... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء
دراسة تحليلية فنية نقدية لتجربة المرأة
العراقية في الغناء المقامي
تاليف
حسين اسماعيل الاعظمي





الحلقة (9)













الباب الثاني


الفصل الاول






- صديقــة الملايــــة
- ســـــــليمة مــــراد
- سلطـــــانة يوسـف











سـلطـانه يوســف
(1910-1995م )
باستطاعتنا دراسة التجربة النسوية في الغناء المقامي بصورة خاصة ، أو دراسة الغناء المقامي بصورة عامة ، بدءاً من جيل التحول .. أي منذ العقود الاولى من القرن العشرين ، ومن وجوه عدة .. فهناك أولاً ، أحداث وتأثيرات الحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 بما نتج عنها من اعتماد على النزوعات التي طرأت على الغناء المقامي عموماً منذ أواخر القرن التاسع عشر ، بل على كل ظواهر الحياة وعلى كل الشعوب .. ثم هناك المرأة التي أخذت تبحث عن وجودها من جديد في مجال الغناء والموسيقى وخوض تجربتها الجديدة في غناء المقامات العراقية لاول مرة .. مشاركة الرجل .. اعتباراً من هذه الحقبة التي بدأت فيها المرأة تتمرس نسبياً في غنائها لهذا اللون الغناسيقي التراثي رغم أنها تجربة فنية … فمضت تستغل كل الميزات التي تمتلكها بطموح كبير لتساعدها على تدعيم شهرتها .. وإلى جانب النزعة الطبيعية لبلورة هذه الطموحات وهذه الامكانيات في سبيل نجاحها كأمرأة في تجربتها الجديدة في غناء المقام العراقي والابوذيات والاغاني البغدادية والعراقية .. تلك النزعة التي استمدت وجودها وقوتها واستمرارها من روح ومضامين تغيرات وتحولات الحقبة – حقبة التحول – مطلع القرن العشرين .. التي منحتها الدافع والجرأة حد العناد لتقف بكل إباء وشمم وتعلن عن ذاتها معبرة عن موقفها وعن شخصيتها .. بيد أنها التفتت يمنه ويسرة .. فهل من متفهم يسهل لها السبيل ..‍‍‍‍‍‍‍‍!؟ هل من مثقف يهون ويذلل لها المصاعب ..! فتقاطر عليها ملحن وشاعر وثاني وثالث ممن يرون على مدى أوسع من رؤية الشخص التقليدي الواقف في مكانه .. ولكن قد استمعن بشغف وبموضوعية إلى تسجيلات رواد المغنين المشهورين .. وغرفن بكل حب من هذه التسجيلات أو من الرواد مباشرة ، ممن ولدوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبرزوا في العقود الاولى من القرن العشرين ، فهن يسمعن من جهة ، وتخزن ذاكرتهن الشيء الكثير من جهة اخرى .. فتسلمن بما علق في اذهانهن وهذبنه بالاتصال مباشرة بالمؤدي الرجل وتعلمن على يده وهذا لا ينقص من الهيبة شيئاً .. واخيراً ظهور نتاجات مقامية فنية نسوية ورجالية اعقبت جيل التحول إلى جيل – حقبة التجربة – عند انتصاف القرن العشرين تقريباً … فكان من ميزاتها اعداد المقامات العراقية اعداداً موسيقياً لاول مرة وهو ما اسميته بـ ( المقام المصنوع ) .. وهي نتاجات جديدة ، تبدو انها فعلاً خلاصة حقبة التحول في تطوراتها .. وكذلك يبدو أنها مدينة إلى اهتمام متزايد من قبل الجماهير بسماع هذه المقامات المهذبة فنياً .. هذا الاهتمام الذي شمل المتخصصين .. وهو الاهتمام القائم على النقد في نفس الوقت .




صورة / سلطانة يوسف وزكية جورج وسط اعضاء الفرقة الموسيقية في ثلاثينات القرن العشرين

ان النتاجات الفنية الناجحة عموماً ، هي تلك التي تستطيع ان تنفذ إلى جميع مستويات الذوق العام ، ومن ثم تعميم لكل الفئات الجمالية .. والموسيقى والغناء في وجهة نظري ، هما الوسط الامثل لهذه الجمالية واوضحها .. كما انهما اقرب السبل واسهلها للوصول إلى المجتمع ..


صورة / المطربة الكبيرة سلطانة يوسف


لقد كان مقام الحكيمي المؤدى من قبل المطربة الشهيرة سلطانه يوسف بمطلع هذا الزهيري والمؤدى في حقبة التحول .. عشرينات أو بداية ثلاثينات القرن العشرين .

خطى وسلم عهد دكاتــهن وحده
والكلب امسى حزين اوهايمن وحده
التجربة الاولى لها في اداء المقام العراقي ، أو من محاولاتها الاولى .. اذ نجد في ادائها انها حاولت ان تعلن عن امكانياتها في اداء المقامات .. ولقد نجحت رغم انها محاولة جديدة . لكنها جادة … فقد اقتربت سلطانه يوسف في ادائها لهذا المقام إلى شبـه الكمال فـي اداء الاصول التقليديــة لهذا المقام ، خاصة اجادتها في اداء قطعة – القادربايجان – وهي الحركة الادائية الثانية في أصول أداء هذا المقام ونغماتها سيكاه – هزام -… هذه الإجادة في هذه الحركة التي قلما يتمكن المؤدون بصورة عامة من دقة إجادتها .. وهكذا تبدو سلطانه يوسف في عموم هذا المقام وقد سيطرت على مقاليد إمكانياتها الادائية في دقة الاصول ودقة التعابير المقامية التي يتصف بها هذا المقام بالذات .. حيث نجد نبراتها وهي تنبه احساساتنا التعبيرية وتعيد إلى ذاكرتنا مجمل الحياة التي يعيشها المجتمع .. أو بالاحرى الواقع الذي اتسمت به حقبة التحول من بدايات القرن العشرين ونهضة العراق الحديث . ونحن نستمر في سماعنا لهذا المقام .. نجد انها تتغلغل في أعماق الجمال الادائي وأعماق حياة أفراد عاشوا على المستوى شبه الغريزي من خلال وجود بقية من حياة البساطة والعفوية والتلقائية .
وقد انهمكت سلطانه يوسف فيما بعد بأعداد أبوذيات وعتابات ومقامات أخرى قامت بغنائها .. فكانت المفاجئة في أدائها لمقام البهيرزاوي ضمن حفلة مسجلة اواسط الخمسينات في محافظة الموصل فيما يعتقد شاركت فيها ايضاً المطربة سليمه مراد .. أما مقام البهيرزاوي هذا فهو شيء اخر لم نعهده من قبل من أي مغنية مقامية سواء في اسلوب التعبير المقامي او قوة صوت سلطانه يوسف الذي يثير الدهشة في هذه الحفلة وقد تحمل صوتها ابعاد المساحة الصوتية التي يمتاز بها هذا المقام والتي تصل إلى اوكتاف ونصف الاوكتاف تقريباً .. وإذا اضطررنا على العروج إلى الانفعالات التعبيرية ، فقد امتاز ذكاؤها بتوتر انفعالي سلس لا يشعرك بالتصنع الممجوج من انفعالات الرجولة التعبيرية عند البعض، بل هي جاهدت في التقرب ، غير أن ذكاءها ترجم في سرعة بديهية عندما احتفظت بمشاعرها الانثوية الرقيقة كأمرأة .. كما أنها اقتربت من شبه الكمال في غنائها للمقامات من الناحية الاصولية التقليدية ، وعليه فأن تداخل هذه الميزات في غناء سلطانه يوسف لهذا المقام هو الذي اعطى للغناء ابعاده الفنية الناجحة والجميلة .. هذا المقام الذي غنته بزهيري هذا مطلعه
من زغر سني ذبوني للعـدا منشار
عكلي براسي فلا اسمع قصد منشار



صورة / سلطانة يوسف

وسلطانه يوسف بهذا المقام تكون قد عبرت عن انفعال جديد وعن شجن جديد لسابق غنائها في مقام الحكيمي مثلاً المؤدى في حقبة التحول وغنائها لهذا المقام – مقام البهيرزاوي – المؤدى في حقبة التجربة ، هذا الانفعال الذي يشعرنا بزيادة الحركة في ديناميكية الحياة التي عاشها المجتمع العراقي منتصف القرن العشرين .. وكأنها استوعبت اجواء احداث المجتمع فعزمت متقصدة ان تعبر عن ديناميكية متحركة متفاعلة لصراع لم ينته . فهو يبقي الأمل قائماً في حياة جديدة علها تريح الانسان خاصة وان العالم قد انتهى من حرب كونية ثانية اثقلت كاهل الانسان وانهكته .. وهكذا نرى ان انتصاف القرن العشرين افرز نشوء تعابير جديدة واساليب ادائية جديدة لتعاصر هذه الحقبة في غناء المقام العراقي والموسيقى والغناء العراقي على وجه العموم .. اساليب ادائية امتازت بالمرونه .. ذات قدرة على التعبير في خيالات وتأملات متنوعة . وطبيعي ان هذه الاساليب وهذه التعابير مستمدة من مصادر عديدة ، غير ان هذه المصادر جميعها اصيلة تقريباً ، ولهذا فأن الاساليب التي تكونت في مجموعها كانت اساليب اصيلة حقاً .
كان هناك ، أمام المغنين المقاميين في حقبة التجربة ، المثال الحي لمواهب نشيطة اقدم من مواهبهم وارفع مستوىً .. فقد كان الملهم الكبير محمد القبانجي ذا أثر كبير حتى بعد أن تجاوز السبعين عاماً من عمره ، وهو المطرب المخضرم الذي عاش حقبتي التحول والتجربة ممارساً للغناء والفن وشاهداً على حقبة النضوج .. وقد بقيت نتاجاته الصوتية في غنائه للمقامات العراقية حتى اليوم مصدر من نوع خاص من الاصالة التعبيرية في الغناء المقامي .. وعليه اصبحت النتاجات المقامية التي سجلت عند انتصاف القرن العشرين بأصوات كل معاصري الحقبة موضعاً للمنافسة ، واصبحت التعابير الرومانسية التأملية والخيالية والفنية في الغناء المقامي التي قادها بكل عنفوان المطرب الكبير ناظم الغزالي ، هي السمة البارزة في فن غناء المقام العراقي في هذه الحقبة .
أما سلطانه يوسف ، فقد دلها تحسسها إلى نبوغ هذا المجدد فأصغت إلى القبانجي متأملة في محرابه البديع ولسان حالها يقول ( أنه ليس كغيره ) .. فأدت سلطانه بعض الابوذيات والعتابات وشكل المصلاوية في خضم حقبة التجربة ولكن بأسلوب حقبة التحول.. أدت هذه الالوان اداءً شجيـاً حزينـاً وهي تدور وتعبـر عن مشكلات الحياة في تلك الحقبة ، دون ان تفقد شيئاً من بريق طريقتها الادائية البهيجة المستقاة من طرق اداء المرحلة وخاصة الطريقة القبانجية التي قادت هذه الطرق في اتجاهاتها حتى وحدتها… وهكذا نرى هذه التعابير تتجسد في غناء شكل المصلاوية وكذلك في شكل الابوذية مثل..




وكذلك في هذه الابوذيه ..




واخرى من الابوذيات ..







ذلولي عليك يدعج كطــع بيداي
دليلي من عكب فركاه كطع بيداي
تظن حنه حبيبي وهاي كطع بيداي
مسحت كل الــــــدمع بيديه

جرحت الكلب يامن صحت بسعاد
صدك لو دواوينه وصـار بسعاد
يهل تنعين سواد الليل بســـعاد
يذكرني وانا روحي شجيــــه

أون وادري ونيني ماله تالـــي
اساكي وعيب يدمر ماله تالــي
صحيح الماله اول ماله تالـــي
يخون بصاحبه وذاته رديــــة


ومن هذه الابوذيات المؤداة من سُلّم مقام البيات إلى ابوذية اخرى مؤداة من سُلّم مقام الصبا ..






لل












ولف اني انجوم الضحـى وداري
اشد عمري بنفس عينــي وداري
انا اليضوي على العالــم وداري
سحاب الصيد منحية عليــــه







ان الأغاني الخالدة التي غنتها سلطانه يوسف من سُلّم مقام البيات أغنية – وين المروة– وأغنية – لاالله يرضى بهاي – وأغنية – وعلى الدرب يهواي - ومن سُلّم مقام الحجاز أغنية – شعملت انا وياك – .


صورة / سلطانة يوسف بعد اعتزالها الغناء وتفرغها للعبادة


كلمات ونوطة اغنية شعملت انا وياك

من مقام الحجاز كار هذه الأغنية.. ياطيور الروض غني


كلمات ونوطة اغنية يا طيور الروض غني

ومن مقام الحجاز أغنية آه الدهر.. (آه الدهر من دون ربعي ظلمني / من يومي)

كلمات ونوطة اغنية آه الدهر

كلمات ونوطة اغنية من يومي

ومن سُلّم مقام الحجاز أيضاً أغنية وين المروه ..
كلمات ونوطة اغنية وين المروة

ومن مقام الدشت واللامي هذه الاغنية ( وعلى الدرب )

كلمات ونوطة اغنية وعلى الدرب



ولدت سلطانه يوسف في بغداد عام 1910 على أرجح الروايات ، ولقد غنت لاول مرة عام 1927 في ملهى سُمي بعدئذ بـ ( نزهة البدور ) بالقرب من سوق الهرج من بغداد .. واعتزلت الغنـاء والفن عام 1957 في الموصل بعد ان اقامت فيها منذ الاربعينات ، وبقيت فيها حتى وفاتها .. بعد ان عملت في ملاهيها .. يقول عنها المرحوم عبد الكريم العلاف ( انها سبيكة من ذهب الفن كلما وضعها الصقال على المحك زاد جوهرها توهجاً ولمعاناً ) ويضيف أيضاً ( سلطانه قينه استكملت فيها كل مذاهب القيان حلاوة ورقّه ، هذا ماكانت تفاخر به سلطانه .. ولو انصف الناس لقالوا انها سلطانه الطرب ) .
اكتنفت حياة سلطانه يوسف فترات غرامية غامضة ، دفعتها وحفزتها للتغني بشوق وهيام تجسد عشقا جارفا للفن عامة والغناء خاصة .. تعبر عن خلجاتها ومعاناتها الشخصية بغض النظر عن معنى الأغنية .. هل ينطبق على مشكلتها أم لا .. فالظاهر أن شخصيتها الكتومة أملت عليها ان تدع التعبير عن شؤونها الخاصة كامناً في اعماقها ولاتسمح بالتنفيس عنه إلا من خلال الغناء، والغناء فقط، ثم يسترسل العلاف ( أنها لم تكن لها أغانِ خاصة بها إلاماندر، ولقد سمح لها العرف السائد أن تعلن بسهولة عن احترامها لأغاني غيرها من أمثال المطربه صديقه الملايه والمطربه سليمه مراد.. مثل أغاني – كل البله والمصايب ياخلك مني – يلمنحدر – اتوب الروح – متكلي بعدجم دوب – زايد عويلي – اشلون أصبر الروح – يكفي الهجر يهواي - عند كلب حبه صعب – للناصريه – علشوملي..
هذا وقد عاشت سلطانه يوسف حتى انتصاف العقد التسعيني من القرن العشرين بعد ان اعتزلت الغناء أواخر الخمسينات.