آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مع رواية "تحت الأرض" لفايزة شرف الدين - بقلم إبراهيم عوض

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي مع رواية "تحت الأرض" لفايزة شرف الدين - بقلم إبراهيم عوض

    رواية "تحت الأرض"
    لفايزة شرف الدين
    بقلم إبراهيم عوض
    "تحت الأرض" رواية حديثة الصدور للكاتبة فايزة شرف الدين، وتدور فى الأساس حول الاعتقادات الشعبية المتصلة بما يتصوره عامة الناس وأشباههم بشأن قيام عشق وزواج بين واحد من البشر وواحدة من بنات الجن، وهو ما يطلقون على الرجل فيه: "مُخَاوٍ"، أى له عشيقة أو زوجة من الجن. وقد ذكرت المؤلفة لنا فى إحدى الندوات الخاصة فى نقابة الصحفيين بأنها بنتْ روايتها على حكاية من تلك الحكايات قصها عليها زميل لها، فأخذت تلك الحكاية وشيدت عليها رواية كاملة توسعت فيها وأضافت إليها وأكثرت من التفاصيل إكثارا وأطالت فى سرد الأحداث وإيراد الحوارات وأتت بشخصيات وطافت ببلاد ليس لها أى وجود فى الحكاية الأصلية. وكان لا بد أن يكون هذا، وإلا لظل ما كتبتْه حكاية كالتى سمعتْها. ومعروف أن القَصّاص يستقى إبداعه من الواقع الذى يحيطه أو يقرؤه فى الكتب أو يشاهده فى الأفلام وما أشبه، ثم يسلط عليه خياله إضافةً وحذفا، وتقديمًا وتأخيرا، وتصغيرا وتكبيرا، وتوسيعا وتضييقا، وتوضيحا وتغميضا، وتعقيدا وتبسيطا، وتركيبا وتفكيكا، وتفصيلا واستدراكا، مع مزج هذا كله فى خلطة إسمنتية أدبية يشكِّل منها بناء قويا مُرْضِيا، فيأتى بشىء يبدو جديدا. وهو ما اجتهدت السيدة المؤلفة فى عمله.
    وقد كنت كتبت قبل أسابيع مقالا طويلا عن عناوين الروايات والعنوانيين، أى الذين يزعمون بشأن العنوان الروائى المزاعم، إذ يقفون إزاءه ويدّعون أنه يكشف للقارئ عن كذا وكذا فى الرواية قبل معرفته بكاتبها ودخوله فيها وتلاحمه مع أحداثها وأشخاصها. بل إن بعضهم يذهب فيتشدق ويتحذلق مُعْرِبا العنوان قائلا مثلا إنه خبرٌ مبتدؤه محذوفٌ تقديره كَيْت وذَيْت، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُه كذا أو كذا، أو إن العنوان اسم مفرد أو جار ومجرور أو جملة فعلية أو اسمية تتناغم مع نص الرواية وكثرة تردُّد هذه التركيبات فى لغتها، وكأن معاليه قام بإحصاء هذه الأشياء فى الرواية وثبت له هذا التناغم المُدَّعَى، مع أن معنى العنوان ومدى ارتباطه بالعمل الروائى لا يتضح إلا بعد الفروغ من قراءته ولا يمكن، ولا حتى بضرب الودع أو الخَطّ فى الرمل، معرفة شىء من هذا قبلا. وهو ما يثبت أن من يقول بهذا وهو يتطوح وينظر إلى الأفق البعيد كما لو كان يستشف الغيب من عالم الأرواح الشاردة هو "هَجَّاص" من الطراز الأول والأخير.
    ولكى أبين للقارئ الكريم أنه هجاص، وهجاص قرارىّ ككل الذين هم على شاكلته من جماعة "عتبات النص (غير المقدسة)"، أسأله هو وأحبابه: ترى كيف يدل عنوان "تحت الأرض" على موضوع الرواية قبل مطالعتنا لها؟ أتراه يشير إلى القطارات التى تجرى تحت الأرض، وهى بالمناسبة تُدْعَى بالإنجليزية: "underground"؟ أم تراه يشير إلى الشقق التى تكون أخفض من مستوى الشارع ونسميها فى مصر بـ"البدروم"؟ أم تراه يشير إلى جثث الموتى فى مدافنها تحت الأرض؟ أم تراه يشير إلى الكنوز والآثار المطمورة فى باطن الأرض وتحتاج إلى من يكشفها ويستخرجها؟ أم تراه يشير إلى أساسات أى مبنى وقواعده تحت الأرض؟ أم تراه يشير إلى ما جاء فى الدعاء المشهور التالى: "اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض"؟ أم تراها تشير إلى المدن المبنية تحت الأرض فى بعض البلاد؟ أم تراه يشير إلى ما لا يمكن الآخرين الوصول إليه مما نخفيه بعيدا عن أعينهم وأيديهم كما فى قولنا: "تحت طقاطيق الأرض"؟ ولا يصح أن ننسى أن هناك سجونا ومعتقلات تحت الأرض فى كثير من الدول. وبالمثل ثم ملاجئ وتحصينات تحت الأرض يحتمى الناس بها أثناء الحروب. وكان أنور خوجة الشيوعى مهووسا ببناء ما يشبه المدن تحت الأرض فى كل مكان بألبانيا حين كانت منكوبة بحكمه لها منذ منتصف أربعينات القرن البائد إلى منتصف ثمانيناته. ونقرأ الآن كل يوم أن لمنظمة حماس مدينة تحت الأرض فى غزة يطلق الصهاينة عليها "مترو حماس" لا يستطيع أحد غيرهم أن يشق طريقه فيها لأنها عبارة عن متاهة جد عميقة وجد معقدة فلا يعرف أسرارها سوى من تمرس بها تمرسا طويلا... وهلم جرا. فكما ترى فإن عنوان "تحت الأرض" لا يدل على شىء محدد بل هو كلام عام. وهذا هو ديدن العناوين الروائية، اللهم طبعا إلا إذا جعل الكاتب عنوان روايته تلخيصا لها، وهذه ليست مهمة العناوين. كما أن الروايات بطبيعتها لا تقبل أن تكون عناوينها تلخيصا لموضوعها، وإلا أضحت بحثا علميا لا رواية إبداعية، فضلا عن أن تلخيصها مقدما يفسد الاستمتاع بها ويذهب ببهجتها الفنية.
    بيد أن هذا ليس هو كل شىء، إذ حتى لو قلنا إن العنوان يشير، فيما يشير، إلى عالم الجن باعتبار أن العامة وأشباههم تعتقد أن الجن يسكنون تحت الأرض فالرد جاهز، وهو أن الجن فى روايتنا لا يسكنون تحت الأرض، بل نرى الجن فى الرواية يسكنون فى الصحراء. ومن هنا نرى كيف أن الله قد ضرب على الهجاصين السدود من كل جانب، فهم لا يستطيعون تقدما ولا تأخرا. لكن هل تظن أيها القارئ أنهم سوف يرعَوُون؟ أما أنا فلا أظن، إذ هم ليسوا أكثر من ببغاوات تردد ما تسمع من كلام رغم أنها لا تفهم منه شيئا. إنهم مجرد أذناب للنقاد الغربيين: فإذا ما عطس أولئك عطس هؤلاء، وإذا لطم أولئك لطم هؤلاء، وإذا ما ضحكوا ضحكوا هم أيضا، وإذا ما انقلبوا على ما قالوه انقلبت ببغاواتنا دون فهم ودون حياء مرددين حيثيات انقلاب أسيادهم على ما كانوا يدعون إليه ويصرخون فى تصايحٍ مُصِمٍّ للآذان مؤكدين أنه الكلمة الأخيرة فى النقد الأدبى. المهم أن يقال عنهم إنهم حداثيون و"ما بعد حداثيون" فى حين أنهم متخلفون فى أوضاعهم وظروفهم وأفكارهم وآرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم وتحليلاتهم لأمور الحياة تخلفا مزريا فلا يمكنك أن تفرّق بينهم وبين البيئة العامية التى أتى معظمهم منها، والغالبية الساحقة بل المسحوقة منهم لا تعرف لغة أجنبية، ومع هذا يحرصون على ترصيع ما يكتبون وهم سكارى بالمصطلحات والعبارات الأجنبية، وكذلك أسماء الجماعات النقدية الأوربية وكأنهم أعضاء فيها. خيبة ما بعدها خيبة! ولو دخل الغربيون جُحْر ضَبٍّ لدخلوه وراءهم ولأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم إنهم هم أنفسهم ضِبَابٌ لا بشر. وهذه إحدى السمات البارزة للقوم المتخلفين.
    وسوف أُلْقِم الهجاصين الآن حجرا آخر فى أفواههم الببغائية التى تردد دون فهم أو عقل ما يقوله نقاد الغرب لا لشىء إلا ليقال عنهم إنهم حداثيون متحضرون مع أن الحداثة والتحضر لا يُكْتَسَبَان بأسلوب الببغاوات والقرود بل بالاكتشافات والابتكار والإبداع وبالعقلية الناقدة التى تمحص ما تسمع وتسلط عليه نورها الوهاج كى تعرفه على حقيقته وتَرُوزه لتقدير قيمته وإدراك مزاياه وعيوبه. لكن الهجاصين، كما قال الله تعالى فى حق أمثالهم، متى يسمعوا شيئا فإنهم لا يتلقَّوْنه بعقولهم بل بألسنتهم ويقولون بأفواههم ويكتبون بأقلامهم ما ليس لهم به علم، اللهم إلا الترديد والتقليد، وما الترديد والتقليد الغبى الأعمى بعلم على الإطلاق.
    والآن إلى الحجر الذى سألقمهم إياه، إذ إن هناك رواية أخرى صدرت فى وقتنا الحالىّ عنوانها هو نفس عنوان روايتنا: "تحت الأرض"، وكاتبها هو شريف ثابت، ومع هذا فالمعنى مختلف عما عندنا تماما. وهذا ما كتبه أحدهم عن ذلك العنوان ودلالته فى موقع "كتوباتى" تحت عنوان "لمحة عن الكتاب": "ما أفهمه وأصدقه هو أن علاقة الإنسان بجسده تنقطع لحظة مفارقة الروح له. بعدها يصبح الجسد قطعة من الجماد لا تضر ولا تنفع، وبالطبع لا تشعر. ما هو نوع العذاب الذى يمكن إلحاقة بالجماد؟ التكسير؟ التقطيع؟ الحرق؟ السلخ؟ العرب قالوا قديما: لايضر الشاةَ سلخُها بعد ذبحها. وهو كلام يقبله العقل والمنطق خلافا لكل ذلك الكلام الكثير على ألسنة العامّه عن حساب الملَكين والثعبان الأقرع... إلخ. الله أكبر بكثير من كل هذا، وهو بالتأكيد قادر على محاسبتنا بشكل أرقى وأقرب إلى التصديق. أليس كذلك؟ لا لست أبغى الدخول فى مناقشة دينية معك. سؤالى لك فقط كان مدخلا للموضوع الذى أريد مفاتحتك فيه. أعتقد يا مروة أنّ مصطفى فى هذه اللحظات يتعرض لعذابٍ ما فى قبره. لدىّ ما يجعلنى متيقنًا من هذا".
    فانظر، يا رعاك الله، كيف استعمل المؤلف نفس العنوان بمعنى مختلف تماما عما له هنا، إذ المقصود بـ"تحت الأرض" فى روايته هو القبر. وهو ما ينسف مزاعم العنوانيين الفارغى العقول المنخوبى القلوب العديمى الضمير عن عتبة العنوان. ولم يبق إلا أن نغنى لهم كما نغنى للأطفال: تاتا، خَطِّ العتبة. تاتا، حَبَّة حَبَّة!
    وبمناسبة عبارة "تحت الأرض" كانت أمهاتنا، ونحن أطفال صغار، يحذرننا تخويفا من البقاء خارج البيت بعد المغرب حتى لا تخطفنا أختنا الجنية إلى ما تحت الأرض. ولا أدرى أكنا نأخذ هذا الكلام على محمل الجد أم كنا نسمع ولا نبالى ونمضى فى اللعب فى الشارع براحتنا ونحن سعداء لأن عتمة المغرب مقدور عليها وليست بذلك الظلام الدامس الذى تخرج العفاريت من مساكنها وتسرح فيه على مزاجها. المهم أن أختى الجنية لم تخطفنى إلى ما تحت الأرض ولا إلى طبقات السماء قط.
    بيد أن العفاريت فى قريتى كانت بوجه عام لا تسكن تحت الأرض، بل تأوى إلى الخرائب المتناثرة فى أرجائها كالمعصرة وزُقْر جاد وزقر بَكْر ونخلة العسال، وفى الجَبّان، ولَدَى ساقية أم يونس على الطرف الشرق- جنوبى منه. ولم يكن لهذه الساقية أى أثر آنذاك، إذ يبدو أنها كانت موجودة من قبل فى ذلك المكان ثم طُمِسَتْ لسبب أو لآخر، ومن ثم كانت اسما على غير مسمى.
    كما كانت العفاريت عندنا تظهر فى الحقول ليلا حيث تكون أُمُّ مَنْ حُمَّ قضاؤه من الفلاحين قد دعت عليه فذهب وحده إلى الغيط كى يسقيها قبل فوات الدور، فاهتبلت الجنية الفرصة وأرته الويل. وهنا أيضا لم يحدث أن ظهرت لى جنية ولا خطفنى عفريت ولا حتى ظهر لى أو سمعت له صوتا ولو همسا. ومع هذا لم نكفّ عن الارتعاب من العفاريت ليلا ولا عن عشق سماع الحواديت التى تتحدث عنهم وعن الناس الذين ظهرت لهم وبرجلت عقولهم أو قتلتهم، وبعضهم من القرية ذات نفسها، وكأننا نتلذذ بإرعاب أنفسنا.
    ولُبُّ رواية "تحت الأرض" هو أن مجندا مصريا كانت مهمته التمركز فى خندق على حدود الصحراء وحده، وذات ليلة عثر على قطة محشورة بين صخرتين، فخلصها من محشرها وأخذها فى حضنه وهو نائم، فصارت تتمسح به وتتدفأ فى حضنه، ثم اتضح له أنها جنية وقعت فى غرامه وتريد أن تقترن به، فداخله الرعب وحاول عند رؤسائه الانتقال من هذا الخندق إلى مكان آخر رفقة زملائه حتى يأتنس بهم ولا تظهر له القطة، ولكنهم رفضوا الاستجابة له، فأبى تنفيذ القرار مما أدى به إلى السجن الحربى حيث قضى شهورا طوالا فى نكد وغم، ولم تتركه القطة مع هذا بل كانت تتابعه من فوق سطح الزنزانة التى حبسوه فيها ويسمع، وهو فى محبسه، صوتها الذى تعبر به عن شوقها الجارف إليه.
    وهنا أذكر أن شابا فلاحا مَعْجَبَانِيّا ظريفا من قريتى، بيتُه غير بعيد من بيتنا، كنا نحن الصغار فى أواسط خمسينات القرن المنصرم نأنس إليه لأنه كان دائم الابتسام لطيف المعشر، وفى جَعْبته كثير من الحكايات الجميلة، وفجأة تغير الحال واختفى الشاب المعجبانى، ثم ظهر بعد فترة يجوب شوارع القرية وفى يده خيزرانة يضرب بها كثيرا ممن يقابلونه دون أى سبب من قِبَلِهم، وفارقته الابتسامة الجميلة ولم تعد نظراته مريحة كسابق عهدها، وانعقد لسانه وصار أخرس. وقيل فى تفسير ذلك إنه ضرب قطة ذات ليلة، فما كان من أخواتها الجنيات إلا أن خطفنه وأخذنه إلى العالم السفلى تحت الأرض حيث بقى وقتا لا أدرى ماذا فعلن به خلاله، وهو ما ظهرت ثماره على وجهه وفى نظرات عينيه وتصرفاتِه العدوانيةِ وخَرَسِ لسانه. وكان يختفى من القرية أحيانا، فيقول بعض الناس إنهم رأَوْه وهو يحمل إبريقا كبيرا من الفخار مملوءا بالماء يمر به على صفوف المصلين فى مسجد السيد البدوى وأشباهه يسقيهم أثناء الخطبة قُرْبَى إلى الله. ثم عاد الشاب بعد حين إلى حالته السابقة لكن مع بعض الندوب النفسية التى تركتها هذه التجربة فى طواياه. رحمه الله.
    ولنلاحظ أننا لم نسمع بأن الجن قد آذَوْا من يضرب كلبا أو حمارا أو جملا أو أرنبا... إنها لا تظهر وتنتقم إلا للقطط فقط حسب الاعتقادات الشعبية. والغريب أن أبى ذات ليلة شرع يطارد القطط التى فى بيتنا وتتجمع حولنا وتزعجنا بموائها وتقافزها عند تناول العَشاء، وبالذات عند أكل اللحم، وضَرَب كل من طالته يداه منها حتى اختفت القطط فى تلك الأيام من المنزل، ومع هذا لم يُصَبْ بشىء ولا استدعاه الجن ولا فكروا فى الانتقام منه. ربما لأنهم كانوا يعرفون أن اللحم سيرتفع سعره، ومن ثم يجوز له رحمه الله، بأثر تقدمى لا رجعى، أن يضرب القطط براحته لأنها لا ترحم أمثالنا ممن سوف يعانون من غلاء الأسعار بعد خمسة وستين عاما (كنا فى تلك الأيام فى أواسط خمسينات القرن الماضى). كما أن ابنًا لجيران بيت خالى قد حكى لنا مرة ونحن صبيان أنه كان يتناول عشاءه ذات ليلة، فأتت القطة وقامت تموء إلى جانبه، وهو يقول لها: "مُشّ"، أى إن ما يأكله ليس لحما بل مشّا، والقطة ماضية فى المواء والتطلع إلى الطبق. هى تموء، وهو يقول لها: "مش"، فتموء فيقول لها: "مش"... وهكذا حتى ضاق صدره فمد يده وأمسك بها من فمها وغمس وجهها كله فى طبق المش، فصاحت من ألم طعم المش ورائحته، وخمشتْه وأفلتت من يده، ورغم ذلك لم يستدعه زعيم مملكة الجن الموجودة تحت الأرض ولم يَعْتَرِه سوء. ولو كان قد عوقب على ما صنع لكنت قصصت الحكاية على السيدة فايزة شرف الدين لتصنع منها رواية وتَذْكُرنى فى المقدمة، مع الشكر الجزيل طبعا، بصفتى راوى الحدوتة لها.
