... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء
دراسة تحليلية فنية نقدية لتجربة المرأة
العراقية في الغناء المقامي
تاليف
حسين اسماعيل الاعظمي






الحلقة (6)























- نظرة عامة لحقبة التحول
- المرأة في حقبة التحول








من ناحية اخرى موجبة لهذا البحث.. ان فن الاداء المقامي بأصوات النساء .. فن مجهول بالنسبة للتجربة المقامية .. وقد نعرف ونعلم الكثير عن المرأة .. في الادب والشعر أو جوانب أخرى ، ولكننا في غيبة مطلقة عن مشاركاتها في الفنون الموسيقية الغناسيقية طيلة الفترة المظلمة .. التي مربها العراق ، عبثاً حاولت المرأة في هذه الفترة كما يبدو ان تفك قيودها وظلت محاولاتها دون جدوى … لقد وضع الرجل نفسه سيداً دون منافس وصم آذانه لا يسمع إلا نفسه ! لا يعير اهتماماً لمواهب المرأة ابداً .. وفي القرن العشرين اختلف الامر .. فنحن نرى ان الثقافة الادائية في المقام العراقي رجالها ونسائها تعانقت في تيار مقامي جامع رغم بعض الاختلافات والتنافرات … انها محاولة لمعرفة امكانيات المرأة في فن الاداء المقامي من خلال ممارستها له منذ عشرينات القرن العشرين .. ومن خلال خواصها كامرأة .. ومن خلال تاريخ الاداء المقامي بصورة عامة.. إنها تحسس للفن الغناسيقي التراثي الذي برز منه فن الاداء المقامي .. ذلك الفن ذو المذاق الخاص والعمق التاريخي .. وكما لم يهتم عموم الوسط المقامي منذ البداية باعطاء اهمية لدخول المرأة عالم التراث الغناسيقي والمقام العراقي على وجه التخصيص ، كذلك مااهتم احد بدعم هذه المحاولات النسوية ، وندر منهم من اهتم بهذا الجانب الحيوي ، ولذلك لم يعرف تاريخنا في العراق الشيء الكثير عن هذا الاندماج والممارسة النسوية لفن الاداء المقامي .. وفي الكتابات النادرة حول هذا الموضوع هنا وهناك .. لم يتوغل احد في الحديث عن اعماق هذه المحاولة وهذا الحدث المهم .. فبقيت اكثر الكتابات سطحية في مضامينها .. ورغم ذلك فقد مضت حقبة طويلة من الزمن قبل ان يكتب عن المرأة الفنانة في الأداء المقامي ..
من ناحية اخرى ، مضت السنون .. وممارسة المرأة لفن الاداء المقامي بغنائها لبعض المقامات العراقية . اهون من ان تكون ضمن اهتمامات اهل المقام الذين رفضوا هذه المحاولات منذ البداية .. والغريب في الامر ، انها بقيت مرفوضة طيلة عقود عديدة من القرن العشرين على وجه التقريب وعليها الكثير من التحفظ ، خاصة من قبل المؤدين التقليديين من الرجال ..!! فهم واقفون لها بالمرصاد ، يرصدون ما تقع فيه من اخطاء فنية دون أن يحاولوا التماس العذر لها على خطواتها الاولى .. ولذلك لم تحتل المرأة مكانها الطبيعي وبما تستحقه إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين حيث بدأت المرأة تمارس حقها في الفن والحياة أكثر من أي وقت مضى .. وهذا يدل أيضاً بأن الوسط المقامي ما يزال يعيش بقية من جهالة القرون الماضية ..
في الواقع انك حين تتحدث عن المرأة ، أدباً أو فناً أو امكانية أو فكر … فأنك انما تتحدث عن بعض ماتمتلكه المرأة .. اما الامتداد الاكبر فيما يخص موضوعنا فله شأن اخر خارج الحساب وخارج الوصف .. لانه عالم اخر قائم بذاته ، كان حتى الامس القريب وإلى ماقبل القرن العشرين تقريباً ، العالم المجهول الحاوي على الاسرار .. انه عالم التعابير الرقيقة الحالمة الخلابة التي تتميز بها المرأة .. معاناة خاصة .. مشكلات خاصة.. اسرار خاصة .. كل ذلك بدا ظهوره مطلع القرن العشرين .. عهد غير بعيد .. لم تكن تأوي إلى هذا المحيط الغناسيقي إلا من تنشد تلبية طموحاتها في التعبير عن مكنوناتها ، في الظهور ، في الشهرة ، في الاستمتاع .. كانت ملاهي بغداد وملاهي المدن الاخرى تضم العدد الكبير من هؤلاءِ المطربات من النساء حتى جاءت الشركات بعد ظهور اجهزة التسجيل والمذياع .. فاتيحت الفرص الكثيرة لهن مما سهل عليهن مهماتهن .. ومع ذلك فكثير منهن قد ضعن ولم يواصلن فنونهن والاسباب مختلفة ليس نحن بصددها الان .. على كل حال .. ان المفاجئة والدهشة من هذا الحدث ، اخذتا بالزوال ومن ثم الاعتياد عليه.. وبدأت اسرار التعابير النسوية بالظهور ، واخذ جبروت الرجل يضمحل رويداً رويداً بالرغم منه وقد استسلم للامر الواقع .. وامتزجت فنون الرجل مع فنون المرأة وازدادت تعابير الاداء المقامي حلاوة لم يذقها المتلقي من قبل .. واليوم امست الحالة في اوج نضوجها فظهرت في العقود الاخيرة من القرن العشرين بعض المؤديات المقاميات اللواتي يشارلهن بالبنان مثل مائده نزهت فنانة القرن العشرين والمطربة فريده من الجيل المتأخر .. فكانت الاولى اول مؤدية مقامية تؤدي المقامات كاملة بأصولها التقليدية والثانية كانت اول مؤدية مقامية تنال شهادة دراسية في الموسيقى والمقام العراقي وهي تؤدي المقامات بأصولها التقليدية أيضاً .. وبذلك يعتبر هذا الحدث.. حدث دخول المرأة عالم المقام العراقي والغناسيقى بصورة عامة من اهم واضخم الانجازات الفنية لغناسيقى العراق في حقبة التحول مطلع القرن العشرين .


صورة/المطرب الكبير عبد الرحمن خضر صورة/المطرب الكبيرعبد القادر النجار صورة/المطرب الكبير يوسف عمر


ومن الخطأ ان نتصور أن المرأة خلال مائة عام تقريباً من مشاركتها وظهورها مع الرجل في الغناء والموسيقى ، قد اعطت كل ماعندها من امكانيات ، يمكن ان تخدم الاداء المقامي خدمة كبيرة .. لان التيار التقليدي للتعابير الرجولية ورفضه للمرأة بتأدية المقامات لم يزل بعضه موجود إلى الان .. الامر الذي ابقى الكثير من امكاناتها مقوضة بسبب الاذواق والجماليات التقليدية الرجالية وعدم فهمهم لقيمة هذا الحدث التاريخي واستيعاب ابعاده الفنية والجمالية الانية والمستقبلية .
قد تشكل هذه الحقيقة مفاجئة حتى للمقاميين من الرجال انفسهم .. فالكثيرون منهم ما يزالون يتجاهلون النتاجات النسوية في الأداء المقامي ، او يتغافلون الاعتراف بالدور الجمالي والحضاري الذي تقوم به المرأة في ممارستها الاداء المقامي ، ولكنه الواقع التاريخي الذي يتحدى .. استمع عزيزي القارىء إلى مقام الحكيمي لصديقه الملايه وجمل من مقام البنجكاه لسليمه مراد ومقام البهيرزاوي لسلطانه يوسف ومقام الدشت لزهور حسين ومقام الحويزاوي لمائده نزهت وجمل اخرى من مقام البنجكاه لانوار عبد الوهاب ومقام الاورفه لفريده ومقام اللامي لسحر طه .
ان الابداعات تظهر بعد صراع مرير ، هكذا أظهرت المرأة ابداعاتها ، وهكذا لعبت المرأة دوراً حضارياً محسوباً .. لقد كانت عنصراً مهماً جداً في حقبة التحول .. فلم تمارس الاداء المقامي عبثاُ .. هذا الاداء الذي اخصب مشاعرها وحرك آمالها من جديد .. لقد قدمت لـه تجربة جديـدة في طرح المشاعر والعواطف ، والاذواق والرقة ونعومة الاداء .. و .. و .. وبالمقابل فقـد عبرت عن كل هذه التجارب بواسطة الاداء المقامي الذي وصل اليها وهـو في قمـة نضوجه واكتماله في شكله ومضمونه . من هنا كانت علاقـة المرأة بمحيطها وبحقبتها الزمنية .. علاقة زاهية .. علاقة اندماج ، انسجاماً مع المتغيرات والمتحولات التي كان وقعها اسرع من ذي قبل , وهكذا كلما مضى زمن اخر .
ورغـم ان النتاجـات الاولى التي جـاءت بصوت المطربة صديقه الملايه التي نستطيع ان نقـول عنها انهـا تمشي الهوينا على استحياء في دقة الاصول المقامية التقليديـة والتاريخية وهذا ينطبق ليس فقط على جرأتها في اقتحامها مضمار المقام فقط بل فيما يخص تمكنها وامتلاكها ( ناصية الاصول المقامية التقليدية والتاريخية )فانها الخطوات الاولى .. على اعتبـار انهـا بداية .. ولكنها كانت بدايـة كبيـرة حقـاً ومفاجئة ومدهشة .. وهـي التي غنت مقام المحمودي ومقام الحكيمي ومقام البهيرزاوي وغيرها ..
ولكـن الغريب في الامر ان معاصراتها من المطربات مثل جليله أم سامي وبدريه انور وغيرهما لم يؤدين مقامات مكتملة ، واكتفوا بممارسة اداء قطع صغيرة من المقامات قبل الاغنية أو بعدها وفي وسطها .. ومر هذا الجيل وتلاه الجيل الثاني حتى ظهرت بعض المطربات اللواتي حاولن تكرار تجربة المطربة صديقه الملايه من حيث محاولة الاقتراب من تأدية المقامات كاملة الاصول التقليدية ما استطعن الى ذلك سبيلا ومن هؤلاء المطربات المطربة سلطانه يوسف التي ادت مقام الحكيمي بصورة جيدة ومقام البهيرزاوي وكذلك كانت المطربه سليمه مراد التي ادت شيئا من البنجكاه ضمن الاغنية الشهيرة ( هذا مو إنصاف منك ) ثم جاء الجيل الثالث بظهور المطربة زهور حسين التي ادت مقام الدشت والهمايون بصورة رائعة حتى ظهور مائدة نزهت فنانة القرن العشرين كمؤدية للمقامات العراقية التي قدر لي ان اعلمها المقامات العراقية التي غنتها وسجلتها بصوتها في إذاعة وتلفزيون العراق وهي مكتملة الاصول التقليدية ( الشكل - Form ) ومن بعدها جاءت المطربة فريده التي عكفت على تدريسها هي الاخرى لاربعين مقاماً، وهو عدد المقامات لمنهاج ست سنوات دراسية في معهد الدراسات الموسيقية وقد ادتها بوجه اصولي … وهناك بعض المؤديات الاخريات من طلبة وخريجات المعهد قدر لهن ان يتعلمن اصول المقامات العراقية عن طريق الدراسة الاكاديمية وهناك بعض المطربات ظهرن في الستينات والسبعينات أدين بعض الجمل المقامية والاغاني مثل المطربة خالدة والمطربة هناء والمطربة انوار عبد الوهاب والمطربة أنيسة وغيرهن.
صديقي القارىء العزيز ، ان هذا الكتاب لا يطرح على أنه اكتشاف الإمكانية الفنية لدى المرأة .. في هذه الحقبة على وجه الخصوص .. سواء في الأداء المقامي أو ألاغاني الاخرى بكل تنوعاتها ومراجعها البيئية .. وعلى الصعيد المقامي فالرجل ينظر للمرأة على أنها اضعف من ان تغني المقامات العراقية !! ولكن حقبة التحول فاجئته واسقط في يده ، وأمست الحاجة ملحة وضرورة للتحرر من القيود القديمة ، أما الرجل نفسه في هذه الحقبة وفي قضية تحرر المرأة بالذات فله الله …! وليقطع اصابعه من الغيظ ..! إذ يجب أن نتذكر انا وانت عزيزي القارىء ونضيف إلى معلوماتنا وافكارنا وثقافتنا أسماء كثيرة من أسماء المطربات من الرعيل الاول اللواتي ظهرن اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين واللواتي ظهرن عند حقبة التحول هذه ، مثل صديقه الملايه وسلطانه يوسف وبدريه انور وجليله ام سامي وسليمه مراد وزكيه جورج ومنيره الهوزوز وعفيفه اسكندر و .. و .. حتى يومنا الحاضر .. هذه الاسماء بما تتمتع من ملكات كبيرة تتسم بالحيوية لها ثقافة متحضرة وواقعية وافكار قابلة للتبلور وعلى الدوام ، على الرغم من ان الحواجز الاجتماعية فيها بقية ولو قليلة من قيود الماضي .. هذه الحواجز التي ابقت المرأة في مجاهل المجاهل طيلة قرون ماضية لا نعرف عنها الشيء الكثير .


صورة/ حسين الاعظمي – المؤلف – يتوسط بعض من اعضاء فرقته وفرقة الكندي الموسيقية في حفلة مسرح المدينة الكبير بباريس 13/1/1997 من اليمين المصري عادل شمس الدين , سامي عبد الاحد , داخل احمد , والفرنسي جوليان فايس , رافد حنا يلدا , علي الامام .

كل شيء في حقبة التحول إذن .. يظهر وينمو ويترعرع .. وكل شيء في الاداء المقامي أيضاً يتبلور ويتطور ويتجدد .. وفي امكانيات المرأة يكمن أداء الغد ، على الاقل أن هذا لسان حالها ، رأت أن التحدي يتأتى من مجالات عدة ومن بينها التغيير والتطور ، فلمَ لا تلج عالم الفن الرجولي ، من هذا المنطلق رأت من جانبها ان بمقدورها ان تقول للرجل - أنا هنا- اسمح لي قليلاً . ولا ذنب لها في ان تكون حتى الان لم تعط كل مالديها من امكانات .. فهي خزائن من الاسرار المطوية .. ما تنفك تنبض وتنبض .. وفي هذه الحقبة .. وعلى أرض العراق رويت حكايات وحكايات عن الدراما الكثيرة بين الرجل والمرأة وفي كل جوانب الحياة … والمرأة التي لم تتح لها فرصة الاختلاط ومشاركة الحياة خارج البيت ومساهمتها في الاداء المقامي طيلة قرون مضت .. إلا أنها كانت في الحسبان ومن المتوقع أو في الانتظار مشاركتها في غناء المقامات , ذلك ان حضورها اقتصر على الاغنية الدارجة التي لم يمل اليها مجتمع القرون الماضية .. وأصبح الامر كذلك في هذه الحقبة من بدايات القرن العشرين . وإذا كانت الاتجاهات الادائية والجمالية الكلاسيكية قد وجدت لها عوامل بقاء في الاداء المقامي لفترة طويلة حتى وصلت ذروتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. فقد وجدت عوامل اخرى منذ بداية القرن العشرين زعزعت هذه الكلاسيكية في الاداء والذوق واوجدت مبررات منطقية لاتجاهات جمالية اخرى جنحت إلى الفردية والتعبير عن الذات وإلى العاطفة المشوبة بالكابه احياناً وإلى القلق من زعزعة تماسك الحلقات الزمنية لتسلسل تاريخ الأداء المقامي جراء طموحات الذات وغموض الرؤيه المستقبلية.. يضاف إلى كل ذلك الثورة على القديم والتبشير بحياة جديدة مع استمرار التحولات التي طرأت على الحياة برمتها في هذه الحقبة وبسرعة متزايدة على الدوام.. وبذلك كانت هذه الظروف من الأسباب الموجبة لظهور الاتجاهات الجمالية الرومانتيكية .. واضمحلال الاتجاهات الكلاسيكية.
كما مر بنا، الظاهرة الابرز في حقبة التحول كانت المرأة.. ان لم تكن هي المبدعة الاولى.. فكانت الرائدة صديقه الملايه التي تتفق معظم الاراء على انها اول من غنت المقامات العراقية في بغداد في حقبة التحول من النساء – أو بالاحرى أول من سجلت المقامات بصوتها من النساء.. مقام المحمودي.. مقام البهيرزاوي.. مقام الحكيمي.. الابوذية المقامية بواسطة جهاز التسجيل الصوتي.. كانت بداية لغناء جديد في الاداء المقامي.. اجمع المتخصصون على انه عهد جديد في المقام العراقي.. لان التعابير الادائية قد تنوعت لاول مرة واصبحت أكثر حرية وأوسع خيالاً.. وكذلك الامر كان مع معاصراتها من المغنيات اللواتي أدّين اغنيات هي من صلب التعابير المقامية مثل بدريه انور وسلطانه يوسف وجليله أم سامي حتى زكيه جورج التي جاءت من حلب منذ فتوّتها.. وإلى اخر الاسماء.. انهن ليس بفخامة علاقة صديقه الملايه وسلطانه يوسف بالمقام العراقي.. ولكنهن أدّين اغانِ عراقية مقامية مستقاة من المضمون التعبيري للغناء المقامي ولهذا السبب نتحدث عن هؤلاء المطربات الكثيرات اللواتي لم يغنين المقامات بصورة مباشرة ولكنهن غنين المقامات بواسطة تعابيرهن المقامية في اغانيهن المستقاة تعابيرها من روح المقامات البغدادية والعراقية مع تشخيصنا لمن غنت المقامات العراقية او بعضا منها.. ثم ظهرت مؤديات اخريات سرن على نفس المنحى.. من الجيل الثاني الذي وصلت فيه التعابير البغدادية النسوية أوج عظمتها في أغاني المطربة سليمه مراد منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى ستيناته يانبعة الريحان.. الهجر موعادة غريبه.. وغيرها ورغم انها أغانِ وليست مقامات، لكنها اقرب إلى المقامات من حيث تعابيرها المملوءة بكل مضامين الغناء المقامي البغدادي .
بلغت المطربة زهور حسين في مقام الدشت ومقام الهمايون الذروة في حقبتها من النساء في أداء المقام العراقي … وهي من الجيل الثالث لمطربات الاداء المقامي النسوي في بغداد .. أنها لم تؤدِ الشكل فحسب .. بل قدر لمطربة متمكنة ان تقترب كثيراً من تأدية شكل ومضمون هذين المقامين بصورة لم يسبقها إليها احد من حيث مستوى التعابير البيئية والعاطفية التي عبرت عن شجون وهموم المرأة العراقية في حقبتها بصورة تثير الاعجاب. وقد اوجدت جسوراً قوية بين المقام العراقي كمادة غنائية وبين نجاح تجربة الاداء النسوي لهذا اللون من الغناء في بغداد على وجه الخصوص .. اثبتت المرأة إذن وجودها في هذا الاداء بين الرجال من المؤدين في هذه المرحلة من خلال الاسلوب الادائي المقامي لزهور حسين ، ففي اسلوبها تعميم لاذواق المجتمع بمشاعرها اليافعة المنتزعة من كيانها الشخصي .. فلم تعطِ زهور حسين الفرصة للاداء المقامي ، الفرار من تجربتها وبدأت الابداعات النسوية تظهر بصورة جليه وواضحه أكثر من الماضي .. .. بدأت بدموع العين.. وصمدت امام الرفض والسخرية .. ووصلت إلى شيء من ثبات موقعها الفني ومناصرة الجماهير … ان المقام العراقي لاينمو ولكنه يُنَمّى.. وهكذا كان نموه في هذه الحقبة من تاريخه الطويل من خلال قيمة المؤدين رجالاً ونساءً .


صورة/حسين الاعظمي – المؤلف – يتوسط احدى البعثات التلفزيونية الاميركية واعضاء فرقته الموسيقية بعد الانتهاء من تصوير لقاء تلفزيوني معه خلال مهرجان فاس الدولي في المغرب 28/5/1998 , ويظهر من اعضاء الفرقة علي الامام , جوليان فايس " فرنسي " وليد حسن , سامي عبد الاحد وداخل احمد .


ولجت المطربة الكبيرة مائدة نزهت عالم الاداء المقامي كالشهاب الذي يشع ضوءاً ولمعاناً وهو يحترق .. ورغم انها بدأت هذه التجربة في مرحلة شبه متأخرة من مسيرتها الفنية ، إلا أن ذلك يعني من زاوية اخرى انها جاءت إلى عالم الاداء المقامي وهي تمتلك تجربة كبيرة في فن غناء الاغنية التراثية والحديثة .. وفي هذه الحقبة وجد الاداء المقامي النسوي في امكانيات مائده نزهت صورة جديدة ، وتحددت ملامح ابتكارات ادائية للمستقبل لم تكن قبلها ثمة اكثر من محاولات نسوية مبعثرة بين وقت واخر ، منذ ان بدأت الرائدة صديقه الملايه والاخريات يقتحمن هذا العالم بصعوبة كبيرة واصرار نادر … غنت مائده نزهت عدة مقامات بأصولها التقليدية المتقنة وهي المرة الاولى التي تؤدي المرأة فيها المقامات باتقان اصولي تقليدي بصورة فنية لم يسبق لها مثيل على اساس اعتبار الغناء المقامي كعمل فني وليس اداءاً مجرداً .


صورة/الصورة في مسرح قرطاج الدولي بتونس اثناء انعقاد مسابقة جائزة مهرجان الاغنية العربية يوم 4/8/1994 يظهر فيها عضوي لجنة التحكيم الفنانة الكبيرة لوردا كاش لبنانية الاصل مصرية الجنسية و حسين الاعظمي – المؤلف – وهما يتداولان بعض شؤون التحكيم اثناء مسابقة المطربين من مسرح قرطاج الدولي

بدأت المطربة الفريده , فريده محمد علي سيرتها الفنية منذ اواخر السبعينات وبدأت شهرتها تتسع منتصف الثمانينات وهي من الاجيال المقامية النسوية المتأخرة ، ولكنها اختصت منذ البداية بغناء المقامات العراقية وبلغت ذروتها الادائية بمقام الاورفه الذي نالت بواسطته الشهرة الكبيرة ، وكان ذلك منتصف العقد الثمانيني ثم توالت نجاحاتها الادائية في المقام العراقي .. وقد قدر لهذه المطربة المقامية أن تدرس الموسيقى وصقلت موهبتها بتعلمها لتكون أول مؤدية مقامية دارسة للموسيقى من النساء .. ويمكن أن نشير إلى ان التعابير المقامية التي تمتعت بها فريده كانت اقرب من سابقاتها الى التعابير المقامية البغدادية التي تمتاز بزخارف وتحليات دقيقة امتاز في تأديتها الرجال من المؤدين وبهذه الخاصية استطاعت ان تشق طريقها وتثبِّت لها وجوداً بين مؤدي المقام العراقي .
وهناك مغنيات مقاميات من طلبتنا في معهد الدراسات الموسيقية العراقي ايضا ظهرن في السبعينات والثمانينات والتسعينات .. بعضهن يمتلكن أصوات جيدة ، ولكن لم تتح لهن فرص الاستمرار في هذا اللون من الأداء على الأقل ، او اعتزلن الغناء تماماً لظروفهن .
وهناك مطربات أخريات حاولن الولوج إلى غناء هذا اللون من الغناء عن طريق الابوذية المقامية أو بعض الجوابات الغنائية العالية المقامية داخل أغانيهن أو محاولات اخرى لم تشأ ان تستمر حتى يتسنى لنا الحديث عنها بصورة واسعة امثال بدريه انور ومنيره الهوزوز وغيرهن ، واخيرأ المطربة الكبيره أنوار عبد الوهاب التي سجلت بصوتها حوالي 60 اغنية من أغاني المطربات الاوائل مثل صديقه الملايه وسليمه مراد وسلطانه يوسف وبدريه انور وجليله العراقية أم سامي بتقنيات تسجيلية ارفع مستوىً بطبيعة الزمن وتطور الاجهزة التسجيلية وذلك منذ سبعينات القرن العشرين والتي تعد من أجمل تسجيلات ألاغاني القديمة أن لم تكن أجملها حقاً شاركتها في نفس المنحى المطربة هناء بصوتها الجميل وغنائها لبعض من هذه ألاغاني أيضاً . وممن حاولن تادية المقامات في الوقت الحاضر الفنانة رند دريد.





صورة/- المؤلف – والشاعر الغنائي اللبناني طلال حيدر .
بعلبك اب 1997 لحظة تعارف بينهما

سأبدا الان الحديث عن المغنيات المقاميات ببعض التفصيل المركز عن مسيرة حياتهن وعن الموهبة والاتقان ومدى الاجادة, وحسب التسلسل الزمني وسابدأ بالمغنية الكبيرة صديقة الملاية.
غادتـي الوطفــاء

غادتي الوطفاء, يا دفق الغناء … ومووايل العناء ومقامات الغناء ..
كم وكم كابدت أرزاء المواجع حينما رنمت أحلام الحياة.. في حطام الذكريات..
ذلك الدهر الذي ناح ومات حيثما تشدين
كم تهمي المدامع فآسـألي ضوع الحديقة عن (صديقة,تلكم الملاية)أو( سلمى مراد) ,
حينما يهدرن في الليل العليل .. بغناء يمزج الحب بآهات العويل …
وتشبثن بأهداب الرجاء..
في صباح ومساء .. فصل قيظ او شتاء …فإذا بالفجر طالع .. وشعاع الشمس ساطع .. وغناء الحزن بالآهات هامع .
وتشظت تلكم الأنثى التي قد كنّـيتْ (سلطانة يوسف) وهي ترتج تغني ( فدوه اروحن لك حبيبي , آه يا جمر التمني , هل رحلت اليوم عني؟)
و(زهور حسين) تصدح … بمقام ( الدشتِ) في الليل المعنى … وهي تشدو وتتمنى - (يمه , يمه يمه, يمه … يلحبيبه وج يـايمه ) والجرح خزن ونين من عذابات السنين.
واعتلت هودج أهل الفن ثملى , تتهادى طرباً حين يعزِّيها البكاء و تغني – وهي للنفسِ تمني - أين احلام النساء ؟… شنفي يا عذبة ً, ياعذبةَ الأنغام ما ترجو المسامع في نحيب الكلمات الدامعات … فاذا بالحلم المشروع قد غِيِل بأطياف الفتاة .. آه يا جرح الحياة !!
واذا (مائدة نزهت) قدمت للفن تشدو , وهي كالغريد تبدو , لغناء الوجد تعدو فلقد خالته أطياف التمني.. وهي اذ تعلم ان الفن يعني , تضحيات ذاك فن الأصلاء .. . مثلما يهطل بالدمع الشتاء.
يا( فريدة بنت امحمد علي), ارتديت حلل الأنغام زهواً, اذ تؤدين (المقام) ونهلت الفن من (معهدك) المضواع فيما قد يلي .. من (حسين الأعظمي), كم و كم أنهلكن الفن في أبهى غناء .. ذلك الفنان قد أرسى الأداء جعل اللون المقامي لديكن نظام … مثلما يهدل بالشجو اليمام.(سحر) يا (ابنة طه) , غب ما (مائدة) ثم (الفريده) في اغاريد الحمام من (الاعظمي) قد ترشفتُـن ألوان المقام .. ونما الغرس كأدواح الهيام … فلقد عانيت اوشالاً من الفن المعاد … هل تذكرتِ (صديقة) كيف عانت؟ … كيف ماتت؟ بعد ان غنت وناحت …
و(سليمة) حينما تسجع في حزن عراقيٍ فريد ..
ذلك اللون المقامي العتيد ذلك الرزء الذي يدفع للفن المعار .. في مواخير القمار , تُنثْر الأموال فيضاً حول الليل الكثار ..
انه فن الوباء ربما الأن وقد نلت بريقا من أمل .. حينما تشديـن أنغام الجمل ..
وبأنفاس الجمال تمنحين الكون اشذاء الحياة وتحملين (الناي , والعود) و احزان ( الكمان ) بتباهٍ مثلما (الجوزة) في نفح الامان .. يا لِثغر الزمن المصلوب في دهر الحصار لصباح عاشق شدو انتصار كجمال العمر في فن مضاء …فاغرسي الأحلام في روض الرجاء .. غادتـــي آلوطــفاء ..



اهدي هذه القصيدة التي ترسم ملامح معاناة
بعض المطربات الرائدات في مسيرة المقام العراقي
والفن الأصيل .. للأخ الحبيب الفنان حسين الأعظمي
مع عبق امنياتي له ابداً
الشاعر جبار سهم السوداني 1/2/2003