القيامة ... الآن
رواية

الجزء الرابع

ابراهيم درغوثي / تونس



أبواب الجحيم


تقارير من جهنم

" ناركم هذه التي يوقدها ابن آدم
جزء من سبعين جزءا من نار جهنم "
( حديث )


" لو كان في المسجد ألف أو يزيدون ،
فتنفس أحد من أهل النار ،
فأصابهم نفسه ،
لأحرق المسجد وما فيه .
( حديث )


كنا نتمتع بأيامنا في الفردوس ، إلى أن بدأت تصلنا تقارير من النار.
لست أدري من كان يسرب هذه التقارير ولا كيف دخلت إلى الجنة . والجنة على أبوابها خزنة يفتشون الداخل إليها تفتيشا دقيقا .
كانت التقارير مكتوبة باللغة العربية لأنها لغة أهل الجنة . وكانت تصلنا تارة مكتوبة بالرسم المغربي وأخرى بالرسم الكوفي ، وفي أحيان كثيرة بالرسم الفارسي .
مدتني حياة النفوس بالمنشور الأول . قالت إنها وجدته تحت الباب . وبعد ثلاثة أيام وجدت منشورا آخر في حديقة البيت .
ثم توالت المناشير ، فوق السرير ، وفي قاعة الاستقبال . تحت جهاز التلفزيون وفوق سفرة الطعام .في المقعد الخلفي من السيارة وبين ثمار أشجار الحديقة . قرب جهاز الهاتف وفي صحن البيت . ثم في الشوارع الرئيسية وفي الساحات العامة ...
كانت المناشير كلها تتحدث عن أهل النار وتصف ما يعانونه من عذاب أين منه عذابات الدنيا في زنازين ومعتقلات الحكومات التي كانت تحكم باسم الشعوب من روسيا الحمراء حتى أمريكا البيضاء .
وكان مروجو هذه المناشير يدعون إلى تخفيف العذاب عن أهل النار ويطالبون بالعفو عنهم .




عقارب جهنم

منشور سري

" في النار ،
عقارب كالبغال ،
لها أنياب
كالنخل الطوال .
( بدون تعليق )

ذات يوم ، وأنا أتسلى بمشاهدة شريط سينمائي من أفلام أربعينات القرن العشرين من زمن الدنيا الفانية ، على شاشة عملاقة منصوبة بحديقة منزلنا ، إذ رأيت شبحا يقترب من سريري المعلق بين شجرتي ريحان لا يوجد مثيلهما في شجر الدنيا . كان الشبح ملثما بكوفية مرقطة بالأبيض والأحمر وينتعل حذاء رياضيا ويغطي عينيه بنظارة سوداء .
اقترب الشبح من سريري حتى وقف عند رأسي ، ثم لكزني بإصبعه في صدري وقال :
- أنت آدم بن آدم الآدمي ؟
قلت ، وأنا أتشاغل عنه بمتابعة مجريات قصة الغرام بين سامية جمال وممثل رشيق أنيق نسيت اسمه :
وما ذا تريد من آدم الآدمي يا سيدي ؟
قال :
- قم أيها المجنون لتنظر ما يجري وراء شاشتك العملاقة التي تعرض لك الأفلام والمسلسلات ، أنت يا من ادعيت أنك عانيت من العذاب والهوان .
استفزني حديثة فقمت ، وتبعته حيث قادني إلى كوة تطل على النار .
كان هذا الرجل وأصحابه قد حفروا الكوة خفية من وراء ظهور خزنة النار ، وأخفوها بقش الجنة ورياحينها .
نظرت من الكوة ، فشاهدت عجبا . بينما كنا نحن أصحاب النعيم على شاكلتنا في الدار الفانية ، صار الكفار عماليق ، غلظ جلد الواحد منهم اثنان وأربعون ذراعا . وضرسه في مثل جبل أحد . وما بين منكبيه ، مسيرة ثلاث للراكب . ومجلسه كما بين مكة والمدينة .
رأيت الكفار يصارعون العقارب ، فتصرعهم . ورأيت السم الزعاف يسيل داخل الشرايين هادرا كهدير مياه الفيضانات داخل الأودية الكبيرة .
وكانت العقارب تلسع في كل مكان من الجسم . و هم يتوجعون و يهاتفون الموت .
والموت الذي صار له شكل تنين ينفخ في وجوههم النيران ، فيلتهبون ولا يموتون . وكلما طلب منه أحدهم أن يقبض روحه زاده في حصته من العذاب .

" والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، كذلك نجزي كل كفور "

سورة فاطر / الآية 36

قال :
هل رأيت ، أنت الذي رأى كل شيء حتى قيل عنك أنك مجنون ؟
قلت :
أجل ، رأيت بعين العقل يا صاحبي .
وذهب . تركني أشاهد هذا الفيلم الجديد ، وذهب في حال سبيله خفيفا بحذائه الرياضي وبكوفيته المرقطة بالأبيض والأحمر .

منشور آخر

" في جهنم ، سبعون ألف واد .
في كل واد ، سبعون ألف شعب .
في كل شعب ، سبعون ألف ثعبان
وسبعون ألف عقرب .
لا ينتهي الكافر حتى يواقع ذلك كله ."

( بدون تعليق )


وأدمنت النظر من الكوة التي تطل على جهنم ، فرأيت يوما " الشهيري " وقد لبس سبعين ألف وجه .
رأيت وجوهه في كل واد من أودية جهنم .
وشممت رائحة لحمه المشوي في كل شعب من شعابها .
ناديته :
يا هوووووووووووووووووووووووووووه.
أنت يا " شهيري " .
تجمعت وجوهه السبعين في وجه واحد كبير عرضه كما بين السماء والأرض ، أسود ، يسيل منه عرق غزير .
قلت له :
- هل عرفتني يا شهيري ؟
رد ، بعد أن حدق في وجهي بعيونه السبعين ، وعرف النعيم الذي أعيش فيه :
نعم ، عرفتك . أنت من دسست في إسته عامود كهرباء .
وعاد يصعد شعاب جهنم ، وينزل وديانها في حركة أبدية لا تنتهي .
وعدت إلى مؤخرتي أحكها بيدي الاثنتين بعدما عاودني وجع الدار الفانية .

مناشير أخرى

1
" إن أهون أهل النار عذابا ، رجل في إخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل . "



2
" ويل " واد في جهنم يهوي فيه الكافر مقدار أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره .


3
" صعود " جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا كذلك أبدا ...
( بدون تعليق )


من الكوة التي دلني عليها صاحب الحذاء الرياضي والكوفية المرقطة بالأبيض والأحمر ، رأيت أيضا " العطيوي " .
كان كلما وضع يده على جمرة من جمرات النار ، ذابت . تحولت اليد التي طالما صفعت سجناءه إلى سائل لزج كاللصاق ، ثم تبخرت تاركة في الجو نتانة جيف ألف جثة في يوم حر
فإذا رفعها ، عادت كما كانت ، يد سليمة كأيدي بني آدم .
وإذا وضع رجله على جمرات النار ، ذابت .
فإذا رفعها . عادت كما كانت .
هكذا سبعين ألف مرة في اليوم الواحد .
كنت أحضرت معي كمبيوترا محمولا صغير الحجم في مثل كف اليد ، فكنت أعد للعطيوي :
واحد ...
اثنان ...
ثلاثة ....
ألف وأربع مائة ...
ستة آلاف ...
خمسون ألفا ...
ستون ألفا وتسع مائة وتسعة وتسعون ....
سبعون ألفا ...
ويدق ناقوس صغير أن عد إلى العد من جديد يا عادل الخالدي .
وأعود أعد :
واحد ...
اثنان ...
عشرون ألفا وأربعة ....
.....
سبعون ألفا .
والأيدي والأرجل تذوب فوق الجمر ....
وتعود من جديد إلى طبيعتها ... ثم تعود إلى الذوبان ...
وأنا أعد سبعين ألفا كل مرة .
ولا أتعب من العد .
لا أتعب أبدا .

منشور آخر

إذا ألقي الرجل في النار ، لم يكن له منتهى حتى يبلغ قعرها . ثم تجيش به جهنم ، فترفعه إلى أعلاها ما على عظامه مزعة لحم . فتضربه الملائكة بالمقامع ، فيهوي بها في قعرها ، فلا يزال كذلك أبدا ...
( بدون تعليق )





تشف

نودي على " الشهيري " ، فجاء يتعثر ، فسلسات في دبره سلسلة حتى خرجت من منخره .
وجيء ب" العطيوي " ، فسلسل معه ، وقصف بهما في النار كما يقصف الحطب .

منشور أخير :

يؤمر بناس من النار إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها ، واستنشقوا رائحتها ، ونظروا إلى قصورها وإلى ما عد لأهلها فيها ، نودوا :
اصرفوهم عنها ، فلا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها .


وزقزقت
عصافير الذهب ،
فوق
أغصان الذهب .



النهاية .





نشرت هذه الرواية مرتين :

الأولى سنة : 1994 بدار الحوار / اللاذقية / سوريا .
والثانية سنة : 1999 بدار سحر / تونس .

وهذه النسخة الثالثة مزيدة ومنقحة ، لذا وجب التنويه .



dargouthibahi@yahoo.fr