رواية الشفاء من مرض اسمه العراق
فاروق يوسف الحياة - 24/05/07//



هل قدر للأدب العربي اخيراً ان يضم الى مقتنياته النادرة نصاً متوحشاً من غير أن يكون عاكفاً على ذاته، وفاحشاً من غير أن يكون إباحياً؟ «التشهي» رواية عالية ممدوح الصادرة حديثاً عن دار الآداب (بيروت) قد تقودها درجة معينة من القراءة السيئة الى الهلاك والاستبعاد. فمنذ صفحاتها الأولى بل منذ اسطرها الأولى توقع هذه الرواية قارئها العادي والمتربص على السواء في فخ سوء فهم عظيم. قررت الروائية كما يبدو أن تجهز بجرأة وقوة على آخر ما تبقى من كلام مستتر، هو بمثابة السد الذي يفصل خرابنا عن حقيقته، فلم يبق هناك أي شيء يمكن ان يقال سراً في مجتمعنا المقموع والمكبوت لم تقله ممدوح علانية، هي التي صنعت من روايتها مسرحاً لتعرية نظام قيمي يهدف الى الغاء مجتمع بكامله. يتبرج مظهر الرواية بعقدتها الرئيسة: مترجم عراقي يقيم منفياً في لندن يفاجأ أن ذكورته ضمرت أو اختفت كما تصر الروائية على القول في اشارة منها الى المغزى الذي ارادت ان تطل بنا على هاويته. غير أن ذلك التبرج لا يخفي أن ما حدث لبطل الرواية لم يكن بالنسبة للروائية سوى الشق الذي تسللت من خلاله الى وقائع حياة لن ينفع الحنين اليها في استرجاعها، لأنها مضت مثلما هو العراق (مكان وقوع الجزء الاكبر منها) الى حيث لا رجعة. تبدو عالية ممدوح في اقصى درجات قسوتها وهي تعالج بترو فكرة رومانــــسية يختصرها مفهوم الحنين الى الوطن. ولذلك فإن كل ما يمت الى الجنس بصلة (وهو كثير في الرواية) لم يحضر إلا من جهة بداهته. فمشكلاتنا، حتى الجنسية منها، يكمن أساسها في مكان آخر: السلطة من جهة كونها خديعة ومصدراً للاستلاب.

الواقعي والمتخيل

لا يمكن ان تقرأ «التشهي» لتفهم (متعوياً وعقلياً) إلا بطريقة مخادعة مثلما كتبت تماماً. رواية مليئة بالسباب والشتائم والكلام العادي المبتذل والوصف الحسي المباشر والغزل الشهواني العنيف، غير أنها لا تجرح الذائقة الجمالية. فعالية ممدوح وضعت كل شيء في مكانه، الواقعي والمتخيل على السواء. أتخيل انها لم تكن ترجئ متعتها وهي تكتب، لذة أن تكون موجودة في كل قول في صفتها شاهداً على عراق كان في طور التحلل يومها. انشغال البطل بما حدث لجسده من تحول مأسوي (بالنسبة للفحل الذي كانه) لم يكن إلا ستاراً للمحنة التي عاشها منذ صباه، وهي محنة يشف غلافها الجنسي عن مستويات متعددة من الاغتراب. ذلك الشيء الذي ضمر أو لم يعد موجوداً هو كل شيء آخر ايضاً ودائماً. افصاح ممدوح عنه لا يغير من الحقيقة شيئاً بل على العكس من ذلك تماماً فإن ذلك الافصاح يضع الأشياء في ميزان مزاجها التاريخي الصحيح: هناك اغتصاب في كل لحظة لا تتكافأ فيها السلطة مع شرطها الانساني. في هذا السياق يمكننا أن نعي فكرة المؤلفة عن مكر نسوي يمتزج بضعف رجولي ينتهي الى الانتهاك. نساء عالية لا يقللن شراً عن الرجال، لسن ادوات او موضوعات جنسية على الأقل، بل هن منفذات لمكائد هي جزء من ثقافة تفصل الجنس عن مراياه المتعددة. وهي مرايا تظهر الجنس في صفته عنصراً انقلابياً يــــساهم في صنع المعنى السياسي والعقائدي والتاريخي وحتى الديني لوجودنا. من خلال هذه الرواية تفكك عالية ممدوح صورة الجنس لا من أجل اسطرتها بل من أجل رعاية الهواء الذي يحيط بها. لدى هذه الروائية فكرتها المتسامية عما ضيعناه من لذائذ العيش في حمى بحثنا عن القوة.

شعرية السرد

لن تكون قراءة «التشهي» أكثر إروسية من كتابتها. ليس هناك من متخيل لم تلمسه الروائية بأصابعها وتضعه على طاولة التشريح لتتأمله وتتلذذ بعطره. هناك صفحات هي قمة في الفتنة الحسية التي تمضي بالكلمات الى الشعر. كما لو أن الروائية تخصصت بكل ما يلهم الحواس مصيراً استثنائياً، مصيراً يضعها في مكانة تتفوق فيها على قدرتها في الاكتشاف لتذهب جارحة الى امكان اختراع كل ما له قدرة على تجريدها من حسيتها. غير أن الروائية حين تضع تلك الحواس في مواجهة التاريخ الذي صنعته فإنها تكون قد بيتت هزيمة لكل مهارة ذكورية ممكنة. لا لان بطل الرواية فقد ذكورته بل لأن معظم الابطال قد فقدوا عذريتهم منذ زمن طويل، هو الزمن الذي استغرقته السلطة في صعودها. ما من قراءة لهذه الرواية (حتى العادية والسطحية) إلا وتصطدم بالدلالات الرمزية التي تعيد الابطال والوقائع الى الواقع السياسي. الجغرافيا القلقة التي تحركت فيها الرواية هي الأخرى مثار فهم ملتبس للتاريخ وهو فهم سيقود الى مزيد من التفحص في المعاني الخفية التي شكلت ضالة الكتابة. بعد روايتها «المحبوبات» الصادرة عام 2003 توقعت أن عالية ممدوح لن تعود الى العراق مكاناً لرواياتها، غير انها في «التشهي» عادت اليه لتمحوه الى الأبد، على الأقل لتذكر لنا الاسباب التي تكرهها على نسيانه والشفاء منه. عالية ممدوح في «التشهي» هي روائية لم نقرأ لها من قبل، لقد تفوقت على ذاتها.

قالت كلاماً كثيراً في الجنس والسياسة سيكون بالتأكيد محط اهتمام الكثير من القراء غير أنها في الوقت نفسه اخترعت تقنية أدبية للاحتفاء الواقعي بما يتلاشى ويختـــفي. «ماذا عسانا نفعل لكي ندون ما يحصل، وأية لغة علينا أن ندون بها. فالعربية سوف تتحول الى نشارة خشب، وها انا اقول ذلك لك وكـــأن لعنة سرمدية تتعقبني ولغتي، تتعقب بلدي الذي كنت ارفض ان اترجمه فألعنه وأشتـــمه، اللعنة تنهض وتتصاعد على بابل وجميع الألسنة، على الاسم والحرف والفعل والمفـــعول به ورهــــاب المدينة الوحيدة والنهر الذي لا نقدر على الاستحمام به ودجلة المخنث، اللعنة على حي الوزيرية والمسبح، المنصور وشارع المشجر».

شاعر عراقي مقيم في السويد

وهذا الرابط للمقال الاصلي :
http://www.daralhayat.com/culture/bo...eef/story.html