    وقد حاولتُ تقصى السبب الذى يقف وراء العقوبة التى تنزل على رأس من يؤذى قطة فلم أجد إلا ما جاء بمادة "القط" فى "معجم الفلكلور" للدكتور عبد الحميد يونس من أن القط كان حيوانا مقدسا لدن بعض الشعوب القديمة التى كانت تعتقد أن الآلهة تقتص من كل من يمسه بأذى. وفى المادة أيضا أنه كان هناك اعتقاد شائع بأن من يركل قطا يصيبه الروماتيزم، وأن من يغرقه تطارده الشياطين، وأن له سبعة أرواح من يأخذ منها واحدة فلن يتركه القط فى أمان بل ينتقم منه ويجلب عليه الحظ السيئ. كذلك نقرأ فى نفس الموضع من المعجم المذكور عن اعتقاد الزنوج بأن القطة ساحرة، وأن القط شيطان مريد، وأنه لهذا السبب كان الناس فى بعض أنحاء العالم يقومون بحرقه...
    ومع هذا فإن روايتنا لم تتحدث عن ضرب القطة بل عن "مخاواتها" لشاب جندى، وكانت المخاواة من جانبها هى لا من ناحيته. فقد كان الشاب فى خندقه على حدود الصحراء لا يؤنسه أحد سوى الله جل وعلا، وكان يتغلب على ما يحسه من وحشة وملل بالصلاة والتأمل فى الأفق والسماء، إلى أن كان نائما ذات مرة فى الخندق كالعادة ليستيقظ على صوت القطة المحشورة التى خلصها من مأزقها، واتخذها رفيقا له تنام فى حضنه مستكينة سعيدة، ويلامس فراؤها وجهه فيبتهج، فضلا عن شعوره بالدفء فى الليالى الباردة. وظلت الأمور تجرى على هذا النحو زمنا، ثم تحول مسار العلاقة بين الشاب والقطة واتضح له أنها ليست قطة حقيقية بل واحدة من بنات الجن وأنها واقعة فى غرامه ولا تطيق أن تفارقه بل تريد أن تقترن به زوجا، ولا أدرى لماذا إلا أن تكون فتيات الجن يعانين آنذاك من العنوسة كما تعانى نسبة كبيرة الآن من بناتنا نحن الإنس. وهنا بدأت مأساة بطل روايتنا، وانتهى به الحال أن صار يخاف من الخندق ولا يريد البقاء فيه وكتب التماسا لرؤسائه فى الجيش أن ينقلوه من موقعه المنعزل إلى حيث يقوم باقى زملائه المجندين بأداء الخدمة العسكرية فى الموقع المأنوس للكتيبة التى كان يتبعها، لكن طلبه رُفِض، فاضْطُرّ إلى الهروب من الخدمة العسكرية كما سبق القول والتخفى فى مطعم كباب فى الزقازيق أكرمه صاحبه الريّس عليوة لِمَا لمسه فيه من خلق كريم وأمانة وتفان فى العمل، لكنه رغم ذلك قد وقع فى يد الشرطة العسكرية فحُوكِمَ على فعلته وصدر حكم بسجنه سنتين، ولما خرج من السجن وانتهت مدة تجنيده عاد إلى المطعم واشتغل من جديد مع صاحبه، الذى سرعان ما رقاه وجعله مشرفا على كل شىء فى الدكان لينتهى به المطاف إلى أن صار شريكا له، ثم اقترح عليه افتتاح فروع له هنا وهناك فى بعض المدن المصرية، ثم اتسعت دائرة المطاعم حتى وصلت إلى بعض المدن الأوربية على ما سوف نوضح لاحقا.
    وكان بطل روايتنا قد تزوج فتاة من قريتهم تجمع بين الجمال وحسن الخلق ودماثة الطبع، لكنه بتأثير القطة العاشقة المدلَّهة المولَّهة فى هواه كان، كلما اقترب فى الفراش من تلك الزوجة الجميلة، يراها فى خِلْقة القرد فلا يطيق النظر إليها. وذات مرة، وهو لا يزال يؤدى الخدمة الوطنية جنديا فى الجيش، أخذته القطة الجنية إلى مملكة أبيها، وهناك استطاع أن يناشد أباها الملك أن يحميه من ابنته حتى يعيش عيشة سائر البشر بعيدا عن المحنة التى هو فيها. وكان الملك الأب يتمتع بالحكمة والعدل ويستشهد بالحديث النبوى ويراعى ما فيه من أوامر ونواهٍ كالشيوخ المطمطمين، فحال بين ابنته وبين التعرض للشاب المجند. ولما ألحت على أبيها أن يأذن لها بأخذ الشاب زوجا لها، لكنه لم يقبل أن يقال عن حكمه إنه حكم يقوم على الظلم والاستبداد، فعادت وظلت تقاوم حتى توصلا إلى اتفاق بألا تتعرض لسعد لتغريه بالزواج منها إلا إذا نسى تلاوة التعزيمة التى أُعْطِيها أو تزوج امرأة أخرى إلى جانب زوجته.
    وقد ظل سعد محافظا على تلاوة التعزيمة كل ليلة زمنا طويلا حتى ضاقت القطة وخشيت أن تظل طول عمرها تنتظر الزواج منه عبثا، فاستدعت كاهنة مملكة الجن لتستعين بها على شىء يحقق لها مطلوبها. وهنا أيضا سكتت الرواية فلم تقل لنا شيئا عن الوسيلة التى اقترحتها الكاهنة الجنية على ابنة الملك الولهى.
    وفى تلك الأثناء نرى سعد وشريكه يفتتحان مطعما فى باريس، ويلتقى هناك بامرأة يونانية رائعة الجمال بارعة الفتنة كانت تعيش فى مصر وهاجرت إلى فرنسا، فيقع فى غرامها وينتهى بهما المطاف إلى الزواج. وكانت تلك المرأة صاحبة فنادق، فتعاونا هو بالأصالة عن نفسه والنيابة عن الريس عليوة معها ونجحوا أعظم نجاح، والسنون تمر سنة بعد سنة إلى أن ملت سيدة الأعمال اليونانية الحسناء الناجحة البارعة الميمونة الطالع، وتفطن إلى أنها هى القطة الجنية، وأنها قد شبعتْ منه بل بَشِمَتْ وتريد أن تعود إلى بنى قومها. وقد تركت له كل ممتلكاتها من مطاعم وفنادق ليعيش فى الثبات والنبات على راحته وهواه لا يزعجه من أمور الدنيا شىء. أى أن الخطة التى رسمتها الكاهنة لبنت الملك (أو بنت الفرطوس! اختاروا اللقب الذى تحبون، فأنا كاتب ديمقراطى) هى اعتراض القطة طريق معشوقها وإيقاعه فى حبائلها ونسيانه فى غمرة تدلهه فى عشقها تلاوة التعويذة، ومن ثم حق لها أن تتزوجه، وهو ما حدث، فتم الزواج وهو لا يدرى أنها الجنية القطة بل كان يظن أنها امرأة حقيقية.
    والآن إلى تحليل الرواية. ونبدأ بما كتبه د. عادل يوسف فى مقاله: "لمسات نقدية فى رواية "تحت الأرض" للكاتبة فايزة شرف الدين" المنشور بـ"جريدة أخبار الوطن" فى 18/ 9/ 2023م عن لغة الكاتبة بقوله: "لقد أبحرتُ فى أعماق ألفاظ ومعانى رواية "تحت الأرض"، فوجدتها قطعا من اللؤلؤ والجواهر الكريمة، فقد استخدمت الكاتبة اللغة الشعرية الموحية، فكانت نصا دراميا مشوقا بالصور الجميلة".
    وهذا كلام عام رغم جمال ألفاظه، إذ اكتفى صاحبه بإطلاق الحكم دون سوق أية "حيثيات" كما يقال فى لغة القضاء والمحاماة. صحيح أن الرواية تشير إلى أن قلم الكاتبة متمرس بالكتابة بمعنى أنها لا تجد عنتا فى تركيب الكلام بل تصوغ جملها وعباراتها صوغا سليما من ناحية التركيب فلا تحس فى الغالب قلقا فى وضع الكلمة بجوار الكلمة ولا الجملة بجوار الجملة، كما أن حصيلتها من الألفاظ والعبارات واسعة إلى حد كبير. ويعود هذا إلى قراءاتها الكثيرة منذ الصغر، ولكتاب وقصاصين كبار حسبما تقول فى مقال لها عن "فن الرواية" فى مجلة "دنيا الوطن" الغزّاوية. قالت:"قبل أن نكتب رواية يجب أن نكون قد قرأنا كمّ هائل (الصواب "كَمًّا هائلًا") من الروايات، وكان أديبنا الراحل نجيب محفوظ ينقل بالحرف من الروايات التى كان يقرأها (يقرؤها)، ويكتبها بيده، كما كان يفعل أيضا بالمعجم. وكان له العديد من العبارات المستخدمة بالنص منه فى أعماله الروائية الأولى. وقد فعلتُ مثله فكنت أكتب ما يعجبنى من عبارات فى كراسة. أيضا يجب أن ندرس النص الذى نقرأه (نقرؤه) بعين التلميذ لا أن نمر عليه سريعا. ومع وجود الموهبة والخيال ما نلبث أن يكون لنا أسلوبنا الخاص. ويجب على الكاتب ألا يكتفى بالقراءة لكاتب واحد أو يعجب بعدد قليل منهم ويكتفى بالقراءة لهم دون غيرهم مخافة أن يرتدى الكاتب نفس عباءة تلك الزمرة القليلة من الكتّاب. فمن يريد النجاح عليه أن ينوع قراءاته". وقالت أيضا فى نفس المقال: "منذ كنت صغيرة قرأت العديد والعديد من الأدب العالمي، ثم قرأت بعد ذلك لأدبائنا العظام. كنت أحلق فى عالم جميل صنعه خيالهم، وكم كان رائعا خالقا".
    وقد زاد إبراهيم خليل إبراهيم هذا الموضوع تفصيلا وتوضيحا فى مقال له عنها متاح فى جريدة "دنيا الوطن" فى 1/ 3/ 2008م بعنوان "المبدعة فايزة شرف الدين مع الكاتب الباحث إبراهيم خليل إبراهيم"، إذ كتب قائلا: "تأثرتْ فايزة شرف الدين بوالدها، الذى عشق القراءة وخصص مكتبة كبيرة تضم أمهات الكتب. عشقتْ فايزة قراءة مجلات "سمير وميكى وسوبرمان"، ثم بدأت تقبل على قراءة الكتب. وقد تأثرت كثيرا بمجلة "المختار" الأمريكية... وواصلت القراءة فقرأت القصص العالمية... وأحرزت تفوقا دراسيا ساعدها على ذلك شغفها بالقراءة... مع نهاية الدراسة الإعدادية قرأت الكثير والكثير من الأدب العالمى لتوماس هاردي... وبيرل بيك وأدب الرحلات، ثم شغفت بالأدب الروسى فقرأت لديستوفسكى وتولوستوى وغيرهم، وأيضا الأدب الفرنسى والإنجليزى لتشالز ديكنز. ثم تعددت مناهل القراءة عندها، فقرأت للعقاد، والتاريخ الإسلامى والفرعوني، واهتمت بدارسة تاريخ اليهود، ومازالت تقرأ فى شتى النواحى العلمية. كما أنها تهتم بالسياسة".
    وهذا يفسر ما أعلنه وأكرره دائما وفى كل مكان أو مناسبة من ضرورة القراءة، والقراءة الواسعة، لكبار الكتاب والأدباء حتى يكتسب الأديب الناشئ الأسلوب القوى الجميل. وقد قلت إن قلم السيدة الكاتبة منطلق سلس إلى حد معقول، وإن كان لا بد من الاهتمام أكبر من هذا بتجويد هذا الأسلوب. على أن هذا شىء، وخلوص ما يكتبه الأديب الناشئ من الزلات النحوية والصرفية شىء آخر كما وضحت. وقد وقفت عند هذا الموضوع لأنى أقابل من الكتاب والكاتبات هذه الأيام من ينتشر القلق والبرجلة فى كتاباتهم بتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، وذِكْر ما حقه الحذف، وحذف ما حقه الذِّكْر، وتطويل الجملة وكان حقها أن تقصُر، والعكس بالعكس، واستعمال ألفاظ فى غير معانيها أو فى غير معانيها الدقيقة أو عدم التنبه إلى مجافاتها للسياق بإيحاءاتها أو بنطقها... إلخ.
    وللأسف فإن لغة الرواية تعانى من الأخطاء النحوية والصرفية رغم ما قالته مؤلفتها عن كثرة قراءاتها لكبار الكتاب والمترجمين واستعانتها بالقاموس. وقد كنت أسمع كثيرا من زملائى الطلاب فى المرحلة الثانوية وهم يصفون ضعفهم فى القواعد النحوية وخوفهم ونفورهم منها وكراهيتهم لها والقول بأنهم لا يعوّلون على إحراز أية درجات فيها فى الامتحان، فأعرف أنهم للأسف لا يحسون ناحية لغة أمتهم العربية والإسلامية بأى انتماء.
    وأنا دائما ما أقول إن إتقان النحو والصرف ليس بالصعوبة التى يتخيلها المتخيلون، فقد درسنا كلنا قواعد لغتنا عدة مرات: فى المرحلة الابتدائية وفى المرحلة الإعدادية وفى المرحلة الثانوية، ومن ثم يكفى أن يراجع الإنسان ما درسه فى هذا الصدد بقلب سليم وعزم صادق، ولا أظنه يحتاج فى ذلك إلى أكثر من عدة أسابيع يحرث فيها كتب مقرر اللغة العربية فى المدارس أو الكتب المبسطة كـ"النحو الواضح" مثلا لعلى الجارم ومصطفى أمين مع حل التمارين الموجودة فى نهاية كل درس. ولا يستلزم الأمر أبدا أن يحفظ "ألفيّة ابن مالك" أو "شَرْح ابن عَقِيل" وما أشبه من الكتب المبسوطة المفعمة بكثير من التفاصيل والدقائق، مع العكوف على قراءة كبار الكتاب أصحاب الأساليب الرفيعة الراقية.
    وأنا زعيم، كما كان يقول طه حسين اقتباسا من القرآن الكريم، بأن من يفعل ذلك سوف يخلو أسلوبه من الأخطاء أو سوف تقل أخطاؤه إلى حد بعيد فكأنها غير موجودة. وعليه أن يحتفظ على مكتبه ببعض المعاجم كـ"المعجم الوسيط" مثلا ليراجع فيه ما ليس متيقنا من صحته من ألفاظ وعبارات وتراكيب وصور، وبحمد الله لم نعد الآن بحاجة إلى شراء تلك المعاجم، إذ هى متوافرة على المشباك (الإنترنت) بكثرة تفوق كثرة الهم على القلب.
    ليست الكتابة أمرا سهلا، وعليه فإن أراد الكاتب أن يعيش إبداعُه الأدبى ولا ينساه الناس سريعا بل تجد الأجيال المتتالية فيه متاعا على مر الزمن فليس أمامه إلا هذا، وإلا فهل يصح أن يقوم نجار بصنع غرفة نوم جميلة وهو لا يتقن أوليات الصنعة من دق المسامير ونشر ألواح الخشب وتعشيق قطعه بعضها مع بعض مثلا؟ فهذا هو حال الكاتب ذى اللغة الضعيفة التى تعج بأغلاط النحو والصرف. أو هل يصح أن تخرج فتاة أو امرأة وثيابها غير مكوية مثلا أو غير متناسقة الألوان والأطوال أو لا تناسب سنها مهما كانت جميلة فاتنة؟ أذكر أن يوسف السباعى كتب يرد منذ عقود على عديله عباس حسن النحوى العصرى الشهير حين نبهه إلى أهمية مراعاة القواعد اللغوية فى الكتابة قائلا إن المهم هو أن يفهم القارئ ما يكتبه الكاتب سواء راعى تلك القواعد أو لم يراعها. وإنى لأتساءل: أَوَلَوْ اكتفى الواحد منا بارتداء جوالق أَلَنْ يحميه الجوالق من برد الشتاء وحر الشمس ويستر عورته؟ بلى سوف يقوم الجوالق بتلك الوظائف. لكن لم يا ترى لا يكتفى البشر بارتداء الجوالقات والاستغناء بها عن الملابس المعقدة المكلفة التى تتطلب وقتا فى تفصيلها وحياكتها وتستلزم فلوسا كثيرة ندفعها للقمّاش والحائك؟ والجواب أن الحضارة تستدعى ذلك، وإلا لبقى البشر حتى الآن يعيشون فى الغِيرَان والكهوف وعلى أغصان الشجر فى الغابات والأحراج وكفاهم بعض ورق الشجر يسترون به عوراتهم ولم يتنوّقوا فى طعامهم وشرابهم بل تناولوا كل ما يقابلهم مما يسد الجوع ويذهب الظمأ مهما كان قبحه ونتنه وأذاه ودون تنظيف أو طبخ أو صحون أو مائدة أو غسل أيد أو تسويك فم. فكما أن الحضارة توجب هذا فى الطعام فإنها هى نفسها تتطلب أيضا أن تكون لغتنا، ونحن نكتب ونتكلم، لغة سليمة جميلة راقية تجرى على القواعد المقررة.
    فعلى سبيل المثال ألفيت الرواية تستخدم دائما "جزل" ومشتقاتها (بالزاى) فى موضع "جذل" (بالذال)، مع أنها تقصد الفرح والبهجة لا القوة والصلابة والضخامة وما إلى ذلك. ومثلها "زرف" فى قولها: "عيناها تزرفان الدموع"، وصحتها "تذرفان" بالذال لا بالزاى. وقابلتنى كلمة "الفُتَاء" (بالهمزة)، وصحتها "الفَتْق"، وكلمة "تدحرجت" مراتٍ للسيارة، والسيارات لا تتدحرج بل تجرى، وكلمة "إماءة"، وصوابها "إيماءة". كما تكرر فيها نصب المضاف إليه أو رفعه، ورفع اسم "إن" المتأخر، وحقُّ اسم "إن" النصبُ مهما كان موضعه، ونصب اسم "كان" المتأخر، وحقه الرفع. وأحيانا ما نجد الفاعل أو المبتدأ أو خبر "إن" منصوبا، والمفعول مرفوعا، والفعل المضارع المرفوع بثبوت النون وقد حُذِفَتْ نونه. وأحيانا ما يرتبك تركيب الجملة كما فى المثال التالى: "المصالح تقوى الروابط. فلو كان الحب نزوة، لكن المنفعة ستكون واقعا يفرض نفسه"، ولو ركب الكلام على النحو التالى مثلا لكان صوابا: "إذا كان الحب نزوة فإن المنفعة واقع يفرض نفسه". ولا شك أن قول الرواية عن امرأة: لها "قوام جميل، وطول يميل إلى القصر" غريب بعض الشىء، إذ كيف يكون القوام طويلا، وهو فى ذات الوقت يميل إلى القصر؟ وكذلك هذه الجملة: "وجعل الأطفال الباقيين يصدقون ما يقول" (وصحتها "وجعل الأطفالُ الباقون..."، أى صاروا يصدقون...")، وهذه الجملة أيضا: "شاهَدوا باريس عروسا تزهو بجمالها وزينتها تحت أعتاب البرج، وأضواء باهرة تشقان سماء باريس تنطلقان من كاشفين متحركين كأنهما فنارًا يهتدى به البحارة فى ليل البحر"، التى تستقيم إذا قلنا: "وأضواء باهرة تشق سماء باريس تنطلق من كشّافَيْن متحرِّكَيْن كأنهما فنارٌ...".
    هذا، ولا بد من الإشارة برضا وحبور إلى أن الروائية قد اختارت عن صوابٍ واستقامةٍ أن يكون حوار شخصيات روايتها بالفصحى، التى لو كانت خلت من الأخطاء اللغوية لكان لها شأن آخر كما فى قول صاحب المطعم لسعد: "بَاتْ ليلتك مع الشيخ شحاتة لتنال بركاته" (وصوابها "بِتْ ليلتك...")، أو قول الأم تدعو لابنها وزوجته: "اللهم احرسهما من عينك، التى لا تنام" (تقصد "احرسهما بعينك" بالباء لا بـ"مِنْ"، وإلا كان اتهاما لله بأن عينه تضر وتؤذى. أستغفر الله)، أو قوله لزوجته قبل الإخلاد للسرير: "سأنتظرك فى الصالة حتى تنادى علىّ" (حتى تنادينى)، أو قول أسامة حارس السجن الذى قضى فيه سعد مدة عقوبة هروبه من الجيش: "خرجتُ حارس لعنبر فى سجن حربى لأعمل بمؤسسة للأحداث" (والصحيح "خرجتُ حارسًا" بالنصب لكونه حالا)، وقول طبيب التوليد: "التوأمين بخير. الحمد لله" (ومعروف أن الصواب هو "التوأمان بخير..." لأنه مبتدأ). وكانت لغة كل شخصية تنسجم معها ومع الموقف الذى تجد فيه الشخصية نفسها سواء كان موقف اتفاق شراكة فى عمليات اقتصادية أو كان موقف غزل وحب.
    ومما يتعلق بلغة الرواية أيضا أن الكاتبة لم تترخص لدن الحديث عن اللقاءات الجنسية بين سعد وزوجته أو بينه فى الحلم وبين القطة، التى كانت تزوره فى المنام على هيئة امرأة عاشقة بارعة الجمال. وهذا مثال على ما أقول، وهو وصف لما وقع من القطة الجنية، التى تتبعت سعد إلى باريس (كيف؟ لا تسأل، فهى جنية بنت جنية)، وانتظرت حتى أوى (بالمناسبة هى "أوى" بهمزة مفتوحة لا بمدة ألف: "آوَى" كما كتبتْها فى بعض صفحات الرواية) إلى السرير بالفندق وراح، بسبب إرهاق السفر، فى سبات عميق. وهنا: "خرجتْ من تحت الفراش المختبئة أسفل منه. قفزت بخفة واندست تحت الغطاء. أصبح الناعم كالحرير لصقه، ورأسها مستندا على صدره. استكانت تتسمع دقات قلبه، تسرق سويعات قربه. أطبقت فمها على فمه وتذوقت رضاب شهده. دغدغه حلم لذيذ لم تكن زوجته "جميلة" بطلته بل فاتنة تختال بنفسها تراوده عن نفسه. أثارته غوايتها وغنجها، فاستجاب لها. ذاق طعم الشهد من شفتيها الشهيتين. أحاط خصرها بذراعيه وضمها إليه بقوة يبغى وصالها". وهذا النص مع ذلك أبعد ما بلغه قلم الكاتبة فى هذا الميدان، ولو قورنت ببعض القَصّاصات العربيات الأخريات الملحوسات العقول لكانت ملاكا. كذلك لا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن الكلام عن قطة لا راحت ولا جاءت لا عن امرأة.
    لكن للدكتور أحمد الباسوسى رأيا آخر، إذ يقول فى هذا الصدد ضمن مقال له عن الرواية فى "أوبرا مصر" بعنوان "تعويذة "كشهنار"- فايزة شرف الدين وحرب الذكريات واﻷوهام": "على الرغم (من) الخلفية الدينية للكاتبة والتى ظهرت من خلال استخدامها المفرط للغة القرآن الكريم فى منحنيات النص وانشغالها بالتناص من القرآن والنصوص القديمة كأساس للغة السرد لديها فلم تخلوا لغته (الصواب "فلم تخلُ لغتها") من إشارات اﻻنفتاح العقلى والتحرر من قيود الخجل والرعب من قيم المجتمع المحافظة عندما تعلق اﻷمر بوصف المظاهر الخارجية والداخلية للمشاعر المتأججة للأنثى، ونفس الحال بالنسبة لسعد ومشاعره الحسية والداخلية المحمومة بالرغبة والشبق الذكورى تجاه اﻷنثى، ووفق هذا السياق يبدو أن اللجوء إلى اللغة التراثية كأنه "تكوين رد فعل معاكس" وفق نظريات التحليل النفسي، وخاصة لدى العالم النفسى الكبير فرويد، الذى اشار إلى أن شدة المبالغة فى وصف الشيء تعنى الرغبة فى عكس كل ما يقوله الشخص، ذلك اﻷمر الذى ظهر جليا فى دقة وصف تفاصيل مشاعر وبعض سلوكيات الرغبة والشبق الجنسى”.
    وتعليقا على هذا نقول إن الكاتبة لم تفرط فى الاقتباس من القرآن الكريم بل كان اقتباسها من الكتاب المجيد على استحياء لا يلفت النظر كثيرا. وحتى لو كانت هذه الدعوى صحيحة فليس فى الأمر غرابة ولا إدانة. ذلك أن بطل الرواية كان طوال عمره شخصا متدينا يواظب على الصلاة، وإن كنت آخذ على الكاتبة فى هذا السياق تصويره على قدر كبير من الجرأة فى التعامل مع ساندرا فى الأيام الأولى لتعرفه إليها، إذ كان يخاصرها وأمام الآخرين دون تردد أو تحرج ولو حتى بينه وبين نفسه، وهو ما لا يتسق مع شخصيته.
    ثم لا يصح أن ننسى أن الكاتبة نفسها تصلى: على الأقل فيما هو معروف عنها. فمن الطبيعى أن يظهر ذلك فى أسلوبها. والأسلوب كما نعرف هو "الرَّجُلَ" و"الرَّجُلَة" أيضا. وهى نفسها تقول ذلك وتؤكده، إذ كتبت فى مقال لها منشور فى "دنيا الوطن" بتاريخ 20/ 4/ 2010م بعنوان "فن الرواية": "ونحن ككتاب رواية لا يهمنا تقسيم تلك المدارس (تقصد مدارس الإبداع الروائى والكتابة النقدية). نحن نكتب حسب ميولنا وأفكارنا وثقافتنا، فلا يمكن لكاتب أن يخرج من جلده ويكتب عملا غير نابع من ذاته، وإلا كان العمل تافها لا يلقى قبولا من القارئ". ومع هذا فقد بينتُ آنفا أن ظهور عبارات القرآن الكريم غير قوى فى لغة الرواية سواء كان ذلك على سبيل الاقتباس المباشر أو الاستعانة المحورة بآياته الكريمة.
    وما دمنا أشرنا إلى ما كتبه د. الباسوسى عن الرواية وصاحبتها وأوردنا سطورا من كلامه لا يسعنى أن أهمل تعليقا سريعا يتلوى فى عقلى عن بعض ما وجدته فى لغة مقاله كاستعماله ما أسميه بـ"الواو اللعينة"، وهى الواو التى لاحظت أن كثيرا من الكتاب فى العقود الأخيرة يحشرونها بين النعت ومنعوته، فالكاتب يقول مثلا: "على الرغم (من) الخلفية الدينية للكاتبة والتى ظهرت من خلال استخدامها المفرط للغة القرآن الكريم فى منحنيات النص..." واضعا واوا بين "الخلفية الدينية للكاتبة" وبين "التى ظهرت من خلال استخدامها..."، إذ عندنا عبارة "الخلفية الدينية"، وهى كلها منعوت (لأن النعت ليس نعتا لكلمة "الخلفية" وحدها بل لكتلة "الخلفية الدينية" كاملة)، ونعتها هو "التى ظهرت من خلال استخدامها". وهناك أيضا رفعٌ (أَمْ جَرٌّ؟) للمفعول به وللظرف، وارتباك فى بناء بعض الجمل، وكتابة اسم القطة الجنية دائما: "كشهنار"، وصحتها "شهنار" فقط من غير كاف.
    كما أن الكلام عن الشبق الجنسى للذكر تجاه الأنثى هو وصف غير صحيح، فسعد لم يكن هائجا فى الرواية بل كان يهرب دائما من القطة حينما رأى أنها تعشقه وتريد أن تتزوجه، وحينما دخل على زوجته أول ليلة لزواجهما نفر منها لأنها بدت له كوجه القرد. وأما حين تخلص من تأثير الجنية ومارس مع زوجته الحب بلا مشاكل فمن الطبيعى أن يكون حارا فى ذلك اللقاء الذى أتى بعد عجز وحرمان. ومع هذا لم تقف الكاتبة عند هذا المنظر بل وصفته فى بضع كلمات ومضت. والحق لقد كنت مشفقا عليها وأنا أقرأ حكايتها وتصويرها لما حدث، فألفيتها تنجح فى التملص مما تتعمده كاتبات أخريات بلغن فى هذا المضمار ما لم تبلغه كاتبات غربيات كثيرات لا يؤمنّ بالله ولا بالحساب ولا يَرَيْنَ معنى لتقييد الشخص حين يريد إمتاع جسده، فهو حر فى هذا الجسد يصنع به ما يشاء زنًى ولواطا وسحاقا ومجامعة للحيوانات والآلات والمحارم والأطفال. هَرْدَمِيسا يا امُّ عيسى!
    وعندنا فى الأدب العربى الحديث من هذا الصنف الصريح، والصريح جدا، من الكاتبات سلوى النعيمى (فى "برهان العسل") وفضيلة فاروق (فى "تاء الخجل") وسهير المصادفة (فى "لهو الأبالسة") وإلهام منصور (فى "أنا هى أنتِ"). وثم مشهد لممارسة الجنس صريح بل عارٍ فى رواية "غيوم فرنسية"، وإن حاولت الكاتبة ضحى عاصى أن توشيه بشىء من الرومانسية. وذلك كله على سبيل التمثيل ليس غير. وعلى هذا فلا داعى لمحاولة التفسير الفرويدى التى تقول إن كثرة الحديث عن فضيلة من الفضائل والإلحاح فى إنكار الرذيلة المضادة لها هو تعبير عن التعلق بتلك الرذيلة. وبالمناسبة فكل الرجال يحبون النساء، وكل النساء يحببن الرجال، إذ هذه غريزة قوية فى البشر تحدث عنها القرآن قبل فرويد ومن جاؤوا بفرويد بقرون طوال، ولا يوجد عاقل ينكر ذلك إلا إذا كان به مرض. فيا صديقى العزيز، كلنا متطلعون، لكن التدين واحترام الأوضاع الاجتماعية والخوف من الفضائح يكبح الرغبة فى إرواء غريزة الجنس خارج الزواج.
    ومع هذا فبعيدا عن موضوع الصحة النحوية والصرفية والمعجمية فالمؤلفة قد نجحت فى وصف المناظر والأمكنة والشخوص بما فى ذلك المناظر الباريسية كميدان الكونكورد مثلا، الذى يجعل وصفُ أحد الاحتفالات الوطنية فيه القارئَ يعتقد اعتقادا قويا بأن المؤلفة إنما تصف شيئا عن مشاهدة وحضور. ثم سواء بعد ذلك أكانت المؤلفة حاضرة فعلا هذا الاحتفال وكانت حينذاك جزءا من المشهد أم اختزنته ذاكرتها من الأفلام وفيديوهات المِشْبَاك (الإنترنت).
    ولكنى لاحظت أنها حين تصف شخصا فإنها تأتى على كل شىء فيه دفعة واحدة من لون وملامح وطول وملبس جريا على الطريقة التقليدية فى وصف الشخصيات القصصية، إذ ما إن يظهر الشخص على مسرح الأحداث، كما هو الحال لدن دخول أحمد ابن الريس عليوة صاحب المطعم إلى خشبة المسرح، حتى تشرع المؤلفة على التو فى وصفه وصفا تفصيليا يراعى الدقة والإحاطة وكأن الشرطة توزع منشورا على المواطنين كى يساعدوها فى القبض على متهم من المتهمين أو كأن الخاطبة تسرد على الراغب فى الزواج مواصفات العروس التى تريد أن تزوجها له. أريد إلى القول بأن الوصف بهذه الطريقة لم يكن له دور فى الرواية رغم ما فى الرواية من نواحى الجمال والتميز، إذ لم يترتب عليه شىء. كذلك لاحظتُ، فيما أقرأ من قَصَصٍ بوجه عام، أنه كلما حشر القصاص صفات الشخصية التى يتحدث عنها كلها فى مكان واحد من عمله كان صعبا على القارئ أن يتخيل الشخصية فى ذهنه بل سرعان ما ينساها، إذ تنزلق تلك التفاصيل من الذهن وتتركه أملس كالصخرة الزلقة التى يهطل المطر عليها طوال اليوم ثم ما إن يتوقف المطر حتى تجف الصخرة كما لو لم يكن هناك ماء يهطل عليها من السماء بالساعات. إن تلك الطريقة، وبخاصة حين يلتزم بها القصاص مع كل الشخصيات، تكظّ الذاكرة وترهقها. والأفضل أن يسرّب القَصّاص للقارئ صفات شخصياته على أقساط منفصلة موردا فى كل مرة صفة أو اثنتين مثلا حين يتطلب الموقف ذلك بحيث ترتبط فى ذهن القارئ بذلك الموقف فلا ينساها. إنها، إن صح القول، صفات تطبيقية تلصق بالذهن لا صفات مجردة لا تعلق قويا بشىء.
    كذلك تبدو كاتبتنا، خلال السرد والوصف والحوار، عارفة بالموضوع الذى تتحدث عنه. فهى، فى الكلام عن سعد بطل الرواية الذى يقضى فترة تجنيده فى الجيش، تستخدم مصطلحات وعبارات مما يردده الضباط والجنود فى كتائبهم، وتعرف الظروف التى يشتغلون فيها وكأنها قضت فى الجيش فترة تجنيد كما يفعل الشباب الذكور. وهى، فى الكلام عن المطاعم والفنادق والتوسع فيها بفتح سلسلة من الفروع المرتبطة بها هنا وهناك فى مصر وفى بعض الدول الأوربية، تتحدث حديث أصحاب المطاعم والفنادق الخبراء فى تلك المهنة. إننا هنا أمام "رَجُلَة أعمال" راسخ أصيل. لكنى لاحظت أن الأمور كانت تمشى سلسة مع سعد والريس عليوة صاحب المطعم وابنه على الدوام، فكان النجاح حليفهم فى كل ما ينوون ويقولون ويصنعون. وما من مرة اتخذوا قرارا متسرعا أو خاطئا أو فى غير وقته أو فى غير مكانه. وهذا، وإن أبهجنى لتعاطفى مع سعد بسبب ظروفه القاسية فى الجيش وما عاناه مع القطة الجنية كأننى ولد صغير يصدق الحواديت والأساطير الظريفة التى ينتصر فيه البطل باستمرار على أعدائه انتصارا مؤزَّرا، لا يعبر عن طبيعة الحياة الحقيقية التى لا يبتهج فيها الإنسان مرةً إلا اغتمّ مرات، ولا يحالف الظفرُ الشخصَ تحالفًا أبديًّا.
    وهذا قد يذكرنى برواية لإسماعيل الحبروك المؤلف الغنائى الشهير قرأتها وأنا تلميذ بالمرحلة الإعدادية بشغف وبهجة، إذ كانت تصور مسيرة طفل قروى فقير، وربما يتيم أيضا، كافح ظروفه الصعبة وأكمل تعليمه حتى صار طبيبا، فكان أول شىء فعله بعد تخرجه هو معالجته عمدة القرية الطيب والوصول به إلى البرء من مرضه العُضَال، وانتهت الرواية بزواجه من ابنة كبير القرية. وبالله مَنْ يكره مثل ذلك النجاح وبلوغ صبى ريفى فقير (ويتيم) أعلى الدرجات الاجتماعية فى محيطه جزاءً وفاقًا على جده واجتهاده وتطلعه وطموحه؟ وأرجو أن أكون بهذا قد وُفِّقْتُ فى تصوير مشاعرى وأنا أقرأ الجزء الثانى من الرواية.
    وقد انتهت جهود سعد وشركائه النهاية الجميلة المنتظرة من كل هذا، إذ نجحتْ نجاحا عظيما تلك الشراكةُ التى قامت بين سعد وأحمد ابن صاحب المطاعم وبين ساندرا اليونانية المصرية صاحبة الفنادق العالمية التى قابلها سعد فى فرنسا أول وصوله هناك ووقع كلاهما فى حب الآخر من أول نظرة كما يقال. كما وافق ابن صاحب المطاعم على اقتران مدير مطاعمهم فى فرنسا بأخته الكبرى بناء على تزكية سعد له لكرم أخلاقه وتدينه، وإن كان طريفا أن يهتم بذكر تدين الشاب المذكور رغم أنه لم يكد يمر وقت على تعرفه إلى ساندرا حتى وضع يده على خصرها وكان يحتضنها دون مراعاة للتدين وللصلاة التى كان يحرص على تأديتها دائما، فكنا ننتظر مثلا أن يشعر بالخجل أو على الأقل: الارتباك أمام معارفه أو بتأنيب الضمير فيما بينه وبين نفسه. وأنا هنا لا أحاسبه بل أريد الإشارة إلى ما يقتضيه تصوير الشخصية من أن تعكس تصرفاتها ومشاعرها سماتها النفسية والعقلية والخلقية. وهذا كل ما هنالك. كذلك نجح سعد فى كسب قلب ساندرا وتزوجا سريعا وعاشا فى الثبات والنبات على مدى سنوات، وإن لم ينجبا أولادا ولا بنات، وفى النهاية وضع سعد يده على كل ممتلكات ساندرا بعد أن انفصلا تحقيقا لرغبتها فى الطلاق وخروجها من حياته لشعورها بالملل بعدما كانت منغمسة فى عشقه حتى شوشة رأسها. واتضح أن ساندرا لم تكن سوى القطة. الله يخرب عقل القطة التى برجلت عقولنا جميعا.
    على أن د. أحمد الباسوسى يقول محذرا إن "رحلة الكفاح التى واصلها سعد مع الريس عليوه صاحب المطعم الصغير فى البلدة بلوغا الى افتتاح سلسلة مطاعم فخمة فى باريس ولندن ﻻيمكن اعتمادها نتاج (الصواب "نتاجا") لعمل الأميرة الجنية كشهنار (شهنار) بقدر ما هى رحلة كفاح وصبر وعراك مع الواقع الحى ﻻ الوهمى لسعد ورفيقه الريس عليوة وأوﻻده الأوفياء. وفى هذا السياق يتضح أن سعد استفاق فى أعقاب تحرره من السجن وانقضاء عقوبة هروبه من الخدمة العسكرية، بمعنى تحرره من مشاعر الذنب نتيجة هروبه ثم تنفيذ عقوبته المستحقة عليه، وخلاصه من التهديد بالعودة إلى عالم اﻻنعزالية والخوف من الخندق والقطة السوداء التى نغصت عليه حياته، وبدأ فى استخدم مهاراته وقدراته الخاصة المميزة فى تطوير ديكورات المطاعم وإدارتها بكفاءة بالغة نتج عنها افتتاح فروع فى أنحاء البلاد، وكذلك استفاد من خبرة ومهارات والدته أم سعد فى طبخ ألوان خاصة من الطعام، وافتتاح مطاعم عليها ﻻفتات "أم سعد" راجت كثيرا فى أنحاء البلاد قبل أن يقرر أن يفتتح سلسلة مطاعم فى الدول الأوربية".
    ومن الناحية المبدئية أرانى لا أختلف مع د. الباسوسى فيما قال، لكنى أحب أن أوضح شيئا هاما هو أن الناس فى بلادنا قد يقولون شيئا لكنهم كثيرا ما يتصرفون بعكسه. فمثلا قد نجد من يؤمن بتأثير العين والنَّقّ والقَرّ ويخشاه خشيةً وسواسية مرضية، لكنه من الناحية الأخرى يعمل على استفزاز جيرانه وأقاربه وكل من حوله بمغايظتهم بما لديه من فلوس وعقارات حتى يغمهم ويدخل النكد على نفوسهم. وهذا وذاك، كما نرى، لا يتفقان لأن الخوف من العين يستتبع أن يخفى الخائفُ ما يملك حتى لا ينقره شخص عينا تضيعه هو وما يملك. وكذلك كثيرا ما نسمع الشخص يطنطن بالكلام عن التمسك فى تعاملاته المالية بالشرف والأمانة والخوف من الله، ومع هذا لا يتحرج من فعل أى شىء مهما كان مجافيا لما يتغنى به من مبادئ رفيعة، فيقبل الرشوة ويعطيها ويغش ويخدع ويحتكر مرددا فى الدفاع عن ذلك كله وما هو أسوأ منه أن "التجارة شطارة". وهذا مجرد مثال واحد لا غير. فأرجو من الصديق العزيز ألا يخاف من تصور الناس أن النجاح المالى فى الحياة يقوم على مثل تلك الاعتقادات. إنهم هنا واقعيون تماما بل أكثر من التمام إن كان ثم شىء بعد التمام يا صديقى.
    وأنا، حين قلت قبل قليل إننى استمتعت بالنصف الأول من الرواية، وهو النصف الذى يتناول ظهور القطة الجنية ورُعْب المجند سعد من العيش وحده فى الخندق، لم أتعام عن حقيقة الجن وأنهم لا يظهرون للبشر وأن كل ما يقال عنهم فى هذا السبيل إنما هو خرافات وأساطير. وقد نجحتْ إلى حد ما الكاتبة التى يبدو أنها تخصُّص "رُعْب" فى السيطرة علينا طوال الوقت، إذ أثارت مخزون الذكريات القديمة من اعتقادات وأقوال وحكايات وحواديت وفزع يقض المضاجع كان ينغص علينا ليالينا ونومنا وبرامج إذاعية تدور حول مثل تلك الموضوعات وقراءات فى "ألف ليلة" وما يماثلها من الأدب الأسطورى فى الآداب الأخرى. وقد أسلمْنا آذاننا لما تقول المؤلفة ناسين أو بالأحرى: متناسين بملء رغبتنا ما جَدَّ على تفكيرنا وعقولنا من النظر إلى العالم والحياة من زاوية علمية كما نصنع حين نقرأ "الأوديسا" مثلا.
    ولو لم نفعل ذلك لهبت فى أذهاننا الاعتراضات منذ أول وهلة، إذ السؤال هو: ما دامت القطة التى سمع صوتها سعد ذات ليلة وهو وحيد فى الخندق جنية من الجن الذين يستطيعون أن يفعلوا كل شىء وأى شىء ويقدرون على التشكل فى أية صورة، أفلم تكن تلك القطة مستطيعة تخليص نفسها من بين الصخرتين اللتين انحشر جسمها بينهما دون الحاجة لتدخل سعد، ومن ثم دون الحاجة إلى شغل ذهن السيدة فايزة شرف الدين بكتابة روايتها التى شغلتنى أنا أيضا بقراءتها والكتابة عنها وشغلت غيرى من النقاد وشغلت أصحاب المواقع المختلفة التى نشرت ما نكتبه عنها نحن النقاد وشغلت القراء بمطالعتها، وكان أجدى لهم حسب فهم الناس فى بلادنا لو أنفقوا وقتهم فى الثرثرة السخيفة التى نغرم بها أو النوم فى العسل وإراحة عقولنا من التفكير وعواقبه الضارة المؤذية؟
    بلاش دى، وتعال إلى قاصمة الظهر التى تنسف الأمر كله من أساسه: ترى ما دامت تلك القطة جنية وكانت تتشكل بكل سهولة ويسر فى هيئة امرأة رائعة الحسن فاتنة تسحر الألباب حين تريد، وكانت مغرمة غراما مجنونا بسعد، ولا أدرى لماذا سعد بالذات، ترى لِمَ لَمْ تحول نفسها من الأول ودون خوتة دماغ (دماغها ودماغنا ودماغ سعد. منه لله سعد وما فعله بنا سعد! كنا عائشين فى أمان الله مستورين بستر الله من غير سعد وقصة سعد!) نعم لِمَ لَمْ تصيّر نفسها فتاة جميلة وتقابل سعد وتتصدى له بوصفها فتاة مصرية عادية وتغريه بخِطْبتها والاقتران بها، وإن سألها عن أهلها تنسج له قصة محبوكة تجعله لا يعير أهلها وأصلها أى اهتمام؟ نعم لماذا لم تفعل ذلك، وهو الأمر المنطقى المباشر المريح لكل الأطراف؟ الواقع أنه لو كان حدث هذا ما كانت هناك رواية ولا دياولو. ولهذا قلت إننا حين أقبلنا على الرواية وعرفنا من صفحاتها الأولى عَلَامَ تدور، ومَنْ شخصياتها التى سوف نتعامل معها، قد تناسينا عن وعى وعمد وسبق إصرار أننا أمام عالم خيالى بل وهمى جميل ليست له حقيقة فى الواقع.
    لكن هذا أمر يختلف عن أمر ساندرا اليونانية المصرية الساحرة التى وقع سعد فى شباك فتنتها من أول نظرة وبادلته هى أيضا الحب وانتهى أمرهما إلى الزواج هناك ونعما بالسعادة زمنا غير قليل. ذلك أن القطة لم تكن تظهر إلا لسعد ولا تتكلم إلا مع سعد وحده بوصفه مريضا تعتاده الهلاوس فيظن أنه يرى ويسمع ما لا وجود له، أما الآخرون الأصحاء فهم لا يرون القطة أو يسمعونها. وهذا مفهوم ومقبول، فتخفى الجن عن البشر يتسق مع طبيعتهم، وإلا فلو ظهر الجن لكل إنسان لصاروا بشرا كالبشر، وهو ما أريد أن أقوله عن ساندرا، التى كانت تعيش وسط الناس وتدير عددا من الفنادق ودخلت فى شراكة مع سعد وأحمد ابن صاحب المطاعم وكانت تقود السيارة وتركب الطائرات، وبطبيعة الحال لها تعاملات مع الحكومة الفرنسية بوصفها سيدة أعمال تدفع الضرائب والرسوم والغرامات وتكتب لهم ويكتبون لها، وعندها جيش من العمال والموظفين يشتغلون فى فنادقها، وتزوجت سعد وعاشت معه سنوات وهو يظنها امرأة حقيقية. وذلك أمر لا أستطيع فهمه أو تصوره، وبخاصة أنه كان يعرف الخطورة التى تترتب على زواجه من امرأة أخرى غير زوجته، ألا وهى زواجه من القطة حسب الاتفاق القديم بينه وبين أبيها، وهو ما يرعبه إرعابا فظيعا ويعمل بكل طاقته وعقله وأعصابه على تفاديه. تقول الرواية إنه نسى. فهل نسى هذا الخطر على الدوام بحيث امَّسَح من ذاكرته نهائيا؟ لا تقول الرواية فى أى موضع منها إنه قد أصابه مرض النسيان. نعم إنه خيال جميل، لكنه من ناحية أخرى يسقط الرواية فى بحر العبث ويفسد ما أرساه واستقر عليه الوضع فى قسمها الأول. صحيح أن موضوع القطة والجن بهذا الشكل هو أيضا أمر غير معقول، إلا أنه معقول تماما حسبما يعتقد العوام كسعد وأمثاله عن الجن، أما أن تكون ساندرا بهذا الشكل الذى قدمته لنا الرواية فغير معقول بلا حدود.
    كما أن الجنية، وإن ظهرت لسعد وأبدت له أنها مغرمة به ولا تستطيع العيش بدونه، هى من بُنَيّات أوهام سعد ولا وجود لها ماديا خارج عقله. ذلك أن القطة وما يراه ويسمعه ويشمه منها ليس سوى لُوثَة أصيب بها، فهى ثمرة هلاوس بصرية وسمعية وشَمِّيّة لا غير. فمن الطبيعى أن يراها ويسمعها ويتوهم أن لها وجودا حقيقيا ملموسا كوجوده، لكن لا يمكن أن تكون فرنسا كلها ملتاثة تهلوس وتأخذ وجود ساندرا على محمل الجد فى حين أن وجودها المادى ليس فيه أى شىء من الجد، إذ لم نسمع طوال التاريخ أن أمة أو مدينة كاملة عانت من الهلاوس والأوهام.
    وبطبيعة الحال لا يمكننا نحن المسلمين أن نتصور ظهور الجن للبشر أمرا حقيقيا. ذلك أن كتابنا المجيد يقول إن الرسول نفسه لم ير الجن، وإنما عرف ما عرفه عنهم من خلال آياته فى سُورَتَىِ "الجن" و"الأحقاف": ففى الأولى نتلو قول الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم: "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قومهم منذِرين"، فالله هو الذى يخبر رسوله بما حصل، أما الرسول عليه السلام فلم ير أو يسمع شيئا. وفى الثانية نقرأ أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى له بما وقع لا أنه عليه الصلاة والسلام هو الذى شاهدهم وسمعهم: "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفرٌ من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا". وفى سورة "الأنعام" تقول الآية الكريمة: "إنه يراكم هو وقبيلُه من حيث لا تَرَوْنَهم". وفى الحديث أن الشيطان، وهو من الجن، يجرى من ابن آدم مجرى الدم فى العروق... وهكذا.
    ومن الطريف أن تترك ساندرا سعد وتذهب لحال سبيلها، لأنها، كما قيل، قد مَلَّتْه. ولكن هل يصيب الجنَّ، حتى لو كنّ بنات ملوك مدللات وعابثات وتافهات وضائعات، كما يصيبنا نحن بنى الإنسان المللُ والسأم؟ إن هذا لعجيب، وإلا فلِمَ لَمْ يملّ إبليس، وهو جدهم وأبوهم وعمهم وخالهم، مهمته الأزلية فى إغواء بنى آدم رغم أنهم لم يؤذوه لا هو ولا أسلافه، إن كان له أسلاف، ولا أحدا من ذريته أو يسيئوا إليه، ويكف عن إضلالهم وإغوائهم ودفْعهم إلى التمرد والعصيان والكفران؟ يمينا لو فعل إبليس هذا لأقمتُ له تمثالا على سبيل التكريم والاعتراف بالجميل فى قلب ميدان الكونكورد نفسه لأنه بهذا سيقضى على همنا وغمنا وحزننا وأمراضنا وهواجسنا ومخاوفنا وفقرنا وكفر الكافرين منا ونعيش متمرغين فى العسل والسكر والسمن والقشدة وجوز الهند بلا أية معاناة.

    ولكن ما دامت الجنية قد صارت مثل البشر بل قد انقلبت بشرا وامتلكت الفنادق وتصرفت فى الأموال وأقامت المشروعات ودخلت فى شراكات وعاشرت الناس ليلا ونهارا وتزوجت سعد ومارست معه الزوجية بكل جوانبها ومتطلباتها وأصابها الملل فلم يا ترى لم تحمل؟ وإذا قيل إنها كانت عاقرا فلماذا لم يأخذها سعد إلى طبيب فرنسى لتحمل حملا مجهريا، وهما بحمد لله كان معهما فلوس كثيرة تُعَبَّأ فى زكائب ولا يقدر على حملها إلا قطارٌ طويلٌ من الجِمَال أو تلوذ بأبيها فيأمر طبيبا من أطباء الجن بحل مشكلة العقم عندها، والجن مضرب المثل فى القدرة على إنجاز العجائب، ويتفوقون على أطباء البشر؟
    بل هل يعقل أن تظل القطة العجيبة تعشق سعد عشرين عاما لا تنساه أبدا وتَضِيق بمنع أبيها لها من التعرض لسعد ما دام يتلو التعويذة كل ليلة ولا يتزوج امرأة غير زوجته؟ ثم إنها عاشت مع سعد وتذوقت برفقته السعادة (ولم لا، والسعد وعد كما يقولون، وزوجها اسمه سعد، ومعنى السعد هو السعادة؟)، ثم فجأة تضيق به بنت الفرطوس وتتبرم بصحبته وتهجره وتمشى. ماذا نقول؟ إنها امرأة ليس عندها أصل رغم أن أباها ملك. وأى ملك؟ ملك عادل رحيم لا يلين لأى انحراف عن سنة الإنصاف حتى لو كانت المنحرفة هى ابنته ذات نفسها. واضح أن العرب حين اشتقوا "الجنون" من الجن كانوا مصيبين، فها هى ذى جنية مجنونة تتعلق بواحد من البشر، أى من أعداء جنسها وأعداء جدها الأكبر الحاج إبليس، وتظل مهووسة به فوق العشرين عاما مع أن هناك مليارات من البشر غيره من كل الأطياف والأصناف، والألوان والأديان، والمِلَل والعِلَل تستطيع أن تختار منهم من تشاء من الرجال، وما عليها سوى أن ترفع إصبعها وتومئ نحوه، فيأمر أبوها الملك من يذهب فيجرّه من قفاه ويأتى به إليها ويلقيه تحت قدميها. كنا نظن أن هذا التشبث بالحبيب الذى لا يستجيب لمن تتوله به هو من خصائص نساء البشر، فإذا نساء الجن يقاسين مثل نسائنا من هذا العيب وأكثر.
    وهنا أود أن أشير إلى أن الجزء الثانى من الرواية قد اختفت منه القطة الجنية "شاهينار" اختفاء يكاد يكون كاملا فلم تأت سيرتها قط إلا فى عبارة عارضة مرتين فيما أذكر تثبت غيابها أكثر مما تثبت حضورها بعدما كانت تملأ سيرتها الجزء الأول من الرواية فلا تغيب عن صفحة من صفحاته بل نراها فى كثير من الصفحات أكثر من مرة حتى لقد نسيناها فى الجزء الثانى وظننا أنها خرجت من الخدمة وأحيلت لمخزن التكهين.



    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 22/10/2023 الساعة 06:16 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 2

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •