Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 21

الموضوع: القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار

    فى هذه الدراسة المطولة تحليل للرسالة التى أرسلها منذ أكثر من شهرين 138 عالما مسلما إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم فيها إلى الحوار، وتبيين لموقف الإسلام من هذا الموضوع، ومدى صحة الاتجاه الذى اتخذه أولئك العلماء وكذلك الآراء التى تضمنتها رسالتهم... وغير ذلك من القضايا الشديدة الأهمية والحساسية.


    تنبيه: قمنا بتنزيل الملف المرفق مرة أخرى لأن الملف الأول كانت فيه مشكلة فى التحميل، فأرجو مراعاة ذلك. كما أرجو من إدارة المنتدى حذف الملف الذى لا يعمل، مع خالص الشكر والمودة والتقدير.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  2. #2
    مترجم / أستاذ بارز الصورة الرمزية معتصم الحارث الضوّي
    تاريخ التسجيل
    29/09/2006
    المشاركات
    6,947
    معدل تقييم المستوى
    24

    افتراضي

    أستاذي المفضال إبراهيم عوض
    باسم منتديات واتا الحضارية أرحب بك مفكراً مرموقاً بيننا.

    مع فائق احترامي وتقديري. كل عام أنتم بخير

    منتديات الوحدة العربية
    http://arab-unity.net/forums/
    مدونتي الشخصية
    http://moutassimelharith.blogspot.com/

  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية راضي عبد المنعم
    تاريخ التسجيل
    13/10/2007
    المشاركات
    187
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    جزاك الله خيرًا يا أستاذنا ..
    كذلك للدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية عدد من المقالات على الشبكة تتناول الحوار الإسلامي الكاثوليكي وما يحدث على ساحته هذه الأيام بين خنوع ومهانة الطرف المسلم وصلف وتكبر الطرف النصراني الكاثوليكي .

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية راضي عبد المنعم
    تاريخ التسجيل
    13/10/2007
    المشاركات
    187
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    جزاك الله خيرًا يا أستاذنا ..
    كذلك للدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية عدد من المقالات على الشبكة تتناول الحوار الإسلامي الكاثوليكي وما يحدث على ساحته هذه الأيام بين خنوع ومهانة الطرف المسلم وصلف وتكبر الطرف النصراني الكاثوليكي .

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    عـضــو الصورة الرمزية راضي عبد المنعم
    تاريخ التسجيل
    13/10/2007
    المشاركات
    187
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    أنزلت الرسالة أكثر من مرة ويكون الملف معطوب ولا يفتح ..
    أرجو إصلاح الملف تكرمًا .

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    [a7la1=#00FF00]إلى الصديق الدكتور راضى عبد المنعم، شكرا على هذا التنبيه، وقد قمت بتنزيل الملف مرة أخرى بعنوان مختصر هو: "ليست كلمة سواء" فقط دون بقية الكلمات، ويا ليت المسؤولين عن المنتدى يحذفون الملف الذى لا يعمل، ولهم شكرى وتحياتى مقدما.
    [/a7la1]
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كَلِمَةً سواء، بل طعنةً فى السُّوَيْدَاء!
    (القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار)
    د. إبراهيم عوض
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    فى عيد الفطر من هذا العام (1428هـ)، الموافق الثالث عشر من أكتوبر لعام 2007م وُجِّهَتْ رسالة مفتوحة عنوانها: "كلمة سواء بيننا وبينكم" ومذيَّلة بأسماء 138 عالما من أرجاء العالم الإسلامى ومذاهبه المختلفة إلى بابوات النصرانية وكبار بطاركتها ومطارنتها فى نواحى الأرض تدعوهم إلى إقامة حوار مع المسلمين وتعمل على طمأنتهم بأن المسلمين لا يضمرون لهم شرا، وكأن المسلمين مصاصو دماء يثيرون الرعب فى قلوب النصارى فى كل مكان فلا يغمض لهم جفن جَرَّاءَ ذلك. وهو أمر فى منتهى الغرابة، إذ المسلمون هم الذين يقاسون من جرائم الغربيين النصارى الشيطانية المتوحشة التى لم تنقطع منذ قرون لا العكس. كما تركّز الرسالة على ما تراه مشتركا من القيم بين الإسلام والنصرانية، وعلى وجه التحديد: الإيمان بالله الواحد، وحبه سبحانه وتعالى، وحب الجار. ويلفت النظر أنها قد صيغت بطريقة يغلب عليها نبرة التودد والخشوع والخضوع.
    وقد نشر القائمون على موقع "كلمة سواء: www.acommonword.com"، وهو موقع تابع لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامى بالأردن، السطور التالية تقديما للرسالة المذكورة وتعريفا بطبيعتها: "في الثالث عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2006م، بعد شهر على التمام من المحاضرة التي ألقاها البابا بندكتوس السادس عشر في ريغينسبيرغ في الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) 2006م صدرت كلمة الرد على البابا من ثمانية وثلاثين من علماء المسلمين من أرجاء العالم يمثلون جميع المذاهب والمدارس الفكرية بروحٍ من التبادل الثقافي المفتوح والتفاهم المتبادل. وفي هذا الرد الذي حمل عنوان "رسالة مفتوحة إلى البابا" (انظر الموقع الإلكتروني arabic.pdf) تحدّث العلماء المسلمون من جميع فئات المسلمين، ولأول مرّة في التاريخ الحديث، بصوت واحدٍ حول التعاليم الحقيقية للإسلام.
    والآن، وبعد مرور عامٍ واحدٍ بالتمام على تلك الرسالة، قام المسلمون بتوسيع رسالتهم. وفي الوثيقة التي تحمل العنوان: "كلمة سواء بيننا وبينكم" تلاقى ثمانية وثلاثون ومائة عالما من العلماء ورجال الدين والمفكرين المسلمين بالإجماع لأول مرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا على الملأ القاسم المشترك بين المسيحية والإسلام. والموقعون على هذه الوثيقة ينتمون إلى جميع المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية مثل الموقعين على "الرسالة المفتوحة". كما وقد مُثِّلت جميع البلدان أو المناطق الرئيسية الإسلامية في العالم في هذه الوثيقة الموجهة إلى قيادات الكنائس في العالم، بل إلى جميع المسيحيين في كل مكان.
    والصيغة النهائية للوثيقة قُدِّمَتْ في المؤتمر الذي عقدتْه في شهر أيلول (سبتمبر) 2007 الأكاديمية الملكية التابعة لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بعنوان "الحب في القرآن الكريم" برعاية صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين. وفي الواقع فإن القاسم المشترك بين الدين الإسلامي والدين المسيحي الذي يعتبر القاعدة الأفضل للحوار والتفاهم هي حب الله وحب الجار.
    ولم يسبق من قبل أن المسلمين خرجوا بمثل هذا البيان التوافقي التفصيلي المحدّد حول الدين المسيحي. وعوضًا عن الانخراط في الجدل والمناظرة تبنّى الموقعون على الوثيقة الموقف الإسلامي التقليدي الذي تتبناه غالبية المسلمين والقائم على احترام كتب الله قبل القرآن الكريم، ودعوة المسيحيين إلى المزيد من الإخلاص لها والتمسّك بها، لا التقليل من ذلك الإخلاص.
    ويُؤْمَل أن توفر هذه الوثيقة دستورًا مشتركًا للعديد من المنظمات البارزة والأفراد الأكفاء العاملين في مجال الحوار بين الأديان في جميع أنحاء العالم. فغالبًا ما تكون هذه الجماعات منقطعة عن بعضها بعضًا لا تدري واحدتها بما تقوم به الأخرى، مما يؤدّي إلى تكرار الجهد.
    ما توفره وثيقة "كلمة سواء بيننا وبينكم" لا يقف عند حدّ إعطاء هذه الجماعات نقطة انطلاق للتعاون والتنسيق على المستوى العالمي، بل يتعدى ذلك إلى أن يقام ذلك التعاون والتنسيق على أصلب أرضية دينية عقائدية ممكنة: القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والوصايا التي وصفها السيد المسيح عليه السلام في الإنجيل. يشترك فيه الدين المسيحي والدين الإسلامي بالرغم مما بينهما من فروقات، ليس فقط أصولهما بالتنزيل الإلهي وموروثهما الإبراهيمي، بل يشتركون في أعظم وصيتين أيضًا".
    والآن إلى نص الرسالة التى نحن بصددها:
    " كلمةٌٌ سواءٌ بيننا وبينكم
    (ملخّص وموجز)
    يشكّل المسلمون والمسيحيون معًا ما يزيد على نصف سكان العالم. ولا يمكن أن يكون هناك سلامٌ مُجدٍ في العالم من دون إحلال السلام والعدالة بين هذين المجتمعين الدينيين، فمستقبل العالم يعتمد على السلام بين المسلمين والمسيحيين. وإن الأساس الذي ينبني عليه السلام والتفاهم موجود أصلا، وهو جزء من صميم المبادئ التأسيسية لهذين الدينين وهو: حب الإله الواحد، وحب الجار. وهذه المبادئ يتكرر وجودها في النصوص المقدّسة للإسلام والمسيحية. فوحدانية الله، وضرورة حبّه تعالى، وضرورة محبة الجار، تعتبر بالنتيجة الأرضية المشتركة بين الإسلام والمسيحية. وما يلي ليس إلا أمثلة قليلة على هذا:
    فأما ما يتصل بوحدانية الله يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص، 112: 1- 2). وعن ضرورة حبّ الله يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزّمل، 73: 8). وعن ضرورة محبة الجار يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره، ما يحّب لنفسه". "الخلق كلهم عيال الله فأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله" رواه أبو يعلى والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود.
    وفي العهد الجديد يقول عيسى المسيح عليه السلام إن أول كل الوصايا هي: "اسمع يا إسرائيل. الربّ إلهنا ربٌّ واحد. وتحبّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصيّة الأولى، وثانية مثلها هي: تحبّ قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين" (إنجيل مرقس 12: 29- 31).
    وفي القرآن الكريم يأمر الله تعالى المسلمين أن يتوجهوا إلى أهل الكتاب (واليهود من أهل الكتاب) بالدعوة التالية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران، 3 : 64). وإن الكلمات: "ولا نشرك به شيئًا" ترتبط بوحدانية الله، والكلمات: "ألاّ نعبد إلا الله" ترتبط بالإخلاص التام لله. وهكذا فهي جميعها ترتبط بالوصية الأولى والأعظم. ووفقًا لأحد أقدم تفاسير القرآن الكريم وأكثرها مرجعية فإن معنى "ولا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، أي "لا ينبغي لأي منا أن يطيع الآخرين فيما فيه مخالفة لأمر الله". وهذا يرتبط بالوصية الثانية لأن العدالة وحرية الدين عنصران هامّان في شأن محبة الجار.
    وهكذا استجابةً لما جاء في القرآن الكريم فإننا، كمسلمين، ندعو المسيحيين إلى التلاقي معنا على الأسس المشتركة بيننا والتي هي أيضا أساسيةٌ جدًّا بالنسبة لديننا وممارسة حياتنا: ندعوهم إلى وصيتي الحب.
    بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي محمد
    كلمة سواء بيننا وبينكم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
    (القرآن الكريم، النحل، 16: 125)
    أولا: حـبّ الله
    حبّ الله في الإسلام
    الشـهادتان
    يتألف جوهر العقيدة في الإسلام من الشهادتين(1)، وهي قول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله"، وهو الشرط اللازم الذي لا بدَّ منه للإسلام، ومَنْ ينطق بهما يكون مسلمًا، ومن ينكرهما لا يكون مسلمًا. إضافة إلى ذلك فإن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"(2).
    أفضل ما قاله جميع الأنبياء
    ويقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا متوسعًا في مفهوم أفضل الذكر: "وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"(3). والعبارات التي تلي الشهادة الأولى واردة جميعها في القرآن الكريم، وتصفُ كل منها نمطًا من حبّ الله والإخلاص له تعالى.
    وكلمة "وحده" تذكّر المسلمين بأن قلوبهم(4) يجب أن تكون مخلصةً لله وحده. ذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في القرآن الكريم: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب، 33: 4). والله تعالى هو الصمد المتصف بالكمال المطلق، ولذلك لا بدّ أن يكون الإخلاص له تعالى خالصًا تمامًا.
    وعبارة "لا شريك له" تذكّر المسلمين بأنه يجب عليهم أن يُفْرِدوا الله بالحب دون أن يُشْركوا معه أندادًا في نفوسهم، إذ يقول الله في القرآن الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} (البقرة، 2: 165)، وأيضًا: {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر، 39: 23).
    وعبارة " له المُلْك" تذكّر المسلمين أن عقولهم أو فهومهم يجب أن تكون كلها مخلصة لله، لأن "المُلْك" يعني بشكل دقيق كلَّ شيء في الخَلْق أو الوجود، وأي شيء يمكن أن يدركه العقل، وكل ذلك بيد الله، إذ يقول جلّ شأنه في القرآن الكريم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الملك، 67: 1).
    وإن عبارة " له الحمد" تذكّر المسلمين أنه ينبغي عليهم أن يكونوا شاكرين لله، يتوكلون عليه ثقة به سبحانه بكل مشاعرهم وعواطفهم. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ* اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت، 29: 61- 63)(5).
    ومن أجل كل هذه النعم، والكثير غيرها، ينبغي أن يكون الإنسان دائمًا شاكرًا لله بإخلاص: {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم 14: 32- 34)(6).
    وعلاوة على ذلك فإن سورة الفاتحة، وهي أعظم سورة في القرآن الكريم(7)، تبدأ بحمد الله: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ* مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة، 1: 1- 7).
    وسورة الفاتحة التي يتلوها المسلمون سبع عشرة مرّة يوميا على الأقل في صلواتهم المفروضة تذكّرنا بالحمد والشكر الواجبين لله تعالى على نعمه التي لا تحصى ورحمته الواسعة التي لا تقتصر على هذه الحياة الدنيا، بل في نهاية الأمر تشملنا يوم الحساب(8) حيث يعظم الخطب، فنرجو حينها أن تُغْفَر خطايانا. ومن ثمّ تُخْتَم الفاتحة بالدعاء بالإنعام والهداية من أجل أن نُكرمَ، من خلال ما بدأت به من الحمد والثناء، بالخلاص والحب، إذ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مريم 19: 96).
    وإن عبارة "وهو على كل شيء قدير" تذكّر المسلمين بأنه يتوجب عليهم أن يكونوا على وعي بعظمة الله وقدرته فيحملهم ذلك على أن يتقوه(9). يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة، 2: 194 - 195). {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة 2: 196)
    ومن طريق تقوى الله تعالى تكون أعمال المسلمين وهمّتهم وقوتهم خالصةً تمامًا له سبحانه. يقول الباري جلّ وعلا في القرآن الكريم: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة، 9: 36)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ* إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة، 9: 38 - 39).
    هذا وإن عبارات "له المُلْك"، و"له الحمد"، و "هو على كل شيء قدير" إذا ما أُخِذَتْ مجتمعة تذكّر المسلمين بأنه مثلما أنّ كل المخلوقات تسبّحُ الله تعالى فإن كلّ شيء في نفوسهم يجب أن يكون خالصًا لله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التغابن، 64: 1) لأن كلّ ما في نفوس البشر حقيقةً يعلمُه الله، وهم عنه مسؤولون: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (التغابن، 64: 4).
    وكما يمكن أن نرى من مقاطع الآيات المستشهد بها أعلاه فإن النفوس، كما يصوّرها القرآن الكريم، لها ثلاث ملكات رئيسة: العقل أو الذكاء: المخلوق لفهم الحقيقة، والإرادة: المخلوقة من أجل حرية الاختيار، والعاطفة: المخلوقة من أجل حب الخير والجمال(10). وبعبارة أخرى يمكن القول إن نفس الإنسان تدرك الحقيقةَ من خلال الفهم، والخيرَ من خلال الإرادة، وحبَّ الله تعالى من خلال العواطف الفاضلة والشعور. ومواصلةً لما جاء في السورة ذاتها في القرآن الكريم (كالتي استشهد بها أعلاه) يأمر الله تعالى الناسَ أن يتقوه ما استطاعوا، وأن يستمعوا (وبذلك يدركون الحقيقة)، وأن يطيعوا (وبذلك يريدون الخير)، وأن ينفقوا (وبذلك يعيشون الحب والفضيلة)، وهذا الذي قال عنه سبحانه بأنه خيرٌ لأنفسنا. ومن خلال إشراك كل الملكات في أنفسنا: المعرفة، والإرادة، والحب يمكننا أن نصل إلى التزكية وأن نحقق غاية الفلاح: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن، 64: 16).
    هكذا وباختصار عندما تضاف العبارة بكاملها "وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" إلى شهادة الإيمان: لا إله إلاّ الله فإنها تذكّر المسلمين أن قلوبهم ونفوسهم وجميع الملكات والقوى المودعة فيها، أو ببساطة: مجامع قلوبهم ونفوسهم، يجب أن تكون خالصة تمامًا لله متصلة به سبحانه. وفي هذا يقول الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام 6: 162 – 164).
    وهذه الآيات تلخص صورة إخلاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التام والكامل لله تعالى. ومن ثمّ يأمر الله تعالى في القرآن الكريم المسلمين الذين يحبّون الله حقًّا أن يتّبِعوا هذه القدوة (11) كي يحبّهم(12) الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران، 3: 31)
    ولذلك فإن حبّ الله تعالى في الإسلام جزء من الإخلاص التام الكلّي له سبحانه، وليس مجرد عاطفة عابرة جزئية. وكما هو مبيّن أعلاه فإن الله جلّ وعلا يأمر في القرآن الكريم: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ". وإن الدعوة للإخلاص التام لله والارتباط الكامل به سبحانه قلبًا ونفسًا، والتي هي أبعد ما تكون عن الدعوة إلى مجرد عاطفة أو حالة نفسية معينة، هي في الحقيقة أمرٌ يطالِب الإنسان بحبّ كامل متواصل لا تخبو شعلته لله تعالى. هي دعوة تطالِب بحبًٍ يسري في أعماق القلب والروح والنفس وبما فيها من ملكات الذكاء والإرادة والشعور من طريق الإخلاص له سبحانه
    ليس هناك ما هو أفضل
    لقد رأينا كيف أن العبارة الجليلة في الحديث الشريف: "وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" توضح مضمون عبارة "أفضل الذكر لا إله إلا الله" من خلال تبيان ما تتطلبه وتستلزمه عن طريق الإخلاص. ولابدّ من التنويه بأن هذه الصيغة المباركة هي أيضًا في حدّ ذاتها ابتهال مقدّس، نوع من الاتساع في شهادة الإيمان الأولى: "لا إله إلا الله" والتي يمكن لتلاوتها المتكررة تقربًا إلى الله أن تُحْدِث بعون الله بعضًا من المشاعر الإيمانية التي تطلبها، خصوصًا الحب، وأن يشعر المرء بإخلاصه لله تعالى بمجامع قلبه ونفسه وعقله، وإرادته أو عزيمته، وأحاسيسه. ولذلك أثنى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الذكر بقوله: "مَنْ قال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" في يومٍ مائة مرة كانت له عَدْل عشر رقاب، وكُتِبَتْ له مائة حسنة، ومُحِيَتْ عنه مائة سيّئة، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك"(13).
    وبعبارة أخرى فإن صيغة الذكر المباركة: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" لا تستلزم وتتضمن فقط أنّ المسلمين يجب عليهم أن يكونوا مخلصين تمامًا لله وأن يحبّوه بمجامع قلوبهم ونفوسهم وبكل ما فيها، بل تتيح لهم طريقةً، كما بدايتها (شهادة الإيمان) من خلال تكرارها(14)، لتحقيق هذا الحب بكل مكونات إنسانيتهم. يقول الله تعالى في آية من أوائل ما نزل من آيات القرآن الكريم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل 73: 8).
    حب الله باعتباره الوصية الأولى والأعظم في الإنجيل
    يقول نص "السماع" في سفر التثنية (6: 4- 5)، وهو جزء هامّ جدًا من العهد القديم ومن الطقوس الدينية اليهودية: "اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد! فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك"(15). ومثل ذلك نجده في العهد الجديد أن عيسى المسيح عليه السلام أجاب، عندما سئل عن أعظم الوصايا، قائلا: "أما الفريسيّون فلما سمعوا أنه أبكَمَ الصدوقيين اجتمعوا معًا. وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه قائلا: "يا معلم أيّة وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحبّ الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحبّ قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" ( إنجيل متى 22: 34- 40). وأيضًا: "فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أوّل الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: تحبّ قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين" ( إنجيل مرقس 12: 28- 31). وهكذا فإن الوصية بأن تحب الله بصورة تامة هي الأولى والأعظم بين وصايا الإنجيل. وفي واقع الأمر نجدها في أماكن عديدة في الإنجيل بما في ذلك: سفر التثنية 4: 29، 10: 12، 11: 13 (وأيضًا كجزء من "السماع")، 13: 3، 26: 16، 30: 2، 30: 6، 30: 10، سفر يشوع 22: 5، إنجيل مرقس 12: 32- 33، إنجيل لوقا 10: 27- 28).
    ومع ذلك ففي هذه الأماكن المتنوعة في الإنجيل تأتي العبارات بأشكال وصيغ مختلفة قليلا. فعلى سبيل المثال نجد في إنجيل متى 22: 37: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك)". فالكلمة اليونانية التي تعني "القلب" هي " كارديا kardia"، والكلمة التي تعنى "النفس" هي "سايكه psyche"، والكلمة التي تعنى "الفكر" أو "العقل" هي "ديانويا dianoia"، بينما نجد في الصيغة الواردة في إنجيل مرقس 12: 30: "وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك" أن كلمة "القدرة" أضيفت إلى الكلمات الثلاثة آنفة الذكر ترجمةً للكلمة اليونانية "إيسشوس: ischus". وكلمات الناموسي في إنجيل لوقا 10: 27، التي يؤكدها عيسى المسيح عليه السلام في إنجيل لوقا 10: 28، تشتمل على الكلمات الأربعة الواردة في إنجيل مرقس 12: 30. وكلمات الكاتب في إنجيل مرقس 12: 32، التي يوافقها عيسى المسيح عليه السلام في إنجيل مرقس 12: 34، تشتمل على التعابير الثلاثة: "كارديا" ("القلب") و"ديانويا" ("الفكر" أو "العقل") و"إيسشوس" ("القدرة"). وفي نص "السماع" الوارد في سفر التثنية 6: 4- 5: "اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الربّ إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك". والكلمة التي تعني "القلب" في اللغة العبرية هي " ليف lev"، والكلمة التي تعني "النفس" هي "نِفِش nefesh"، والكلمة التي تعني "القدرة" هي "ميعود me'od ". وفي سفر يشوع 22: 5 يأمُر يشوع عليه السلام الإسرائيليين بأن يحبّوا الله ويخلصوا له على النحو التالي: "وإنما احرصوا جدا أن تطبقوا الوصية والشريعة التي أمركم بها موسى عبد الرب، أن تحبّوا الرب إلهكم، وتسيروا في كل طرقه، وتحفظوا وصاياه، وتتمسكوا به وتعبدوه من كل قلبكم ونفسكم" (سفر يشوع 22: 5). والمشترك في جميع هذه الصيغ، بالرغم من الاختلافات اللغوية بين العهد القديم المدوّن باللغة العبرية والكلمات الأصلية لعيسى المسيح عليه السلام بالآرامية، وما نُشر فعليا من العهد الجديد باللغة اليونانية، هو الأمر بحب الله بصورة تامة بكل ما في قلب الإنسان ونفسه، والإخلاص الكامل له جلّ جلاله. وهذه هي الوصيّة الأولى والأعظم لبني البشر.
    وفي ضوء ما رأيناه بالضرورة مُتضّمَنًا ومَدْعُوًّا إليه في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"(16) ربما يمكننا الآن فهم العبارة التي تقول: "وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي" على أنها تعادل بدقة بين الصيغة المباركة: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، و"الوصية الأولى والأعظم" بأن يحبّ المرء اللهَ بكل ما في قلبه ونفسه، التي نجدها في أماكن متعددة في الإنجيل. وهذا يعني، بعبارة أخرى، أن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ربما كان، من خلال الوحي، يقول من جديد وصية الإنجيل الأولى ويلمح إليها. والله أعلم. ولكننا بالتأكيد رأينا التشابه الفعال بينهما في المعنى. إضافةً إلى ذلك فإننا نعلم أيضًا، كما هو موضّح في الهوامش والتعليقات، أن كلتا الصيغتين لهما موازٍ هامّ آخر يتمثل في الطريقة التي تردان بها في عدد من النُسَخ والقوالب المختلفة قليلا في سياقات مختلفة، والتي تؤكد جميعها مع ذلك على مكان الصدارة لحب الله والإخلاص له بصورة تامة(17).
    ثانيا: حب الجار
    حب الجار في الإسلام
    هناك العديد من الوصايا في الإسلام حول ضرورة حب الجار والشعور بالرحمة تجاهه، والأهمية القصوى لذلك. وحب الجار جزء أساسي لا يتجزّأ من الإيمان بالله وحبّه، لأنه في الإسلام لا إيمان حقيقي بالله ولا تقوى دون حبّ الجار. يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره، ما يحب لنفسه"(19). ومع ذلك فإن التلطف بالجار والتعاطف معه، وحتى أداء الصلوات المفروضة، ليست كافية، إذ لا بدََّ أن يصحب ذلك كرم وتضحية بالذات. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ(20) وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ( البقرة 2: 177). ويقول تعالى أيضًا: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران 3: 92). ودون أن نعطي الجار ما نحبّه لأنفسنا فإننا لا نكون محبّين بصدقٍ لله أو للجار.
    حب الجار في الإنجيل
    لقد أوردنا كلمات عيسى المسيح عليه السلام حول الأهمية القصوى لحب الجار التي تأتي في المقام الثاني بعد حبّ الله: "هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحبّ قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (إنجيل متّى 22: 38- 40). وأيضًا: "وثانية مثلها هي: تحبّ قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين" (إنجيل مرقس 12: 31). ويبقى أن نلاحظ أن هذه الوصية موجودة أيضًا في العهد القديم: "لا تبغض أخاك في قلبك. إنذارًا تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطيّة. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحبّ قريبك كنفسك. أنا الربّ" (سفر اللاويين 19: 17- 18). وهكذا فإن الوصية الثانية، مثل الأولى، تطالب بالكرم والتضحية بالذات، و"بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء".
    ثالثا: تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
    كلمة سواء
    في الوقت الذي يُعْتَبَر فيه الإسلام والمسيحية دينين مختلفين بوضوح، وفي نفس الوقت لا يوجد تقليلٌ لبعض الاختلافات الشكلية بينهما، من الواضح أن الوصيتين العظيمتين تشكلان مجالاً لأرضية مشتركة وصلةٍ بين القرآن الكريم والتوراة والعهد الجديد. وإن الذي يمهّد للوصيتين في التوراة والعهد الجديد وما تنبثقان منه هو وحدانية الله، بأن هناك فقط إله واحد، إذ أن نص "السماع" في التوراة (سفر التثنية 6: 4) تبدأ بعبارات: "اسمع يا إسرائيل: الربّ إلهنا رب واحد". ومثل ذلك يقول المسيح عليه السلام (إنجيل مرقس 12: 29): "إن أوّل كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل: الربّ إلهنا رب واحد". ويشبه ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص، 112: 1- 2). وعلى ذلك تشكّل وحدانية الله وحبّه وحبّ الجار أرضية مشتركة يتأسس عليها الإسلام والمسيحية (واليهودية).
    ولا يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك لأن عيسى المسيح عليه السلام قال: (إنجيل متى 22: 40): "بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء". وعلاوة على ذلك فإن الله يؤكد في القرآن الكريم أن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بشيء جديد بصورة أساسية أو جوهرية: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت 41: 43)، و{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف، 46: 9). وهكذا فإن الله أيضًا يؤكد في القرآن الكريم أن الحقائق الأزلية ذاتها بشأن وحدانية الله وضرورة الحبّ الخالص لله والإخلاص التام له سبحانه (ومن ثمّ اجتناب الطاغوت)، وضرورة حب إخوانك من بني البشر (ومن ثمّ العدالة)، كل ذلك يرتكز عليه الدين الحق برمته: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل 16: 36)، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 57: 25).
    (يتبع)...


