... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء









الحلقة (3)










- تقـــديم
- تعريف موجز بالمقام العراقي



تعريف موجز بالمقام العراقي

عندما استمع الانسان إلى صوته لأول مرة يعاد ويكرر من خلال ابتكاره العظيم– جهاز التسجيل الصوتي – وهو يودع القرن التاسع عشر ويستقبل القرن العشرين … يكون قد اعلن بذلك ، عن دخول البشرية منعطفاً جديداً عظيماً من تاريخها .. الامر الذي قاد اكثر التحولات والتغيرات في حياة الشعوب نحو آفاق اتسمت بالسرعة المتزايدة على الدوام .. وهي فعلاً حقبة تحول وانفتاح بكل ما تستطيع احتواؤه هاتين المفردتين من معانٍ وصفات لا حدود لها .
ان التسجيلات الصوتية باصوات المطربين المقاميين والريفيين والبدويين ، وغيرهم من مطربي الالوان الاخرى ، قوميات واديان، التي يتضمنها الفولكلور الغناسيقي في العراق مثل تسجيلات جميل البغدادي ورشيد القندرجي والملا عثمان الموصلي ونجم الشيخلي ويوسف كربلائي ومحمد القبانجي وداخل حسن وحضيري أبي عزيز وناصر حكيم وسعيد عكار وجميل الأعظمي وغيرهم الكثير من الذين ظهروا في هذه الحقبة الزمنية الذين ادركوا اجهزة التسجيل الصوتي ، تسجيلات تمثل في الواقع النماذج الأولى الرائدة عن طريق جهاز التسجيل الصوتي ، التي ستبقى خالدة على مر الزمن ، لانها ستكون دوماً موضع الاهتمام في الدراسات الغناسيقية لحقبة تميزت باكبر التحولات في حياة الشعوب .. وبعد ان مرت الاف الاجيال المتعاقبة على مدى التاريخ من الذين ذهبت اصواتهم مع الهواء دون تسجيل صوتي لها يوثقها ويحفظها .. وعليه فالمقام العراقي واعتباراً من هذه التحولات السريعة في هذه الحقبة - حقبة التحول – يكون قد ولد من جديد ، فقد اختصر طريقاً طويلاً من النمو والارتقاء حتى بلغ شأواً ومكانة فنية عالية خلال القرن العشرين .


صورة/المطرب الريفي الكبير حضيري ابو عزيز صورة/المطرب الريفي الكبير ناصر حكيم صورة/المطرب الريفي الكبير داخل حسن


صورة/مطرب البادية المقتدر جبار سعيد عكار صورة/مطرب البادية الكبير سعيد عكار صورةمطرب البادية الفذ ابو جيشي

ماهو المقام العراقي ؟ وماهو جوهره !؟ اعتقد ان هذا الموضوع من اعقد مواضيع البحث واصعبها .. وربما اسهلها في نفس الوقت ، لانه في الحقيقة لايوجد أي رأي ثابت أو رأي موحد يبين جوهر هذا الموضوع .. فقد صاحب تعريف المقام العراقي اجتهاد شخصي ، تأثر بمؤثرات متنوعة ، لذا رأى البعض أن ( تعريف المقام ) يعد موضوعاً معقداً وصعباً .. بينما رأى البعض الاخر، انه سهل يسير ، لاداعى إلى الأيغال في فلسفة لا يحتملها هذا التراث العريق .. ولسنا هنا في معرض استعراض تفاصيل وتعاريف تبين ما كتب وما تحدث به النقاد والمتخصصون .. بل سنحاول فقط إن نعطي تحديداً وتعريفاً شاملاً لهذا التراث الغنائي .. ( إذ يسود الاعتقاد في الأوساط الغناسيقية ، أن المقام العراقي عبارة عن مجموعة أجناس موسيقية وغنائية تتصل ببعضها البعض لتكوين قوانين وعناصر وأصول حُلَّت الغازها .. ! بيد أن المقام العراقي إضافة إلى وجود هذه الأجناس هنا وهناك في غنائه .. يعتبر نمطاً معيناً من النظام الدقيق ذي الاصول الغنائية الرصينة ، وهـو عمل حسي تمتزج مكوناتـه جميعاً للحصول على الوحدة المتكاملة في بنائه وقابل للتطوير .. )14 أما تعريفه مـن الناحية الوظيفية فهو شكل ( فورم Form ) غناسيقي تراثي محلي عراقي … يسرد في صور شاملة ، ومتعددة الجوانب ، من الاشكال والمضامين الغنائية .. إذ يعبر عن حياة العراق بكل تاريخه وحضارته وثقافته وظواهره ، فهو يعكس هوية ابنائه وشخصيتهم .. وهو ايضاً يوضح تطور حياة هذا البلد العريق في تفاعله المتبادل بدائرة الحياة الطويلة المعقدة الممتدة لالاف السنين من التاريخ ومن ناحية اخرى تعني شكله ومكوناته وعناصره , فانه يتكون بصورة عامة من خمسة عناصر اساسية يعتمد عليها كل مقام على حده في بنائه اللحني والموسيقي وهذه العناصر هي .

1- التحرير – يقصد بهذه المفردة بالبداية او الاستهلال لغناء احد المقامات , وياتي هذا الاستهلال غالبا بكلمات او الفاظ خارجة عن النص الشعري المغنى مثل امان .. امان.. او ويلاه .. ويلاه .. الخ .
2- القطع والاوصال – ويقصد بهاتين المفردتين اصطلاحا , بالتنوع السلمي أي التحولات السلمية او الاجناس الموسيقية ضمن علاقات لحنية متماسكة والعودة دائما الى سلم المقام المغنى وهذه التحولات أو القطع ذات أشكال ثابتة ومحدده في مساراتها اللحنية.
3- الجلسة – وهي النزول الى الدرجات الموسيقية المنخفضة باسلوب القرار , ولكن بمسار لحني محدد ذو شكل معين , أي ليس أي نزول او أي قرار , حيث تشير للموسيقيين او توحي للمستمعين على انه ستاتي طبقات عالية من الغناء أي الجواب او اكثر من الجواب .. مثل فعل ورد الفعل – أي لابد من حدوث هذه الجوابات التي تاتي ايضا بمسارات لحنية محدودة وبشكل معين ليس أي جواب ايضا .. وتسمى هذه الجوابات بـ - الميانة – وهي العنصر الرابع.
4- الميانة – وياتي غناؤها بطبقة صوتية عالية بعد الجلسة مباشرة ذات شكل ومسار لحني معين على ان هذه الجوابات او هذه الميانات ليس من الضروري جدا ان تسبقها جلسة– فقد تاتي صيحات غنائية عالية لها مقومات الميانة دون الحاجة الى ان تسبقها جلسة – في حين ان النزول الى الجلسة يجب ان تتبعها ميانة .
5- التسليم – وهو نهاية المقام وياتي غالبا بالفاظ او كلمات غنائية خارج النص الشعري , شانه في ذلك شان ما يحدث في العنصر الاول ( التحرير )15
ومن هذه الناحية يختلف المقام العراقي عن الاغنية المقصودة أو التي نسميها الاغنية الحديثة التي تعكس ثقافة الفرد في المجتمع.. لأنها تجارب محدودة لاتتعدى حدودها الفردية، وفي حيز زمني محدد.. سواء أكان شاعراً للاغنية أو ملحناً أم مؤدياً لها.. فكلهم معلومون.. في حين أن التراث انعكاس لثقافة المجتمع وعلى مدى التاريخ وهو ما تعول عليه كل الدراسات لمعرفة قيمة هذا البلد أو ذاك.. فمهما كانت قيمة الفرد الثقافية فأنها تبقى ضمن حدودها التأثيرية ويبقى المجتمع صاحب كلمة الحسم في أيه دراسة بحثية أكاديمية .

ليس في الحياة، أو في أي فن من الفنون.. جانب يستطيع ان يمتلك شمولية التعبير عن كوامن المشاعر الانسانية بهذا الشكل اللانهائي، بمثل الشمول الذي يعكسه الغناء والموسيقى (فالغناسيقى) التراثية لها الامكانية الواسعة بالتصوير المتسع عن كوامن الانسانية للجماعات والافراد، وهو ما يطلق عليه - عبقرية الشعوب – فهي تسمح بالمزج بين مختلف انواع التعبير الروحي والمضامين السامية ووسائل التصوير المتنوعة من جهة، وبين تصوير الجوانب العادية للحياة من جانب اخر.

وعلى هذا الاساس فالغناسيقى التراثية تعتبر اكثر انواع الفنون التي تبرز حياة الانسان في ظروفه المحددة كانعكاس لتصوير حقبته الزمنية التي يعيش فيها .. والغناسيقى التراثية تختلف تبعاً لاختلاف بيئاتها وموضوعاتها واشكالها ومضامينها .. فهناك الغناسيقى المدنية والريفية والبدوية والصحراوية والجبلية والسهلية وغيرها ..
من ناحية اخرى .. فقد اختلفت الاراء وتباعدت نقاط الألتقاء بينها مع وجود نقاط باهتة متفرقة تمثل جانباً توفيقياً ليس أكثر وماتزال في حيويتها ، حول تحديد بداية تاريخية للمقامات العراقية … فقد اشار الكثير من الكتاب والنقاد والمؤرخين ، إلى ان المقامات العراقية قديمة جداً قدم الحضارة العراقية .. ومنهم من اشار إلى ان تاريخها يعود إلى بداية الدولة العباسية .. إضافة إلى ان هناك من يقول .. ان هذه المقامات ظهرت قبل ثلاثة أو اربعة قرون مضت .. أي خلال الفترة المظلمة التي مرّت على العراق بعد الغـزو المغولي لبغداد وانهاء الحكم العباسي ( 656هـ – 1258م ) .. وهناك اقوال واراء اخرى تبدو غير مهمة ولاداعي لذكرها قيلت من اجل إدلاء أصحابها دلوهم..
ان الممارسات الغنائية المقامية التي لها صلة مباشرة بالمقام العراقي عموماً، نجدها موجودة ومنتشرة بصورة متقاربة ومتشابهة في بيئة جغرافية واسعة الاطراف ابتداءً من العراق ومعظم غرب وأواسط آسيا.. تركيا، إيران, (نصف دول الاتحاد السوفيتي السابق تقريباً) و الهند، الباكستان، افغانستان، الصين… وغيرها من الدول المجاورة لبعضها.. فكلها متفقة أو متشابهة مـن حيث الاساس الادائي الغنائي للمقامات.. ومن جانب اخر، يبدو ان إطلاق مصطلح – المقام العراقي – تحديداً.. أي اقترانه بالصفة الاقليمية جاء بسبب الضرورة إلى تمييزه عن مقامات اخرى موجودة في البلدان سالفة الذكر.. المجاورة أو البعيدة نسبياً.. حقاً ان المقام العراقي يمتلك مقومات الشخصية المستقلة المؤثرة.. يمتلك مايميزه عن مثيله في الدول المجاورة.. وهذا الذي يمتلكه لايعدو بحقيقة الامر ان يكون, اسلوب خاص جداً في التعبير وغناء المسارات اللحنية.. فهو من هذه الزاوية، يعد بحق عراقياً نعم, ومحلياً. ولعل من المهم قوله أيضاً.. ان الممارسات الغنائية المقامية المستخدمة في جغرافية واسعة من الغرب الآسيوي كما مر بنا.. توحي لنا بأن بيئتها الحقيقية جبلية وذلك كما هو واضح في الانتقالات الغنائية التي تبدو انها خشنه، وهي انعكاس حقيقي لخشونة الحياة الجبلية.. وعليه فأن هذه الحالة الانفعالية في غناء المقامات يمكن ان تكون سبباً من اسباب اطلاقنا مصطلح (الفن الرجولي) على هذا الفن المقامي في بغداد والعراق عموماً.. وبسبب ذلك كما يبدو أيضاً، كان بعض من اسباب رفض الرجل البغدادي للممارسات الغنائية المقامية النسوية كتجربة جديدة رائدة في غناء المقامات العراقية التي هي في حقيقتها التعبيرية انفعالات حادة رجولية رقة الصوت النسوي وليونته.. ان كان ذلك وعياً عقلياً أم وعياً عفوياً تلقائياً لا تأكيد عليه وكان الرجل وهو يختبئ خلف (الأنا) يدعي الرأفة بالمرأة برفضه الاعتراف, لذلك نجد ان الصوت النسوي الرقيق عندما ولج إلى عالم الفن الرجولي.. اخذ يعاني من وسيلة التعبير المضنية المتعبة، ذلك التعبير الانفعالي الذي لا يتميز به الصوت النسائي ولا تتميز به تعابيره.. وعليه فالمرأة حاولت الإجادة, غير انها وقعت في البداية في مشكلة التصنع في التعبير، ذلك ان الرقة تحاول ابعاد ذاتها عن الخشونة ما استطاعت.. وهذا نداء الطبيعة.. ومن ناحية اخرى نلاحظ من خلال ذلك ان بغداد متأثرة بهذه الممارسات الغنائية وليست اصلاً لها هذا إذا سلمنا بمرجعية المقام العراقي الى المناطق المرتفعة, مع إن هنا الطرح بحاجة الى تمحيص, غير إنه لا يغادر المنطق إلا ليعود اليه, فالكثير يرى ان مدن شمال العراق كركوك والموصل واربيل والسليمانية ودهوك.. تعتبر اصلاً جغرافياً لهذه الممارسات الغنائية المقامية ، فكما ان الظرف المكاني وضح تأثيره فأن ثمة عامل اخر لايقل اهمية عن الاول واقصد به عامل الحدث الذي بمقدوره احداث منعطف نوعي في المجتمع .. وبغداد تعرضت مع الاسف إلى كثير من المآسي والنكبات من خلال الغزو المغولي وتعدد الاقوام المختلفة التي حكمت العراق .
ان الفترة الوسيطة ( الفترة المظلمة ) بقرونها السبعة ، هي الفترة التي كانت فيها التأثيرات الغنائية المقامية ، مباشرة ومؤثرة بصورة تبدو مهيمنة على بغداد ، وباعتقادي ان بغداد لو لم تكن عاصمة .. لما وصلت اليها التأثيرات الغنائية المقامية .. ولبقيت على حالها التعبيري العباسي الذي تتسم به تعابير الموسيقى العربية في عصرنا الراهن التي اطلق عليها – الموسيقى الشرقية – أو الموسيقى والغناء المصري . وعلى هذا الاساس ، فـأن الحكومات التي تعاقبت علـى حكـم العراق طيلـة الفتـرة المظلمة كان مركزها بطبيعة الحال في بغداد ، ومن هنا نجد سبباً اخر في اطلاق المصطلح المحدد - المقام العراقي – على هذه الممارسات الغنائية في بغداد ، على اعتبار ان العاصمة من حيث المبدأ .. أي عاصمة .. هي مركز الدولة ومركز الحكومة ومركز دوائرها وجامعاتها ومركز الفكر والثقافة والحضارة .. فهي تمثل إذن كل كيان البلد .


صورة /الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد ( في يمين الصورة ) مع تلميذه حسين الاعظمي – المؤلف – 2001 .


صورة / الصورة في ستوديو التلفزيون , يظهر فيها من اليمين , الفنانون الجالسون عباس فاضل , حسين الاعظمي – المؤلف – الناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي , الملحن عباس حسن , الواقفون , عازف الايقاع فلاح المصلاوي , الملحن ياسين الراوي , عازف الناي وليد حسن , الشاعر الغنائي صالح فرحان , عشية تسجيل مقام الحويزاوي غناء حسين الاعظمي في تشرين الثاني 2001 .

ان من المهم جداً قوله .. بأن تجربة الاداء المقامي في بغداد تعتبر تجربة رائدة في كل جغرافية الاداء المقامي الواسعة الاطراف من غرب وأواسط آسيا .. لأننا إذا اتفقنا على ان هذه الاداءات تعود لبيئة جبلية وهو ما أميل إليه .. فأن نقل هذه التأثيرات عن طريق الاقوام التي حكمت العراق في بغداد وبقائها لفترة طويلة جداً من ( 1258 حتى 1958م ) أي سبعة قرون ميلادية بالكمال والتمام بما فيها سنوات الحكم الاستعماري الانكليزي ( 1917 – 1958م ) ، يعني ان الممارسات الادائية المقامية تكون قد انتقلت إلى بيئة مدنية ، ربما لأول مرة ، وهذا ما اعتقده ، فأذا كان هذا التفسير وارداً فهذا يعني ان الامر اختلف اختلافاً كبيراً من حيث المبدأ ومن حيث المفهوم الفولكلوري العلمي .. وهو الانتقال من بيئة تتسم بثبات الحياة فيها وهي البيئة الجبلية ومميزاتها الحياتية المعينة إلى بيئة مدنية تتسم بتطور وتغير اساليب الحياة فيها باستمرار ، على اعتبار ان المدينة هي البيئة الوحيدة التي تتسم بهذا المضمون الحركي ، الامر الذي يمكن القول فيه ان الاداء المقامي الغنائي في بغداد قد تقنن وتهذب وتبلور وتطور اكثر من أي مكان اخر من كل غرب وأواسط آسيا بالرغم من أننا غير مطلعين بشكل دقيق على كل إنجازات البلدان الفنية في هذا الشأن، لكنني استمعت إلى الكثير من هذه الاداءات وامعنت السمع فيها ، فوجدتها تؤدى بأصوات غاية في الجمال وغاية فـي الاعداد الفني ، ولكن اشكالها الاصولية كقالب ( Form ) لم تصل إلى ما وصلت اليه هذه الأشكال الأصولية في بغداد ، والسبب العلمي الاجتماعي يدعم هذا القول ، إذ نرى الامر واضحاً .. فبغداد مدينة وعاصمة تتسم بديناميكية الحياة ، في حين ان الاداءات الاخرى في البلدان الاخرى اتسمت بثبات اصولها التقليدية ، وعليه نرى ان هذه الاداءات المقامية في العراق .. ( المقام العراقي ) .. بادائها واصولها ، بشكلها ومضمونها ، والتي وصلت إلى ذروة كلاسيكيتها مطلع القرن العشرين، قد اضيف لها الشيء الكثير .. سمات تقنية امتازت بالوعي الفكري .. فهناك مقامات مقيدة الاصول تكونت من تراكم التجارب الادائية طيلة القرون الماضية وهناك مقامات حرة تتيح فرصة للمغني ان يبدع ويظهر إمكانيته فيها ، وهناك مقامات رئيسة كبيرة وهي نفسها السلالم الرئيسة المعروفة في الوطن العربي والشرق ، تمتاز بالتنوع السُلّمي .. ومقامات أخرى صغيرة متفرعة من المقامات الرئيسة الكبيرة .. ولعل أكثر الملاحظات أهمية هي المساحة الصوتية الموجودة في معظم المقامات التي تتسع لاكثر من أوكتافين يؤديها المغني الحاذق الذي يمتلك صوتاً قادراً على أدائها .. مساحات صوتية لمسارات لحنية مقامية مقننة وليست قرارات أو صيحات في مسارات لحنية موسيقية وغنائية كيفما اتفق ، أي انها ليست ارتجالاً بالمعنى الحرفي للكلمة … وفي النتيجة يكون المقام العراقي المؤدى في بغداد .. في شكله ومضمونه ، مزيجاً من أصل شكله ومضمونه الجبلي مع اشكال ومضامين غناء موسيقى عراقية وعربية مدنية متحركة على الدوام . وهكذا اتسم المقام العراقي بأدائه في بغداد بتطورات جمالية وتأملات رومانسية املتها عليه التجربة المدنية وثقافتها ، تختلف بطبيعة الحال عن تلك التأملات الموجودة خارج حدود المدنية .
ولو عدنا مرة اخرى إلى اراء المؤرخين والنقاد والمتخصصين في شأن تاريخية المقام العراقي فأن ماورد منها بعض الاثار الطينية التي ذكرت فيها أسماء لبعض المقامات منذ العهد السومري والبابلي أو غيرها من تتابع الحضارات ، أو ماذكر من أسماء لبعض من أسماء المقامات في أراجيز الشعراء أو رسائل علماء الموسيقى كالفارابي والكندي والارموي وغير ذلك الكثير من الاراء … الا ان كل هذا لايعني بالضرورة ان ما ذكر من الاسماء المقامية ، هي نفسها المقامات العراقية التي نؤديها الآن ، لان هذه الاسماء المذكورة .. هي أسماء السلالم الموسيقية ودرجاتها .. وهي موجودة لحد الان ولكن لم يكن لها شكلاً ادائياً محدداً .. انها استخدامات موسيقية موجودة منذ القدم ، في الموسيقى العراقية والعربية .. أما مانعنيه بغناء المقام العراقي فهو شيء اخر تماماً يدخل ضمن علم الفورم الغناسيقي ( Form ) أي علم الاشكال والقوالب والصيغ الغناسيقية المحددة المعالم والاصول والمضامين التعبيرية.
إضافة إلى ما ذكره المؤرخون لاسماء بعض المقامات في الرُقم الاثارية ، حيث لـم يذكر على انها مقامات ، بل لم يذكر أي أسم لمقامات محلية نستعملها ضمن مقامات اليوم .. ولكن ما ذكر أسماء لدرجات موسيقية عربية لا تزال تستعمل في الوطن العربي كله ومن ضمنه العراق .. فهي ليست أسماء لدرجات موسيقية أو لمقامات عربية اختص بها العراق لوحده .. وعليه فأنها لا تعني محتويات الفورم المقامي الموجود في العراق فحسب .. بل أنها تسميات موسيقية عامة تدخل ضمن نظريات الموسيقى العربية والشرقية..


صورة/مطرب المقام العراقي حمزة السعداوي صورة/مطرب البادية سعدي الحديثي صورة/مطرب المقام العراقي عبد الرحمن العزاوي


ان تقنين غناءنا وموسيقانا على مدى تاريخ العراق ليصبح شكلاً ومضموناً عراقياً وفي فترة كالفترة المظلمة .. يعني من جانب اخر التمسك بالهوية التعبيرية والمضمون الادائي الخصوصي لغناء وموسيقى العراقيين .. وعدم انصهار كيانهم بكيان الاقوام الحاكمة .. وهكذا حافظ العراقيون على تاريخهم وثقافتهم وخصوصيتهم وكيانهم الاجتماعي وموسيقاهم العربية .
انه لمن المستحيل النظر إلى المقامات العراقية التي تؤدى حالياً ، كشكل ومضمون …على انها نفس هذا الشكل وهذا المضمون منذ أقدم الأزمنة ، ولكن يمكن أن نقول إنها امتداد لنفس موسيقانا وغنائنـا في تطورها وتبلورهـا التاريخي عبر عمق هذا الزمن الطويل . ان الأشكال والمضامين تتغير وتتطور تبعاً لتغير وتطور الشعوب على مدى التتابع الزمني ، فلكل ظرف ثقافي وزمني شكله ومضمونه في كل ظواهر الحياة .. وهكذا الموسيقى والغناء ، وفي العراق الذي عاش محنة الفترة المظلمة ، تأثرت من ظواهر حياته الكثير ، فقد كانت هذه الفترة منعطفاً كبيراً جداً في حياة العراقيين . فلو أمعنا التدقيق والبحث في محتويات الأداء المقامي الحالي فأننا سنجد الكثير من الاختلافات التاريخية والفنية من حيث الشكل ، التي لم تكن تخص غناءنا وموسيقانا مثل هذه الفترة رغم أننا محتفظون بموسيقانا العربية ونظرياتها العلمية وهذا الأمر لا يستغرب شأنه ، لاننا مع ذلك سنعثر على الخيوط الواضحة المشتركة التي تشير إلى الجذور . أي ان موسيقانا لم تعرف هذه المقامات كفورم في عصورها القديمة ، فالغناء والموسيقى في بلدنا ، وصلتنا كمدونات تاريخية تصف جانب من حياة العراقيين على مدى تاريخهم ، وهي وثائق تاريخية يرجع إليها في ذات الوقت عند دراسة تاريخنا الموسيقي والبحث فيه لمعرفة التغيرات والتطورات التي مرت منذ أقدم الأزمنة على بلدنا حتى يوم الناس هذا .
وفي هـذه المدونات ، نجد ان الاثاريين او المؤرخين يتناولون شؤون الموسيقى والغناء ، على انها مقطوعات أو صوت مؤلف يؤدى في جلسات الطرب ، ليس له حدود شكلية تعبر على ان هذه المدونات واضحة المعالم ، بل إنها حرة التعابير ودون تقييد لمساراتها اللحنية .. وفي العصر العباسي ، اخذ الغناء العراقي يهتم تدريجياً ، اكثر من أي وقت مضى بتصوير مشاعر الانسان وخلجات نفسه .. ففي هذا العصر بدأت نهضة جديدة من الثقافة الموسيقية تمثلت بعلماء الموسيقى ومغنيها وعازفيها وباحثيها ..
وما ان حل الغزو المغولي لبغداد .. منتصف القرن السابع الهجري حتى تم ادماج اساليب ادائية غناسيقية شديدة الانفعالات جاءت بها الاقوام الغازية بأساليب الاداءات الغناسيقية العراقية العباسية .. فقد حصل الاندماج ونتج عن ذلك اداء وصف بالاداء المقامي ، فأخذ يتبلور رويداً رويدأ حتى أصبح شكله يتحدد بمرور الزمن , ليصبح له شكلاً ومضموناً محددين ، خلاصة لتجربة التأثر والتأثير المتبادل بين الاقوام من جهة والعراقيين اصحاب الأرض من جهة اخرى التي ظهرت في هذا العصر اكثر من أي زمن مضى , وبمرور الزمن اطلق على غنائنا الذي اصبح مزيجاً من هذه الاداءات مصطلح ( المقام العراقي ) ربما تمييزاً عن مقامات اخرى خارج هذه الحدود الاقليمية كما مر بنا . وهكذا اصبح لغنائنا وموسيقانا قالباً وشكلاً واضحاً ازداد في تقنيته بمرور السنين والاجيال لتتسع دائرة تعدد المقامات إلى رئيسة وفرعية ، مقيدة وغير مقيدة ، كبيرة وصغيرة ، حتى امتلك هذا الفورم ( المقام العراقي ) زمام امره .. فتبلورت السلالم الموسيقية حتى ازدادت المقامات عدداً في غناء السلالم والانغام المستعملة فيها .