[font=Arial Black]
شئ من الحب[/font]-----------------------------------------------------------------(1) بقلم: د.محمد فؤاد منصور-------------------------
هذا إذن هو الوطن..يــاه !! حتى الهواء له أريج مختلف..ويكاد يُرى وأنا أملأ صدرى فى شهيق ممتد.. أحسست كأننى أتنفس لأول مرة منذ سبع سنوات أو كأننى كنت أدخر مافى صدرى حتى لايختلط به هواء آخر وكأن ماكنت أتنفسه قبلاً لم يكن هواءً.. بل كان غازاً صناعياً.. كهواء غرف الإنعاش ..نقى ..غير ملوث.. موصل بخراطيم ومرشح بفلاتر ولكنه لايملأ الصدر ولاينعش القلب كهذا الهواء..هذا إذن هو الوطن..دارت برأسى أفكا ر شتى تزاحمت حتى عطّل بعضها بعضاً وأنا أنظر إلى من بجوارى با لطا ئرة ضا حكاً دون مناسبة بادلنى الضحك وأنا أقول فى تقريرية ساذجة "دى مصر" أجل..أجل.. إنها هى.! أحياناً تستبد بنا فرحة طفولية تدفعنا لأن نقول أى شئ حتى لو بدا ساذجاً ولامعنى له ، نرتد أطفالاًفى لحظة واحدة ,كأنما ولدنا فى هذه اللحظة فقط وتعلمنا المشى والتنفس وحتى الكلام ..كأننا نجرب ألسنتنا ,لايهم ماذا نقول المهم أن نجرب أنها تعمل وأن سنوات الغربة الطويلة لم تؤثر فيها وأننا ما زلنا ننطق كلما تنا بنفس الطريقة المصرية الخا لصة..هذا إذن هو الوطن.! ماذا يحسن أن أفعل بعد كل تلك السنين ؟! لاأعرف.! هل أخر على أرض المطا ر مقبلاً تراب الوطن ؟ ألا تبدو هذه الحركة مسرحية بأكثر مما ينبغى ؟ بدا لى أن الأرض لن تفرح بقبلاتى مثلما يمكن أن تسعد بوقع أقدامى ,إن الأرض موجودة لتحملنا جميعاً فما جدوى قبلة مسرحية تلفت الأنظا ر وربما تثير السخرية.! آه لو يعلم هؤلاء كم أن الغربة قاسية على من أبتعد عن الوطن سنوات سبع !! ملعون أبو الفلوس ومن يريدها إنها السبب فى كل ذلك الإغتراب ولكنها أيضاً السبب فى هذا الشعور الأخاذ وهذه المشاعر العلوية التى تطفو إلى الوجدان فتلفه جميعاً ..,تململنا فى أماكننا فما ل بعضنا على بعض والطائرة تدور دورة كاملة إستعداداً للهبوط النهائى أشرأبت الأعناق تتسابق لتحظى بموقع نظرمن النا فذة الصغيرة..لم يكن هناك مايرى بوضوح سوى أرض المدرج والفضاء نصف المعشوشب من حولها,ومع ذلك كانت عيوننا عطشى لرؤية أى بقعة من جسد الحبيبة التى طا ل غيابنا عنها لكنها لم تغب عنا أبداً.
نهضت غير مبا لٍ بنصائح القائد ألملم أشيائى الصغيرة ولكن نظرة من إحدى المضيفا ت أعادتنى إلى مقعدى,تذكرت أننى فى طائرة لاقطا ر وأن علىّ أن أمتثل إمتثالاً حقيقياً..مرت اللحظات كأنها دهر كامل,متى كا نت آخر مرة غادرت فيها هذا المكان؟!! أحداثُ كثيرة مرت فى سرعة خاطفة أمام ذاكرتى,كأننى أريد أن أكثّف السنوات جميعاً ليتواصل الزمن مافا ت منه وما سوف يجئ ! .. الضيق والألم والخوف من المجهول والمستقبل المحفوف بالتساؤلات والظنون ..وعبير !! غاصت فى صدرى سكين من الذكرى المؤلمة .. ترى ما شكلها الآن بعد سبع سنوات ؟! تزوجت؟! أكيد .. ولابد أنها الآن تجلس مع زوجها وأولادها فى مكا ن ما فى هذه الدنيا الواسعة لكنه بالقطع لن يكون ذلك الزقا ق الضيق من أزقة شبرا ..لعلها فى مصر الجديدة أو الزمالك, كانت الآما ل كبيرة والعمر كان غضاً والأحلام العظيمة لاتنهض بها الإمكا نا ت المعد ومة..الفراق كان قدراً مقدوراً.., حركت يدى كأننى أبحث عن ملمس يدها بين أصابعى ..ذاك كان آخر العهد بها وهى تغيب عن نظرى رويداً رويداً حتى أبتلعها الزحام ..لماذا لم أستوقفها؟! لماذا نزل علىّ "سهم الله" وهى تعلننى أن هذه ستكون المرة الأخيرة التى أراها فيها وأن مابعد ذلك فإن" اللقا نصيب" هل أختلج صوتهاوهى تعلن هذا القرار الساحق؟! هل لمحت رعشة فى شفتيها أولمعة فى عينيها أم كان ذلك كله محض خيا ل ؟!
كم مرة أسترجعت هذه اللحظات الفا صلة ؟ ألف..؟ عشرة آلاف.. ؟ ربما مليون وربما أكثر,أو ربما لفرط تأ ملى لتلك اللحظة خيّل إلىّ أننى لن أغادرها بتفكيرى وأنها ستبقى ما ثلة أمامى حتى آخر العمر,أفرك أصابعى بحثاً عن ملمس أصابعها أو أقرّبها من أنفى عسا ى أجد أثراً لعطر يديها.. أين ذهب ذلك الشعور بأن عبير هى بالنسبة لى كل شئ ؟!! كم تغيرنا الأيام وتعصرنا السنين ..من ذلك العبقرى الذى قا ل إختلاف النهار والليل ينسى ..أذكرا لى الصبا وأيام أنسى..؟ أجل, أما الليا لى الباردة والساعا ت الكئيبة والشوارع التى تزمجر فيها العواصف والرياح فلايذكرها أحد رغم أنها قصمت ظهر العمر ,والآن ..هذا هو أنا وهذه هى الحبيبة الدافئة التى لايغيرها شئ, ولاينسيها شئ..بعد لحظات نهبط على أرضها ونجول فى شوارعها ونعا نق ناسها واللهجة القاهرية المحببة التى قبعت تحت اللسان كل تلك السنين سرعا ن ماتحل بعد لحظات محل اللكنة الأجنبية والرطا نة الممجوجة التى لم أتقنها أبدا.. كنت أشعر دائماً أننى فى مهمة خاصة, مهمة ليس الهدف منها جمع الما ل ولكن للغوص فى المجهول وبعثرة الذكريا ت حلوها ومرها والأنغماس فى عالم جديد ليس فيه الشوارع التى زرعتها خطانا والمناظر التى ألفتنا وألفناها,وليس فيه عبير!. وكلما مرت سنة كنت أسارع بقياس أثرها فى وجدانى.. هل نجحت ؟ لاأدرى, المشكلة أننى تركتها بوعى كامل وإرادة حقيقية..لم يكن ممكناً أن أربط مستقبلها الواعد بمستقبلى الغامض,كانت جميلة ومرغوبة وكانت على إستعداد لأن نبدأ معاً من نقطة الصفر لولا أننى كنت بعيداً عن الصفر بكثير,وطالما نصحنى فريد المحلاوى صديقى الأثيربأن أكف عن الحب والكلام الفارغ وألتفت لمستقبلى وحين كنت أجيبه بأن لامستقبل لى بدونها كان يستلقى على قفاه ضاحكاً ثم يلتفت إلىّ وقد أرتسمت الجدية على ملامحه ويقول "سيبها بكيفك أحسن ماتسيبها غصباً عنك " هكذا كان يقول وهكذا كان..وتركتها تمضى فى سبيلها غصباً عنى!.. لكننى اتعجب كلما ألحّ علىّ المشهد الختامى كيف تسمرت قدماى وتحجرت عيناى ونظرت إلى لاشئ.. كيف أنعقد لسانى, وكيف ألقت هى بجملها القاطعة المحددة كسكين مسنون دبّته فى قلبى بمنتهى القسوة والهدوء ومضت فى طريقها وتركتنى واقفاً فى عرض الطريق كشاهد رخامى على الفشل واليأس والأحباط.. هل كان فريد يقرأ الغيب أم كان ينطوى علىشفافية وبعد نظر؟! أتخذ سمت العلماء وهو يقرركقاضٍ يصدر حكمه النهائى "يابنى المسألة واضحة وضوح الشمس ,أنت فى أول الطريق..معد م وفى رقبتك كوم لحم.. أسرتك تنتظر معونتك بعد أن أنفقت عليك كل ماتملك, وهى فتاة مكتملة وجميلة ولاينقصها شئ,ما الذى يربط مثل هذه بمن كان فى مثل ظروفك؟ القضية خسرانة وعليك أن تنهى هذه العلاقة فوراً ودون إبطاء,الحب ترف لايقدر عليه أمثالنا.
كأنما كان يقرأكتاباً مفتوحاً من ظهر الغيب..نجح فى كل ماتوقع أن يحدث وشددنا الرحال معاً إلى أرض بعيدة نتقاسم الطعام والمسكن والعمل أما الأحزان والذكريات فكانت من نصيبى وحدى..
أكثر من مرة يضبطنى فريد زائغ النظرات موزع المشاعر فيفزعنى بضحكته العالية وهو يربت على كتفى قائلاً "معلهش أكتر من كده ويزيح ربنا",كثيراً ماكنت أضيق بإستهتاره ولامبالاته ولكننى كنت أدرك أنه يشاركنى المعاناة غير أنه يحاول التظاهر وتغطية مشاعره الحقيقية ولم أكن أتصور كيف يمكن أن تمضى الأيام إذا لم يكن فريد موجوداً..كانت ضحكته تبدو كحبلٍ متين ألقى إلىّ لينتشلنى من قاع بئرٍ سحيقة..لايداوى الجراح ككر الأيام ! حقاً إختلاف النهار والليل ينسى..
بعد عدة سنوات تحققت كل نبؤات فريد ولم نعد نحلم إلابا لعودة إلى الوطن لكنه لم يتعد أبداً مرحلة الحلم ,فى سهراتنا المشتركة مع بقية الأصدقاء كان يداعب نزار النشاشيبى صديقنا الفلسطينى المتحمس دائماً قائلاً "يابني أهمد بقى.. أحنا كمان بنحلم با لعودة كلنا فى الهم شرق على رأى محمد عبد الوها ب" لكننى كثيراً ماكنت أضبطه مختلياً برسائله سارحاً بنظراته فيما وراء النافذة التى تواجه مكتبه وحين كان يفطن لوجودى كانت ترتسم على وجهه ملامح جادة ماكنت أصادفها إلا حين يختلى برسائله فيمط شفتيه فى أسى وهو يقول "لم يعد لنا مكان..علينا أن نعيش بالذكريات الجميلة فحسب ,أما الآمال التى لاتتحقق فلا جدوى منها.." لم أكن أفهم مغزى كلماته ,وكنت أتعجب كيف لايستبد به الحنين إلى الرجوع إلى حضن الوطن مثلما يستبد بى! لكنه كان يزجرنى دائماًولايسمح بمواصلة الحديث فى هذا الإتجاه " أنس هذا الموضوع تماماً بالنسبة لى ولو أنصفت لنسيته أنت أيضاً "..مسكين فريد حتى وهو يودعنى فى المطار أغرورقت عيناه بالدموع ربما للمرة الأولى منذ عرفته وهو يتضاحك مذكراً إياى ان تذكرة العودة التى أحملها صا لحة لمدة عام,لم أرد إحتراماً للحظات الفراق وأكتفيت بأن هززت رأسى دون تعليق..لآخر لحظة كان يصر على أن تكون تذكرة طائرتى للذهاب والإيا ب رغم إرادتى ,كان يود لو أقرر فى لحظة أن ألغى قرار عودتى للوطن وأن أظل معه أقاسمه الغربة القاسية بمشاعرها المتباينة,الآن تفوته هذه اللحظات الرائعة ونحن نندفع بلا نظام كأن الثوانى المتبقية لها معنى خاص لاينبغى أن تفوتنا.. توقفت الطائرة تماماً وحملنا حقائبنا الصغيرة ونزلنا نتقافزنحو صالة الوصول كانت الأصوات لاتهدأ وكأننا فى سوق كبيروالأضواء موزعة فى كل مكان وحركة القادمين والمستقبلين تحدث صخباً ووشيشاً لاتميزه الآذان..هذه هى مصر بصخبها وجلبتها..آه كم قتلنا الصمت والسكون سنيناً سبع,الآن نعود من حيث بدأنا وقد أندملت الجراح فكأنما ولدنا من جديد.
0-0-0-0-0-0-0-0-
المفضلات