آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مع قصة "على حافة الأرض" للمهندس مصطفى الخطيب - بقلم إبراهيم عوض

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي مع قصة "على حافة الأرض" للمهندس مصطفى الخطيب - بقلم إبراهيم عوض

    مع قصة "على حافة الأرض"
    للمهندس مصطفى الخطيب
    بقلم إبراهيم عوض
    قبل أن أبدأ فى كتابة ما عندى عن إبداع الصديق المهندس مصطفى الخطيب أستسمحه فى كتابة كلمة على الماشى عما أومن به تجاه عنوان الأعمال القصصية، إذ أرى كثيرا من المنتمين صدقا أو كذبا إلى النقد الأدبى هذه الأيام يقفون أول ما يقفون إزاء العنوان متنطعين متساخفين زاعمين أن العنوان إحدى العلامات التى تميز العمل الحامل له ، فهو يدل عند النظر إليه على ما يتضمنه العمل الذى عُنْوِنَ به. وأقولها قولا قاطعا لا جمجمة فيه ولا تردد إن هذا خطأ ودعوى بغير برهان. فأنا، قبل أن أقرأ هذا العمل الذى بين يدىَّ الآن، لم أفهم ماذا يقصد الصديق بهذا العنوان، بل لقد قرأت العمل ثم نسيت العلاقة التى تربط بينه وبين عنوانه. ولست بهذا أرمى إلى انتقاده، إذ رأيى أن عناوين الأعمال القصصية لا يمكن الربط بينها وبين تلك الأعمال إلا بعد الانتهاء من قراءتها. ثم إن القارئ ربما عجز بعد ذلك عن التوصل إلى ذلك الرابط بعد القراءة أو ربما وجده غير مقنع لأن الكاتب لم يوفق إلى اختيار اسم مرتبط بمضمون قصته.
    وأزيد القارئ من الشعر بيتا فأقول له إننا الآن أمام مجموعة قصصية، فلنفترض أن عنوان القصة القصيرة الذى أطلق على المجموعة كلها يدل من أول نظرة على ما تتضمنه تلك القصة، فهل من المستطاع التوصل إلى ما تتضمنه المجموعة كلها من هذا العنوان الذى يخص قصة واحدة منها ليس إلا؟ وهذا إن كان من الممكن معرفة مضمون القصة التى خُلِعَ عنوانُها على الكتاب كله من مجرد رؤية عنوانها قبل قراءتها. فما بالنا ونحن نعرف أننا لا نقدر على معرفة ذلك المضمون بل لا نقدر على مجرد تخمينه؟ وكما أننا، لدن معرفتنا باسم الشخص الذى لم نكن نعرفه قبلا، لا يمكننا معرفة شخصيته من مجرد سماع اسمه فكذلك لا نقدر على معرفة مضمون أى قصة أو رواية لمجرد قراءة عنوانها. ذلك أن الاسم يطلق على صاحبه فور ولادته أو عقب ذلك بقليل، بل ربما اختير له الاسم وهو ما زال جنينا فى بطن أمه قبل أن يكون له وجود فضلا عن أن تكون له شخصية. وهذا إن كانت هناك شخصية ثابتة للإنسان طوال الحياة.
    إن عنوان القصة التى نحن بصدد تناولها هنا هو، كما قلنا، "على حافة الأرض"، فمن يا ترى يمكنه، متى ما رأى العنوان ولم يسبق له أن اتصل بالكاتب وفهم منه ماذا يعنى ذلك العنوان، أن يعرف صلته بالقصة؟ بل هل للأرض حافة أصلا؟ هناك من القدماء، كما جاء فى مقدمة "معجم البلدان" لياقوت الحموى عن هيئة كوكبنا لديهم، من كان يظن "أنها مبسوطة التسطيح فى أربع جهات: فى المشرق والمغرب والجنوب والشمال، ومنهم من زعم أنها كهيئة التّرس، ومنهم من زعم أنها كهيئة المائدة، ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل..."، ومن القدماء أيضا من نسب للرسول عليه السلام حديثا باطلا غبيًّا كمُلَفِّقِه، ونَصُّه: "والَّذِى نفْسِى بيدِهِ لوْ دَلَّيتُمْ أحدَكُمْ بحبْلٍ إلى الأرضِ السابعةِ لَقَدِمَ على ربِّهِ عز وجل"، وهو ما يعنى أن للأرض حافة، ومن ثم يمكن، اتكاء على تلك المقولات القديمة، أن يقال: "على حافة الأرض". لكن صاحب المجموعة لا يعد الأرض مسطحة، فهو مهندس متنور يعرف أن الأرض كروية أو ذات شكل قريب من هذا وأنه ليس لها حواف على الإطلاق يجلس عليها الشخص ويدلِّى رجليه كأنه جالس على مسطبة أو أريكة مثلا، وليس عقله كعقل واحد مثلى حين كان يتصور فى طفولته الأولى الأرض التصورات المضحكة. وحتى لو أخذنا "حافة الأرض" على سبيل المجاز، وقلنا إن من المحتمل أن يكون المؤلف قد استعملها وفى ذهنه خريطة الأرض لا الأرض ذاتها، وبالتالى فإن المقصود هو آخر نقطة فى الشرق الأقصى، أو أخر نقطة فى سواحل أمريكا الغربية مثلا لما أصبنا المراد لأن الصديق الكريم لا يقصد شيئا من هذا أبدا، إذ القصة لا علاقة لها بشرق أو غرب ولا بنهاية آسيا من جهة اليابان أو أمريكا من ناحية أخرى، بل المقصود أن راوى القصة كان يعتقد وهو صغير أن الأرض تنتهى بعد المطار، وأن من ينزل من الطائرة إنما جاء من السماء! أى أن المطار يمثل حافة الأرض. وهذا معنى لا يمكن أن يخطر على بالنا نحن القراء. وقد رجعت الآن إلى القصة المسماة بهذا العنوان لأستعيد سبب إطلاق هذا العنوان عليها.
    إن الاسم هو علامة من علامات كثيرة تميز الشخص عن سواه. وكم من شخص يحمل اسم "علىّ" وهو منحطٌّ ليس فيه من العلوّ والرفعة شىء، أو اسم "حامد" وهو دائم السخط على أحواله لا يحمد الله أبدا، أو "شريف" وهو وضيع، أو "سيد" وهو عبد خاضع، أو "عبد" وهو سيد عظيم، أو اسم "عزيزة" وليس فى شخصيتها أية عزة، أو "اعتماد" ولا أحد يعتمد عليها فى شىء، أو نبيلة وهى دنيئة فارغة من كل نبل... إلخ. على أننى، قبل مغادرة هذه النقطة، أود ألا يفهم أحد أنه لا وشيجة تصل بين القصة وعنوانها البتة، بل كل ما أزعمه هو أننا لا نستطيع ذلك قبل قراءتها، بل قد نفشل فى ذلك حتى بعد تلك القراءة لأن كاتبها لم يحسن اختيار العنوان أو لعدم قدرتنا على استشفاف السبب لأمر أو لآخر.
    وهكذا فرغنا من عتبة العنوان واكتشفنا معا أن ما يقال عن ذلك الموضوع لا قيمة له بل هو افتراء أدبى ونقدى من ناس لا يحققون ما يقولونه ولا يمحصونه أو يدققون بنظرهم وعقلهم فيه. وننتقل الآن إلى واحدة أخرى مما يدعوه الفارغون بـ"عتبات النص"، تلك العتبات التى يحسبونها على نص المبدع ويدخلونها فى تقييمهم (أو تقويمهم) له، أقصد تلك الكلمة التى وضعها المؤلف بعد ذلك فى صفحة على حدة، وهى "لا شىء عادىّ فى هذه الحياة ..."، وكذلك الاقتباس التالى:
    "أصغ!
    لم يأخذ إنسانٌ متاعه معه
    ولم يعد إنسانٌ ثانيةً ممن رحلوا إلى هناك"
    (من أنشودة فرعونية كُتِبَتْ على جدار مقبرة ٢١٠٠ ق.م".
    وهو، رغم روعته، لا علاقة له بالنص من قريب أو بعيد، وإن كان يوحى برهافة مشاعر المؤلف وما يشغل ذهنه من أمور الحياة العجيبة التى كنا نود لو كانت على نحو آخر غير الذى نراه وجربناه واكتوينا بناره. وما دام الأمر هكذا فلا يصح حسبانه جزءا من النصوص القصصية التى يشتمل عليها الكتاب، وكل ما يمكن أن نقوله عنه هو ما قلته أنا قبل قليل حين استشففت منه ما استشففت من إيماءته إلى نفسية المهندس الخطيب، ولا شىء آخر.
    وكثيرا ما قرأتُ مثل تلك المقتبسات أو التعقيبات فى بداية الإبداعات الأدبية، وكثيرا ما أُخِذْتُ بروعتها، ثم لما قرأت العمل الأدبى ذاته أصبت بخيبة أمل، وعرفت أن المؤلف قد أراد عبثا أن يرفع خسيسة عمله باقتباس من هذا المؤلف المشهور أو ذاك، وكثيرا أيضا ما خلت الأعمال الأدبية من مثل تلك الممهدات الاقتباسية، وكانت أعمالا بديعة... إلخ، إذ كل تلك الاقتباسات والتعقيبات هى شىء منفصل عن العمل الأدبى.
    ومما يسمونه: "عتبات النص" أيضا المقدمة الجميلة التى كتبها للمجموعة الصديق أ. نشأت المصرى وأثنى فيها على المؤلف ثناء جما مستطابا وأشاد بطريقته فى اختيار موضوعاته غير الاعتيادية وفى القص وتصوير الشخصيات وقبول العمل لأكثر من تفسير، وتنبأ للمبدع بأنه سوف يتبوأ مكانة عالية فى مضمار الكتابة القصصية. وأنا مع كاتب المقدمة إلى حد بعيد، فقد قرأت قصص المجموعة وداخلنى كثير مما داخل الصديقَ صاحبَ الكلمة المذكورة تجاه القصصِ ومبدعِ القصص، وكنت أشعر بشىء كثير من الشجن المتسم بالعذوبة، فقد كان المهندس الخطيب يختار موضوعات إنسانية ويعالجها بأسلوب حساس متناولا لها من زوايا غريبة بعض الشىء.
    وعند قراءتك لقصص المجموعة سوف تشعر أنت أيضا بهذا أيها القارئ الكريم. إن مصطفى الخطيب لا يكتب أدبا مما كان اليساريون يحبون أن يكتبوه ويسمونه بـ"الأدب الملتزم"، كما لا يكتب شيئا يتعلق بالدين تعلقا مباشرا ولا يكتب أدبا كفاحيا ضد الاستعمار وأعوانه والرجعية ومؤامراتها الحقيقية أو المدَّعاة ولا عن السجون ولا عن موضوعات الشارع اليومية ولا عن علاقات الجيران ولا عن متاعب الفقراء ومعاناتهم فى سبيل الحصول على اللقمة ولا عن الفساد الإدارى ولا عن الرشاوى والوساطات ولا على انحطاط التعليم ولا عن فساد الذوق الاجتماعى... إلخ، بل يختار موضوعاته وشخوص قصصه من ناحية الوجود الإنسانى العام. وهى موضوعات تخلو من العنف والصراع الأرضى والتصرفات الحادة والكلام الصاخب، لكنها بما فيها من رقة وعذوبة وشجن وأسى وصوت خافت فى كل الأحوال تجذبك إليها وتثير لديك الشجن العذب والأسى الرقيق نفسيهما. ولسوف أوضح هذا حين أدخل فى نقد القصة القصيرة التى اجتبيتُها من المجموعة الموجودة فى أيدينا.
    ولكن هناك نقطتين أحب أن أتوقف قليلا بإزائهما تبيينا لسخفٍ آخَرَ مما يتشادق به أصحاب العتبات غير المقدسة أولئك الذين لا يجدون شيئا يشغلهم فيشغلون أنفسهم ويريدون أن يشغلونا معهم بالتفاهات الكاذبة. ذلك أنهم يُدْخِلون العتبات فى تقويمهم (أو تقييمهم) للعمل القصصى (أو الشعرى أو المسرحى...) الذى يتناولونه بالنقد. وهذا "سخفٌ ساخفٌ" كما يحب طه حسين أن يصوغ عبارته أحيانا، فالمقدمة التى يكتبها غير المؤلف لا يصح أن تحسب للمؤلف أو عليه، إذ ليست هذه المقدمة جزءا من عمله بل من عمل قلم آخر. وكثيرا ما تحاول المقدمة أن ترفع من شأن العمل ومبدعه فى الوقت الذى يكون فيه العمل المبدَع رديئا، والعكس بالعكس، وقد تكون المقدمة صادقة، ويكون ما فيها انعكاسا حقيقيا لنظرة كاتبها إلى العمل الذى ينقده. وفى كل الأحوال لا ينبغى أبدا أن ندخلها فى اعتبارنا ونحن ننقد أى إبداع قصصى. ولكن من ناحية أخرى نستطيع بكل جدارة أن نجعل المقدمة فى حد ذاتها موضوعا لنقدنا وتقويمنا ونعطيها درجة خاصة بها ونبدى رأينا فيها سلبا أو إيجابا حسبما نرى. وحتى لو كان كاتب مقدمة العمل القصصى هو كاتب ذلك العمل ذاته فلا مناص، إن أردنا أن نكون منصفين عاقلين، أن نحاسبه فنيا على العمل نفسه وحسب دون أن نربطه بنص المقدمة بوصفه جزءا منه يرفع منه فى تقديرنا أو يحطه. فذلك شىء، وهذا شىء آخر مختلف. العمل القصصى كيان مستقل عن المقدمة حتى لو كانت المقدمة تساعدنا على فهم العمل.
    والآن إلى بعض ما تتسم به المجموعة القصصية التى أبدعها قلم المهندس مصطفى الخطيب. وأول كل شىء هو اللغة. وقد لاحظت أن فى أسلوب المهندس الخطيب سلاسة وإحكاما وحساسية. وهذا، حسب فهمى، راجع إلى موهبة فطرية نماها لديه قراءته لكبار الكتاب المصريين. لكن، ويا لها من "لكن"، لكن للأسف نجد أن النحو والصرف عنده يحتاجان إلى ضبط بل إلى "ضبط وإحضار" كما تقول لغة الشرطة والنيابة. وقد أخبرنى، وأنا أبدى له فى بعض حواراتنا هذه الملحوظة، أنه قد عهد بالمجموعة إلى بعض المدققين اللغويين رغم ذلك.
    بل هو نفسه قد ذكر هذا فى صفحة الشكر حين أثنى على جهود من قام بتقويم الاعوجاج النحوى الذى كان واضحا فى الكتاب مع ذلك, فقلت له ما معناه أن المدقق اللغوى قد يكون أحيانا محتاجا إلى من يدقق له لغته هو أيضا، إذ إن حالة التعليم هذه الايام لا تسر ولا تبهج بتاتا. ولَخَيْرٌ للمؤلف أن يتقن قواعد اللغة بنفسه من خلال العكوف على أى كتاب بسيط فى النحو كـ"النحو الواضح" للمرحومَيْن على الجارم ومصطفى أمين. وأنا زعيمٌ بأنه متى ما عكف على هذا الكتاب، وهو مجرد مثال، عكوفا صادقا بنِيّة معرفة قواعد العربية وقرأ تلك القواعد فيه مرتين مثلا مع التركيز سوف يكتب دون أخطاء تذكر. وهذا أفضل من إعطاء العمل لمن يصححه لغويا، وبخاصة فى حالة المهندس الخطيب وأمثاله ممن يملكون حساسية التعبير وسلاسة الأسلوب. وليس ثم داع لأن نقول إن الحلو لا يكتمل أبدا إذا ما عمل المهندس الخطيب باقتراحى السهل اليسير.
    إن أسلوب المؤلف يشبه شخصا يرتدى ملابس غالية متناسقة الألوان تدل على مقدرة مالية وذوق سليم، لكن مَكْوَى القميص قد نال منه تغضن هنا أو اتساخ هناك، وخرج طرف منه من السروال من أمام، وتحتاج السترة إلى إمرار الفرشاة عليها لتخليصها مما علق بهما من الغبار، فضلا عن أنه خرج من البيت دون تمشيط شعره جراء العجلة. أشياء يمكن تداركها بأضأل الجهود والتكاليف، لكن صاحب الملابس الغالية المتناسقة الألوان لم يُولِها اهتمامه، ولو فعل لازداد تألقا وأناقة.
    وشىء آخر، وهو أنه يكتب حوار شخصياته فى بعض قصصه بالعامية، وعاميته تخلو من أى شىء منفر، بيد أنى كنت أود لو اصطنع الفصحى فى جميع حواراته القصصية حتى يكون كل شىء متسقا مع الموضوعات الإنسانية الراقية التى يطرقها فى قصصه. إنه لا يتكلم عن نزاع حول الميراث مثلا ولا الفقر المدقع والحقد الطبقى الذى كان يبدئ فيه الشيوعيون ويعيدون ولا يقرب المشاهد الجنسية لا الفِجّ منها ولا غير الفِجّ ولا يخطر على باله الشذوذ الذى يُغَثِّى النفوس الكريمة على عكس كثير من الكتاب والكاتبات الحاليين الذين يحرصون على "تزيين" قصصهم ورواياتهم بالممارسات الجنسية الشاذة بما فى ذلك معاشرة الحيوانات: الأليف منها كالحمار والكلب وغير الأليف كالقرد مثلا.
    لقد اكتشفت، مع الانصدام البشع، ما كتبته بعض الكاتبات العربيات المنتسبات إلى الإسلام عما يفعلنه مع الرجال والنساء والحيوان زنا وسحاقا وسفادا على الترتيب غير مورّيات ولو بنقاب شفاف لا يحجب شيئا لا فى الوصف ولا فى الألفاظ غير مستحييات عن ذكر أعضائهن الأمامية والخلفية وما يقع بينهن وبين الطرف الثانى من كلام وأفعال. موضوعات مصطفى الخطيب، كما طالعتها فى هذه المجموعة، موضوعات إنسانية رهيفة رقيقة أسيانة تخلو من عنف المشاعر والألفاظ الغليظة أو العارية، ويتناغم معها جدا أن يكتب حوار قصصها كلها بالفصحى.
    صحيح أن هناك من يقول، تسويغا للجوء إلى العامية فى الحوارات القصصية، إن الناس فى الواقع لا تتحدث الفصحى بل العامية، فالقصاص حين يكتب حوارات أعماله بالعامية إنما ينقل الواقع ويُشْعِر القراء بأن ما يقوله حقيقى. لكن فات هؤلاء أن العبرة ليست بنقل الواقع بعُجَرِه وبُجَرِه، أو كما نقول فى كلامنا اليومى: "بِعَبَلِه"، بل بالإيهام بأنك تنقل الواقع، وإلا فهل الناس فى الواقع تحكى قصصها بالفصحى؟ طبعا لا بل بالعامية. فهل نقلب سرد القصص وما فيها من أوصاف ورسْم شخصيات وخواطر داخلية ونُسْكِنه العاميةَ بناء على هذا؟ بل هل يتناول الناس الحديث فى أمور الدين والسياسة والاقتصاد وما إليها فى الواقع بالفصحى؟ طبعا لا. فهل نقلب نشرات الأخبار وخطب الجمعة ومقالات الصحف وأخبارها من أجل ذلك من الفصحى إلى العامية؟ معنى ذلك أننا سوف ننبذ الفصحى من حياتنا وثقافتنا وكلامنا وتفكيرنا وكتاباتنا تماما ونفقد بالتالى عاملا شديد الأهمية فى الوحدة العربية، وسوف تهبط كتاباتنا درجة بل درجات، ولن نستطيع فهم النص القرآنى الذى شرفنا الله به نحن العرب ولا تراثنا العلمى والأدبى. فهل يصح أن يتخلى شعب من الشعوب أو أمة من الأمم عن أحد عناوين شرفها ونبلها وعزها ومجدها والعامل الأهم فى وحدتها والتفاهم بين شعوبها؟
    ولقد كتب كبار المؤلفين العرب فى العصر الحديث، كعائشة التيمورية وعلى الجارم وإبراهيم رمزى ويعقوب صروف وجرجى زيدان والعقاد وطه حسين والزيات والمازنى ومحمد فريد أبو حديد ومحمود تيمور ومحمد سعيد العريان ومحمد كامل حسين ومحمد فريد أبو حديد ومحمد فريد الشوباشى وعلى أحمد باكثير وسيد قطب ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وبنت الشاطئ وسهير القلماوى وأمين يوسف غراب وثروت أباظة ونجيب الكيلانى وحلمى القاعود، حوار أبطال قصصهم ورواياتهم بالفصحى، ونحن حين نقرؤها نحس بروعة الفن وسموق الأسلوب وقدرته الفذة على التعبير عن أفكار أبطالهم وخواطرهم ومشاعرهم. ولم نسمع أحدا منهم يشكو أية صعوبة فى إنطاق شخوصهم بلغة القرآن المجيد على الإطلاق أو يتحدث عن إحساسه بالتنافر بين اللغة الفصحى ومتحدثيها فى أعمالهم. من هنا أحب أن يراجع م. مصطفى الخطيب نفسه ويطّرح العامية تماما ويلتصق بالفصحى التصاقا لا انفصام له أبدا حتى يُكْتَب لأدبه الدوام ويظل مصدر إلهام لقرائه على مدى الأيام.
    والآن حان وقت الانتقال إلى القصة التى اخترتها، وهى أولى قصص المجموعة. وستكون نقطة البدء هى التوقف إزاء عنوانها: "برج الحمام"، وأريد أن أسأل القراء الذين ليس لديهم علم بهذا العمل: ماذا يفهمون من ذلك العنوان ودلالته على مضمون القصة وصلته بها؟ ولسوف أجيب نيابة عنهم وأقول: لا أحد يعلم شيئا عن تلك الدلالة وهذه الصلة. وهذا حق، فليس فى العنوان أكثر من أن الكلمة معناها ذلك البناء المخروطى المقام على سطح المنزل وفيه فتحات كثيرة يدخل منها الحمام ويخرج طول النهار ويبيت داخله خلال الليل. لكن بعد قراءتك للقصة ستعرف أن المقصود هو برج الحمام الذى كان الطفل فيها يرى عمه وهو يفتحه ويغلقه ويشرف على سكانه اللطاف، فيتمنى لو حصل على هذا المفتاح ليقترب من ذلك الطير ويَطَّلِع على عالمه من قريب حتى لو كان السبيل إلى ذلك هو أن يموت عمه. والآن بالله عليكم هل كان هذا يخطر على بال أى منكم؟
    وهنا أضع بين أيديكم السطور الأولى من القصة: "كنتُ قد فارقتُ الحُلْم لِتَوِّى، لم أفلت من قبضته بعد، مازالت بقاياه تعبث بمُخَيِّلَتى، وتراود روحى المنهكة، أحاول أن أتذكر، بعض التفاصيل مفقودة، وكذلك البداية، لكن النهاية أتذكرها جيدا.
    ...
    فى طريقه إلى الحَمَّام سمع صوتا وحركة فى المطبخ فتوجه إليه، فإذا هى جالسة إلى طاولة المطبخ تُحَضِّر طعاما للقطط، تَطَلَّعَ إليها وتَفَحَّصَهَا، ثم قال مستغربا ومستنكرا:
    - إنتى مين؟! إيه اللى جابك هنا؟
    فى أول الأمر اعتقدتْ أنه يداعبها كعادته، ظهرت ابتسامة خفيفة على وجهها الجميل الشَّاحب بعض الشىء، ودون أن تنظر إليه قالت مداعبة هى الأخرى، ودون أن تنظر إليه قالت:
    - خدامتك آمنة.
    - آمنة مين!
    هَالَها الجدية البادية على وجهه، إلا أنها اعتبرتها حبكةً وإمعانًا فى المداعبة، تجاهلت الأمر، قالت:
    - عَبَالْ ماتخلَّص الحمَّام وتصلّى هاكون حضرت لك الفطار...
    فى تلك اللحظة اجتاحها سيلُ الذكريات...
    بين الحدائق وعلى الممر المُكَلَّل بالزهور كان عليهما فى نهاية الحفل أن يمضيا بصحبة القليل من الأهل والأصدقاء حوالى مئتى متر سيرا على الأقدام ليصلا إلى العربة التى ستُقِلّهما إلى عش الزوجية، بعد عدة أمتار قطعوها كأن فخّ نُصِب لهما، فتحت السماء أبوابها فجأة عليهم بماء منهمر، حولت الممر والحدائق المحيطة حولهما فى ثوانى إلى برك ماء وطين، لاذ الجميع بالفرار، يبحثون عن ملجأ أو مظلات يحتمون فيها، لم يبق معهما إلا بنتين صغيرتين كانتا ترفعان ذيل ثوب عرسها عن الأرض وتبكيان، صرخت فيه ماذا تفعل وقد ابْتَلَّ ثوبها عن آخره، سال ماء المطر على وجهها فخلط ألوان "الميك اب" فبدا وجهها كوجه بلياتشو حزين بائس، كانت ستبدو على وجهه ابتسامة خفيفة، تراجع عنها فورا عندما رأى على وجه البلياتشو مظاهر الحنق والغضب، ولتكتمل المأساة انحشر كعب حذائها العالى بين قطعتين من بلاط الممر، حاولتْ نزعه بقوة وعصبية فترنحتْ ومالت بشدة، حاول هو أن يمنعها من السقوط، فسقطا فى بركة من الماء العكر، صرخت صرخة تَرَدَّد صداها فى أرجاء المكان تبعتْها بنحيبٍ قاس، بينما ظل صامتا لبرهه لا يدرى ما الذى يحدث، ثم انفجر فى ضحك صاخب، نظرتْ إليه على أنه فقد عقله، حاولت النهوض، فأمسك يدها ومنعها وهو يقول:
    - بالعكس يا بنتى دى لحظة تاريخية ماتتعوَّضش، فين المصوّر، صَوّر يا بنى صَوّر ...".
    وفى هذا الاقتباس نجد الجمل تنساب انسيابا، فلا ركاكة ولا خلخلة، إذ كل كلمة فى مكانها لا تتقدم ولا تتأخر، وليس هناك حذفٌ فى موضع ذِكْر ولا ذكر فى موضع حذف، والكلمات مَقِيسَةٌ على المعانى المطلوب التعبير عنها، وليس ثم إطناب فى محل إيجاز ولا العكس... وهذا ما قصدتُه حين أثنيت على أسلوب الكاتب. كذلك نلاحظ أن ثم جملا كثيرة قصيرة، وبوجه عام يخلو الأسلوب من الجمل الاعتراضية. كما أن كثيرا من الجمل تبدأ دون واو الاستئناف، وهذا ظاهر فى أساليب العقود الأخيرة، وهو أحد مظاهر التأثر بالأساليب الغربية. ومع هذا لم أشعر هنا بالاستغراب كما كنت أحسه فى سبعينات القرن الماضى لدن قراءة الشبان اليساريين ومَنْ لَفَّ لِفَّهم. وربما كان استخدامُ المؤلفِ الفاصلةَ فى موضع النقطة مثلا هو السبب فى هذا، إذ توحى الفاصلة باتصال الجمل بعضها ببعض لا باستقلال كل منها بنفسها.
    لكن لا مناص من الإشارة إلى بعض الملاحظات النحوية والصرفية دليلا على صدق ما قلتُه حين ذكرتُ أنه لو راجع المهندس مصطفى الخطيب قواعد العربية، وهو على ذلك قادر، لكان له شأن آخر. وهذه أمثلة سريعة من القصة التى نتناولها على تلك الملاحظات اللغوية: "كأن فخّ نُصِبَ لهما" (وصوابه "كأن فَخًّا نصب لهما"). "فى ثوانى" (فى ثوانٍ). "لم يبق معهما إلا بنتين صغيرتين" (إلا بنتان صغيرتان). "لبرهه" (لبُرْهَة). "لا تنظر ورائك" (وراءك). "يأمرنى الصوت: أركب" (اِرْكَبْ). وطبعا قد لاحظنا فى النص السابق كيف يدير قصاصنا الحوار بين أبطاله بالعامية كما وضحنا قبلا.
    والقصة تصور العلاقة العاطفية الرقيقة بين زوجين كبيرين بينهما حب قوى هادئ وراسخ. وتبتدئ الحكاية بالزوج وقد استيقظ لتوه من النوم محاولا بصعوبة أن يتذكر حلما رآه فى المنام. ولدن عودته من الحمام حيث توضأ لصلاة الصبح تلاحظ الزوجة أن نطقه للكلام قد اعتراه ثقل وأنه لا يستطيع التعرف إلى أنها زوجته بل يظنها امرأة غريبة لا يدرى ما الذى أتى بها إلى هناك. ثم تتصل الزوجة بابن أخيه ليحضر عربة إسعاف لنقله إلى المستشفى لتدارك حالته. وهناك يدخل غرفة العمليات بينما تجلس زوجته المحبة إلى جواره ممسكة بيده وتفركها له بلطف وحب أثناء تخديره.
    ثم ينتقل بنا المؤلف مع الزوج فى رحلة يُلْفِى فيها نفسه فوق ظهر نسر كبير ذى جناحين هائلين يطير به فى الفضاء بعد أن كان قبل قليل ينظر يمينا وشمالا بناء على صوت آمر لا ندرى صوت من هو، فيرى مناظر جميلة وخيرات كثيرة متنوعة: "فى سيارة الإسعاف، بينما كان مستلقيا على ظهره، مسكت يده بين راحتيها وضغطت عليها برفق، كان قد بدأ فى الذهاب لنوم عميق.
    ...
    ثمة صوت يهمس فى أذنى:
    - لا تنظر ورائك ...
    ثمة شخص يقف بجوارى ولا أراه، يقول:
    - انظر إلى يمينك، هناك ...
    فتظهر أشجار كبيرة لها فروع ملتويه، وأوراق لها تبدو كآذان الفِيَلَة، تنتهى بثمار ذهبية وفضية، تبدو الأشجار بعيدة وغريبة، وسط حقول من أزهار وزنابق وأعشاب برية على مد البصر.
    ...
    أشعر براحة يدها طرية ناعمة حنونة، تفرك كفى.
    همس الصوت من جديد:
    - انظر إلى شمالك
    فتكون طيور جميلة ملونة تسبح فى الفضاء، يدنو طائر كبير ويخشع أمامى، يأمرنى الصوت:
    - اركب ...
    أشبه بنسر عظيم، يطير بى فوق جبال وأنهار وسهول، فيما يشبه الأرض من جديد.
    ...
    أشعر بأصابعها النحيلة تتخلل أصابعى، تتشابك معها وتتداخل، أسمع همسها فى أذنى يلهث بالتسبيح والتكبير، أحاول أن أردد وراءها، أفتح عينى لبرهه لأراها، فأنا أعى أنى أغادر الآن، قناع الأوكسجين يحجب عنى وجهها، أراها تنظر إلى أول حفيد لنا فى صندوق الحضَّانة الزجاجى، أنظر من الجهة المقابلة، تلتقى عينانا كما التقت أول مرة رأيتها فى الجامعة، وكما أريد أن أراها الآن لولا قناع الأوكسجين، لا أقوى على نطق، ارفعوا القناع ...
    يطير بى النسر فوق بحار عظيمة لا أول لها ولا آخر، يعلوها بخار كثيف، يزيد النسر من سرعته ليجتاز تلك البحار التى يبدو أنها تغلى، أشعر برذاذ ملتهب يلسع أطراف قدمى، فأحثه أكثر على المسير، فيخفق بجناحيه العظيمين بقوة، يحدث موجات هوائية هائلة ويصيح فيتردد صوته بين الجبال، يظل هكذا أحقابا عديدة، لا يصل ولا يسقط بى...!". وتنتقل القصة بغتة إلى ما يفهم منه أن الزوجة كانت قد انتقلت إلى جوار ربها وتركت زوجها وحده يفتقر إلى حنانها الجميل العميق وتنتاشه الذكريات، وإن لم يحدد المؤلف متى كان ذلك بل تركها مفتوحة.
    وركوب النسر هنا يذكرنا بما ورد فى "ألف ليلة وليلة" من ركوب البشر للنسر والرخّ. بل هناك من ركب إنسانا مثله من البشر كما هو الحال حين امتطى جانشاه ظهر السيدة شمسة وأمسك بريشها بناء على طلبها وطارت به إلى بلده كى يتزوجا ويقيما هناك. وسارت، كما تقول الحكاية، فى الجو مثل هبوب الريح والبرق اللامع، ولم تزل طائرة من وقت الضحى إلى وقت العصر، وجانشاه راكب على ظهرها. وفى وقت العصر لاح لهما على بعدٍ وادٍ ذو أشجار وأنهار، فقالت لجانشاه: قصدى أن ننزل فى هذا الوادى لنتفرج على ما فيه من الأشجار والنبات هذه الليلة. فقال لها جانشاه: افعلى ما تريدين. فنزلت من الجو وحطت فى ذلك الوادى، ونزل جانشاه من فوق ظهرها وقبلها بين عينيها، ثم جلسا بجانب نهر ساعة من الزمان.
    وبعد ذلك قاما على قدميهما وصارا دائرين فى الوادى يتفرجان على ما فيه ويأكلان من تلك الأثمار ولم يزالا يتفرجان فى الوادى إلى وقت المساء ثم أتيا إلى شجرة وناما عندها إلى الصباح، ثم قامت السيدة شمسة وأمرت جانشاه أن يركب على ظهرها، فقال جانشاه: سمعًا وطاعة. ثم ركب جانشاه على ظهرها، وطارت به من وقتها وساعتها، ولم تزل طائرة من الصبح إلى وقت الظهر، ثم نزلت من أعلى الجو إلى مرج فسيح ذى زرع مليح، فيه غزلان رائعة وعيون نابعة وأثمار يانعة وأنهار واسعة. وكانا قد قطعا حتى ذلك الوقت مسافة ثلاثين شهرًا...
    وهناك كذلك حكاية الرجل الذى امتطى ظهر الرخ وطار به فى الأعالى. ولما حط الرخ على الأرض نزل صاحبنا وترك الطائر يذهب فى حال سبيله، وانصرف هو لِطِيَّته. وهناك أيضا السندباد البحرى، الذى ربط نفسه بذبيحة حملها النسر بمخالبه دون أن يتنبه إلى أن السندباد مربوط بها بعد أن جمع كثيرا من قطع الألماس قبل التصاقه بالذبيحة وعبأها فى ثيابه. ولم يزل النسر طائرًا بالذبيحة وبالسندباد إلى أن صعد بها إلى أعلى الجبل وحطها وأراد أن ينهش منها، وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذلك النسر، وشىء يخبط بالخشب على ذلك الجبل، فجفل النسر وطار إلى الجو، فخلَّص السندباد نفسه من الذبيحة ونجا من خطر محدق... إلخ.
    ولا بد أن يكون المؤلف قد قرأ "ألف ليلة وليلة" أو سمعها فى المذياع، أو تناهت إليه على نحو أو آخر تلك الحكايات. فهو مثقف ومبدع، ولا يعقل ألا يكون عارفا بهذا. وليس شرطا أن يكون قد كتب هذا عن وعى وقصد، فكثير مما يبدعه المبدعون يطفو من الذاكرة المظلمة فى أعماق أنفسهم وعقولهم دون أن يخططوا له تخطيطا. بل كثيرا ما يظن المبدعون أنهم أبناء بَجْدَتها، ثم يتنبهون فيما بعد إلى المنبع الذى مَتَحُوا منه فى غفلة عن الوعى.
    ومن ناحية بناء القصة نجدها تبدأ بالسرد عن طريق ضمير المتكلم على لسان الزوج يصف ما شعر به حين استيقظ من النوم وبقايا حلم عالقة بذاكرته محاولا تذكر الباقى. ثم يتحول السرد بعد ذلك إلى ضمير الغائب يحكى بعض ذكريات الزوجة، ليعود كرة أخرى إلى ضمير المتكلم على لسان الزوج. وقد تمت هذه المراوحة بين تخصيص الزوج بالسرد بضمير المتكلم بينما يتحول السرد إلى الراوى الكُلِّىّ العِلْم عندما يأتى دور الكلام عن الزوجة، تمت هذا المراوحة بنعومة ومهارة لدرجة أنى لم أُعِر الأمر فى البداية انتباها مما يدل على براعة الكاتب فى هذه النقطة، وبخاصة إذا عرف القارئ أن العبد لله حساس تجاه التنقل بين زوايا السرد المختلفة لا يعجبنى كثير منها وأرى أنه مفتعل وغير منطقى، أما هنا فلم ألحظ ذلك فى القراءة الأولى ولم أجد، بعد تنبهى إليه فيما بعد، ما يبعث على الاعتراض.
    لكن هناك نقطة يلزم التأنى عندها قليلا، وهى أن السارد العليم قد أشار إلى الزوجة حين وقع نظر زوجها عليها فى المطبخ وهو فى طريقه إلى الحمّام عقب قيامه من رقاده فى مفتتح القصة بقوله: "فى طريقة إلى الحمام سمع صوتا وحركة فى المطبخ فتوجه إليه، فإذا هى جالسة هناك..."، ولم يكن قد سبق كلام عنها بأى حال كى نقول إن الضمير: "هى" يحيل عليها، ومن ثم لا بد أن يكون مستعمل هذا الضمير لصيقا بها على نحو شخصى حميم، وهو ما لا يصدق على الراوى الشامل العلم لأن الراوى الشامل العلم يقف على مسافة واحدة من الجميع ولا يقترب من أى شخص فى القصة على ذلك النحو. لقد كان يمكنه أن يقول مثلا: "فإذا زوجته/ فإذا امرأة جالسة هناك"، أما عبارة "فإذا هى جالسة هناك" فتوحى بأنه كان واعيا بأنها زوجته، بينما كلامه إليها عقب ذلك يدل على أنه لم يكن يعرف آنئذ أنها كذلك، إذ سألها من هى وماذا تفعل قى المطبخ ومن أتى بها إلى هناك. بل إنه حين قالت له إنها آمنة كان جوابه على الفور: آمنة مَنْ؟ ولم يشفع لها قولها إنها سوف تعد له الفَطُور الذى يحبه وسوف يكون الطعام جاهزا عند فراغه من صلاته. قد يقال إن هذه نقطة ضئيلة الشأن لا ينبغى أن ينشغل بها الناقد، لكنى أرى وجوب الاهتمام بمثل هذه الدقائق المتعلقة بزوايا السرد تجنبا لشعور القارئ (الحساس) بقلق البناء القصصى وعدم إحكامه.
    وثم ملاحظة أخرى أخذتْ عينى وعقلى فى القصة، وهى قول ذلك السارد العليم إن الزوج حين قام من النوم كان يحاول أن يتذكر بعض التفاصيل فى حلمه الذى كان يحلم به قبيل الاستيقاظ، فسمع صوت القابلة وهى تقول: ولد، والله ولد. ويفهم من السياق أن الكلام عنه هو عندما وُلِد. فهل سمع هذا الكلامَ فى الحلم؟ إن كان فلا بأس، فما أكثر الأحلام العبثية غير المنطقية، إذ من غير المعقول أبدا أن يسمع الوليد صوت القابلة ويفهم كلامها عنه آنذاك فى الوقت الذى يستحيل فيه على طفل فى سنه ليس له من العمر غير دقيقة أو دقيقتين أن يسمع ويفهم ما يقال عنه أو عن أى شىء آخر، ومن ذلك ما أذكره من رؤيتى لنفسى ذات ليلة أيام الشباب فى المنام وأنا أَسِيرُ خلف نعشى وأبكى لموتى وكأنى أبكى على عزيز علىّ لا على نفسى. أما إن كان المقصود أنه تذكر ذلك عن نفسه فى الواقع الفعلى وأنه سمع وفهم ما قيل لدن ولادته فهو أمر غريب وعجيب بل مستحيل.
    ويغلب على ظنى التفسير الأول رغم التباس الأمر هنا علينا نحن القراء، وعليه فلا ملامة على المؤلف، وإن كنت أستغرب إثارة نقطة كهذه ساعتذاك لا يمكن أن تكون قد وقعت بأى حال! لكنى أعود فأنتكس على رأسى وأقول إن السياق الذى يعقب العبارة المذكورة هو سياق تذكُّر وقائعَ حدثت على الأرض لا أضغاث أحلام رُؤِيَتْ فى المنام. وهذا عجيب وغريب بل مستحيل كما سبق القول.
    وحبا للتعالم ولفْت انتباه القارئ إلى أننى أنا أيضا على شىء، وإن كان "ضئيلا بئيلا" كما كان يحب أن يقول طه حسين، من الوعى بما يسمى هذه الأيام بـ"النقد الثقافى" حتى لا يتهمنا ببغاوات النقد بالجهل بالمناهج النقدية الحداثية رغم أن هذا اللون من النقد موجود فى نقدنا التراثى بسلاسة تامة وأريحية كاملة، وإن لم يكن نقادنا الماضون يستعملون رطانة النقاد الثقافيين ومصطلحاتهم ودعاواهم التى لا تنتهى بل يمارسون ذلك اللون بتلقائية كما يتنفسون، وهو ما أثبتُّه فى كتابى: "النقد الثقافى فى كتابات نقادنا القدماء"، أقول إنى، حبا فى ذلك التعالم، أجد لزاما علىَّ أن أتريث قليلا عند برج الحَمَام على سطح منزل أسرة الزوج حين كان طفلا، إذ كان البرج من سمات الوجاهة الاجتماعية والقدرة المالية والحرص على تربية الطيور فى المنزل من حمام فى الأبراج، ودجاج وبط وإوز وأرانب وديكة رومية فى الأقنان حتى يأكل أهل المنزل مطمئنين من الطيور التى يربونها على أيديهم ويكون اللحم جاهزا حين يريدون أن يَطْعَموا اللحم، وإن لم يأت ذكر لبقية تلك الطيور، فقد وقفت ذكريات الولد الصغير عند برج الحمام لما كان يمثله له من غموض وحرمان، إذ كان عمه يحتفظ بمفتاح قفله فى جيبه، وكان الطفل يتطلع إلى غفوة من العم بل حتى إلى موته كى يظفر بالمفتاح ويدخل البرج ويتمتع برؤية ما فيه على راحته. وكانت هذه الأبراج قائمة على سطوح كثير من المنازل، وعلى وجه الخصوص فى الريف. بل كانت الأغانى والمواويل تصور ذلك. ومشهورة تلك الأغنية التى تشدو بها كوكب الشرق لعبد الفتاح مصطفى بعنوان "طُوفْ وشُوفْ" وتقول فيها:

    شُوفْ هنا جَنْب المصانعْ والمداخنْ والزحامْ

    الغِطَان اللّى آخِرْها المَدْنَةْ وابْراج الحَمَام


    وبالمناسبة فقد لاحظت وأنا فى بريطانيا فى مدينة هستنجز الساحلية فى الجنوب أن أصحاب البيوت يربون الدجاج فى الحديقة الخلفية للمنزل، وكنت أرى الديك يمشى متبخترا هناك كأنه ملكٌ عليه التاج. وكثيرا ما وقف الشعراء العرب القدماء كبشار بن بُرْد الأعمى مثلا وديك الجن، وهما من شعراء العهد العباسى، أمام ذلك المَلِك الواثق بنفسه المُدِلّ بوسامته وجماله وما لريشه وعُرْفه من سحر وبهاء وتفننوا فى وصفه وبلغوا فى ذلك مبلغا فنيا عظيما باهرا.
    ومن مستلزمات النقد الثقافى فى قصتنا كذلك التقاط ما يتضمنه النص من حديث عن الأطعمة ورسوم تناولها. ومن ذلك أن المصريين بوجه عام يحبون أن يفطروا على الفول والفلافل والجبن والبيض، ويا حبذا لو كان بيضا بالبسطرمة والسمن، والخبز البلدىع استعادة رباطة جأشه،َّة" معناها (أ- مختلفان تماما ب- تاما التشابه ج- متشابهان قليلا د- لا علاقة بينها أصلا)يعا د- ، وبخاصة لو كان ملدَّنا كما نقول. وكانت الزوجة بسبيلها إلى تجهيز هذا الفَطُور لرجلها لولا أنه كان فى حالة يرثى لها تستدعى نقله للمستشفى دون إبطاء.
    ومن مستلزمات ذلك النقد أيضا الإشارة إلى ما يذكره مفتتَح القصة من أن الزوج كان يستعد لتأدية الصلاة. والمسلمون حتى الآن ما زالت الأغلبية منهم تصلى ولو الصبح فقط فى بداية يومهم سواء خرجواإلى العمل أو بَقُوا فى المنزل لم يخرجوا. وهذا ما تقوله القصة. ورغم هذا فقليل من القصاصين اليوم من يتطرق إلى تأدية أحد من أبطالهم الصلاة إما عن عدم اهتمام بالدين أو تصورا منهم أن التدين شىء رجعى لا يليق بالإنسان العصرى.
    والشائع بيننا الآن أن الحياة فى مصر فى الأجيال السابقة كانت تغشاها السكينة المنزلية والعلاقات الجميلة بين الزوج والزوجة، وعلى نحو خاص حين يتقدمان فى السن ويكون أولادهما قد تزوجوا وبَنَوْا أسرا جديدة ولم يعد أحد معهما بالبيت، وكان كلاهما يغمر صاحبه بالحب والاهتمام والمودة والخوف عليه أن يتعرض لما يزعجه أيا كان. وهذا كله منعكس فى السطور الأولى من قصتنا الجميلة، وبعد ذلك حين يدخل الزوج المستشفى للعلاج من الجلطة، إذ نرى الزوجة تمسك بيده وتبثه من خلالها الحنان والمرحمة والاهتمام طوال الطريق فى عربة الإسعاف وفى غرفة العمليات الجراحية. كما نراه فى شعور الزوج بالوحشة والأسى فى مختتم القصة بعد رحيل زوجته.
    كذلك كان المنزل الواحد يضم عدة أسر تنتمى إلى أب أو جد واحد. وقد أشار الزوج إلى هذا الوضع عَرَضًا حين تكلم عن عمه وقيامه على أمر برج الحمام فى منزل الأسرة الكبيرة والاحتفظ بمفتاحه معه لا يمكّن الأطفال الصغار منه حتى ليتمنى بطل القصة فى صباه لو تاحت له غفلة من عمه أو حتى مات كى يضع يده على المفتاح ويَقْدِر على دخول البرج ويطَّلع على عالم الحمام العجيب داخله. ومن هذا الوادى أيضا فرحة الأسرة بميلاد الولد: على الأقل فى أول إنجاب. وقد رأينا كيف أعلنت القابلة فى بهجة وحبور أن المولود ذكر. وقد كنت أحسب الغربيين جميعا لا يهتمون بهذا الأمر إلى أن أخبرتنا زوجة جارنا الأمريكى فى المسكن الجامعى بأكسفورد أن حماتها كانت سعيدة جدا حين أنجبت جيفرى، أى أتت لها بولد. فأبديت دهشتى وراجعتها فى هذا الموضوع، فأكدت لى ما قالتْه. ولست أقصد أنهم جميعا يتخذون نفس الموقف. إنما هى حالة سجلتُها كما سمعتُها.
    وأحسب أن فى هذا الكفاية لمن يريد من الببغاوات أن يعرف أننا، مثل الآخرين، على علم بالمناهج الحداثية الواردة إلينا من الغرب وبمدرسة فرانكفورت أو جماعة براج أو لا أدرى ماذا أيضا من المدن الأوربية حتى يتحقق الببغاوات المفتونين بالحداثة فى ميدان النقد الأدبى رغم أن بلادنا وشعوبنا لا لها فى الحداثة ولا فى الباذنجان، ويكفى تدليلا على ذلك أنه نادرا ما نجد فى أحياء مدننا بما فى ذلك أحياء الطبقات المتوسطة وأحيانا الطبقة التى تعلو تلك الطبقات شارعا مرصوفا رصفا يليق بالآدميين، ولا طوارا واحدا يتيما يصلح للمشى عليه ولو حتى للقطط والكلاب والمَعْز وبنات عِرْس الضالة، ولا داعى للحديث عن القرى والمناطق العشوائية فى مدننا، وناهيك بالزبالة والقذارة المنتشرة فى كل مكان وحرصنا على توسيخ شوارعنا وحوارينا ومبانى مؤسساتنا ومدارسنا وجامعاتنا حتى لقد ورد إلينا نحن أساتذة الجامعة منذ أسابيع منشور من المسؤولين بأن نتابع تنبيه الطلاب إلى وجوب الحرص على نظافة الكلية طرقات وقاعات ونوافذ حيث تجد الفضلات من كل لون وشكل كورق الكلينكس المستعمل وعلب المياه الغازية وأكواب الشاى والقهوة الورقية وبقايا الطعام حتى على البنشات داخل المحاضرة، ولم يبق إلا أن يكلفونا بمرافقة أبنائنا الطلاب إلى دورات المياه وشد يد المثعب وراءهم عند انتهائهم من قضاء حاجتهم ودعائنا لهم بـ"شُفِيتُم" ومسح أرضية دورة المياه وتجفيفها من الماء الذى يُزَرْوِطها فى كل وقت، وأنتظر على أحرَّ من الجمر أن تصرف الجامعة لكل واحد من الأساتذة فوطة صفراء لمسح أسطح البنشات بعد إزالة ما عليها من فضلات وأوساخ.
    ومع هذا تجد المتنطعين الهلاسين يمضغون مصطلحات الحداثة وما بعد الحداثة مع تخلف عقولهم وأفكارهم ومشاعرهم وعيشهم بتصرفاتهم ومواقفهم فيما قبل العصور المتحضرة من تاريخنا بل فيما قبل الجاهلية ذاتها كبقية الشعب، لكنهم لا يستحون ولا يخجلون بل لديهم مرض عضال اسمه التشادق بالحداثة وما بعد الحداثة وترديد مصطلحاتهما كالببغاوات والقرود، وكأن مجرد ترديد هذه المصطلحات سوف يجعلهم متحضرين حداثيين وما بعد حداثيين كالغربيين كتفا بكتف بينما الحقيقة هى أن اتخاذ هذه الوجهة يكفل لأصحابها الدعوة إلى حضور الندوات والمؤتمرات والحصول على الجوائز والمكافآت والمرتبات، وكثير منهم لا يقيم جملة واحدة ولا يعرف قواعد لغته، وإذا تحدث أو قرأ نصًّا فيا للفضيحة والعار والشنار!
    ولمن يستغرب ما نقول فليقرأ كتاب "من يدفع أجر الزمار؟" والكتب التى تصدرها مؤسسة رانْد الأمريكية والتى ترجم العبد لله المسكين غير الحداثى. وأنا، حين أقرأ ما يكتبه نقادنا الحداثيون و"ما بعد الحداثـ"ـيون وأرى تنطعهم وحرصهم على أن يعرف الناس عنهم أنهم متحضرون يمشون على عجين النقد الغربى بحرص وانتباه عالٍ حتى لا يلخبطوه فيبوؤوا بلعنة شياطين الغرب ويحق عليهم الإبعاد والحرمان من اليغمة التى ينعمون بخيراتها السحت، حين أفعل هذا أتذكر للتو أبيات الشاعر الأموى جَرِير بن الخَطَفَى التى يقول فيها وكأنه كان يقرأ بظهر الغيب ما سوف يفعله أشاوسنا النقاد المتنطعون:

    والتغلبىّ إذا تنحنح للقِرَى

    حَكَّ اسْتَه وتمثَّل الأمثالا

    * * *

    والتغلبىّ لئيمٌ حين تَجْهَرُه

    والتغلبى لئيم حين يُخْتَبَرُ

    والتغلبىّ إذا تَمَّتْ مروءتُه

    عبدٌ يسوق رِكَاب القوم مُؤْتَجَرُ


    ومن ناحية الأسلوب يلاحَظ أن كثيرا من الجمل فى قصص المجموعة التى بين أيدينا مستقلة عما قبلها وعما بعدها كما نبهنا من قبل. وقد كان هذا الاتجاه، فيما أذكر، قد شرع ينتشر بين القصاصين الشبان فى سبعينات القرن الماضى، بل لقد اتبعتُه أوانذاك فيما كنت أكتبه من قصص قصيرة ثم سرعان ما أقلعت عنه وعن كتابة القصة. وهم فى هذا متأثرون بالأساليب الأوربية التى لا تعرف واو الاستئناف. ومع هذا لم أتنبه فى بداية الأمر إلى هذه السمة الأسلوبية فى قصص المجموعة. وربما يكون أحد أسباب ذلك أن الكاتب، حسبما شرحتُ، كان يستعمل الفاصلة بشكل كبير بين الجملة والأخرى لا النقطة، فتوهمك الفاصلة أن الجمل ليست منفصلة بعضها عن بعض بل مترابطة. وكثير من الكتاب المصريين فى العقود الأخيرة يستخدمون الفاصلة بكثرة على حساب النقطة وغيرها من علامات الترقيم، ومنهم أستاذى د. شوقى ضيف، ولكنْ خارج نطاق الكتابات الإبداعية بطبيعة الحال.
    كذلك من سمات لغة المؤلف كما تظهر فى هذا الكتاب بُدُوّ أثر الأسلوب القرآنى عليها. وهو فى هذه الحالة لا يقتبس الآية القرآنية كما هى، وإنما يذيب جزءا منها فى كلامه. يقول واصفا ما وقع ليلة زفافه على زوجته من هطول المطر وهما بلباس العرس يقطعان الحديقة كى يصلا إلى العربة التى تنتظرهما لتحملهما إلى بيت الزوجية، فاختلطت ألوان الزواق على وجهها مما حوله إلى وجه بلياتشو: "كان عليهما فى نهاية الحفل ... وكأن فخّ (فَخًّا) نُصِب لهما، فتَحَتِ السماء أبوابها فجأة عليهم بماء منهمر ...". فانظر كيف أخذ آية "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" من سورة "القمر" وصيَّر عبارة "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" إلى "فتحت السماء أبوابها فجأة عليهم بماء منهمر" محولا الفعل المسند إلى رب العزة إلى فعل مسند إلى السماء، التى كانت مضافا إليه فى الآية فصارت الآن فاعلا، وأضاف هو من ناحيته كلمتى "فجأة عليهم". كما أن الموقفين يختلفان: فعبارة القرآن جاءت فى سياق الحديث عن عقاب الله لقوم نوح حين أغرقهم فى سيول هطلت من خلال أبواب السماء هطولا وتفجرت بها عيون الأرض تفجيرا، أما هنا فقد وردت فى سياق تصوير تهكمى أقصى ما وقع فيه ذوبان ألوان الميك اب على وجه العروس. وهذا مجرد مثال. وتعقيبا على هذه الملاحظة أقول إن المؤلف قد أنبأنى منذ أيام أنه حفظ من القرآن تسعة أجزاء. لكنى أتساءل هنا: كيف يستطيع الزوج تذكر هذه الحوادث القديمة التى تتعلق بليلة دخوله بزوجته وقد مر عليها عشرات الأعوام، وفى نفس الوقت يعجز عن التعرف على زوجته وهى أمامه تحدثه ويحدثها وتقول له إنها سوف تعد له الطعام بينما يتوضأ ويصلى؟ مجرد تساؤل!
    وثمة موضوع آخر، وهو أن الزوج لدن قيامه من النوم ومروره على زوجته فى المطبخ ميمما الحمام للوضوء كان ثقيل اللسان بطىء النطق مما أزعج زوجته ودفعها إلى الاتصال بابن أخيه كى يستدعى الإسعاف لحمله إلى المستشفى. فى البداية لم أفكر فى سبب ما حدث للزوج، وبعد ذلك بأيام دار بينى وبين المؤلف حوار حول تلك النقطة، فسألته عن تفسير الأمر، فاستغرب سؤالى عن أمر كهذا قائلا إن الرجل قد أصيب بجلطة. فرددت بأننى لم يدر بخلدى شىء من ذلك، فأضاف أن المسألة باتت من المعارف الشائعة حتى إن العامة يعرفونها، فضحكت مداعبا أننى، فيما هو واضح، أجهل من العامة لأنى لم يسبق لى أن شاهدت شيئا من ذلك ولا سمعت به ولا دارت مناقشة حوله أمامى.
    وقد أخذنى هذا إلى ما كان يقوله نقادنا الحداثيون القروديون فى يوم غير بعيد تقليدا غبيا لما كان يردده النقاد الغربيون آنذاك من أن النص كيان مغلق لا ينبغى الاستعانة على فهمه بشىء أى شىء من خارجه، فكنت أستسخف هذا وأعلق على هذه المقولة بأن النص ليس ولا يمكن أن يكون كيانا مغلقا لا هو ولا أى شىء آخر فى الدنيا، إذ أشياء الحياة وأمورها مفتوح بعضها على بعض، ومن غير المفهوم تحريم طلب المساعدة على الدخول إلى دهاليز النص المتشابكة وغرفه التى يخيم على فضائها خيوط العنكبوت. ونحن فى تفسير القرآن نفسه نستصحب أسباب النزول والمعاجم والنحو والصرف والبلاغة والنقد الأدبى والشواهد الشعرية والنثرية وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما قاله المفسرون المسلمون فيها على مدى التاريخ وسيرة النبى وتاريخ الإسلام وغير ذلك من المعارف والفنون والعلوم كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلى الاقتصاد وعلم الآثار والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والطب وعلم البحار... كما بينت ذلك تفصيلا فى كتابى: "مسير التفسير" فى الفصل المسمى: "كل العلوم فى خدمة التفسير".
    والواقع أن أى نص يحتاج منا إلى الاستعانة بعدد من العلوم يختلف من نص إلى آخر كحاجتنا إلى ذلك فى فهم القرآن الكريم. ومن يرجعْ مثلا إلى كتابَىْ "ثقافة الناقد الأدبى" و"الشعر الجاهلى- منهج فى دراسته وتقويمه" للدكتور محمد النويهى يَرَ الرجلَ يدعو بكل قوة إلى وجوب رجوع الناقد أحيانا إلى بعض الكتب العلمية الخاصة بالفيسيولوجيا والفلك والحيوان مثلا فى طبعات مبسطة للقارئ العادى على الأقل إن أردنا فهم ما نقرؤه فى الشعر الجاهلى من أبيات تتصل بهذا العلم أو ذاك كوصف أعضاء الناقة والنجوم والضفادع وحركاتها فى الماء وأصواتها وما يعترى عروق ظاهر الكف البشرى من بروز عند الكبر فى العمر وما إلى هذا، وإلا خرجنا من القصيدة وأقفاؤنا تجمِّر عيشًا.
    وقد قلت شيئا مثل هذا لدن مناقشتى لبعض ما كتبه أحد النقاد الحداثيين الخليجيين، وهو من أكابر الهلاسين رغم أنه إذا ظهر فى التلفاز أشعرك أنه سوف ينفجر من انتفاخ خديه وزمّ شفتيه وغلظ غبغبه، فيظن السذج السطحيون أن ذلك الانتفاخ راجع إلى أنه مفعم علما فى حين أنه فى الواقع بالونٌ فاضٍ متى ما مسسته برأس دبوس انفثأ فى الحال وأراحنا منه ومن نفخته الكاذبة الخاطئة، قلت فى أول فصل كتبته عنه، وكان ذلك فى بلده منذ عقود، إن هذا النهج إنما يراد به فى نهاية المطاف إحياء الاتجاه الباطنى فى تفسير القرآن بإسباغ معان خبيثة عليه وتقويله ما ليس فيه بناء على مقولة انغلاق النص. إن القائلين بهذا هم الباطنية الجدد. لقد شاهدنا قبل قليل أن قصة قصيرة بسيطة تتطلب، من أجل فهم نقطة صغيرة فيها، اللجوء إلى علم الطب، وإلا مررنا بحكاية ثقل لسان الزوج المسكين دون أن نعرف له سببا.
    وبعد فإن القصة التى كنت بسبيل من قراءتها وتحليلها وتناولها بالنقد فى الصفحات الماضية هى قصة جميلة رغم أنف كل الملاحظات التى أبديتها. إنها قصة جميلة بصغر حجمها، لا من ناحية قلة الصفحات فحسب بل بصغر القطاع الذى تناولتْه بالسرد والوصف والحوار والموضوع التى تشتمل عليه. إن وقائعها لا تستغرق إلا يوما واحدا بل ربما لم تستغرق اليوم كله، ولا تعرف من الحياة الواسعة الشاسعة سوى العلاقة بين زوجين كبيرين فى السن تجمع بينهما الذكريات الحبيبة والعشرة الحلوة التى لا يزيدها كر الأيام ومر الأعوام إلا وثاقة وإحكاما والتحاما.
    وهذا واضح فى الاهتمام الحميم الذى بدا فى حديث الزوجة إلى زوجها حين قام من النوم وأرادت أن تسر قلبه وبطنه فأنبأته أن فَطُوره سوف يكون جاهزا حالَما ينتهى من الوضوء والصلاة، وهو الفطور الذى يحبه من فول إسكندرانى مضاف إليه زيت الزيتون، وفلافل بالبيض، وخبز ملدن وما إلى ذلك مما يتحلب له ريقى وريق كل المصريين وتزقزق له عصافير بطوننا شوقا وابتهاجا، والذى كانت الزوجة المحبة قد أعدته لزوجها لولا أنه كان لا بد من ذهابه للمستشفى لتدارك حالته الصحية المقلقة التى طرأت بغتة، فلم يتسع الوقت ليصيب منه، مما جعلنى أشعر بالتحسر وكأنى أنا الذى حُرِمْتُ منه لا هو. كما يتبدى ذلك الحب الرقراق فى مسارعتها إلى الاتصال بابن أخيه فى الحال كى يحضر لعمه عربة الإسعاف فور شعورها أن ثمة شيئا مقلقا فى الجو وأن أمور قرينها الصحية ليست على ما يرام بعدما ظنت فى البداية أنه يداعبها بالتباطؤ فى كلامه وتظاهره بعدم معرفته لها وأنه يحاول بذلك إدخال البهجة على قلبها مع الدقائق الأولى من النهار. كذلك يتبدى هذا الحب الهادئ العميق فى حرصها على مرافقته له فى الطريق إلى المستشفى والبقاء معه فى غرفة العمليات وإمساكها بيده طوال الوقت وفركها إياها بلطف بالغ، والتطلع إليه باستمرار فى إعزاز وقلق شديد.
    والقصة جميلة أيضا بما فيها من وصف رائع، على قِصَره، لِمَا خالَ الزوجُ أنه يراه ويسمعه ويحس به عند بدء سريان سائل التخدير فى شرايينه وبداية فقدانه الوعى بالأشياء والأشخاص والمكان من حوله، إذ توهم أنه يسمع من يطلب منه النظر يمينا ثم النظر يسارا، ناهيا إياه عن التلفت إلى الخلف، فيشاهد ما ينبسط عن يمينه ويساره من حقول ذات زهور بديعة أوراقها كآذان الفيلة، وهو ما فسرتُه على أنه كان يتصور نفسه يطير فى أجواء الجنة، وفسرت النسر بأنه مزيج من البراق الذى تقول الأحاديث إنه حمل الرسول الكريم من مكة إلى بيت المقدس، والنسر الذى ورد ذكره فى "ألف ليلة وليلة" وكان يتعلق به البشر فى بعض البلاد البعيدة على نحو ما ويطيرون معه على هذا النحو دون أن يدرى هو بهم. أما الزهور والنباتات التى كانت أوراقها فى حجم آذان الفيلة فتأخذنا إلى قول النبى عليه السلام مصورا بعض مراحل الطريق خلال رحلة الإسراء والمعراج على النحو التالى: "لمّا انتَهَيتُ إلى سِدْرةِ المنتَهى إذا ورقُها مثلُ آذان الفيلة، وإذا نبقُها مثلُ القِلالِ. فلمّا غَشِيَها من أمرِ اللَّهِ ما غَشِيَها تحوَّلت. فذَكَرَ الياقوتَ". ويبقى البحر الذى كانت مياهه تغلى ويشعر الزوج بلسْع رذاذها الملتهب لأخمص قدميه، وقد حسبته يشير إلى نار السعير وأن عبوره فوقه راكبا النسر رمز على اجتيازه للصراط المستقيم المضروب على ضفتى جهنم.
    وقد ذكر الأستاذ المؤلف لى أنه استقى حكاية النسر الطائر من إحدى الروايات فى سلسلة "هارى بوتر" والفلم الذى أُخِذ عنها، ثم أرسل لى على الماسنجر مشهدا يركب فيه أحد الشبان على ظهر النسر ويطير به ملك الطيور هنا وهناك فوق البحيرات وعلى قمم الأشجار ومسلات أبراج الكنائس وأسطح المنازل. وقد لاحظت أن ذلك الكائن الطائر ليس نسرا بل حيوانا مركبا من جسد حصان ورأسه وذيله وقوائمه، لكنه يختلف عن الحصان رغم ذلك بأن له منقارا وجناحين كبيرين، وله بدل الحوافر مخالب، ومن ثم فلا هو نسر ولا هو حصان. كما أنه انتهى بعد طيرانه إلى بيت تظلله الوحشة والكآبة، وهو ما يختلف تماما مع الأجواء التى كان يطير فيها نسر الزوج فى التهويم الذى سبق استيلاء مفعول الحقنة التخديرية على حواسه وإدراكه. وبمناسبة ما نحن فيه الآن فإن البُرَاق، الذى امتطاه النبى فى رحلة بيت المقدس وسدرة المنتهى، كان هو أيضا حيوانا يعدو على وجه الأرض ويطير فى السماوات، وإن لم تذكر الروايات أنه كان له أجنحة. لقد وصفه صلّى الله عليه وسلّم بـ"دابَّة أبْيَض يُقالُ له: البُرَاق، فَوْقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أقْصى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عليه، ثُمَّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنا السَّماءَ الدُّنْيا، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ صلّى الله عليه وسلّم، فقِيلَ: مَن هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ. قيلَ: ومَن معكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم".
    كما أن "ألف ليلة وليلة" عرفت الحصان الطائر، لكنه لم يكن له جناحان بل لولب متى ما فركه الراكب تحرك الحصان وطار به إلى عنان السماء بنص عبارة الكتاب، وزِرٌّ إذا ضغط عليه هبط به رويدا رويدا. وفى قريتنا إبان طفولتى كنا نردد مصدقين حدوتة الحمار الذى لقيه فى ظلام الليل الدامس رجل من شارعنا فأمسك به وقفز فوق ظهره متجها به ناحية بيته فرحا بتلك الهدية التى ساقها الله إليه على غير انتظار وبدون مقابل. بيد أنه لم يكد يستقر على ظهره حتى طار به الحمار فى السماء، فعرف أنه جنى، وارتعب خوف السقوط من حالق وتحطمه أشلاء. ولحسن حظه استطاع استعادة رباطة جأشه وتذكر أن فى جيبه مسلة فأخرجها وغرزها فى جنب الدابة، التى سرعان ما أنَّتْ من الألم وأخذت تهبط قليلا قليلا حتى حطت على الأرض. وهنا قفز الرجل وسَلَتَ مسلته من جنبها واندفع يعدو إلى بيته وهو لا يصدق بالنجاة.
    وهنا لا بد لى من القول بأنى أستغرب خطور هذه الرؤيا العجيبة على عقل المريض المخدَّر، وبخاصة إذا كان مصابا بجلطة. لقد مررت بتجربة التخدير عدة مرات، وكنت فى كل مرة أظل يقظان واعيا بينما الأطباء يحدثوننى حتى يشغلونى عما أنا مقبل عليه فلا أقلق، ثم بغتة أغيب عن الوعى دون أن أرى شيئا. أما مثل هذه الرؤيا فيراها الشخص، لو رآها، لدن السقوط فى النعاس التدريجى فى مرحلة الوسن لا على طاولة العملية الجراحية. ومع هذا فمن يدرى؟ ربما كان من الممكن حدوث ذلك رغم كل شىء. فأنا لم أمر بكل التجارب، ومعرفتى بالحياة ليست مثالية ولا تحيط بكل الأمور. وعلى أية حال فالرؤيا فى نفسها بديعة، وفيها الكثير، وقد حللناها على قدر استطاعتنا فوجدنا فيها طائفة من القضايا المثيرة للعقل والوجدان، وبالذات فى ميدان ما يسمى هذه الأيام بـ"التناصّ".
    وأخيرا لقد استمتعت بقصة الصديق مصطفى الخطيب استمتاعا كبيرا، وهذا واضح من كلامى عنها. اسستمتعت بها فى قراءتى الأولى رغم ما وجدته فيها فى تلك القراءة من غموض كان سببه الطريقة السردية التى اتبعها فى رواية أحداثها، وعُرْى شخصياتها عن التسميات، وتداخل الأزمنة، وجهلى بطبيعة مرض الزوج، وأخيرا أحداث غزة التى لم تكد تترك لنا بالا مرتاحا، وكذلك تعطُّل كاتوبى مرتين أثناء ذلك وامِّسَاح عدة صفحات مهمة من الدراسة الحالية كان علىَّ إعادة كتابتها من ذهنى. وقد اقتضانى فهم أبعاد القصة الجميلة قراءتها ثلاث مرات على فترات متباعدة بعض الشىء، وفى كل مرة ينجلى لى شىء من الغموض الذى كان يسربلها فى البداية. والبارحةَ فقط انهار حاجز آخر من حواجزها، فصرت أفهمها أفضل كثيرا من فهمى لها أول مرة. ومع هذا كله ظلت القصة جميلة كما كانت من قبل، وازدادت متعتى بها جراء ما بذلتُه فيها من وقتٍ أحاول قَشْع عَتَمَتها والربط بينها وبين نصوص أخرى هنا وهناك وما أتيح لى أثناء ذلك من فرصٍ اهتبلتها لكى أؤكد موقفى من الهلس النقدى الذى ابْتُلِينا به فى العقود الأخيرة وأفضح ما فيه من سخف وما يتمتع به مرددوه من جهل وانعدام شخصية وببغاوية. شكرا للصديق المهندس مصطفى الخطيب، وشكرا لكاتب مقدمة القصة الأستاذ نشأت المصرى.

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 17/12/2023 الساعة 01:25 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 2

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •