نافذة على الشعر الصيني الحديث
الشاعر : " دونغ هونغ " نموذجا .

ترجمه من الفرنسية : ابراهيم درغوثي / تونس

1 – ترجمة ذاتية للشاعر : دونغ هونغ
ولدت سنة 1940 ، زمن مقاومة الغزو الياباني للصين في " شنغ ها " في مقاطعة " هونان " . وكنت غير قادر على المشي بسبب سوء التغذية إلى أن صار عمري سنتين . لكنني كنت قادرا على نطق جمل بسيطة ، وأنا ابن سنة واحدة .
عندما صار عمري ست سنوات دخلت المدرسة الابتدائية ، وكنت هزيلا إلى درجة أن رأسي ما كانت تتناسب مع حجم بقية جسمي ، فلقبني أصدقاء المدرسة ب" الرأس الكبيرة " .
بعد عودته مباشرة من الحرب ، طلق أبي أمي مما جعلني طفلا بلا سند . فأبي ما عاد يهتم بي ، وكذلك كان حال أمي . فعشت في المدرسة التي كنت أتعلم فيها .
في تلك الأزمنة ، وحدها القراءة كان في مقدورها أن تحمل إلى قلبي قليلا من الدفء والسلوى . فكنت أغيب عن الدنيا وأنا ألتهم روايات " الممالك الثلاثة " و " أحلام داخل السرادق الأحمر " . وشيئا فشيئا صار الأدب عزائي .
وعندما صارت القراءة وحدها عاجزة عن تأثيث الحقيقة ، بدأت في نظم قصائد شعرية فوجدت التشجيع من أصدقائي لأبعث بها إلى جريدة محلية . وعلى عكس ما كنت أتوقع ، نشرت الجريدة هذه الأشعار .
وفي شهر أفريل سنة 1959 ، بدأت النشر في مجلات أدبية معتمدة .
ومن يومها بدأت أحلم بأن أكون أديبا .
في أوت من سنة 1959 ، تطوعت للعمل في مزرعة تابعة للجيش في " كيسنغ جيانغ " وهكذا صرت جنديا / مستثمرا فعشت حياة صعبة تعودت خلالها على الشدة والجهاد .
بعد سنوات ، ذهبت لدراسة البيطرة في مدرسة تكوين . وعندما أصبحت بيطريا جعلوني مسؤولا على قطيع جمال ، فالتحقت بمجموعة من الرعاة والجمالة القاطنين بين صحراء " كليماكان " وجبل " طومور " . هناك تعلمت حب الجنود / المستثمرين والرعاة من مختلف القبائل والأعراق .
هموم الدنيا والرياح والثلوج غيرت من طباعي . والحياة الصعبة – لكن المتنوعة – خلقت في رغبة قوية في دخول عوالم الإبداع ، فنشرت عددا كبيرا من القصائد في أكثر من عشرين جريدة ومجلة صينية منها " أدب الشعب " المشهورة .
وفي سنة 1965 ، وبما أنني أصبحت واحدا من الأدباء الناجحين واتتني الفرصة لزيارة " بيكين "والمشاركة في الاجتماع الوطني للأدباء الشباب .
وفي سنة 1966 ، انطلقت الثورة الثقافية فاتهمت زورا بالتحريفية . ولم أدمج في الحياة العامة من جديد إلا بحلول سنة 1971 ، فالتحقت بفرقة فنية كتبت لها عديدا من القصائد المغناة والمسرحيات المأخوذة من الأدب الشعبي ، والمسرحيات الشعرية .
عند نهاية الثورة الثقافية ، ازدهر من جديد الأدب والفن في الصين . كنت وقتها مقيما في " أكسو " وهي مدينة صغيرة جنوب " كيسنغ جيانغ " . في تلك المدينة ، كان الوصول إلى المعرفة والمعلومات الجديدة شبه مستحيل ، فبقيت مقطوعا عن العالم مدة من الزمن إلى أن كانت سنة 1985 . عامها انتقلت إلى " يورموكي " . وبعد أن اطلعت على عدد كبير منم المؤلفات في مختلف الفنون ، اكتشفت أنني كنت متخلفا عن العصر الذي أعيش فيه . وبعد مجهودات كبيرة ، نجحت في الدخول إلى عالم الأدب المعاصر ، فنشرت أكثر من ألف ومائتي قطعة شعرية في مائة جريدة ومجلة صينية وقع الاختيار على ستين قطعة منها لتنشر ضمن عشرين أنطولوجيا للشعر الصيني .
كما نشرت ستة مجاميع شعرية .

*****
إن شعري هو رمز لتجربتي في الحياة وكناية عن أحاسيسي ومشاعري . عبرت من خلاله عن التحولات التي طرأت عن حياة العمال القاطنين على حدود الوطن : الجنود / المستثمرين " والرعاة والجمالة من مختلف الإتنيات .
إن الحديث باسم ضمير الشعب الكريم يشكل روح الشعر عندي . فأنا أبحث من خلال الشكل عن جمالية بعيدة عن التصنع – جمالية استشفها من خلال الحزم والشدة ، وأناقة في الشهامة وروح الانتصار .
بالنسبة إلي ، الشعر الحقيقي هو الانعكاس الصحيح لروح الشاعر . والهدف منه تحسيس هذه الروح بالحياة في عالم يتغير في كل آن وحين .
إن الشعر هو قنطرة تربط قلب الشاعر بقلب القارئ . فهو طريق يخطها الشاعر ليمشي فيها القارئ تارة محتملا مشاق صعود الجبال ، وطورا سائرا على هواه وراء شعوره وأحاسيسه . فالإنسان واجد – لا محالة – مقعده في الزمان والمكان اللامحدودين . وهو منذ آلاف السنين يلعب لعبة مأساة الشرط الإنساني الذي لا يمكن لأحد أن يهرب منه . فأجمل الأشعار هي تلك القصائد المؤثرة التي يحملها الشاعر في أعماقه ليغنيها بألم .
إن الشعر يتموضع بين الفكر والمادة ، بين الحياة والموت ، بين المرئي والخفي . والمشاعر هي روح الشعر والخيال مادته .
إن سر الشعر يكمن في البحث عن التوازن بين الفكرة والصورة ، بين السماء والإنسان ، بين الفراغ والملآن ، بين الكون والحركة ، بين " اليانغ " ( مبدأ الذكورة ) و " اليين " ( مبدأ الأنوثة ) ، بين الصحيح والخطأ ، بين الواضح والمعتم ، بين الحاضر والماضي ، بين القريب والبعيد ، بين الداخل والخارج ...
إن طريق الإبداع لا ينضب وسأواصل السير فيه حتى النفس الأخير .


*****
القصيدة الأولى : أغاني الرعاة / حكاية الجبل

أغاني الرعاة ،
تطير نحو السماء ،
بعضها مصاحبا خفقات أجنحة النسور
الصاعدة نحو قبورها في اللازورد .
والأخريات ، تطرد العصافير الدورية
عن حبوب الربيع الملأى بالخيرات .
والباقيات ، توقظ الينابيع
لتصدح بالغناء حتى القمر الأحمر .

أغاني الرعاة ،
تجعل الأزاهير تتفتح
على منحدرات الجبل .
أزاهير ريانة ،
تسحقها الزوابع ،
فتغوص في أعماق الأرض .
إنها تداعب الأعشاب المتلألئة
مرعى الخرفان الوديعة .

أغاني الرعاة
تسقط داخل النهر المتجمد
تحطم الثلوج
فيتدفق الماء
وتجوب أعماق الغابة المزدحمة
بخوار الوعول الجريحة
وتصعد إلى القمة المكللة بالثلوج
أين يضطجع – وا حزني – الرجال المصعوقون بالبرد .

أغاني الرعاة
تحط داخل خيامهم
هناك ،
تحول الدموع إلى جواهر
في عيون نسائهم .
هناك ،
تزرع البسمة في أحلام أطفالهم .
هناك ، تؤجج النيران في مواقدهم .
هناك ،
تجعل الحليب المعطر
يسيل على جنبات أواني النحاس .

قلوب الرعاة ،
مأوى لأغاني كثيرة ،
تتحول إلى صخور في الجبل .



*****
القصيدة الثانية : عينا شابة خلخازية

هما اللازورد البعيد والصافي .
هما حقل يتلألأ فيه المطر
وتسطع قطرات الندى تحت أشعة الشمس
هما حقل معطر بالأقحوان البري
حقل تزقزق فيه عصافير الجبل

في عيني الشابة الخلخازية
أحلام زرقاء كماء البحيرة
هسهسات لطيفة كأنوار النجوم
موال يذكر بالبراري الخضراء
في عينيها ،
طرق تتثنى إلى ما لا نهاية
خيمة أبدية
غنوة راع كئيبة .
أمام عينيها ،
أبدا لن يبقى الرجال على حالهم .
يتحول قويهم إلى نسر يحوم في فضاء عينيها .
والباسل يصير حصانا هائجا
يركض في الحقول الممتدة أمامها .
والعاشق يتحول إلى نحلة
ترفرف فوق الأزهار .
والحالم يصبح غيمة
تطوف فوق بحيرة نظراتها المتموجة
في هذا الفضاء المليء بالأحلام .
حتى دودة الأرض ، يمكنها أن تحلق في الهواء .

لكن ، في هذه السماء الصافية الزرقاء
هناك ركن من الأرض الداكنة
ففي عينيها ،
تركض عصابات من السراق ،
فوق الخيول ،
مثيرة الأتربة والغبار .
وسكارى
يرفعون قبضاتهم المهددة .
ومواطنون متعبون يصلون أبدا
فوق الركب المثنية .

*****

القصيدة الثالثة : الحب يركض على ظهر حصان

الحب الذي تحتضنه الجبال
ينطلق على ظهر حصان في عدو سريع
إن الأروقة المسيجة بالأزهار
لا تستطيع احتضان هذا الحب الشجاع .
فقط ،
الجبال الشاهقة ،
والبراري الوسيعة ،
تحمي وقع خطاه النشيطة .

أن تحب ،
يعني أن تكون شجاعا
كما الشلالات التي تحتضن الوديان
خجولا ، لن يكون أبدا في مستطاعك
أن تتحدى ميادين السباق
فلترقص الشمس على هوى قمم الجبال العالية
ولتزمجر الرياح بين السنابل المنطلقة في عدوها المجنون
ولتتصادم القلوب ساعة العدو
محدثة شرارات لهب .

أنتم يا من تقتلكم السآمة ،
تعالوا إلى البراري
وشاركونا عدونا
لتذوب شكوككم وكآبتكم
وسط الغبار .
ولتطرق بعنف
كل آثار التزييف في حياتكم
لتخرج منها أرضا رحيبة
تعدو فوقها خيول الحب .
الحب الأسمى .
الجب الأصدق .
الحب الملتهب .

*****

القصيدة الرابعة : نحو قمة " تيوموير " .

عندما أراك ،
عند الفجر ،
ببسمتك الغامضة ،
تتحرك في الرقة
وتحملني إلى لذة الأحلام .

الطريق الذي سطرته لي ،
ما هو إلا عقدة خيط
يقودني نحو الثلج
ويدفعني إلى العاصفة .
أتدحرج كالكرة تحت مخالب نمر الثلج
وأتدله في أعماق الوديان .
رويدا رويدا ، تفتح كومة الثلج النهمة أشداقها
لكن الغابة ، تدفع لي بمظلتها الخضراء
حتى لكأن تهديد الموت ى
وإغراء الحب
يصيران شيئا واحدا ..

الجبناء يستجدون الحياة
فتحوم أصواتهم الشاكية حول العواصف .
أما الشجعان ، فيصمتون ،
وهاماتهم مرفوعة داخل غابات الثلج .
ما فائدة بناء مقامات لأنفسنا
إذا لم نحافظ على الهواء للقادمين بعدنا .

عندما أناديك من أعماق القلب ،
أصداؤك تعود إلي ،
من الأفق البعيد ،
من الزمن الغابر ،
لكنني أحسها قريبة مني ،
واضحة ،
لأنك هنا ، داخل قلبي .

من الممكن أن لا أحضنك
ففي منتصف الطريق سأتحول إلى صخرة ،
تصبح كلمة ،
في الرسالة التي ستبعث لك بها الحياة ،
كلمة صغيرة
تشتعل إلى أبد الآبدين .
القصيدة الخامسة : ثنية في الجبل

القدر أوصى بي إلى ثنية في الجبل
حياتي تتمشى على جانبيها .
مرة ،
تقودني إلى هاوية
تنشر أمامي سحب اليأس .
ومرة أخرى ،
تدنيني من برية
تسيجني بالهمسات الغامضة والمعطرة .

تقاطعات طرق كثيرة
تترقب اختيار مطيتي
هل الوديان المسكونة بالأسرار والرعب
تحوي داخلها مكانا مقدسا ؟
وهل ورود البرية التي تغوي الفراشات والنحل
تخبئ سحر المستنقعات الخطرة ؟

كثير من المارة يترددون عند تقاطع الطرق .
تناديهم كرة الثلج .
كرة ،
تستدعي إلى الذاكرة بنتا عذراء
لكننا لا نرى سوى الخديعة
فالقمة تبقى صعبة المنال ،
والويل من السقطة المميتة
ومن الأخطار المدسوسة بين الأشواك .

أهرب من نداء البحيرة ومن غناء العصافير المذهل
فلا خيار لي
سوى الصعود خطوة خطوة نحو شقوق الجبل ،
على المنحدر المزروع بالثلج ،
حيث ضاعت الثنية
نحو قمة " تيو موير "
قمة قلبي .

*****

دونغ هونغ : نائب رئيس اتحاد كتاب " كيسنغ جيانغ " ورئيس تحرير مساعد للمجلة الأدبية : الواحة .
المصدر : مجلة الآداب الصينية / الثلاثي الأول 1997 .