فيها إدارة المدرسة دخوله. وأثناء الطريق، والسيارة تطوى الأرض طيا بين أشجار على الجانبين، ظل الأب يتمتم بالتسبيح والتحميد ويدعو الله ألا يخيّب ظنه. ووصل إلى مبنى المديرية ودخل إلى مكتب الرجل وقال لمدير مكتبه إن لديه شكوى يريد أن يقدمها ويعرضها على وكيل الوزارة. فقال له الرجل: هل ممكن أن تكتبها وأعرضها عليه؟ قال له الوالد إنه يريد أن يقابله، وإن هذا الولد له ظروف خاصة كما ترى، وإنه يريد أن يعرض عليه المشكلة بنفسه، وإنه أتى بابنه معه لهذا الغرض. فسمح له بالدخول، ودخل الوالد والولد، ورحب الرجل بهما. وكان يبدو على وجهه آثار الزمن حيث خطوط الجبهة تشى بذلك وانحناءة الظهر القليلة ونظارته العتيقة، لكن استقباله كان لطيفا. وعندما رآنى أصابه عجب ظهر فى شخوص عينيه تجاهى وعن سؤاله المباغت: الولد ده ابنك؟ فرد والدى: نعم هذا ابنى رضا. ثم هاجمه الوالدُ بهذا السؤال الذى يحمل الاستفهام والاستنكار معا: لو حضرتك عندك ابن بالشكل ده ترضى وتقبل إنه ما يتعلمشى؟ فسكت الرجل، فواصل الوالد كلامه وقال: "لو حضرتك لم توافق سوف أذهب لوزير التربية والتعليم. وإذا لم يوافق سأذهب إلى رئيس الوزارة. وإذا لم يوافق سأذهب لجمال عبد الناصر. وإذا لم يوافق سأذهب به إلى ميدان التحرير وأضربه بالنار لأقتله لأن هذا الولد من غير تعليم كأنه ميت. ولأثبت لحضرتك أن الولد ممكن يتعلم، وعنده القدرة اتفضل حضرتك". وأمسك بى الوالد وخلع حذائى ورفعنى على مكتب الرجل وقال لى بعد أن وضع القلم الرصاص فى إصبعى قدمى: اكتب. فكتبت "رضا عبد السلام حسن - مدرسة كفر الشيخ إبراهيم الابتدائية"، فبُهِتَ الرجل ولم يصدق نفسه من هول الموقف من كلام الأب الموجوع بمستقبل ابنه ثم من هذا المشهد الذى لم ولن يتكرر فى حياته: أن يمسك طفل فى هذا العمر القلم بهذه الطريقة ويكتب بهذا الخط السليم الصحيح المقروء الذى يبهر كل من يراه. هنا أمسك الرجل بورقة بيضاء وسحبها دون أن يتكلم، وقد ارتسمت على وجهه سيما الرضا لما سمع ورأى وكتب: "يُقْبَل رضا عبد السلام حسن بمدرسة كفر الشيخ إبراهيم الابتدائية فورا". فلم يصدق الوالد نفسه. هنا دمعت عيناه، فقال له وكيل الوزارة: ابنك هذا تهتم به. فالذى يكتب بهذا الشكل وبهذه الطريقة لا بد أن عنده الكثير. فشكره الوالد وخرج يتمنى لو أن له جناحين ليطير فرحا بعد ما امتن الله عليه بهذا الفرج وبعدما فتحت المدرسة أبوابها لابنه الذى طالما حلم أن يكون تلميذا فيها".
ملحوظة: عاودنى الشهيق الباكى على غير إرادتى حين وصلت فى مراجعة هذه الفقرة إلى تهديد الأب بضرب ابنه بالنار فى ميدان التحرير إن لم تقبله وزارة التعليم تلميذا فى مدرسة القرية.
وفى السطور التالية وصف مبدع من المؤلف لكيفية تعلمه الكتابة بالفم بعد أن التحق بالمدرسة وتبين أن استعمال أصابع القدم فى الكتابة غير عملى بالمرة فى الفصل المدرسى. قال: "كان القلم الرصاص فى بداية معرفته بالكتابة بفمه يوضع على نهاية الفك الأسفل الشمال ويستقر على الضرس الأخير ويُطْبِق عليه الفك الأعلى.لذا فقد كان القلم يهتز قليلا نتج عنه اهتزاز فيما يكتب رضا نتج عنه بالتالى سوء الخط، ولكن كان البحث جاريا بين رضا وبين نفسه. وكذلك كان يفعل فى كل أموره حيث أولا استبدل القلم الرصاص الذى كان يمتلئ عوده بريق فمه مما يجعل التحكم فيه صعبا ومما نتج عنه ضياع الضرس الأخير نتيجة الضغط الدائم عليه بخشب القلم المليء بالماء، فاستبدله بقلم حبر جاف.
ثم جاءته فكرة عندما نظر فى فمه جيدا وعندما تحسس تنظيم أسنانه وتفحص فى تجويف الفم فرأى أن يستغل سِنَّة فى منتصف أسنانه الأمامية كانت طويلة قليلا فجعلها كأنها مسند للقلم من اليمين، والشفتين كماشة قوية ومرنة مع هذا المسند، ومن الوراء يجعل اللسان من ناحية اليمين وحافة الأسنان من ناحية الشمال ليكون القلم مرتاحا فى الفم مع القوة والمرونة اللازمة لكتابة خط صحيح وجميل مقروء بل ومن أحسن الخطوط فى الفصل بعد ذلك.
فما هى إلا شهور قليلة وقد زالت الغمة وأصبح الطريق مفتوحا لهذا التلميذ الذى شاء القدر أن يسكن فمه معجزة من المعجزات التى يستطيع بها هذا الولد أن يواصل مسيرة حياته بلا توقف، وأن تكون هذه الوسيلة فى الكتابة مصدرا للثقة وموئلا للأمان من كل ما يحيطه من تهديد كان يحدث أحيانا ممن كانوا يتمسكون بالنظام والبيروقراطيات التى تريد أن تحرم طفلا بهذا الشكل من حقه فى التعليم من أجل أنه لم يستطع أن يكتب. لكن ها هو جاء يحمل القلم بين فمه وكأنه يقول: لا مستحيل".
والأستاذ رضا عبد السلام مثلى يحب سماع الأغانى، وقد حباه الله بأصدقاء يحبون الأغانى حبه لها، وبخاصة الفصيح منها، وكانوا كثيرا ما يقفون عند هذا البيت أو هذه العبارة أو تلك الصورة فى القصيدة التى يستمعون إليها ويستمتعون بشدوها ويحللون ويتذوقون. ولم أره يثير مشكلة فيما يتعلق بسماع الغناء، بل أورد ذكرياته المتصلة به وبالأشخاص الذين كانوا يشاركونه هذا الميل الجميل بكل أريحية وطمأنينة. ليس هذا فحسب، بل إنه حين التحق فى أول حياته الإذاعية بإذاعة وسط الدلتا من طنطا استخدم طريقة لتقديم الأغانى مبتكرة مع التنويع كل مرة فيها. فمثلا نسمعه لدن تقديمه أغنية مثل أغنية سعاد محمد: "مين السبب فى الحب؟" يقدمها على النحو الطريف التالى: "ترى مين السبب فى الحب؟ القلب واللا العين؟ سعاد محمد تجيب فى هذه الأغنية". الله أكبر. برافو يا رضا! كذلك ألفيتُه يحب الأفلام مثلى.
وهو أيضا من الحافظين للمعروف ولا ينسى الجميل أبدا ولا يترك أى شخص له عليه أو على الناس من حوله أثر طيب دون أن يشيد به ويثنى عليه ويعطيه حقه فى التعريف به. ومتعددة هى الأسماء التى تحدث عنها فى الكتاب بود ووفاء وإعجاب وإشادة بكل عمل طيب عمله أى منهم.
ولكن للأسف، وهنا مفترق الطرق بينى وبين الصديق الظريف المتميز، تبين لى أن أ. رضا زملكاوى هو وأسرته جميعا. أسرته كلها: لاحظوا دون استثناء. إخص على كده! لقد اتسع الخرق على الراقع! لو كان تشجيع الزمالك فى أسرتكم يا صديقى مقصورا على واحد أو اثنين لهان الأمر وقلنا: "أصابعك ليست مثل بعضها البعض"، أما أن تكون الأسرة كلها على بكرة أبيها من جماعة "يا ابيض يا بو خَطِّين، جِبْت الفنّ منِين؟" فهذه خيانة، وخيانة عظمى مما لا يُرْوَى إلا بالدم وللرُّكَب يا أ. رضا، فأنا أهلاوى، وكنت أنتظر منك أن تشجع الأهلى مثلى، إن لم يكن عن اقتناع فمن باب المجاملة يا صديقى. وهل هناك من يعطى ظهره لنادى القرن حتى لو كان قرن فلفل؟ يا صديقى العزيز، أنا أثق فى تحرّيك للحق وقولك الصدق كل الثقة، فهيا أجبنى.
ومن الذكريات الرِّضَوِيّة التى تركت فى نفسى أثرا عنيفا ما قاله عن نتيجته فى امتحان السنة الأولى الثانوية، فقد أهمل استذكار مادة الرياضيات لنفوره منها، وكانت ثمرة ذلك رسوبه فى تلك المادة فى الدور الأول ووجوب اجتيازه لامتحانها فى الدور الثانى بالصيف بعدما جاء فى الإعدادية قبل ذلك بسنة بين صفوف المتفوقين. وقد مر العبد لله، ولكن فى الشهادة الإعدادية (الأزهرية) بتجربة مشابهة، إذ كنت فى فترة المراهقة، وكنت بدأت القراءة الجادة للعقاد والمازنى وأحمد أمين ومحمود تيمور ونظرائهم والمؤلفين الأجانب، ومررت بعواطف المراهقين ومشاعرهم وتفتح قلبى للجنس الآخر وتعلقت من بعيد (التعلق وليس الرؤية، فقد كنت أراها بسهولة وبين إخوتها دون حرج) بفتاة آية فى الجمال والأناقة، وكانت فى سنى. وكان من نتيجة ذلك أن أهملت مادة الرياضيات، وكنت أنام فى حصصها ويأتينى أحيانا، عندما أفيق بعض الإفاقة من النعاس، أصوات الطلاب وهى تتفاعل مع ما يقوله المدرس وتجيب على استفساراته وتحل المسائل التى يكتبها على السبورة، فأغوص فى اليأس والحزن الشنيع. وكلما حاولت بعد عودتى إلى البيت مراجعة المادة واستدراكى ما فاتنى منها شعرت بالضيق وتركت الكتاب، إلى أن جاءت إجازة الشهرين اللذين كان الأزهر يعطيهما لطلاب الإعدادية كى يستعدوا للامتحان، فصارحتُ بحالى زميلا لى شهما هو الأخ سيد زيادة، فما كان منه إلا أن قال بكل هدوء: ولا يهمّك! تعال لى اليوم، بعد أن تعود لبيتك وترتاح، إلى مسكنى فى قحافة (القريبة من طنطا) فى المكان الفلانى عند أم فلان، واسأل وسوف تجدنى بكل سهولة، ولسوف أهديك كتابا خارجيا فى الرياضيات لا تحتاج معه إلى أحد يشرح لك أو يساعدك، فهو يأخذ بيدك تاتا تاتا حتى تصل إلى حل أعقد المسائل بمجهودك وحدك.
وقد كان، وشرعت منذ عودتى إلى القرية أستذكر كل المقررات، ولكن بسرعة شديدة كأن عفريتا يطاردنى لأنى لم أكن قد قطعت فى أى منها مسافة كبيرة بما فى ذلك النحو والصرف والفرنسى، وهى المواد التى كنت متفوقا جدا فيها. وبعد قليل ألفيت مسائل الهندسة والجبر والحساب تفتح لى أبوابها كما يفتح الحصن بوابته لضاربيه برأس الكبش، ثم دخلت الامتحان وأحرزت فى تلك السنة المرتبة الثالثة بين طلاب الجمهورية كلها. وكنت، كما قلت آنفا، قد شرعت فى القراءة الجادة فى ذلك العام، فاستطعت أن أتحذلق وأتفلحس فى مادة "الإنشاء"، أى "التعبير" بمصطلح هذه الأيام، وأكتب 135 سطرا حتة واحدة فى مقابل 13 سطرا فقط العام الماضى وبالتِّيلَة. فلما قلت ذلك على سبيل المفاخرة لزملاء القرية أمام المعهد الأحمدى بجوار محطة القطار فى طنطا فى فترة الاستراحة بين الامتحانين انبرى فى الحال أحدهم مبشرا لى بالرسوب لأنه غير مسموح فى تلك المادة بكتابة أكثر من 15 سطرا، فغاص قلبى فى رجلى وقلت فى نفسى لنفسى: يا خيبتك السوداء يا أبو خليل! هذه آخرة الفلسفة والفلحسة! ولكن سرعان ما مسح الله على فؤادى بيد السكينة والطمأنينة وعدم المبالاة بهذا الكلام الإبليسى.
ورغم تفوقى فى ذلك العام ظللت لسنين غير بعيدة يأتينى فى المنام، على صور شتى، كابوس الرياضيات فى امتحانات "الكلية" أو فى امتحانات "الثانوية العامة"، رغم أنى صرت أستاذا جامعيا فى اللغة العربية وآدابها ورغم أنى لم أدرس الرياضيات بعد السنة الأولى الثانوية. والعجيب أنى طول عمرى كنت "لهلوبة" فى الرياضيات ومعروفا بذلك بين زملائى. وعلى كل حال شكرا لمؤلفنا الهمام أنه أتاح لى، وإن كان على غير قصد، الكلام عن تجربة من تجاربى مشابهة لتجربته. وكلنا منه ومن تجاربه وكتابه هذا المتفرد الجميل نستمد ونتعلم! مَدَاااااااااااااااااااااادْ!
ومما يلفت الانتباه بكل قوة واستحقاق فى كتاب صديقنا العزيز العناوين الجانبية فى ذلك الكتاب، فهى تعكس براعة الكاتب فى صياغة العبارات النى تستولى على اللب مثل "الجرن والنورج والساقية"، "صُول فى سواحل السويس"، "برافو يا رضا"، "أُمٌّ جديدة"، "باب 4 (نفس الباب الذى دخلتُ منه عند تسجيل حلقاتى مع المؤلف فى إذاعة القرآن الكريم)، "أخصائى متابعة برامج وعجلات المترو"، "إذاعة وسط الدلتا"، "سعيد العيلى.. جسر الوصول"، "حلمى البلك.. ماذا تفعل يا بنىّ؟، تسَلُّف (السير على خطا السلفيين)"...
وسنأخذ الآن مثالا على ما نقول لنرى مدى تواؤم العنوان وما كُتِب تحته. وليكن أول العناوين التى اخترناها، وهو "الجرن والنورج والساقية": "منطقة واسعة من الأرض الفضاء كانت توجد فى الميادين الكبيرة فى القرية يسمى كل منها: "جُرْن" يضع فيها الفلاحون زراعاتهم: فمنهم من كان يضع القمح أو الشعير أو الفول بعد الحصاد، وترى الخير يعم فى كل هذه الميادين لأنه وقت حصاد ما تعبوا فيه عدة أشهر. وكانت هذه المحاصيل بأعوادها وما فيها من حَبٍّ تُلْقَى فى الجُرْن بطريقة دائرية على امتداد الميدان أو الجرن، ويأتى النورج، وهو آلة من الآلات الزراعية التى كانت بمثابة أريكة أو كنبة عريضة من الخشب على كل جانب من جانبيها يد خشبة كبيرة يمسك بهما الجالس على النورج، أسفلها عجلات حديدية حادة يشدها حمار أو بهيمة، ويجلس عليها الفلاح، فتبدأ العجلات فى تقطيع العيدان: عيدان القمح أو الشعير أو الفول حتى تصبح تبنا تأكله الحيوانات، ويأخذ الفلاح حبات القمح أو الشعير أو الفول بعد أن يرفع التبن. هذه الآلة كنا نركبها ونجلس عليها بعد أن تؤدى عملها، وكان الفلاح فى هذا الوقت تراه فرحا بمحصوله الذى يعيش به هو وأولاده لأن الفلاح وقتها لم يكن يبيع القمح، وإنما كان خزين بيته من الخبز الذى كان لكل بيت من البيوت صومعة يوضع فيها قمح العام مع مادة لا تسمح بأن يصل إليه السوس والعفن لأن القمح إذا وُجِد فإنه يرفع الجوع حتى ولو لم يكن معه طعام آخر.
وكان هناك جرن القطن الواسع الكبير وقت أن كانت مصر قبلة القطن طويل التيلة فى العالم كله، وكانت تتجمع فيه أكياس القطن التى لا عَدَّ لكثرتها على كل كيسٍ اسمُ صاحب القطن ورقم الكيس والموازين والموظف المُوكَل إليه الوزن. ولم يكن هذا الميدان أو الجرن بعيدا عن بيتنا، فكنا نذهب إليه لنرى هذه الصور التى تتكرر كل عام فى هذا الوقت، ونرى وجوه الفلاحين المتطلعة للأموال التى يحصلون عليها بعد زرعة القطن الذى عاشوا معه زراعة وريًّا وحصادا، هذا الحصاد الذى كان الواحد منهم يلبس جلبابا واسعا ثم يربطه عند خصره ويضع القطن الذى يجمعه فيه حتى يمتلئ فيفرغه فى المكان المخصص ثم يرجع ليعيد الكَرَّة. هكذا طَوَال اليوم فى حر الظهيرة الملتهب. لذا فهو يتطلع ليأخذ ثمن تعبه فى محصول القطن الأبيض فى هذا الجرن: جرن القطن، وترى أثر ذلك فى حياته وفى أولاده.
وعلى حواف الحقول والغيطان ترى الساقية التى كانت فى نهايات عمر خدمتها للفلاح والتى كان الفلاح يسخّر فيها البهيمة أو الحمار بأن يضع على رقبته خشبة ثقيلة تسمى: النِّير تنتهى إلى عمود الساقية، ويوضع على عينى البهيمة الجاموسة أو البقرة غطاء سميك كان يسمونه: "الغُمَا" (بضم الغين)، ويضرب البهيمة، فتلف فى شكل دائرى لترفع المياه إلى قناة صغيرة ثم تجرى هذه المياه حيث يريد الفلاح. وتجد الفلاح يقف بجانب البهيمة كلما وقفت ينادى عليها بأن تواصل بقوله بصوت أجش: "عااا"، فتستمر فى الدوران حتى يروى زرعه. هذه المشاهد رأيتها وعشتها فى سنوات عمرى الأولى مشاهدة من بعيد حيث لم يكن أبى فلاحا، ولكن هذا هو المجتمع، وهذه صوره التى طُبِعت فى ذهنى وطُبِعت معها صور للأرض وللناس وللزرع الأخضر والآلات الزراعية البدائية بالقياس لما ظهر بعد ذلك، فكان لذلك إدراك أن لكل زمن حاجاته ونظمه وآلاته، وأن الزمن والناس والأيام فى تطور مستمر، وإن كان هذا التطور لم يقابله تطور وتجويد فى الأخلاق والمبادئ، بل قد يكون العكس هو الصحيح. وسنرى مع السنين والأيام".
وهذا، كما هو واضح بيّن، وصفٌ لأشياء اختفت من حياتنا ولا تعرف الأجيال الجديدة عنها شيئا، وسيكون كتاب رضا عبد السلام مرجعا يدل أولادنا وأحفادنا فى مستقبل الأيام والأعوام عليها. والكتاب مفعم بوصف الأشياء الأخرى التى يتعامل معها أ. رضا عبد السلام فى الإذاعة وفى البيت وفى وسائل المواصلات وفى المدرسة وفى الحقل. وهى كثيرة، وبعضها سبب له مشاكل كان يمكن أن تقضى على تطلعاته فى العمل بالإذاعة، وإذاعة القرآن الكريم خصوصا، وعلى وجه أخص الإذاعة على الهواء، أى البث المباشر الذى لا يقبل نقضا ولا إبراما بل متى خرجت الكلمة من فم المذيع لم يعد من الممكن إعادتها أبدا إليه، على عكس الإذاعة المسجلة التى يمكن أن تراجَع مرات ومرات، فيقدّم هذا على ذاك، ويحذف هذا ويضاف ذاك... إلخ فلا يسمع المواطن شيئا إلا ما كان مرضيا عنه مسبقا، ومن ثم فلا مشكلة فى أى شىء.
وفى الكتاب فصول بلغت حدا عظيما من الروعة حكى فيها الكاتب بصراحة شديدة المراحل التى مرت بها حياته الوظيفية منذ اشتغل مذيعا بإذاعة وسط الدلتا بطنطا حتى انتقل إلى القاهرة وصار رئيس إذاعة القرآن الكريم. وهنا لا أستطيع أن أمسك نفسى عن الإشارة إلى ما كان أبى يقوله لنا أنا وإخوتى فى طفولتى حين نسافر معه إلى طنطا من أن الحكومة سوف ينشئون إذاعة فى تلك المدينة، وكيف كنا نشعر بالسعادة وننتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر. كان ذلك فى السنوات المبكرة من خمسينات القرن الماضى، ولم يكن ممكنا أن يخطر لى ببال أن الأيام سوف تدور وأتعامل مع أحد مذيعيها ولكن بعد أن بلغ رئاسة إذاعة القرآن فى القاهرة لا فى إذاعة وسط الدلتا بالمدينة التى تلقيت فيها تعليمى الأزهرى فى المعهد الأحمدى، وتعليمى الثانوى بالمدرسة الأحمدية.
وقد تناول أ. رضا خلال حديثه عن عمله بالإذاعة امتحانات القبول التى أداها والممتحنين الذين سألوه والإجابات التى رد بها على أسئلتهم والأشخاص الذين وقفوا معه والأشخاص الذين وضعوا العراقيل فى طريقة سواء منهم من غيروا موقفهم بعد ذلك أو بقوا على ضيقهم به وكراهيتهم لنجاحه، والدورات التدريبية التى أخذها لتحسين قدراته فى العمل الإذاعى صوتا ولغة وثقافة وحسن تصرف.
وقد أورد المؤلف المبدع أسماء عدد من كبار المذيعين ممن تعامل معهم كفهمى عمر وفاروق شوشة وحلمى البلك وهاجر سعد الدين، التى لم أكن قبل قراءتى كتابه هذا أستطيب طريقتها فى الكلام الإذاعى وأجده غريبا جدا ومتكلفا أشد التكلف، لكنى أحببتها جرّاء ما قاله رضا عبد السلام فى حقها من أنها كانت إدارية صارمة وشجاعة لا تخشى أحدا وعادلة وتعطى كل ذى حق حقه، وأنها كثيرا ما شجعت كاتبنا وأعلنت ثقتها بقدراته وأتاحت له فرصا للعمل والسفر كان لها أثر طيب فى حياته.
وبالمثل هناك عدة صفحات قص فيها علينا الأستاذ الكاتب رواية زواجه فأبدع وحلق عاليا فى السماء، وعرض صورة لزوجته نقية صافية كريمة ليس فيها مكان لخدش أو بقعة ولو تافهة، وهى صورة يحسده عليها الرجال، وتحسدها عليها الفتيات والنساء، فهى حيية متدينة جميلة هادئة دمثة الطبع تحب الآخرين ويحبها الآخرون شجاعة فى مواجهة أبيها، الذى كان قد وافق على كاتبنا العزيز زوجا لبنته ثم، كما توقع والد عمنا الكبير رضا عبد السلام، رجع عن موقفه وصار ساخطا على هذه الزيجة ويريد أن يهدها كأنه لم تكن هناك خِطْبة ولا اتفاق ولا موافقة، وزاد الطينَ بِلَّةً بأن خاض فى شخصية عمنا الكبير بما لا يصح وما لا يليق، فقامت القيامة وانقسم بيت العروس على نفسه فريقين: فريقا من شخص واحد هو الأب، الذى حرضه على الرفض والتراجع بعدما بَثَّ سموم كراهية الخطيب فى قلبه طبيبٌ فى القرية، وفريقا يضم الأم وأمها والعروس ذاتها وبقية أهل القرية، وهو فريق المحبّذين للخِطْبة المحبين للخاطب حتى لقد أعلن أحدهم أن الأستاذ رضا لو أشار بإصبعه إلى أى بنت من بناته لزوجها له فى الحال وأعطاهما شقة فى بيته. والحديث فى هذه الرواية يطول، وكان الكاتب صريحا كعادته لم يجمجم ولم يُوَرِّ ولم يتحرج من كتابة أى شىء يمسه بالسوء مهما كان من فداحته.
وأخيرا فهذا الكتاب لا يقل عن كتاب هيلين كيلر بل ربما فاقه، على الأقل لأنه قد كتبه شخص نعرفه، وعالج موضوعا مصريا صميما، وعرض لمسائل شديدة الحساسية وبجرأة نادرة لم نتعود عليها من مؤلفين فى مثل ظروف أ. رضا عبد السلام فى الحديث عن أنفسهم. وأما كتاب "الأيام" لطه حسين فيتميز عنه كتابنا بما فيه من صراحة لم يبلغها قلم طه حسين، وفى نفس الوقت يخلو مما فى كتاب طه حسين من الانتقاد الحاد للأب والأخ والأساتذة على عكس موقف كاتبه من المستشرقين والمبشرين، إذ كان رضا عبد السلام حريصا فى كتابه الذى نحن بصدده على إسداء الشكر لكل من أحسن إليه حتى ولو كان الإحسان بكلمة أو بنظرة أو بتربيتة على الكتف، كما أن كلامه عن أبيه وأساتذته هو كلامٌ من أروع الكلام وأجمله وأعظمه حبا ولياقة واحتراما، فضلا عن حمد صاحبه دائما لله. شىء واحد يتفوق فيه كتاب طه حسين بلا جدال، وهو الأسلوب. ولو أعاد أ. رضا النظر فى لغة الكتاب وجعلها أكثر إحكاما لازدادت لغة الكتاب جمالا وحلاوة.
وإنى لأحث المؤلف حثًّا على العمل بكل ما فى وسعه لنشر كتابه هذا الفاتن ولو فى صورةٍ مُبَدَّفة (بى دى إف) على مواقع المِشْباك (النت) المختلفة. بل يا ليت أحد المنتجين أو المخرجين أو الممثلين يتنبه إلى قيمة هذه السيرة الذاتية المتفردة ويحولها إلى شريط خيالة (فلم)، إذن لنجح هذا الشريط نجاحا هائلا يعيش على مدى السنين دون أن يخبو له بريق.
نعم ينبغى أن يعمل أ. رضا على نشر هذه السيرة الذاتية بأسلوبها الملتهب المباشر وصراحتها وشجاعتها، وكلى ثقة أنها سوف تكسب أرضا واسعة ويقبل عليها القراء ذوو العقول الكبيرة والقلوب النبيلة إقبالهم على سيرة طه حسين وهيلين كيلر وأمثالهما. وأنا، كما قلت آنفا، كلى ثقة فى نجاح كتاب أ. رضا فى شد القراء وإلهامهم معانى الرضا بالقضاء والصبر الجميل وطول النَّفَس والاجتهاد فى الترقى بالذات والعمل على تحقيق المطامح الكريمة دون ملل أو كلل والتذرع بالتفاؤل والعلو فوق المرارات والأحقاد، وقبل ذلك كله الإيمان بالله الكبير المتعال الرحيم الحكيم. وهو نفسه قد أشار، كما سبق القول، إلى لقاء تلفازى له فى أحد البرامج شاهدته بالمصادفة سيدة مصرية رزقها الله بطفل تشبه حالته حالة صديقنا، وكانت قبل ذلك ساخطة ضائقة بالدنيا وما ابتلتها به الأقدار، لكنها بعد مشاهدتها اللقاء ومهاتفتها المؤلف تغيرت نظرتها ومشاعرها وتبدلت حالها بعد اليأس والإحباط والحزن المُشِلّ أملا ورضا وتقبلا لما رزقتها به أقدار ربها. وقد اتصل أبوها بالأستاذ رضا وأنبأه بهذا كله وشكره على ما ترك حديثه مع المذيع فى نفس ابنته من مشاعر جميلة حولت حياتها تحويلا وصارت تنظر إلى طفلها نظرة جديدة جميلة. وقد ذكر كاتبنا هذا وهو سعيد، فأسعدنا معه ومع تلك الأم.
بقى أن نقول إن رضا عبد السلام قد حصل على ليسانس الحقوق عام 1987، ثم أضاف إليه بعد ذلك ليسانسا آخر هو ليسانس الدعوة الإسلامية بالأزهر. وسوف أتركه يقول لنا ذلك بعبارته وأسلوبه المميزين: "وفى منتصف التسعينيات علمت أن جامعة الأزهر تتيح للحاصلين على شهادة جامعية من التعليم العام الفرصة للتقدم للحصول على ليسانس دعوة إسلامية أو أصول دين، فالتحقت أنا وأحد أصدقائى بكلية الدعوة الإسلامية كدراسة منهجية للدين. وبالفعل كانت دراسة منهجية للعلوم الإسلامية كعلم التفسير وعلم الحديث وأصول الفقه والنحو والصرف الذى دَرَسْنا فيه كتاب "شُذُور الذَّهَب" لابن هشام وكذلك معظم "ألفية ابن مالك" بالإضافة إلى مقررات الأدب التى كانت تُخْتَار من عيون الأدب نثرا وشعرا، وانتهيت منها عام 1999. وكانت هذه شهادة الليسانس الثانية فى حياتى بعد ليسانس الحقوق عام 1987".