آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

    صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
    .................................................. ..........

    صدرت رواية "نفق المنيرة" عن اتحاد الكتاب والهيئة المصرية العامة للكتاب.وهي الرواية الثانية لحسني سيد لبيب بعد "دموع إيزيس".
    وتدور أحداث"نفق المنيرة" أيام الستينيات، وقد اتخذ المؤلف من مدينته "إمبابة" مسرحا لأحداثها. وتقع في 304 صفحات، وتضم 51 فصلا. وقد أهدى المؤلف الرواية لروح والده. يقول في سطور الإهداء: "إلى من علمني أسمى المعاني وأنبل القيم.. إلى الذي علمني الصبر وقت الشدائد.. إلى والدي رحمه الله وغفر له".
    ويقوم المؤلف الآن بوضع اللمسات الأخيرة للجزء الثاني، قبل أن يدفع به للنشر.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    *الفصل الأول من الرواية*
    ................................

    أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين " نفق المنيرة "، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين. أما هو فيعتز باسمه بالكامل حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، مؤكدا أن رمضان والد جده شارك في مد القضبان الحديدية. يتحدث عن نفسه فيقول إنه في مقتبل عمره بدأ يتكسب قوت يومه في غرزة، أقامها من الخوص والخشب عند مدخل النفق، خصصها كمقهى لعمال التراحيل والمزارعين والبائعين الجوالين الذين يجرون عربات الخضر والفاكهة.
    في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق.
    منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
    ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
    هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
    اسمها الأصلي في قول " نبابة " كما ورد في كتاب " جني الأزهار "، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها " إمبابة ". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم " جزيرة إمبابة ". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي : تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة.
    تتناثر العوامات على صفحة النيل بمحاذاة العجوزة، وقليل منها قبالة الكيت كات.. وفي الكيت كات أقيم في الماضي قوس من أيام الحملة الفرنسية، عليه كتابة ونقوش شاهدة على عهود بائدة، ومستعمر كان يبحث عن شمس دافئة قرب أبي الهول والأهرام الخالدة.
    أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع، وانقلب الحال.. هدم السور وبني مكانه جامع خالد بن الوليد. يضحك من أعماقه وهو يذكر ملهى ليليا كان مقاما في البقعة نفسها، يحمل اسم صاحبته الراقصة الأجنبية كيتي. كان يؤم الملهى الباحثون عن سهرات ليلية، من الوجهاء وعلية القوم.. وسكنت في عوامة على النيل سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي آثرت الحياة على صفحة النهر الخالد حتى وافتها المنية منذ شهور قليلة وهي في الثمانين من عمرها. ذاعت شهرتها قبل أن تظهر أم كلثوم. من أغانيها المشهورة " أسمر ملك روحي "، وكان يجتمع في عوامتها نخبة من وزراء مصر.
    ما زالت إمبابة القديمة كما هي.. سيدي إسماعيل الإمبابي، شارع مراد، شارع السلام. إلا أن الترعة الغربية ردمت، وشق فوقها طريق أسفلتي، مزدحم بالمارة والمركبات.
    اختفت المزارع الخضراء، والغيط الذي كان يحلو له الذهاب إليه، وهو في شرخ الشباب، يتنسم هواء يهز أوراق شجر البرتقال. يتبادل الحديث مع فلاح، الذي يعطيه كيزان الذرة، ويسمح له بالتقاط ثمار الفاكهة المتساقطة من الشجر.
    أفاق من تأملاته على صوت سيد سبرتو، الطاغية المستبد، وهو يصرخ بصوت أجش:
    ـ أنت يا زفت..
    هرول إليه مذعورا، كمن لدغته حية رقطاء.. وأخذ الفتوة يعيد برم شواربه..
    ـ الأكل جاهز يا معلم..
    أتى إليه بطبق " مسقعة " أعدته حميدة.. التهم الطبق ولحس بإصبعه " دِمْعَة " الطبيخ.. ودون أن يطلب أسرع يقدم طبقا آخر، فالتهمه كسابقه.
    خبط بكفيْ يده على كرشه، وتجشأ، وهمّ بالانصراف، فطلب منه انتظار الشاي، فثار في وجهه :
    ـ أنا رائح أشرب بيرة من ثلاجة عمك توفيق..
    وعم توفيق ليس أسعد حظا منه، فالمعلم يتجرع زجاجة البيرة، ولا يدفع ثمنها. إنه يعيش على إتاوات وسطو، نظير حمايتهم ـ هكذا يدّعي ـ والويل كل الويل لمن يعترض عليه.
    استراح كثيرا حين انصرف. تمدد على الكنبة البلدي في الصالة الضيقة المطلة على الجسر، ونام نوما هادئا ساعة القيلولة، ريثما تعود ابنته وزوجها من سوق الخضار عصرا.


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    *الفصل الأول من الرواية*
    ................................

    أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين " نفق المنيرة "، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين. أما هو فيعتز باسمه بالكامل حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، مؤكدا أن رمضان والد جده شارك في مد القضبان الحديدية. يتحدث عن نفسه فيقول إنه في مقتبل عمره بدأ يتكسب قوت يومه في غرزة، أقامها من الخوص والخشب عند مدخل النفق، خصصها كمقهى لعمال التراحيل والمزارعين والبائعين الجوالين الذين يجرون عربات الخضر والفاكهة.
    في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق.
    منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
    ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
    هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
    اسمها الأصلي في قول " نبابة " كما ورد في كتاب " جني الأزهار "، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها " إمبابة ". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم " جزيرة إمبابة ". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي : تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة.
    تتناثر العوامات على صفحة النيل بمحاذاة العجوزة، وقليل منها قبالة الكيت كات.. وفي الكيت كات أقيم في الماضي قوس من أيام الحملة الفرنسية، عليه كتابة ونقوش شاهدة على عهود بائدة، ومستعمر كان يبحث عن شمس دافئة قرب أبي الهول والأهرام الخالدة.
    أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع، وانقلب الحال.. هدم السور وبني مكانه جامع خالد بن الوليد. يضحك من أعماقه وهو يذكر ملهى ليليا كان مقاما في البقعة نفسها، يحمل اسم صاحبته الراقصة الأجنبية كيتي. كان يؤم الملهى الباحثون عن سهرات ليلية، من الوجهاء وعلية القوم.. وسكنت في عوامة على النيل سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي آثرت الحياة على صفحة النهر الخالد حتى وافتها المنية منذ شهور قليلة وهي في الثمانين من عمرها. ذاعت شهرتها قبل أن تظهر أم كلثوم. من أغانيها المشهورة " أسمر ملك روحي "، وكان يجتمع في عوامتها نخبة من وزراء مصر.
    ما زالت إمبابة القديمة كما هي.. سيدي إسماعيل الإمبابي، شارع مراد، شارع السلام. إلا أن الترعة الغربية ردمت، وشق فوقها طريق أسفلتي، مزدحم بالمارة والمركبات.
    اختفت المزارع الخضراء، والغيط الذي كان يحلو له الذهاب إليه، وهو في شرخ الشباب، يتنسم هواء يهز أوراق شجر البرتقال. يتبادل الحديث مع فلاح، الذي يعطيه كيزان الذرة، ويسمح له بالتقاط ثمار الفاكهة المتساقطة من الشجر.
    أفاق من تأملاته على صوت سيد سبرتو، الطاغية المستبد، وهو يصرخ بصوت أجش:
    ـ أنت يا زفت..
    هرول إليه مذعورا، كمن لدغته حية رقطاء.. وأخذ الفتوة يعيد برم شواربه..
    ـ الأكل جاهز يا معلم..
    أتى إليه بطبق " مسقعة " أعدته حميدة.. التهم الطبق ولحس بإصبعه " دِمْعَة " الطبيخ.. ودون أن يطلب أسرع يقدم طبقا آخر، فالتهمه كسابقه.
    خبط بكفيْ يده على كرشه، وتجشأ، وهمّ بالانصراف، فطلب منه انتظار الشاي، فثار في وجهه :
    ـ أنا رائح أشرب بيرة من ثلاجة عمك توفيق..
    وعم توفيق ليس أسعد حظا منه، فالمعلم يتجرع زجاجة البيرة، ولا يدفع ثمنها. إنه يعيش على إتاوات وسطو، نظير حمايتهم ـ هكذا يدّعي ـ والويل كل الويل لمن يعترض عليه.
    استراح كثيرا حين انصرف. تمدد على الكنبة البلدي في الصالة الضيقة المطلة على الجسر، ونام نوما هادئا ساعة القيلولة، ريثما تعود ابنته وزوجها من سوق الخضار عصرا.


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب

    بقلم: إبراهيم سعفان
    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    الأستاذ حسني سيد لبيب أديب ملتزم بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وهو منحاز للطبقة المتوسطة والفقراء، ويعتني أيضا بالأسرة باعتبارها النواة الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع. إنهم يعيشون في الأرض، ويسعون في مناكبها بحثا عن الرزق، ولتحقيق أحلامهم البسيطة، كأحلام "حمزة" صاحب الغرزة الذي "يدعو الله أن يصلح الأحوال، ويحقق الآمال، كانت آماله محدودة متواضعة، لا تتعدّى أن يعينه الله على مواجهة ما تأتي به الأيام، وأن يحقق "لحميدة" حلمها في ولد تفرح به".
    الرواية صورة واقعية حقيقية، لأناس يكافحون من أجل توفير أدنى متطلبات الحياة، فالنفق يمثل قوة من قوى الضغط النفسي، فالخوف ساكن في قلوبهم خشية انهيار النفق في أي لحظة، أصبح يمثل كابوسا يهدد حياتهم في يقظتهم، وفي أحلامهم، وهناك أيضا "سيد سبرتو" الفتوة يمثل قوة ضغط وخوف وتهديد.
    ويبين الكاتب الروح الشعبية المتألقة بشكل واضح. ولذا يمكن القول: إن الشعب يحركه أمران هامان هما:
    1. الوجدان الديني،
    2. الروح الشعبية.
    فالوجدان الديني يحرك فيه الصدق والأمانة والعدل، والروح الشعبية تحرك في الإنسان الشهامة. وهذان الأمران يسريان في الشخصيات، ونتبين ذلك في سلوكهم.
    هذه الروح جعلت والد فتحي يتراجع عن الهروب من كمساري الأتوبيس حتى لا يدفع ثمن التذكرة، ثم يفيق إلى نفسه فينادي على الكمساري ويعطيه ثمن التذكرة في إباء. لننظر إلى كلمة "في إباء" وما تكشفه عن اعتزازه بنفسه. وعند عودة "فتحي" من الخارج سمع حديث والده مع والدته. ماذا فعل؟ أخذ يعاقب نفسه بتأنيب الضمير، فيقول الكاتب "أنّب نفسه لمجرد التفكير في قضاء ليلة في المولد يلهو فيها ويعبث، باحثا عن اللذة.. بدأ يفيق على صورة الأب المكافح الذي هزمته الحياة في مواقع عديدة، لكنه يواجهها برباطة جأش، وتحمّل. بدأ يتنبه إلى أنه ينتمي للأسرة الفقيرة، وابتأس لحاله".
    يبين الكاتب أن الإنسان يحمل الشر والخير، فشخصية "سيد سبرتو" الفتوة وما عرف به من قوة شريرة نجده يسارع فورا في إنقاذ غرقى الأتوبيس في النيل، وكذلك والد فتحي يتراجع عن الهروب من الكمساري حتى لا يدفع ثمن التذكرة. لم يمنع فتحي إحساسه بفقره من محاولة تحقيق حلمه وحلم الأسرة بدخوله كلية الهندسة.. يعيد الثانوية العامة بعد حصوله على مجموع 56 % لا يؤهله لدخول كلية الهندسة، فقدم أوراقه إلى معهد الخدمة الاجتماعية، فلما طلبوا منه كتابة بحث اجتماعي، اختار موضوع "التسول كظاهرة اجتماعية".
    وافق الوالد دون تردد على تحقيق رغبة ابنه. لم يتردد في بيع طقم الصالون، ودفع الرسوم المقررة.
    تحول النفق إلى كابوس يجثم على الأهالي في اليقظة، وفي النوم، يضج مضاجعهم، ويؤثر في أعصابهم، فها هو "حمزة"، يرى في منامه حلما مزعجا فيقول:
    " لم ينم هذه الليلة. إن غفلت عيناه، حلت كوابيس أفزعته من نومه في حالة لم يعهد لها مثيلا. أتاه حلم مرعب لعمال بأفرولات زرقاء، وجوههم غير محددة المعالم، يحفرون مقبرة بعمق لا نهاية له. وهو مستكين ينتظر حتفه في هذا الجب العميق. ولما حان أجله أحس بقوة تحاول دفعه للسقوط، فصرخ صراخا عاليا، لكن الصراخ لا صوت له، تردد صداه في المقبرة التي لا قرار لها، ينهض هلعا.
    أما الحلم الثاني لحمزة بن محمد، فقد استغرق في نومه وسبح في دنيا الأحلام، ورأى فيما يرى النائم نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع، يتحسس الجدران.. يمرّر سبابته على شق من شقوقه، تجزع نفسه.. يصيح.. أبي.. حلم أو علم.. يقرص فخذه حتى يتنبه، يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له.. يا هُو.. يا خلق الله.. النفق ينهار.. انقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ، أم انهيار كامل.. لا يدري.. لا أحد يجيب.. يجري كالمجنون.. الناس في بيوت مغلقة، لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات".. وهذه إشارة إلى لا مبالاة الأهالي. ويصف الكاتب الحلم بأنه "إشارة لما سيحدث في المستقبل، فيقول: "الحلم إرهاصات الغافل عن الدنيا السابح في ملكوت الله. عجيبة هي الأحلام، ترينا فانتازيا تخلط بين الواقع والخيال.. قد تنبئ عما هو آت في مقتبل الأيام، وقد تكون الحاسة السادسة تري المرء بشفافية تخترق كالأشعة حجب الغيب.. تريه ما لا يراه بعينيه، وما لا يطوف بخياله".
    أما حلم اليقظة: فهو القدرة على استحضار صور شتى، تخدع العقل، وتخضع الإرادة الشخصية، وحسها الانتقائي، فالتخيل هنا إرادي، مجاله لا وعي لليقظة. وفق الكاتب في تصوير معاناة أهل الحي، نتيجة لما مرّ من حروب في الماضي، وما يتحملونه من أزمات اقتصادية شديدة. إنه شعب لديه إرادة على تحمل الصعاب. لقد ربط الحزام ولم يفكه.. ورغم ذلك يدبر حياته متحديا ظروفه القاسية مستعينا بالله سبحانه وتعالى.
    أما اللغة فالكاتب يحسن اختيار ألفاظه السهلة الحميمية، كما يتميز بالأسلوب والصور الفنية غير المعقدة، ليحدث التواصل بين المتلقي وبين النص. لذلك نراه يحرص على تنقية اللغة من أي إغراب، لذلك يمكن القول: "إن الأسلوب هو المبدع"، وإن "اللغة العربية هي التي تحدد خصوصية المبدع وهويته الحضارية".
    اللغة الإبداعية نسج بديع يبهر ويسحر، وعلى الأديب أن يعرف كيف يتعامل مع لغته، كما يقول الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية": "حتى يجعلها تتنوع على مستويات، دون أن يشعر القارئ باختلال المستويات في نسج اللغة". فالأستاذ حسني واع لمهمة اللغة وأهميتها في تحديد المستويات، كما يولي أيضا لغة الحوار اهتماما كبيرا، فهو يحرص أن تكون لغته عربية فصيحة بسيطة سلسة، يفهمها المتلقي بمستوياته المختلفة، فهو لا يستخدم العامية حتى في الأمثال الشعبية.
    واختلف في ذلك النقاد، فمنهم من يرى بقاء الأمثال بلهجتها العامية مثل الدكتور علي الراعي ـ رحمه الله ـ الذي قال إن الأمثال الشعبية تكتب بلهجتها لتحتفظ بزخمها.
    وسبب تمسك حسني سيد لبيب باللغة العربية الفصيحة يرجع إلى أن العامية لا تقدر على التعبير عن العواطف والأفكار والواقع اليومي مثل اللغة العربية.
    الكتابة الروائية عمل فني جميل يقوم على نشاط اللغة الداخلي، ولا شئ يوجد خارج تلك اللغة، وإذا كانت غاية بعض الروائيين العرب المعاصرين هي أن يؤذوا اللغة ( ليس بالمفهوم الفني ولكن بالمفهوم الواقعي للإيذاء)، بتسويد وجهها، وتلطيخ جلدها، وإهانتها بجعل العامية لها ضُرّة في الكتابة.. فلم يبق للغة العربية إلا أن تُحزّم حقائبها، وتمتطي ركائبها، وتمضي على وجهها سائرة في الأرض لعلها تصادف كتّابا يحبونها من غير بني جلدتها.
    أمام كل هذا فإننا لا نقبل اتخاذ العامية لغة في كتابة الحوار.. ونؤثر أن تكون للغة الحرية المطلقة لتعمل بنفسها عبْر العمل الإبداعي، فلا واقعية، ولا تاريخ، ولا مجتمع، ولا هم يحزنون، إن هي إلا أساطير النقاد الآخرين.
    استعان الأستاذ حسني سيد لبيب بوسائل فنية تعمق الحدث، وتنشط ذاكرة المتلقي، فيسترجع ذكرياته ويحل رموزها، ويصل إلى مفاتيحها، ودلالاتها، ونتبين ذلك في: الحديث النفسي، والمناجاة، وحمزة صاحب الغرزة الذي يتذكر أحداث عصره، ومذكرات فتحي الذي يسجل وقائع زمنه، وأحوال الشخصيات. وكذلك الأحلام سواء الأحلام التي نراها في النوم، أم في أحلام اليقظة.
    لقد قدم الأستاذ حسني سيد لبيب بانوراما لمدينة إمبابة، وسجل الحركة الدقيقة لسكان الحي، حالتهم النفسية، والاجتماعية. كما اهتم بإبراز شخصية ابن البلد عن إيمان عميق يسري في وجدانه، ولا يظهر ذلك إلا في الملمات، كما أبرز أن الإنسان فيه الخير وفيه الشر، ولكن الخير هو المقدم عنده، ويتضح ذلك في سلوك "سيد سبرتو" الفتوة الذي يهب لنجدة أبناء حيّه ومساعدتهم. فشخصيات الرواية سوية إيجابية، لذا نراها متكاتفة، متعاونة في أي ظرف من الظروف.
    ونورد أخيرا الكلمة التي ختم بها الكاتب الرواية: "عكف فتحي يسطر في مذكراته مأساة أمة نكبت في أعز أمانيها. بللت الدموع الصفحة التي يكتب فيها.. تطلع إلى السماء، عساه يهتدي إلى نجم ما، لعل أملا جديدا يضئ الأفق".. وهذا الأمل هو الذي يعيش له أهالي حي المنيرة.
    الجوانب الفنية:
    1. بدأ الكاتب ببيان جغرافية المكان ووصفه وصفا دقيقا. الأماكن الجديدة والأماكن القديمة، ذاكرا كل الأماكن المشهورة، التي لها ذكريات في حياته، وفي حياة سكان إمبابة، التي تحرك أشجان الإنسان وتعيده إلى مراتع الصبا.
    2. بيّن الأزمات والمعاناة من الآثار النفسية المتراكمة نتيجة الحروب في الماضي، ونتيجة الأزمات الاقتصادية التي يعيشونها دون أمل في حل الحزام الذي ربطوه منذ سنين.
    3. من يقرأ الرواية قراءة سريعة يعتقد أنها رواية تعالج مشاكل اجتماعية ومشاكل الشباب فقط، ولكنها رواية تعالج قضايا سياسية، لم يشأ أن يعرضها بالتفصيل، ولكنه عرضها كأسماء شخصيات، أو أماكن، أو مواقف سياسية مثل الحديث عن عبد الناصر، واعتقال الشيخ محمود خطيب المسجد، غير الإشارات والتلميحات التي استخدمها.
    4. وفق الكاتب في توزيع الأسماء في فصول حتى لا يقع الإنسان في لبس لكثرة ذكر الأسماء.
    5. كما أنه وفق أيضا في تقسيم الفصول فهي تتتابع حينا وتتبادل حينا آخر.
    6. لم يذكر الكاتب بعض أسماء الشخصيات في بداية الفصول لإحداث شئ من الإبهام ليستثير القارئ ليتابع أحداث الرواية.
    7. الرواية واقعية اجتماعية سياسية، أي أن أحداثها مستمدة من الواقع المعيش لسكان الحي. والواقعية التي استخدمها الكاتب واقعية نظيفة ليس فيها هبوط أو استخدام ألفاظ رديئة تجرح مشاعر المتلقي، كما نرى في إبداع بعض الأدباء من إسفاف وخروج عن الذوق مما يفسد الجانب الفني والخلقي. أما حسني لبيب، فقد استخدم الواقعية النظيفة التي تفيد المتلقي فنيا وخلقيا.
    8. نلاحظ أن الكاتب حسني لبيب يضع نصب عينيه المتلقي، فهو ملتزم، فلا نجد في الرواية وصفا خارجا جارحا، ويبدو ذلك في التالي: "يدخل فتحي المسرح، ويرى الراقصة العارية، عندما وصل إلى بيته، ماذا فعل؟ هل سلك سلوك الشباب الطائش؟ لم يفعل ذلك، بل تصرف تصرفا عاديا، "حضن المخدة كما فعل عبد الحليم حافظ في فيلم "الوسادة الخالية". كما أن الكاتب لم يستغل هذا الموقف في وصف جنسي يداعب به غرائز الشباب، ويرجع ذلك إلى رفضه هذا حماية للشباب واحتراما لأمانة الكلمة، والتزاما بالخط الخلقي الذي التزم به..
    9. لم يحقق أهل الحي أحلامهم أو بعضا منها، ولكن لم يسدّ الطريق عليهم، فهو كعادته يؤمن بالمستقبل الذي سيحمل تفاؤلا وأملا جديدا يضئ الأفق.
    إبراهيم سعفان
    ....................................
    *ألقيت هذه الدراسة في ندوة رابطة الأدب الحديث بمناسبة احتفالها بصدور الرواية.


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب


    جمالية المكان في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    تعد رواية «نفق المنيرة» (2007م) للروائي حسني سيد لبيب الرواية الثانية في مسيرته الإبداعية بعد رواية «دموع إيزيس» (1998م)، وكان قد أصدر من قبل ست مجموعات قصصية، هي: «حياة جديدة» (1981م)، و «أحدثكم عن نفسي» (1985م)، و « طائرات ورقية» (1992م)، و«كلمات حب في الدفتر» (1993م)، و«نفس حائرة» (1999م)، و«الكرة تختفي في الأعالي» (2005م).
    وفي هذه الرواية يسجل الروائي وثيقة فنية عن المجتمع المحيط بنفق المنيرة (إمبابة) في زهاء ثلاثمائة صفحة، يتناول فيها مرحلة الستينيات الميلادية من القرن الماضي ـ قبيل ما اصطلح على تسمسته نكسة 1967م، وما بعدها.
    ولا يُراد بكلمة المكان في الرواية «دلالتها الجغرافية المحدودة، المرتبطة بمساحة محدودة من الأرض في منطقة ما، وإنما يُراد بها دلالتها الرحبة التي تتسع لتشمل البيئة وأرضها، وناسها، وأحداثها، وهمومها وتطلعاتها، وتقاليدها، وقيمها. فالمكان بهذا المفهوم كيان زاخر بالحياة والحركة، يؤثر ويتأثَّر، ويتفاعل مع حركة الشخصيات وأفكارها كما يتفاعل مع الكاتب الروائي ذاته»(1).
    ومما لاشك فيه أن الأحداث التي تتعلّق بمكان ما، قد يتعذَّر أو يستحيل حدوثها في مكان مُغاير، فالحدث الذي يدور على سفينة في البحر يختلف عن غيره الذي يكون في صحراء، عن ثالث يكون في مدينة تمور بالحركة والحياة، ومعنى هذا أن الحدث الروائي «لا يُقدَّم إلا من خلال معطياته الزمانية والمكانية، ومن دون هذه المعطيات يستحيل على السرد أن يؤدي رسالته الحكائية»(2).
    ولذا «يجب أن يهتم الكاتب القصصي بتحديد المكان اهتماماً كبيراً ليعطي الحدث القصصي قدراً من المنطق والمعقولية ... كذلك ينبغي أن يعنى الكاتب بتصوير مفردات المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، لأن القارئ قد يستشف من هذا التصوير دلالات كثيرة، تفسر أو تعمق أموراً تتصل بالحدث أو بالشخصيات أو بهما معاً»(3).
    والمكان لا يتشكل في الرواية ولا يأخذ شكله الروائي إلا من خلال ما يرتبط به من أحداث «وليس هناك أي مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي يقوم بها الأبطال … وعلى هذا الأساس فإن بناء الفضاء الروائي يبدو مرتبطاً بخطة الأحداث السردية، وبالتالي يُمكن القول إنه هو المسار الذي يتبعه تجاه السرد، وهذا الارتباط الإلزامي بين الفضاء الروائي والحدث هو الذي سيُعطي للرواية تماسكها وانسجامها … إن المكان هو أحد العوامل الأساسية التي يقوم عليها الحدث»(4) ، ولن تكون هناك رواية ما لم يكن هناك مكان ما يلتقي فيه شخص بشخص، ويقع فيه حدث ما، تحتاجه الحبكة الروائية والموضوع الروائي.
    فالمكان «لا ينفصل عن أشيائه، فهي التي تملؤه، وتمنحه ذلك الثراء الذي يتميَّز به مكان عن آخر»(5). ويرى كثير من النقاد أن المكان يرتبط بالأشياء التي توجد فيه، و«ليس مستقلا عن نوعية الأجسام الموجودة فيه»(6).
    وللمكان في رواية «نفق المنيرة» حضوره اللافت، بدءاً من العنوان الذي يتحدث عن مكان مجسدٍ هو «نفق المنيرة»، وتبدأ الرواية بتحديد النفق من خلال رؤية السارد، الذي يمزج بين شخصية البطلين اللذين يتقاسمان النص الروائي: نفق المنيرة، وحمزة:
    «أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين «نفق المنيرة»، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين» (7).
    فهذا المكان الذي أشارت إليه الفقرة الأولى في الرواية هو المكان المرجعي الذي يدور النصُّ فيه (وتبعاً لذلك الشخوص والأحداث والزمان)، وفي فضائه نرى عالماً يتخلَّق، وتغتني دلالاتُه بقدرة مؤلفه على أن يجعل من الأمكنة الفرعية في النص سواءٌ أكانت مفتوحة (كالشارع، والمدرسة) أو مغلقةً (كالبيت، والحجرة، والدكان) روافد صغيرة تثري المكان المرجعي وتُغنيه، وتُكمل لوحته. ولا تجعل عناصر الففن الروائي الأخرى (كالشخوص، والمكان، والأحداث ...) غريبةً على هذا الفضاء المكاني.
    الوصف والمكان:
    يرتبط وصف المكان في الرواية بثلاثة أشياء يحرص عليها الراوي:
    أولاً: الدقة التي تُشعرك بأن الراوي يعرف تفاصيل عمله مكانيا؛ ذلك الفضاء الذي سيشهد تحرك الأحداث والشخوص، وسيشهد فصولاً من التدافع بين شخصيات عمله الروائي.
    ثانياً: الاهتمام بالملمح الشعوري والنفسي للبطل تجاه المكان، وهل هو مكان / صديق يحس تجاهه بشعور الحب والألفاة والاهتمام، أم هو مكان / عدو .. يُحس تجاهه بالنفور.
    ثالثاً: العلاقة بين وصف المكان والحدث الذي ينطلق منه، أو يدور في إطاره، وخصوصية ذلك بأن يرينا الروائي مقدرته الفنية في إقناعنا أن هذا الحدث ما كان ليقع إلا في المكان الذي وقع فيه..
    وفي البداية يُواجهنا هذا الوصف الذي يحدد إطار النفق، مما يكشف عن أهمية المكان الذي اختاره عنوانا لروايته، ومن الوصف سنعرف حميمية العلاقة بين الشخوص والمكان.
    وهو هنا يتحدث عن المكان من خلال وعي شخصية «حمزة»:
    «منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
    ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
    هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة»(8).
    وقد لاحظنا في هذا الوصف:
    الاهتمام بالملمح الشعوري والنفسي للمكان: من خلال وصف ملازمة حمزة للنفق بـ«العمر الطويل» ومن خلال العلاقة الحميمة بين المكان والبطل: «يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة».
    المكان والزمان:
    يرتبط نفق المنيرة بأحداث عاشها البطل (حمزة)، يستدعيها من خلال كلمة كُتبت خلال العدوان الثلاثي (1956م) على جدران النفق، وظلت محفورة على في وجدان حمزة، تستثيره، وتذكره بمشاركته في الدفاع المدني، وذهابه متسللاً إلى بور سعيد، وتذكره دائماً بالرصالصة التي استقرت في فخذه ومازال أثرها ظاهراً للعيان: «في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق» (9).
    فكأن جدران النفق لوحة حية لمشهد معاصر من تاريخ مصر، وتتسع دلالة المكان هنا وتصير أكثر رحابةً، فكأنَّ «نفق المنيرة» شاهد حي على تاريخ مصر المُعاصر.
    (يتبع)


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

    جمالية المكان في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب (2 ـ 3)

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    وفي مشهد مؤثر ينقل الكاتب غرق مركبة في النيل «ظهر الاثنين الأول من نوفمبر عام 1965.
    طرق متواصل على الباب جعل أم فتحي تهرع من المطبخ إلى الباب تفتحه، فإذا مصطفى متقطع الأنفاس.. ينزل فتحي السلالم ركضا إثر سماعه صوت صاحبه..
    ـ ادخل.. ادخل..
    لكنه لا يدخل. شده من ذراعه إلى الداخل، وصوته يعلن في ألم:
    ـ التروللي وقع في النيل..
    صكت صدرها بكفها.. ارتدى فتحي الملابس على عجل، وخرج معه، متجهين إلى حيث سقط التروللي باس رقم 44 أمام مستشفى العجوزة.
    خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع .. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال، تخرج معهم في مسيرة جنائزية مهيبة. بعض النساء خرجن بجلابيب البيت، حاسرات الشعر حافيات الأقدام»(10).
    فهنا يحدد الزمن حيث كانت القرى والمدن الصغيرة مثل أسرة واحدة، ومكان الحادث (44 أمام مستشفى العجوزة)، والحادث كما يرويه السارد (التروللي وقع في النيل)، والاستجابة (خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع .. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال).
    لقد جعل الروائي للأمكنة (البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال) حضوراً ومُشاركةً في المأساة المروعة.
    وقد تأنف شخوصه من البيت، وتتصوره في لحظات الضيق كالسجن، ومن ثم تخرج، لتمشي، وتتجول، وتجلس على المقاهي:
    «طلب من صاحبه الخروج، تحررا من حبسة البيت. تجولا كعادتهما في شوارع المنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير.. وعلى مقهى الربيع كانت جلستهما المفضلة، إلى منضدة في ركن داخلي، اتقاء لسعات البرد. لعبا النرد فتعادلا. ارتاحا للنتيجة فنهضا.. وجل حديث فتحي عن مارسيل ومريم، اكتشافه المذهل، وتهيؤه للقائهما غدا الخميس.. وأن عليه مذاكرة واجب الأستاذ شفيق الليلة.. إلا أن الثرثرة ـ داءه المزمن ـ يقابلها عند أمين صمت مطبق!
    عرجا على نفق المنيرة، وتجالسا مع حمزة وصاحبه عويس، الذي أكمل لهما السهرة بأغنيات أم كلثوم من مذياعه الترانزستور، حتى انتصف الليل، ثم انصرف كل إلى بيته..» (11).
    المكان والأحداث:
    من البديهي ـ كما يقول رشاد رشدي ـ «أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها، إلا كان نتيجة لوجود شخص معين ـ أو أشخاص معينين ـ يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة … لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل»(12).
    ومعروف أن «الحدث هو الموضوع الذي تدور حوله القصة، وهو مجموعة من الوقائع الجزئية المترابطة، وهذا الترابط هو الذي يميز العمل القصصي عن أي حكاية يروي فيها شخص لصديقه ما وقع له من أحداث، فأحداث القصة الفنية لها إطار عام، يدفعها في تسلسل إلى غاية محددة»(13).
    والحدث الرئيس في هذه الرواية يدور حول تشقق جدار نفق المنيرة، حيث رأى حمزة فيما يرى النائم أن النفق تشققت أحجاره، ويبدأ السارد الحدث برؤيا مماثلة للعالم الأثري محمد نافع الذي كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري.
    وللمكان حضوره اللافت في الغوري ونفق المنيرة، وما جاء ذكر الغوري والعالم الأثري محمد نافع، إلا ليُطلعنا السارد على اهتمام لشخوص بالأمكنة التي التي احتلت وجدان الرجلين، فأبعدت عنهم السكينة، حينما وجدا ـ فيما يرى النائم ـ أن الجدران تتشقق وتنهار، ومن هنا يكون النهوض للعمل:
    «يحدثنا أحد الكتّاب عن تفاني العالِم الأثري الجليل محمد نافع في عمله وولعه به، حين كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري، التي تشققت جدرانها، فرأى فيما يرى النائم أن الجدران انهارت.. فقام فزعا من نومه ولم يصبر حتى يطلع النهار، وغادر منزله بالعباسية ماشيا على قدميه إلى الغورية فوجد الحال كما هي وأن ما رآه أضغاث أحلام.
    ما حدث لمحمد نافع حدث مثيل له مع حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، الذي استغرق في نومه، وسبح في دنيا الأحلام، فرأى فيما يرى النائم جدار نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع. يتحسس الجدران، يمرر سبابته على شق من الشقوق، تجزع نفسه، يصيح : ربي.. حلم أم علم ؟ يقرص لحم فخذه حتى يتنبه.. يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له، يا هووه.. يا خلق الله .. النفق ينهار.. أنقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ أم انهيار كامل ؟ لا يدري. لا أحد يجيب. يجري كالمجنون. يرفع ذراعيه باسطا كفيه على الجدار متحسسا الشقوق، يبكي، يتألم. الناس في بيوت مغلقة لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات» (14).
    المكان والشخصيات:
    إذا كانت الرواية جعلت المكان بطلاً، فإن الرواية مليئة بالأمكنة، التي تتقاطع مع الشحوص، وتؤثر فيها.
    فمن شخوص الرواية مصطفى الذي استشهد في الجبهة (في حرب 1967م مع العدو الإسرائيلي)، إن السارد يبدأ سرده عن شخصية مصطفى من خلال المكان «انصرف من المدرسة بصحبة أمين. التقيا مصطفى الذي سيطر بحديثه عن نرجس، البنت التي أحبها. شرح كيف التقاها أول مرة، حين جاءت زبونة تريد رتق صندلها. عرفته بنفسها، تلميذة في مدرسة باحثة البادية. يتبادل معها كلمات قليلة. أبانت له أن أخته سعاد دلتها على المحل. أعجب بحديثها. آلمه أنها تكبدت السير من المنيرة حتى شارع مراد. قالت إنها تسكن في المنيرة أيضا بالقرب من سكنه، وأن سعاد صديقتها. أصر أن يرتق الصندل بالمجان.
    التزم أمين الصمت، يسمع ولا يعلق ولا يبدي رأيا. هذه ليست أول بنت يتحدث عنها. عرف كثيرات قبلها. يعمل مصطفى في محل إسكافي. يرتق الأحذية القديمة على ماكينة أو يحيك بالإبرة ما تمزق من جلدها.. ينظف بعدها الحذاء ويلمّعه بالورنيش. يظل يعمل حتى الواحدة ظهرا فيعود إلى داره سيرا على الأقدام، من شارع مراد مخترقا سوق الجمال والجرن وسيدي إسماعيل الإمبابي، مارا بمدرسة التجارة للبنات. ما أكثر أحاديثه مع فتحي عن البنات اللاتي يقصدن المحل، أخراهن نرجس. يعود إلى المحل في الثالثة بعد الظهر، حتى أذان العشاء، فينصرف إلى البيت منهك القوى. يغتسل طاردا رائحة الجلد والورنيش، ويتعشى ويشرب الشاي. ثم يستسلم لنوم عميق، ما لم يخرج مع الصحاب.. حسده فتحي على زبائن المحل من البنات. لم يصدق أن عاملا بسيطا مثله يمكن أن تقع بنت مدارس في هواه»(15).
    (يتبع)


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: صدور رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

    جمالية المكان في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب (3 ـ 3)

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    فهنا ذكر لشوارع، ومدرسة، ومحل يعمل فيه مصطفى، ومن خلال محل الإسكافي الذي يعمل فيه يتعرف على البنات، ومنهن نرجس.
    وعندما نتعرف على نرجس فإنه يرد ذكرها بعد وفاة أخت مصطفى، ونرى نرجس وهي داخل حجرة في بيت مصطفى تُقدم العزاء للأسرة: «فوجئ فتحي بنرجس تقتحم مجلسهما بصحبة أمها. انتفض كالمذعور ليقف بمحاذاة مصطفى، مادا يده مثله يتقبل عزاءهما. برغم الثوب الأسود الذي ترتديه، إلا أنه أفصح عن جمال صارخ، أكثر مما يكشف عنه ثوب آخر. عقصت شعرها الأصفر إلى الوراء. عيناها الزرقاوان، ووجهها الأبيض المدور، علامتان للجمال لا تخطئهما عين. لم يفلح احمرار العينين من شدة البكاء، في إخفاء الجمال المعلن. توجهت الجميلة الحزينة هي وأمها إلى غرفة السيدات.. أخذ يحدثه عن وفائها. قال إنها غير ما عرف من البنات. أوضح له:
    ـ نرجس صاحبة المرحومة.. الروح بالروح..
    وأشار بإصبعيْ السبابتين ملتصقين..»(16).
    المكان بوصفه رمزاً:
    يقدم الروائي وصفاً دقيقاً، جغرافيا وتاريخيا، لإمبابة التي يقع فيها «نفق المنيرة»، فيقول: «إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي، لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
    اسمها الأصلي في قول "نبابة" كما ورد في كتاب "جني الأزهار"، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها "إمبابة". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم "جزيرة إمبابة". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي: تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة»(17).
    ومن السطور الأولى في الفقرة السابقة نرى أن عنوان الرواية «نفق المنيرة» ـ وهو في حي إمبابة تتسع دلالته لتشير إلى مصر، من خلال إشارة السارد إلى طوائف الناس الذين أقبلوا على (إمبابة) للسكنى فيها:
    «إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة»(18).
    ويجعل من البيت رمزاً للتجمع والألفة، وبخاصة الاجتماع وقت الطعام، وقد يتناقشون في أمر يكون له ما بعده في الأحداث، مثل هذا المقطع: « ذات مرة جمعه وأباه وأمه لقاء.. ما أندر اللقاءات بينهم.. كانوا ملتفين هو وأخواته حول الطبلية يتناولون الغداء. قالت فاطمة وهي في الإعدادية، إن فتحي يرى صعوبة في اللغة الفرنسية. نفى ذلك بشدة قائلا:
    ـ أبدا.. هي مادة لطيفة.. لكن الصعوبة في أنني أحيانا أنطق الكلمة الفرنسية بالنطق الإنجليزي. هذا خطأ نبهني إليه مدرس الفصل.
    لم يعلق أبوه.. مضى على تلك الملاحظة يومان، أخبره بعدها أنه اتفق مع زميل له في المصلحة لإعطائه دروسا في الفرنسية. تردد في البداية. طمأنه بأن أجرة الحصة زهيدة لن تكلفه كثيرا، فقد راعى شفيق زمالتهما» (19).
    إنه ـ فتحي ـ سيأخذ بعد ذلك دروساً، ويحب ـ وهو المسلم ـ ابنة معلمه ( مارسيل بنت الأستاذ شفيق، وهي نصرانية)، وستتناول بعض الفصول مسيرة هذا الحب المتوهج الذي ينتهي عاثراً لاختلاف ديانتي المحبين.
    وتمثل الجامعة ـ وهي مكان مفتوح ـ صورة الحياة، حيث نلتقي بالصحاب والأحبة، وقد توجد في هذه الأماكن المفتوحة المشاكل التي لا تخلو منها الحياة:
    «دخول الجامعة بالنسبة له بداية حياة جديدة، كما كتب في يومياته. رأى أن الحياة تبتسم له، تعطيه ما يتمنى. في اليوم الأول، حرص على لقائها وإعطائها جدول المحاضرات. عرّفها برقم الفصل الخاص بها، أو "السيكشن" كما يطلقون عليه بالإنجليزية. تجولا في أرجاء الكلية. تعرفا على شئون الطلبة والمكتبة وغرفة العميد وغرفة الوكيل، ومدرج فلسطين المخصص لطلبة إعدادي. ربما كانت الكلية في القديم قصرا أثريا. في المدرج، جلست مارسيل في الصف الأول، صف الطالبات. آثر فتحي الجلوس في المنتصف، حيث تعرف على زميله القادم من بني سويف. حسان ودود بطبعه صريح القول. تآلفا سريعا، وتصادقا..» (20).
    وكان في الجامعة لقاءات فتحي مع حبيبته مارسيل، في أماكن مغلقة ـ كقاعات المحاضرات ـ وفي أماكن مفتوحة، وتحدثا عن الحياة والحب واختلاف العقيدة:
    «بدأت هي الأخرى تحدثه عن أسرتها، والصلوات التي تؤديها في الكنيسة. قال في حماس :
    ـ كلنا ندعو الله.. نصلي له.. كلنا نعبد الله..
    أردفت :
    ـ الله محبة..
    في جيدها تتلألأ السلسلة الذهبية، يتدلى منها صليب صغير..
    تحير في نظرته. هل يمعن النظر في الصليب المتدلي إلى مفرق نهديها، أم إلى البريق المتلألئ في عينيها ؟
    أتى النادل بعصير الليمون. انتقلت به إلى المحاضرات وحاورته في مسائل الهندسة الوصفية العويصة. حياهما أحد الزملاء. ذكرهما بمحاضرة الرياضيات قبل أن يغلق الدكتور باب المدرج، فأخبراه أنهما لا يرغبان في الحضور. استمرآ الجلوس في بوفيه الكلية، حيث يمتد الوقت بهما بامتداد وقت المحاضرة التي امتنعا عن حضورها!
    اتفقا على الانصراف من البوفيه قبل انتهاء المحاضرة بربع الساعة. ستكون المواصلات أهدأ ويمكنهما الركوب بسهولة ويجد كل منهما مقعدا يجلس عليه. ثمة سبب آخر لم يعلناه، هو ألا يخرج الطلبة من المدرج، وهما ما زالا جالسيْن في البوفيه !
    كالمعتاد، انتظر حتى استقلت السيارة العامة المتجهة إلى شبرا، ثم انتظر التروللي باس المتجه إلى إمبابة.
    عندما انصرفت مارسيل، افتقد الحنان والرقة والمؤانسة. تشاغل في تأمل وجوه الواقفين بالمحطة. المحاضرة الثالثة لم تنته بعد. حضر التروللي باس. من الممتع والمريح أن تجد مقعدا خاليا تجلس عليه. تهادى التروللي بسرعته العادية» (21).
    والأمكنة هنا رموز لمفردات الحياة:
    الكنيسة = رمز لدور العبادة.
    الجامعة = ترمز للعطاء العلمي، وإعداد الشخص لمعترك الحياة.
    البوفيه = رمز للقاء مع المحبوبة.
    السيارة العامة = رمز لحركة الزمن ومسيرة الحياة.
    كما كان حلم حمزة بانهيار نفق المنيرة رمزاً لانهيار الحلم الذي تجسد في الثورة المصرية التي قام بها الضباط عام 1952م، وحلمنا أحلاماً كثيرة في مستقبل متوهج بالعطاء، وارتفاع الإنسان فإذا بالسجون تمتلئ بالمعتقلين السياسيين، وإذا بهزيمة 1967م تقتل أمل الأمة في النهوض والتقدم.
    يقول السارد:
    «أشرقت شمس نوفمبر في الصباح، فتبدد ما رآه حمزة في منامه، كأنه غير مصدق. إنه مجرد حلم يتبدد في اليقظة، فخرج من بيته يتطلع إلى البناء الحجري، ينتصب في أوله وآخره أربعة أعمدة حجرية شاهدا على متانته.. ولشد ما عجب من أمر النفق الذي يتحمل قطارات تزن مئات الأطنان.. تعبر فوقه ليل نهار، فلا يكل ولا ينهار. سار بطول النفق من بدايته إلى نهايته.. توقف لحظات يتحسس بكفيه الجدار السميك. لم يلحظ تشققات ولا وجد كسرا. لا شيء يعتور النفق. بدا أمام ناظريه سليما معافى. ما رآه في المنام كذب في كذب. هاهي الحقيقة ناصعة ساطعة سطوع الشمس الدافئة في نوفمبر. إذن هو الحلم وإرهاصات الغافل عن الدنيا السابح في ملكوت الله. عجيبة هي الأحلام، ترينا فانتازيا تخلط بين الواقع والخيال.. قد تنبئ عما هو آت في مقتبل الأيام.. قد تكون الحاسة السادسة تُري المرء بشفافية تخترق كالأشعة حجب الغيب. تريه ما لا يراه بعينيه، ما لا يطوف بخياله» (22).
    ***
    وقد أحسن الروائي توظيف مفردات المكان في روايته، فمنحنا نصا روائيا ذا قيمة فنية عالية، نجح من خلاله ألا يجور الموضوع فيه على عناصر السرد، ومنها عنصر المكان، الذي وظفه في فنية لافتة.
    ............................................
    (1) د. عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية: دراسة في الرواية المصرية، ط1، مكتبة الشباب، القاهرة 1982م، ص59. (بتصرف).
    (2) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1990م، ص29.
    (3) د. طه وادي: دراسات في نقد الرواية،، ط2، دار المعارف، القاهرة 1993م، ص36، 37.
    (4) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص29.
    (5) خالد حسين حسين: شعرية المكان في الرواية الجديدة، العدد (83)، سلسلة «كتاب الرياض»، الرياض 2000م، ص209.
    (6) د. محمود محمد عيسى: تيار الزمن في الرواية العربية المعاصرة، ط1، مكتبة الزهراء، القاهرة 1991م، ص5.
    (7) حسني سيد لبيب: نفق المنيرة، كتاب الاتحاد، اتحاد كتاب مصر، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2007م، ص7.
    (8) الرواية، ص8، 9.
    (9) الرواية، ص8.
    (10) الرواية، ص35، 36.
    (11) الرواية، ص67.
    (12) د. رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ط2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1964م، ص30.
    (13) د. حسين علي محمد: التحرير الأدبي، ط6، مكتبة العبيكان، الرياض 1430هـ-2009م، ص296. وانظر: عزيزة مريدن: القصة والرواية، دار الفكر، دمشق 1400هـ-1980م، ص25.
    (14) الرواية، ص53، 54.
    (15) الرواية، ص29، 30.
    (16) الرواية، ص43، 44
    (17) الرواية، ص9، 10.
    (18) الرواية، ص9.
    (19) الرواية، ص163.
    (20) الرواية، ص197.
    (21) الرواية، ص214، 215
    (22) الرواية، ص54.


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •