... سلسة كتاباتي ...
كتاباتي المطبوعة
كتاب الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها
دراسة تحليلية فنية نقدية لاحدى طرق الغناء المقامي البارزة في القرن العشرين
تاليف حسين اسماعيل الاعظمي / بغداد 2002
الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت شباط February 2007
الحلقة (6)

الباب الاول
الفصل الثاني
- المقام العراقي في حقبة التحول
- طريقة الغناء وافكارها
- غير المنظور في الطريقة الغنائية
طريقــة الغـنـاء وافكـارها
الفنانون المقاميون والنقاد الموسيقيون والكتاب والباحثون ، يولون اهتماما واضحا لطرق الاداء ..! وفي ذلك بعض المحاذير .. اذ لا يبعث ذلك على الارتياح دائما ، لأننا على الدوام امام ضرورة اللحاق ومواكبة سرعة الحياة ومواجهة تحولات وتغيرات الموضة ، ان كانت هذه الموضة قصيرة الاجل ام طويلة الاجل نسبيا. رغم انها اصبحت في عصرنا الراهن تميل نحو السرعة بطبيعة تغيرات وتحولات المرحلة .. وفي نهاية الامر فإننا لا نحصل على شيء مفيد نسبيا ، او لا نحصل على شيء بما فيه الكفاية .. ومع ذلك فإننا نستطيع ان نحصل على بعض الايجابيات الاولية .. اهمها النقاشات والدراسات المستمرة حول موضوع الطريقة واللغة الاسلوبية للاداء .. انه من الواجب علينا دراسة اساليب ولغة اداء المدارس الفنية من غناء وموسيقى المقام العراقي ، وكذلك الامر لدراسة الطرق الفردية في غناء المغنين فنيا من خلال دقة الملاحظة والامكانيات التي يمتلكها المغني , وامكانية التكيُّف السريع مع ظروف التطور والتحول والتغير
ان المواقف والاراء في اكثر المناقشات تعتمد على التقاليد 6* ورغم ان هذه التقاليد عريقة ومخضرمة في الفنون عامة والغناء الموسيقي خاصة بلا ريب .. إلا أننا يجب ان نميِّز بوضوح بين الموضوع الغناســــيقي ومهمات كل فن من الفنون الاخرى المتشابهة منها والمختلفة على حد سواء.
ان اللغة الاسلوبية تنظم الافكار وتنشط الامكانيات ، الفردية بالنسبة للفنان المبدع , والجماعية بالنسبة للمدارس الغنائية والتيارات الجمالية .. بحيث تصبح هذه المواصفات ، شرطا من الشروط الواجب توفرها لدى الفنان .. لأن المفاهيم تتكون عبر المواد الاولية للغناء .. ويصبح التفكير الحقيقي مستحيلا دون مفاهيم .. وعليه فإن لغة الاساليب الغنائية تتطور في المجتمع بمرور الزمن وتتطور الثقافة والمعرفة لأنها ضرورية للفنان للتعبير عن الافكار ومن ثم تكوين الآراء وتبلورها ..
وفي هذه الناحية ، نجح المغنون الرشيديون كما يبدو .. بتطوير تلك المباديء الغنائية المقامية التي ارسى دعائمها استاذهم المغني الحاذق رشيد القندرجي ، والمتعلقة بفهم الطريقة ولغة اسلوبها .. رغم عفوية هذا الفهم في الاعم الاغلب .. فقد دافع كل منهم في غنائه للـمقام العراقي وبواسطة هذا الغناء ، عن ان الاسلوب الممَّيز للطريقة الرشيدية مرتبط ارتباطا وثيقا بامكانيات كل مغن منهم ، الفكرية والجمالية والثقافية ، بحيث تنطوي عليه طموحات كل منهم الرامية الى التأثير في الذوق الاجتماعي بصورة معينة .. وهذا ما نلاحظه مثلا عند سماعنا للمقامات المسجلة باصوات عبد القادر حسون وشهاب الاعظمي واحمد موسى والحاج هاشم الرجب وغيرهم ممن تمسكوا بالطريقة الرشيدية برصانة ادائهم وجماليته ، وبذوق تعبيري وكانك في حضرة غناء وتعابير القرن التاسع عشر .. حيث ينظر للحياة بمنظار وطني يعتمد الانطلاق من الجذور والتمسك بها والنظر الى متسع الحياة بتفائل وامل واحلام ..
صورة/ جمعت خمسة من مغني المقام العراقي وهم من اليمين علي ارزوقي وسامي عليوي وحامد السعدي
وعبد الملك الطائي وحسين الاعظمي عند افتتاح بيت المقام العراقي عام 1987
ان المقام العراقي ، باعتباره فورما غناسيقيا تراثيا ، تظهر قيمته الفنية من مفردات مواده الاولية ، ونقصد بها ، المكونات الشكلية والمحطات السلَّمية الموجودة في كل مقام عند غنائه والطابع المميز لهذه المكونات وبناء العلاقات المتينة لحنيا لكل عناصر الشكل المقامي برمته .. هو بمثابة الارضية التي تنبت عليها التعابير والصور والخيالات والافكار ومن ثم الاسلوب المميز .. وعليه فإن هذا يفضي بنا الى فهم جديد ودقيق وامين لهذه الخيالات والصور والافكار .. فالشيء المهم في الامر .. هو فهم العملية الادائية بصورتها المتكاملة .. فقد اهمل المؤرخون المتخصصون عندما تحدثوا عن تاريخ المقام العراقي وعن تفصيلاته الفنية الاخرى , دراسة الطرق والاساليب الغنائية وتناولوا العملية الادائية وتفصيلاتها بصورة سطحية غير متعمقة لحقبة زمنية طويلة استمرت الى يوم الناس هذا ، اهمالا بالغا ، وظلت وقفا على القلة القليلة من المغنين المقاميين او من لهم علاقة مباشرة بالمقام العراقي ممن يحسن الحديث عن غنائه المقامي وعن القضية الادائية برمتها .. ولكن دون تدوين لهذه الاحاديث لكونهم ليسوا كتَّابا او مؤلفين ، ومع ان احاديثهم لم تكن كافية بالمعنى الدقيق ، ولكن على الاقل انهم اقتربوا من جوهر القضية الادائية ومضامينها الفنية والعلمية المهمة بالنسبة للمغنين بصورة عامة.
اما مهمة نقاد الغناسيقي المقامية او النقاد عموما ، والكتَّاب والمؤلفين المتخصصين .. فلا تنحصر في انتقاء الاخطاء المنفردة غير الموفقة – حسب رايهم - في غناء أي مغن مقامي وتحطيمها واخجال مغنيها وفنانيها واحراجهم ، وربما تجاوز الامر الى اكثر من ذلك , فمن واجب الناقد ، او ان الواجب يقتضيه ، فهم طابع مستواه الثقافي وتفكيره الفني وثقافة المرحلة التي يعيــشها ، أي معرفة جوانب القوة والضعف فيه ، ضمن اطار ما يمتلكه من نظام فني خاص ، ان اول مباديء النظرة النقدية للاعمال الفنية تنحصر فيما اعتقد .. في فهمنا العميق لرابطة الاسلوب الغنائي والفكرة الفنية مع فهم رؤية الفنان المغني الحياتية ونظرته للمجتمع وما يجسده كل ذلك في عملية ادائه الغنائي للمقامات ، عندها نستطيع ان نكوِّن نظرة نقدية جيدة في حق أي مغن نقوم بنقد نتاجاته الغنائية ..
ينبغي اذن ان تنطلق الدراسات ، وتتضمن البحوث والمؤلفات الفنية حول طريقة الغناء ، على اعتبار ان الطريقة الغنائية انعكاسا للاطلاع والاحتكاك الذي يحدث بين طريقة الاداء وبين المجالات الفكرية ، فينبغي دراسة الطريقة الغنائية المقامية وتاريخ المقام العراقي ، بين هذه الحقبة اوتلك لاسلوب الغناء المقامي الدارج ضمن المدرسة البغدادية مثلا او المدرسة الكركوكية او المدرسة الموصلية باعتبارها مدارس غنائية جماعية المنحى ..
ان الاسلوب الذاتي للمغني ، في اعتقادي ، يتجلَّى في نظام مزج تفاصيل اسلوبية مختلفة ومتباينة لطريقة الاداء او الطرق المختلفة للغناء المقامي الفني .. ويعتمد كل ذلك على ذوق المغني نفسه .. فيتكوَّن عندئذ من كل هذا التفاعل .. الشكل الذي يتميز به المغني في ادائه ، ومن ثم يمكن ان نصِف لغة اسلوبه الادائية بأنها جديدة او هي خاصة بذلك المغني .. لا تربطها رابطة واضحة بما يجسده هذا التفاعل .. وعلى هذا الاساس ، فنحن نكرر القول ، ان الكاتب والمؤلف او الناقد المتخصص والفنان الغناسيقي عمليا ونظريا .. يستطيع التعبير عن القضية الادائية بعمق وتفصيل ، وكذلك يستطيع الفنان العملي , مغنيا او عازفا , تحسس وادراك الانتقال من المعنى العام الى الفكرة فالاسلوب .. في حين يتوجب على المتخصص النظري ايجاد المعنى العام او رؤيته بواسطة التحليل الدقيق للتفاعل العملي في النتاجات الغنائية ان كان في استطاعته ذلك التحليل , لأنه ليس جليا .. كيف يستطيع الكاتب والمؤلف النظري التحدث عن المعنى العام لقضية الاداء مباشرة دون القيام بتحليل دقيق للتفاعل الاسلوبي الذي يعتبر امتيازا خاصا يتمتع به المتخصص ..
الصورة في تشرين الثاني 1998 عشية انعقاد مؤتمر ومهرجان القاهرة للموسيقى العربية وفي دار الاوبرا المصرية يظهر من اليمين علي الامام وحبيب ظاهر العباس وحسين الاعظمي ومرافق الوفد ابو مبين ود.علي عبدالله والموسيقار التونسي صالح المهدي وحسين قدوري ومحمد زكي ووليد حسن ..
ورغم ذلك تبقى القضية الادائية التي نتحدث عنها , قضية رئيسية بالنسبة للكتَّاب الغناسيقيين والمؤلفين جميعا .. فالاسلوب يلعب دورا خطيرا , والمســتمع المرهف الحس ، يفهم فهماً رائعاً كل دقائق الطريقة والاسلوب .. فالفن والعلم يرمي الى فهم وتوضيح قوة الطريقة الغنائية ومعناها لاجل استنفاذ الكشف التام عن الافكار والمشاعر والنتاجات الفنية جميعا في سبيل تربية حاسة المتلقي وارهافها , واذا لم يتحقق هذا .. فإن دراسة الطريقة الادائية والاساليب تبقى دون فائدة تذكر ..
أن الكتابة النظرية عن موضوع حسي وعملي لا بد أن تقـــترن بالمعرفة التطــبيقية .. فالقضية مترابطة دائما , فعزل الطريقة الادائية وتجريدها , يقودنا الى نتائج تشوه جوهر القضية الادائية ..
الصورة في حدائق دار الاوبرا المصرية عشية انعقاد مؤتمر ومهرجان القاهرة للموسيقى العربية تشرين الثاني 1998 يظهر من اليمين علي الامام وعبدالامير الصراف وحسين الاعظمي ومحمد زكي ومرافق الوفد ابو مبين ود.علي عبد الله ..
ثمة مغنون وعازفون وكتَّاب ومؤلفون ونقاد للموسيقى ، يخيَّل إليهم ، ان هناك اسرار أثناء تأدية الاسلوب ..! ترفدها عوامل عديدة للاستنباط والابداع .. إن مفرده أسرار , في الواقع تبدو مجازية , لأن المغني الحقيقي لايلجأ الى أية أسرار أو طرق من هذا النمط , أو الى أية مناورة مزيفة .. فهو يعي الحياة كما يعيشها ، ويلتمس الاحتكاك بالجمهور , ومعاشرة ممن هم من اختصاصه .. إنه ينفعل ويغضب ويفرح ويبكي ويكتب ويغني ويفكر بطريقته الخاصة حتى نصل الى حقيقة النتاجات الطبيعية , وبالجهود المستمرة ينمِّي موهبتة التي تفيض بالحياة والغنى الروحي , وتتجلَّى قوَّتها ألرئيسة بهما .. ولهذا السبب فإن اهتمام وانشغال المغنين من أمثال أحمد الزيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي بمضامين طرقهم الغنائية , لا يتجلَّى في خلق تأثيرات معينة .. بل في تعميق إهتمامهم بطريقتهم وأفكارها والعمل على كشفها بكامل قوَّتها ليتم الاندماج بين أصالة الذاكرة العفوية وأصالة الذاكرة العقلية الواعية .. لأن ديناميكية النتاج الفني ودراميته في أفكار المغني وبناء طريقته لا يأتي إلا من خلال التفكير .. ولاغرو في ذلك .. لأن المغني المقامي لايدرس قواعد النتاجات وطريقة أو اسلوب عرضها كما يفعل النحوي مثلا .. ولكنه يدرسها بصورة مغايرة تماما .. إنه يعيها بفطرته وعقله الواعي وغير الواعي .. وعليه يمكن أن نشير الى أن أمثال أحمد الزيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي ممن أسسوا طرقا وأساليب غنائية في غناء المقام العراقي كان من شأنها ان كوَّنت لها أتباعا من المغنين , أسسوا بغنائهم الاسلوب وفق الطريقة الخاصة التي فكروا بها بوعي الفطرة ووعي العقل , ونظروا وفهموا الناس والحياة بموجبها .. لقد عاشوا ماقدموا من نتاجات غنائية وغنوا ما عاشوه , لقد عكسوا واقع الحياة وعبروا عنها بكل صدق وامانة ..
صورة /جمعت المطرب علي ارزوقي بخبير المقام العراقي والمطرب مجيد رشيد في يوم 5 / 3 / 1965
غير المنظـور في الطريقـة الغنـائية
الطريقة الغناسيقية , عملية أبداعية يمكنها الظهور في المجتمع .. فهي لاتهيِّأ الافكار فقط بل تهيِّأ الخيال والتأملات والصور وتخلق جوا من الابداع .. لأن الانسان يستطيع أن يفهم نفسه عندما يدرك إمكانية فهم الآخرين له .. فعندما يؤدي المغني مثلما يفكر , فذلك يعني أنه يفكر على الصور التي يغني فيها .. وان ما يفهم بوضوح يعبر عنه بوضوح ..
قد نستطيع أن نفلسف الطريقة الغنائية ونتحدث عن فحواها , إذ نعتبرها نشاط الروح المستمر .. وعليه فإن مفردات مثل .. أغني , أعرض , أعبر .. عبارة عن مظاهر مختلفة لشيء واحد .. والفنان المغني الطموح , يكتشف أنه يمتلك من العناد والاصرار مايكفي للوصول بعملية التفكير والشعور التي يعانيها والتي يطمح إليها حتى نهايتها , هذا هو الغناء الحقيقي .. لأن المغني الحقيقي هذا .. هو الذي يأخذ على عاتقه تنظيم موقف العناد والاصرار وتماسكه حتى عندما يضعف أمله في أستماع الآخرين له .. أن النشاط الروحي , من شأنه ان يأخذ على عاتقه ايضا خلق النتاجات الفنية التي تتوضح فيها الاساليب والطرق الغنائية واكتمال الفكرة .. فالفورم form المقامي ليس مجرد اسس وقواعد واصول للمسارات اللحنية المقامية ، ولكنه تاريخ وتقاليد تشترك جميعها في كمال المضامين التعبيرية واظهارها .
في هذه الحالة يفيدنا الاستماع الى التسجيلات الصوتية ذات الحبكة المتقنة في اصولها المقامية التاريخية كمواد اولية للمقام العراقي ومضامينها التعبيرية ، وعلى الاخص في التسجيلات الصوتية المسجلة بأصوات المغنين الكبار امثال مطربنا الكبير موضوع البحث رشيد القندرجي ، وليكن مثلا مقام السيكاه فاستمع اليه عزيزي القاريء بهدوء في قصيدة شهيرة هذا مطلعها ..
( نضت عنها القميص لصب ماء / فورد خدها فرط الحياء)
ان هذه المقامات المسجلة بصوت المطرب المخضرم رشيد القندرجي ، وما يقول عنها النقاد والمستمعون بصورة عامة ، تفيدنا ، إذ يعبَّر عنها ، بأنها الاداة التي تتجلى بواسطتها الفكرة والمشاعر وتصبح واضحة .. ونضيف الى ذلك ، انها نشاط الروح .. ولكن الاسلوب العملي للطريقة الغنائية التي انجزها رشيد القندرجي ذات طابع اوسع ، أي ان نشاط الروح هو الطريقة ذاتها .. والطريقة هذه يمكنها الوصول الى مستمع واحد او الى مجموعة من الجماهير او الى الانسان اينما وجد ..
يعتمد الغناء من الناحية الاستاتيكية , على تنسيق الجمل اللحنية للمواد الاولية التي يتكون منها الشكل المقامي ، وعلى تصميم داخلي معقَّد ينطوي بناؤه اللحني والفكري والاسلوبي على معانٍ مختلفة تنبثق من روابط الجمل اللحنية مع بعضها ممتزجة مع الفطرة والامكانية الخفية التي يمتلكها المغني والتي يشوبها الغموض حتى على المغني نفسه .. فهذه الخليَّة من العمل والتفاعل هي التي تلهب نضوج الشكل الداخلي للمسار اللحــــني في المقام العراقي عند الشروع بعملية غنائه ..
كان اهتمامي الشخصي واضحا حين انصب مباشرة على الطابع الفكري للشكل المقامي الداخلي المتكون منه المقام العراقي , عندما شرعت بغناء أي من المقامات العراقية حتى وانا في بدايات مسيرتي الفنية ، ولنتأمل واحدا من هذه المقامات وليكن مقام الحجاز ديوان الذي سبق لي وقمت بغنائه في بداياتي مطلع السبعينات من القرن العشرين وقد سجَّلته بصوتي في اذاعة وتلفزيون بغداد بقصيدة الشاعر البهاء زهير7 * مع اغنية – مروا بينا من تمشون -
صورة/عازف الجوزة الشهير شعوبي ابراهيم صورة/مطرب المقام العراقي حسين الاعظمي
نهاك عن الغوايــة ما نــــها كا
وذقت من الصـــــبابة ما كفاكا
وطال سراك في ليل التصـــابي
وقد اصبحت لم تحمد ســـــراكا
فلا تجزع لحادثة الليــــــالي
وقل لي ان جزعت فما عســـاكا
وكيف تلوم حادثـــة وفيـــــها
تبيـــن من احبـــك او قـــلاكا
بروحي من تذوب علـــيه روحي
وذق يا قلب ما صــــــنعت يداكا
لعمري كنت عن هذا غـــــنيا
ولم تعرف ضلالك من هــــــداكا
ضنيت من الهوى وشقيـــت منه
وانت تجيــــــب كل هوى دعاكا
فدع يا قلب ما قد كنـــــت فيه
الست ترى حبيــــــبك قد جفاكا
لقد بلغت به روحي التــــراقي
وقد نــــــظرت به عيني الهلاكا
حبيبي كيف حتى غبـــت عنــي
اتعلم ان لي احــــــــدا سواكا
اراك هجرتني هجرا طـــويلا
وما عودتني من قبـــــــل ذاكا
عهدتك لا تطـــيق الصبر عني
وتعصي في ودادي من نهــــــاكا
فكيف تغيرت تلك السجــــــايا
ومن هذا الذي عني ثنــــــــاكا
فلا والله ما حاولت غــــــدرا
فكل الــــــناس تغدر ما خلاكا
وما فارقتــــــني طوعا ولكن
دهاك من المــــــــنية ما دهاكا
لقد حكمت بفرقــــــتنا الليالي
ولم يك عن رضــــاي ولا رضاكا
فليتك لو بقـــــيت لضعف حالي
وكان الناس كلهـــــــــم فداكا
يعز علي حين اديــــــر عيني
افتش في مكانــــــــك لا اراكا
فيا من غاب عني وهو روحـــي
وكيف اطـــــيق من روحي انفكاكا
ولم ار في ســــــواك ولا اراه
شمائلك المليـــــــحة ام حلاكا
ختمت علي ودادك في ضــميري
وليس يزال مخــــــــتوما هناكا
فيا من قد نـــــوى سفرا بعيدا
متى قل لي رجوعـــــك من نواكا
الاغــــنية بالنوطة والكلام
مروا بينا من تمشون
مروا بينا من تمشـون بلكي اعلا حالي اتحنــون
تاه العقل صار مجنـون سهــــران ليلي ما نام
جيــبوا حبيبي يا كرام
سَلَّم عليَّ من ابعــيد واحواجـــبه هلال العيد
ممنون قلِّي شمتريـد سهـــران ليلي ما نام
جيبوا حبيـبي يا كرام
لركض وراهـم حافي واعبيتي اعــلا اجتافي
نظرة من الاسمر كافي سهران ليـــلي ما نام
جيبـوا حبيبي يا كرام
لركض وراهم واصيح نوبة انجبح نـوبة اطيح
ما ظل بيَّ عظم اصحيح سهران ليلي مــا نام
جيـبوا حبيبي يا كــــرام
***************
فقد حاولت في هذا المقام الرئيسي , إن اضمِّن غنائي له , على مدلول خاص يعمل على تنمية معناه العام الذي ينبعث منه داخليا ومن صلب المسارات اللحنية الاصيلة لمقام الحجاز ديوان .. و قد كان هذا المدلول خفيا .. قد يصعب عليَّ شرحه او الحديث عن كوامنه .. ثم اصبح مسموعا لكل المتلقين من الجماهير ... و عليه نلاحظ ان الشكل الداخلي التقليدي لمقام الحجاز ديوان , يتجلَّى , اما من الناحية المسموعة او من الناحية الفكرية .. و لكنه يستحوذ على بناء المسار اللحني لمقام بكامله , و من ثم يطغى المعنى العام على المقام المذكور بكل تفاصيله ..
ان كل هذه التفاعلات الفنية الغنائية داخل المقام المغنى , تتجسد في النشاط الروحي بصورة قوية في كشف اللحن الداخلي و التعابير الخفية و استخدامها له .. فالقوة تتجلى في طبيعة وجودة اظهار شكل الغناء اللحني التقليدي المعبر عن كل المتطلبات ..
تلك مهام طبيعية يتطلبها العمل الغناسيقي , حيث يتفق الجميع في غاية واحدة ..هي فتح ابواب في امكانية استحداث الاساليب الغنائية في المقام العراقي .. و فتح نوافذها على مصراعيها , و ادخال المستمع في اعماقها الذوقية و الثقافية , ان المطرب القدير حسن خيوكة يبدو اوفر حظا من المغنين الآخرين في طرح اسلوبه الغنائي الجميل الخفي بالرغم من انه مستقى من الطريقتين الرشيدية و القبانجية .. فلم يمر على سمعي مغنيا عراقيا او غير عراقي , اكثر هدوءا و تأدبا و تهذيبا و ثقة و شجنا وصدقا , من حسن خيوكة عند غنائه , الذي يجعلنا نتحسس بقوة الخلق الرفيع والادب العميق في مضامين تعابيره في شكواه وعتبه وهمومه المذلَّة .. فصفة ادب , تكفي لوحدها لان تصف بها , الحكيم و المفكر الواثق بقوته ..
**************************
كلما كان شأن الطريقة الغنائية و اسلوبها الادائي متماسكا في بناء لحني محكم .. ازدادت القوة الداخلية التي تنطوي عليها المسارات اللحنية التي لا تنبثق عنها الخيارات الحالمة و الصور الجميلة فحسب .. و انما محور المقام العراقي المغنى برمته , فالطريقة والاسلوب المحكم و الجيد هو اداة التفكير السليم ..
والاسلوب الداخلي هذا ينطوي ايضا على لوحة معقدة مما تراكم في المتطلبات المنظورة و غير المنظورة في امكانية المغني الفطرية و العقلية الواعية من ثقافة الحياة , ولا سيما في الطريقة الغنائية ككل .. اضافة الى فردية المغني .. فنضوج اسس الطريقة الغنائية و اسلوبها الداخلي و بلورته .. من شأنه ان يحدد اهمية العمل الفني و قيمته . .
هكذا يكون الشكل المقامي الداخلي الهيكلي للمقام العراقي و ظاهره المتكامل .. أي المقام بشكله و مضمونه , هما البارزان في العمل الفني الغنائي حيث نعثر على أمتن الروابط في كل هذا البناء الاسلوبي في الطرق الغنائية و منها الطريقة الرشيدية المخضرمة .. اذ تنطوي قيمتها في صورتها النهائية عندما تؤدى من قــــــبل مؤسسها رشيد القــــــندرجي اومن
اتباعه المقتدرين من المغنين المقاميين , عندها نتلمس في كل ذلك طريقة التفكير التي تخلق الصورة و الخيال العاطفي و الفكري , و في نهاية الامر ينتهي بنا المطاف الى التصميم و كشف العمل المقامي برمته .. و بها تكتسب الطريقة الرشيدية ركائز قوية في اسلوبها و بنائها اللحني و تعابيرها الوطنية , تتوضح فيها الافكار و تتوصل اليها , بالرغم من كل الخفايا في بناء هذه الاعمال الفنية الناجحة ..
ان حديثنا هذا عن الجانب الخفي او غير المنظور في بناء الاعمال الغناسيقيــــة و نجاحها .. ذو فائدة عملية اكثر مما هي نظرية , فإدراك الاعمال الفـنية في الغناء و الموسيقى و الاستماع اليها .. تعتبر قضــية اكثر تعقيدا مما يتصوره البعض احيانا و بالتالي فإن دراسة الاعمال الفنية الناجحة بكل جوانبها المتــــوقدة , يضع امام الفنان مهمة خلق اعمالا فنية اخرى حقيقية .
*******************
الصورة في مصيف سرجنار بمحافظة السليمانية شمال العراق يوم 18 / 4 / 1978 يظهر في يمين من الجالسين حسن النقيب وسعد عبد اللطيف وصبحي السامرائي واحمد هربود وحسين الاعظمي والواقفون سامي عبد الاحد وجبار سلمان وصلاح عبد الغفور في نفس يوم الحفلة التي اقيمت في المركز الثقافي بالسليمانية ..

هوامش الباب الاول الفصل الثاني
----------------------
6* التقاليد او التقليدية .. ( traditionalism ) بمفهومها العام , الاقتصار العاطفي على التراث وخاصة المعتقدات والولاء لها , وهو الاتجاه الذي يرى في الانماط القديمة خير مرشد في تحديد السلوك في الحاضر والمستقبل ولذلك يستبعد التقليديون أي تغيير اجتماعي , وتظهر هذه النزعة كرد فعل لاي نزعة تجديدية لاعادة تنظيم المواد التراثية على اسس رشيدة ..
7*غنيت هذا المقام الكبير امام مطرب العصور المقامية محمد القبانجي عند زيارته الشهيرة الى معهد الدراسات النغمية العراقي وقد كنت طالبا حينها وذلك يوم 11 / 11 / 1974 حيث فوجىء واشاد بغنائي , وامسى هذا اليوم انعطافة كبيرة في حياتي الفنية , ثم غنيته مرة اخرى في المتحف البغدادي بالحاح من الجمهور يوم 13 / 12 / 1974 وفي منتصف عام 1975 سجلته في تلفزيون بغداد .. – المؤلف -

نـــــواح دجـــــــــــلة
قصيدة الشاعر الكبير معروف الرصافي الشهيرة التي قالها بعد سقوط بغداد اثناء الحرب العالمية الاولى جوابا عن قصيدة الشاعر التركي الشهير سليمان نظيف بيك ..

هيَ عيني ودمعُها نضـَّــــــــــــــــــــــــــــاح
كلّ ُحــُــــــــزن ٍ لمائــــها يَمْتـــــــــــــــــاحُ
كيف لا أذرِ ِفُ الدموع َوعــــــــــــــــــــــزِّي
بيد ِالــــذ ُل ِّهـــــــــــــــــــــــــــــالِكٌ مجتاح
قد رمتني يدُ الزمان بخــــــــــــــــــــــــطبٍ
جَلل ٍمـــــــــــا للـــــيله إصبــــــــــــــــــــاح
حيث غمـَّت علي َّوجه ُسمــــــــــــــــــــــائي
ظـُلــــُــــمات ٌتخفى بهــــــــا الاشبـــــــــاح
وتوارى عن اعــــــــــــــــــــــيني مضمحِلاً
شَرفٌ في مــــــــــواطـــــني وضَّــــــــــاح
يوم امسيتُ لا حُمــــــــــــــــــــــــاةََََََََََََََََ تذود الـ
ضَّيم عني , ولا ظــُــبىً ورمـــــــــــــــــــاح
فأنا اليومَ كالسَّفيـــــــــــــــــــــــــــنة تجري
لا شــــِـــــــــراعٌ لهـــا ولا مــــــــــــــــــلاَّح
ضقتُ ذرعا بمحنتي فــــــــــــــــــــــتراءتْ
قِيدَ شبرٍ ليَ الفــِــجـــــــــــــــــــــاج ُالفِساح
أخرسَ الحزنُ مَنْطـــــــــــــــــــــقي بنحيب
ألسن ُالدمــــعِ ِفيـــــــــه ذ ُلـْقٌ فِصـــــــــــاح
نُحتُ حتى رثى العــــــــــــــــــــــدوّ لحالي
واعتـــــراني من العــــــــــــويل بُحـــــــــاح
فمياهي هي انسكابُ دمـــــــــــــــــــــوعي
وخريري هــــو البكــــــــــــا والنــُّـــــــــواح
أوَ ما تبصرُ اضطـــــــــــــــــــــرابي اذا ما
خـَفـَقـــَـــتْ في جـــــــــــوانبــــــــي الارواح
ليس ذا المــــــــــــــــوج ُفي َّموجا , ولكن
هـــــــــــــو مني تنــــهــــُّدٌ وصيـــــــــــــاح
ان وجدي هو الجحـــــــــــــــــــــيمُ , ولولا
ادمعــــــــــي احرقتنـــيَ الاتـــــــــــــــــــراح
لو درى منبــــــــــــــــــــــــعي بما انا فيه
مـــــــــــن اسىً جــــــــفَّ ماؤه الضَّــحـْضاح
علـَّه قد درى بذاكَ , فهـــــــــــــــــــــــــــذا
هو بــــــــــــــــــاكٍ , ودمعـــُــه سفـَّــــــــــاح
أين أهل ُالحِفاظ ؟ هل تركـــــــــــــــــــوني
نـُهـْبـَة ً في يـــــــــــــد العــدوِّ وراحــــــو ؟
برحوا (واديَ السلام) عـِجـــــــــــــــــــالا
افجـــــد ٌّبـــَراحُهم , ام مـــــــــــــــــــــُزاح؟
ما لهم يتعدون عني انتـــــــــــــــــــزاحا
وعـــــــــــزيزٌ منــــهم عـــــــــــليّ انتزاح؟
او ما يعلمون ان حريــــــــــــــــــــــــمي
للمعــــــــــــــادين بعـدهم مستبـــــــــــــاح؟
فلئن يبعدوا , فإن فـــــــــــــــــــــــــــؤادي
لإ لـَيـْهـِم بــــــــــــــــودّه طمـــــَّـــــــــــــاح
لو رأوْني سبيَّاً بأيـــــــــــــــــدي الاعادي
لبكــــــــــــو مـــثلمــــــــــا بكيْتُ ونـــاحوا
لا مسائي بعد البِعـــــــــــــــــــــــادِ مساء ٌ
يوم بــــــــــــــــــانوا , ولا الصـــباح صباح
اتمنَّى بأن اطيـــــــــــــــــــــــــــــرَ اليهم
بجنــــــــــاحٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ , واين مــــــني الجنــــــــاح ؟
انا ادري بأنهم بعد هـــــــــــــــــــــــجري
لو يذوقـــــــــوا غمـــــضا , ولم يرتـــــاحوا
بل هم اليوم عازمــــــــــــــــون على الزَّحـ
فِ بجيش بـــــــــه تغـــــصُّ البطـــــــــــــاح
ان تأنَّوا فريضة ُالليـــــــــــــــــــــثِ تأتي
بعدهــــــــــــا وثبـــــــة ٌ له وكفــــــــــــــــاح
كيف يـُغــــْـــــــــــــــــضُون عن اغاثة واد ٍ
زانـــــــه مـــــــن ودادهـــــــــم او ضــــــاح
فعليه من فخــــــــــــــــــــر (عثمان) تاجٌ
ولــــــه رايـــــــــةُ الهـــــلال وِشـــــــــــــــاح
انا باقٍٍ على الــــــــــــــــــــوفاء , وان كا
نت بقلبـــي ممَّـــــــن أ ُحب جــِــــــــــــــراح
فإليهمْ ومنهمُ اليــــــــــــــــــــــــومَ اشكو
بلـِّغيـــــهمْ شكــــــــــايتي يا ريــــــــــــــــــاح

هامش القصيدة من كتاب
( الآلوسي , جمال الدين , بغداد في الشعر العربي , مط المجمع العلمي العراقي , ط بغداد , 1987م , ص215 و 216 و 217 )