  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كَلِمَةً سواء، بل طعنةً فى السُّوَيْدَاء!
    (القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار)د. إبراهيم عوض
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9



    تعالوا إلى كلمة سواء!
    يخاطب اللهُ تعالى المسلمين في القرآن الكريم بأن يعلنوا الدعوة التالية للمسيحيين (واليهود، أهل الكتاب): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران، 3: 64). ومن الواضح أن الكلمات المباركة: "ولا نُشرك به شيئًا" ترتبط بوحدانية الله. ومن الواضح أيضًا أن عبارة " ألاّ نعبد إلاّ الله" ترتبط بالإخلاص التام لله تعالى، ومن ثمّ فهي ترتبط بالوصية الأولى والأعظم. ووفقًا لأحد أقدم تفاسير القرآن الكريم وأكثرها مرجعية، وهو "جامع البيان في تأويل القرآن" لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (توفي سنة 310 هجرية/ 923 ميلادية) فإن معنى "ولا يتخّذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، أي "لا ينبغي لأيّ منا أن يطيع الآخرين فيما فيه مخالفة لأمر الله، وألا نعظّمهم بأن نخرّ ساجدين أمامهم كما السجود لله تعالى". وبعبارة أخرى إن المسلمين والمسيحيين واليهود يجب أن يكونوا أحرارًا في الاستجابة لأمر الله بأن يتبع كلّ منهم ما أمرهم الله به، وأن لا يخرّوا ساجدين أمام الملوك وأشباههم(21). ذلك أن الله تعالى يقول في مكان آخر في القرآن الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة، 2: 256). وهذا يرتبط بصورة واضحة بالوصية الثانية وبحب الجار حيث تشكل العدالة(22) وحرية الدين جزءًا أساسيًّا هامًّا منهما. يقول الله في القرآن الكريم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة 60: 8).
    وهكذا فإننا معشر المسلمين ندعو المسيحيين إلى أن يتذكروا كلمات عيسى المسيح عليه السلام في الإنجيل (إنجيل مرقس، 12: 29- 31)، وهي أن "الربّ إلهنا ربّ واحد. وتحبّ الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: تحبّ قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين". وكمسلمين نقول للمسيحيين إننا لسنا ضدهم، وإن الإسلام ليس ضدهم ما داموا لا يشنّون الحرب ضد المسلمين بسبب دينهم أو يضطهدونهم ويخرجونهم من ديارهم، وفقًا للآية الكريمة في القرآن الكريم– الممتحنة، 60: 8 المستشهد بها أعلاه. إضافة إلى ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران، 3: 113- 115)
    وهل الديانة المسيحية بالضرورة ضد المسلمين؟ يقول عيسى المسيح عليه السلام في الإنجيل: "مَنْ ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمّع معي فهو يفرّق" (إنجيل متّى 12: 30)، "لأنَّ مَنْ ليس علينا فهو معنا" (إنجيل مرقس 9: 40)، "لأنَّ من ليس علينا فهو معنا" (إنجيل لوقا 9: 50). ووفقًا لشرح العهد الجديد لغبطة الأسقف ثيوفيلاكت(23) فإن هذه العبارات ليست متناقضة، لأن العبارة الأولى (في النص اليوناني الفعلي للعهد الجديد) تشير إلى الشياطين، بينما تشير العباراتان الثانية والثالثة إلى الناس الذين اعترفوا بالمسيح، ولكنهم لم يكونوا مسيحيين. والمسلمون يؤمنون بعيسى عليه السلام باعتباره المسيح، ليس بالطريقة ذاتها التي يؤمن بها المسيحيون، إلا أنه على كل حال لم يتفق المسيحيون أنفسهم جميعًا أبدًا على طبيعة عيسى المسيح عليه السلام، وإنما إيمان المسلمين به بالطريقة التالية: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء، 4: 171). ولهذا فإننا ندعو المسيحيين إلى ألا يعتبروا المسلمين ضدهم، بل يعتبرونهم معهم وفقًا لكلمات عيسى المسيح عليه السلام التي أوردناها.
    وفي الختام، فإننا كمسلمين، نطلب من المسيحيين، استجابة للقرآن الكريم، أن يلتقوا معنا على الأساسيات المشتركة لدينَينا:{أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} (آل عمران، 3: 64). ولتكن هذه الأرضية المشتركة هي أساس جميع اجتماعات الحوار بين الأديان في المستقبل فيما بيننا لأن هذه الأرضية المشتركة هي التي بها "يتعلق الناموس كله والأنبياء" (إنجيل متّى 22: 40). يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة، 2: 136– 137).
    بيننا وبينكم
    إن إيجاد أرضية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين ليس مجرد مسألة حوار "مسكوني" مهذب بين صفوةٍ مختارة من القادة الدينيين، فالمسيحية والإسلام هما الدينين الأول والثاني من حيث عدد أتباعهما في العالم وفي التاريخ حيث يشكل المسيحيون والمسلمون حسب التقارير ما يزيد على ثلث العالم وخمسه على التوالي. وهم يشكلون معًا أكثر من 55٪ من عدد سكان العالم، مما يجعل حُسن العلاقة بين مجتمعات هذين الدينين أهم عامل من العوامل المساهمة في إحلال سلامٍ مُجْدٍ في أرجاء العالم. وإذا لم يكن المسلمون والمسيحيون في حالة سلام فلا يمكن للعالم أن ينعم بالسلام. ومع وجود الأسلحة الرهيبة في العالم الحديث، ومع تشابك المسلمين والمسيحيين في كل مكان كما لم يُعْهَد من قبل، لا يمكن في صراع بين أكثر من نصف سكان العالم أن يحرز جانب واحد نصرًا وحده. ولذلك فإن مستقبلنا المشترك في خطر، وربما كان بقاء العالم نفسه في خطر.
    ونقول لأولئك الذين يستسيغون النزاع والدمار من أجل أهوائهم بالرغم من ذلك أو يحسبون أنهم سوف يحققون الفوز في نهاية المطاف من خلال النزاع والدمار: إن أرواحنا الخالدة ذاتها في خطر أيضًا إذا ما أخفقنا في بذل كل الجهود المخلصة الممكنة لإحلال السلام والالتقاء معًا بانسجام. يقول تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل، 16: 90). ويقول عيسى المسيح عليه السلام: "طوبى لصانعي السلام" (إنجيل متّى 5: 9)، ويقول أيضًا: "لأنّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالَمَ كلَّه وخسر نفسه؟" (إنجيل متّى 16: 26). ولذلك فلنعمل على أن لا تسبّبَ اختلافاتُنا الكراهيةَ والشقاقَ بيننا، ولنتنافس فقط فيما بيننا في ميادين الفضيلة والخَيْرات، وليحترم بعضنا بعضا، ولنكن منصفين وعادلين وودودين بعضنا تجاه البعض الآخر، ولنعش في ظلال سلام مخلص، وبانسجام ونيّة طيبة متبادلة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة، 5: 48). والسلام عليكم.
    هوامش وتعليقات:
    1- الشهادتان بأنه "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" تَرِدَان كلتاهما كعبارات، وإن بصورة منفصلة، في القرآن الكريم (في محمّد، 47: 19، والفتح، 48: 29 على التوالي).
    2- سنن الترمذي، كتاب الدعوات،462/ 5، رقم 3383، سنن ابن ماجة، 1249/2.
    3- سنن الترمذي، كتاب الدعوات، حديث رقم 3934. ويبدأ الحديث بعبارة "خير الدعاء دعاء عرفة".
    من الجدير بالذكر أن العبارات الإضافية: "وحده لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" وردت جميعها في القرآن الكريم بهذا النص المذكور، وإن كان ورودها في مقاطع مختلفة: "وحده"، إشارةً إلى الله جلّ جلاله، نجدها قد وردت ست مرّات على الأقل في القرآن الكريم: (7 :70، 14: 40، 39: 45 ، 40: 12، 40: 84، 60: 4). "لا شريك له" نجدها بهذا النص ذاته مرّة واحدة على الأقل: (الأنعام 6: 173). "له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" نجدها هكذا تمامًا مرّة واحدة في القرآن الكريم: (التغابن 64: 1)، وأجزاء منها نجدها في عدد من المرات الأخرى (على سبيل المثال الكلمات: "وهو على كل شيء قدير" نجدها على الأقل خمس مرات: 5: 120، 11: 4، 30: 50، 42: 9، 57: 2).
    4- القلـب
    في الإسلام يعتبر القلب (الروحي لا المادي) عضو إدراك المعرفة الروحية والميتافيزيقية. وبخصوص واحدة من أعظم رؤى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله في القرآن الكريم: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم، 53 :11)، وأيضًا يقول الله تعالى في مكان آخر في القرآن الكريم: "فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج 22: 46. انظر الآية كاملة، وانظر أيضًا: 2: 9-10، 2: 74، 8: 24، 26: 88-89، 48: 4، 83: 14 وما بعدها). وفي الواقع هناك أكثر من مائة مرّة ذُكِر فيها القلب ومرادفاته في القرآن الكريم.
    والآن هناك أوجه فهم مختلفة بين المسلمين فيما يتعلق بالرؤية المباشرة لله تعالى (مقابل الحقائق الروحية في حدّ ذاتها)، سواء في هذه الحياة الدنيا أو الآخرة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن يوم القيامة: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة، 75: 22- 23). ومع ذلك يقول الله أيضًا في القرآن الكريم: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ* قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ" (الأنعام، 6: 102 – 104).
    ومهما يكن، فمن الواضح أن المفهوم الإسلامي للقلب (الروحي) لا يختلف كثيرًا عن المفهوم المسيحي له، كما يتضح من كلمات عيسى المسيح عليه السلام في العهد الجديد: "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (إنجيل متّى 5: 8)، وكلمات القديس بولس: "فإننا ننظر الآن في مرآةٍ في لغز، لكن حينئذ وجهًا لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأَعْرِف كما عُرِفْتُ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 13: 12).
    5- انظر أيضًا: لقمان، 31: 25.
    6- انظر أيضًا: النحل، 16: 3- 18.
    7- صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في فاتحة الكتاب (الحديث رقم 1). أيضًا: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب، (الحديث رقم 9)، رقم 5006.
    8- قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوامّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها. وأخّرَ الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة" (صحيح مسلم، كتاب التوبة، 2108/ 4، 2752/ 19. انظر أيضًا صحيح البخاري، كتاب الرقاق، رقم 6469).
    9- مخافة الله هي بداية الحكمة
    يُرْوَى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "رأس الحكمة مخافة الله" (مسند الشهاب 100/ 1، الدليمي، مسند الفردوس، 270/ 2، الحكيم الترمذي، نوادر الأصول في أخبار معرفة الرسول 84/ 3، البيهقي، الدلائل، والبيهقي، شُعَب الإيمان، وابن لال، المكارم، والأشعري، الأمثال، وغيرها). وهذا يشبه بوضوح كلمات النبي سليمان عليه السلام في الإنجيل: "بَدْءُ الحكمة مخافة الرب" (الأمثال 9: 10)، و"مخافة الرب بداية المعرفة" (الأمثال 1: 7).
    10- الذكاء والإرادة والعاطفة في القرآن الكريم
    وهكذا فإن الله تعالى يخاطب البشر في القرآن الكريم بأن يؤمنوا به ويدعونه (وبهذا يستعملون العقل أو الذكاء)، مستصحبين الرهبة (والتي تحفز الإرادة)، والأمل (ومن ثمّ العاطفة): {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة، 32: 15- 17)، {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف، 7: 55- 56). وأيضًا يصف القرآن الكريم النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات تُظْهِر المعرفة (ومن ثَمّ العقل أو الذكاء)، وتبعث في النفس الأمل (ومن ثمَّ العاطفة)، وتطبع فيها الرهبة والخشية (ومن ثمَّ تحفز الإرادة): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب، 33: 45، {إِِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الفتح، 48: 8).
    11- أسوة حسنة
    إن حبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى وإخلاصه التام له يمثّل، بالنسبة للمسلمين، القدوة التي يسعون إلى التأسي بها. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب، 33: 21).
    وهذا الحب بكليته يتنافى مع الإخلاد إلى الدنيا وحب الذات، وهو في حدّ ذاته جميل وأثير لدى المسلمين. حبّ الله في حدّ ذاته أثير لدى المسلمين. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات، 49: 7).
    12- هذا "الحب الخاص" هو علاوة على ذلك من رحمة الله العامة التي {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف، 7: 156). والله أعلم.
    13- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفات إبليس وجنوده، الحديث رقم 3329.
    صيغ أخرى للحديث الشريف:
    إن هذا الحديث الشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجود في عشرات الأحاديث (المروية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم) في سياقات مختلفة وبصيغ تختلف قليلا عن بعضها بعضًا.
    والحديث الذي استشهدنا به في أماكن مختلفة هنا: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" هو في واقع الأمر الصيغة الأقصر. والحديث موجود في صحيح البخاري: كتاب الأذان (رقم 852)، كتاب التهّجد (رقم 1163)، كتاب العمرة (رقم 1825)، كتاب بدء الخلق (رقم 3329)، كتاب الدعوات (الأرقام 6404، 6458، 6477)، كتاب الرقاق (رقم 6551)،، كتاب الاعتصام بالكتاب (رقم 7378)، وفي صحيح مسلم: كتاب المساجد (الأرقام 1366، 1368، 1370، 1371، 1380)، كتاب الحج (الرقمان 3009، 3343)، كتاب الذكر والدعاء (الأرقام 7018، 7020، 7082، 7084)، وفي سنن أبي داود: كتاب الوتر (الأرقام 1506، 1507، 1508)، كتاب الجهاد (الرقم 2772)، كتاب الخراج (رقم 2989)، كتاب الأدب (الأرقام 5062، 5073، 5079)، وفي سنن الترمذي: كتاب الحج (رقم 965)، كتاب الدعوات (الأرقام 3718، 3743، 3984)، وفي سنن النسائي: كتاب السهو (الأرقام 1347، 1348، 1349، 1350، 1351)، كتاب مناسك الحج (الأرقام 2985، 2997)، كتاب الأيمان والنذور (رقم 3793)، وفي سنن ابن ماجة: كتاب الأدب (رقم 3930)، كتاب الدعاء (الرقمان 4000، 4011)، وفي موطأ مالك: كتاب القرآن (الرقمان 492، 494)، كتاب الحج (رقم 831).
    وهناك صيغة أطول تشتمل على الكلمتين: " يُحْيي ويُميت": "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير" نجدها في سنن أبي داود: كتاب المناسك (رقم 1907)، وفي سنن الترمذي: كتاب الصلاح (رقم 300)، كتاب الدعوات (الأرقام 3804، 3811، 3877، 3901)، وفي سنن النسائي: كتاب مناسك الحج (الأرقام 2974، 2987، 2998، وفي سنن ابن ماجة: كتاب المناسك (رقم 3190).
    وهناك صيغة أخرى أطول تشتمل على الكلمتين: "بيده الخير": "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" نجدها في سنن ابن ماجة: كتاب الأدب (رقم 3931)، كتاب الدعاء (رقم 3994).
    وأطول صيغة، وهي التي تشتمل على الكلمات: "يُحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير": "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، يُحْيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" نجدها في سنن الترمذي: كتاب الدعوات (رقم 3756)، وفي سنن ابن ماجة: كتاب التجارات (رقم 2320)، مع وجود اختلاف في أن هذا الحديث الأخير فيه: "بيده الخير كله".
    ومن المهم أن نلاحظ مع ذلك أن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وصف الصيغة الأولى (الأقصر) فقط على أنها "خير ما قلت أنا والنبيّون من قبلى"، وعن تلك الصيغة فقط قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك".
    (هذه الاستشهادات تشير إلى نظام الترقيم في موسوعة الحديث: "جمع جوامع الأحاديث والأسانيد"، المنبثقة عن مشروع السنة، وهي قد تم إعدادها بالتعاون مع علماء الأزهر، وتشمل صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وموطأ مالك).
    14- الذكر المتكرر لله في القرآن الكريم
    إن القرآن الكريم مليء بالأمر بتسبيح الله أو ذكره بشكل متكرر: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الإنسان، 76: 25)، {فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء، 4: 103)، {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف، 7: 205)، {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (آل عمران، 3: 41)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب، 33: 41-42). وانظر أيضًا 2: 198- 200، 2: 203، 2، 238- 239، 3: 190- 191، 6: 91، 7: 55، 7: 180، 8: 45، 17: 110، 22: 27- 41، 34: 35- 38، 26- 227، 62: 9- 10، 87: 1- 17وغيرها.
    وعلى نحو مشابه فإن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد على الأهمية القصوى لذكر الله (انظر 2: 151- 157، 5: 4، 6: 118، 7: 201، 8: 2-4، 13: 26- 28، 14: 24-27، 20: 14، 20: 33- 34، 24: 1، 29: 45، 33: 35، 35: 10، 39: 9، 50: 37، 51: 55- 58، و33: 2، 39: 22- 23، و73: 8- 9 كما استشهدنا بها، وغيرها)، وأيضًا على النتائج الوخيمة التي تترتب على عدم ممارسة الذكر (انظر 2: 114، 4: 142، 7: 179- 180، 18: 28، 18: 100- 101، 20: 99- 101، 20: 124- 127، 25: 18، 25: 29، 43: 36، 53: 29، 58: 19، 63: 9، 72: 17 وغيرها. انظر أيضًا 107: 4- 6). ومن ثمَّ يقول الله تعالى في نهاية الأمر في القرآن الكريم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد، 57: 16) و{وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (طه،20: 42) و{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف، 18: 24).
    15- إن جميع النصوص الإنجيلية المستشهد بها هنا مأخوذة من "نسخة الملك جيمس الجديدة"، حقوق نسخ 1982، نشرتها دار "توماس نيلسون"، وقد استُعْمِلَتْ بإذن. وجميع الحقوق محفوظة.
    16- سنن الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث رقم 3934. حديث "خير الدعاء دعاء عرفة"، المصدر السابق.
    17- في أحسن تقويم
    تتشابه المسيحية والإسلام في فهمٍ مُفَاده أن الإنسان خُلِق في أحسن تقويم وأن الله نفخ فيه من روحه. ورد في سفر التكوين
    (سفر التكوين 1: 27): "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم". وأيضًا (سفر التكوين 2: 7): "وجَبَل الربُّ الإلهُ آدمَ ترابًا من الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيّة". وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "خلق الله آدم على صورته" (صحيح البخاري: كتاب الاستئذان، 1، صحيح مسلم، كتاب البر، 115، مسند ابن حنبل، 2: 244، 251، 315، 323، إلخ... وغيرها).
    {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} (الأعراف، 7: 11)، {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ* فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التين، 95: 1- 8)، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (غافر، 40: 64)، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ* فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم، 30: 29- 30)، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص، 38: 72)، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ* وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (البقرة، 2: 30-35).
    18- صحيح البخاري، كتاب الإيمان، الحديث رقم 13.
    19- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، 67- 1، الحديث رقم 45.
    20- يتفق المفسرون القدامى للقرآن الكريم عمومًا (انظر: تفسير ابن كثير، وتفسير الجلالين) على أن هذه إشارة إلى "الحركات الأخيرة" في صلاة المسلمين.
    21- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، (دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1992م/ 1412هـ)، تفسير سورة آل عمران، 3: 64، المجلد 3، ص 299- 302.
    22- وفقًا للنحويين الذين ذكرهم الطبري (المصدر السابق نفسه) فإن كلمة "سواء" في عبارة "كلمة سواء بيننا وبينكم" تعني أيضًا "عادل"، و"منصف".
    23- غبطة الأسقف ثيوفيلاكت (1055- 1108 ميلادية) كان رئيس الأساقفة الأرثوذكس في أوكريد (في مقدونيا) وبلغاريا (1090- 1108 ميلادية). كانت لغته الأم اليونانية التي كتب بها العهد الجديد. وشرحه متوفر حاليًّا بالإنجليزية من كريسوستوم برس".
    ***
    (يتبع)...


  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كَلِمَةً سواء، بل طعنةً فى السُّوَيْدَاء!
    (القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار)د. إبراهيم عوض
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9


    هذا ما قالته الرسالة والسطور التى قدمتْها إلى الجمهور. والآن وبعد أن أوردنا نصيهما كاملين فأول شىء نقف عنده ما جاء فى السطور التمهيدية من أن كتابة البيان الأول الذى وقعه 38 عالما مسلما هى المرة الأولى فى التاريخ الحديث التى يتحدث فيها العلماء المسلمون من جميع فئات المسلمين بصوت واحدٍ حول التعاليم الحقيقية للإسلام. وهو كلام من الممكن جدا أن يُفْهَم على أن المسلمين قبل ذلك كانوا يظهرون شيئا ويخفون أشياء، فكانوا يزعمون أن الإسلام هو كذا وكذا، على حين أن الإسلام ليس كذا وكذا، بل كَيْت وذَيْت. ما هذا الكلام العجيب؟ وما معناه؟ وماذا يقصد به كاتبوه؟ هل لدى المسلمين ما يخفونه من عورات فى دينهم فهم يتحدثون عن شىء غير ما يتضمنه هذا الدين؟ فما هو يا ترى؟ هل دينهم يأمرهم مثلا بشىّ الأطفال أحياء وأكلهم هنيئا مريئا، على حين أنهم إذا خاطبوا الآخرين زعموا أن الإسلام يوجب احترام النفس الإنسانية وعدم مسها بأذى؟ إن هذا الكلام لا يمكن أن يعنى إلا أننا قد درجنا على إخفاء حقيقة ديننا. لكن لماذا؟ وما الذى فى ديننا مما يستدعى هذا الإخفاء؟ وهل يمكن أصلا القيام بهذا الإخفاء؟ هل القرآن وأحاديث الرسول وثائق سرية محفوظة فى خزائن لدى الحبر الأعظم فى الإسلام لا يطلع عليها إلا هو وكبار مساعديه؟ إن الإسلام هو دين الوضوح الأول فى العالم، وإن الدنيا كلها لتعرف القرآن والأحاديث حق المعرفة منذ أول يوم من بزوغ ضيائه الباهر، وليس لدينا بحمد الله ما يمكن أن نفكر فى إخفائه، فلم هذا الكلام العجيب إذن؟ وإن الذين يتوَلَّوْن كِبْر معاداة الإسلام والكيد للمسلمين لهم الذين يخفون حقائقه العظيمة عن مواطنيهم وأتباعهم ويشنون دائما حربا ضروسا ضده ويكذبون ويدلّسون كى يشوهوا صورته الناصعة النقية. وما صنيع المستشرقين والمبشرين فى هذا الصدد منذ أقدم العصور بالذى يجهله المطلع على تاريخهم مع دين الله. ويبدو لى أنْ لو أراد أحد من أعداء الإسلام الإساءة إليه فى هذه النقطة ما صنع أسوأ من ذلك.
    وثانى أمر هو قول الوثيقة إنه قد "تلاقى ثمانية وثلاثون ومائة عالمًا من العلماء ورجال الدين والمفكرين المسلمين بالإجماع لأول مرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا على الملأ القاسم المشترك بين المسيحية والإسلام". وتعليقنا على ذلك هو أن كلمة "الإجماع" هنا مضللة تماما، فالإجماع لا يتحقق بمائة وثلاثين عالما لا يشكلون نسبة تذكر بين علماء المسلمين الذين يُعَدُّون فى هذا العصر بعشرات الآلاف. وعلى هذا فإن ما تقوله السطور المذكورة من أن "الموقعين على هذه الوثيقة ينتمون إلى جميع المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية مثل الموقعين على الرسالة المفتوحة. كما وقد مُثِّلت جميع البلدان أو المناطق الرئيسية الإسلامية في العالم في هذه الوثيقة الموجهة إلى قيادات الكنائس في العالم، بل إلى جميع المسيحيين في كل مكان" لا يعنى أبدا أن هناك إجماعا على هذا الكلام. وبالمثل فإن ما نقرؤه عقب هذا من أن "الصيغة النهائية للوثيقة قُدِّمَتْ في المؤتمر الذي عقدته في شهر أيلول (سبتمبر) 2007 الأكاديمية الملكية التابعة لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بعنوان "الحب في القرآن الكريم" برعاية صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين" لنا عليه سؤال: ترى متى كان مؤتمر، أى مؤتمر، يمثل الإجماع بالمعنى المعروف فى الإسلام؟
    ويزداد الأمر خطورة حين نجد صائغى المقدمة يزعمون أن الموقِّعين على الوثيقة إنما يتبَنَّوْن "الموقف الإسلامي التقليدي الذي تتبناه غالبية المسلمين والقائم على احترام كتب الله قبل القرآن الكريم، ودعوة المسيحيين إلى المزيد من الإخلاص لها والتمسّك بها، لا التقليل من ذلك الإخلاص". ذلك أن العبارة التى صيغ بها هذا الكلام تتعمد التلبيس والتعمية وخلط الأمور، وإلا فما علاقة إيمان المسلمين (المسلمين كلهم لا الغالبية منهم كما تقول الرسالة خطأً) بأن التوراة والإنجيل كتابان سماويان، ما علاقة ذلك بما تستشهد به الوثيقة ذاتها من كتب اليهود والنصارى الحالية، تلك الكتب التى هى تحريف للتوراة والإنجيل الحقيقيين كما نعرف من القرآن الكريم؟ كما أن العبارة تتعمد الخلط بين نصوص الكتاب المقدس التى استشهدتْ بها الوثيقة وبين فهم النصارى لتلك النصوص، وهو فهم يبعدها أكثر مما هى مبتعدة أساسا عن أصلها السماوى؟ وفوق هذا فإن الوثيقة تتجاهل عن عمدٍ نصوصا أخرى فى الكتاب المقدس تتناقض تمام التناقض مع القرآن الكريم ولا يمكن أن يغضى المسلم الطَّرْف عنها، وبخاصة فى ذلك السياق الغريب الذى يبدو الأمر معه وكأنه قد تم تدبيره بليل.
    كذلك فإن عبارة "كلمة سواء"، التى قصد بها أصحاب الوثيقة تلك الأمور التى يتفق عليها الطرفان: المسلم والنصرانى، بمعنى الابتعاد عن نقاط الاختلاف والتركيز فقط على نقاط التلاقى، وهو ما يتضح من نص البيان نفسه، وكذلك من الترجمة الإنجليزية لتلك العبارة حسبما وردت فى النص الإنجليزى من البيان: "A Common Word"، هذه العبارة تحتاج إلى وقفة. ذلك أن وضع الأمور على ذلك النحو هو فى الحقيقة تمييع للقضية ومناقضة لما جاء فى القرآن متمثلا فى أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران/ 64). ومعنى الآيات هو دعوة الرسول لأهل الكتاب من النصارى المثلثين إلى كلمة حق وصدق فى حق عيسى عليه السلام، إذ هو فى الإسلام مجرد عبد لله لا إله ولا ابن لله حسبما هو معلوم، وحسبما تقول الآيات السابقة على تلك الآية مثلا: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ". ومن المعروف تمام المعرفة من هذه الآيات ومن غيرها أن القرآن لا يقر النصارى على ما يقولونه فى السيد المسيح من تأليهه والقول بأنه ابن الله، ويريدهم أن يعودوا عن ذلك القول، ومن ثم دعاهم الرسول إلى المباهلة، أى الملاعنة. ولا يعقل أنه قد دعاهم إلى تلك المباهلة من أجل الاتفاق على محبة الجار أو عبادة الله، إذ كان كل من الفريقين يعبد الله، إلا أن كلا منهما ينظر إليه سبحانه نظرة مغايرة تماما لنظرة الآخر مما هو معروف لكل أحد، وإلا فهو التدليس الأبلق الذى لا يمكن اغتفاره أو التغاضى عنه، إذ الناس لا تتلاعن إذا كانت متفقة فى الرؤية والموقف، بل تتلاعن حين يكون بينها تناقض لا يمكن حسمه بالحوار والعقل، فيرى عندئذ الطرف الواثق بنفسه المؤمن بأنه على الحق أن يدعو الطرف الآخر المعاند إلى الملاعنة، فيبتهلان إلى الله أن يهلك الكاذب منهما. ولقد نكص الطرف النصرانى فى تلك الواقعة عن المباهلة وعَرَض دفع الجزية بدلا من هذا كما ورد فى سبب نزول تلك الآيات. أما محبة الجار فسوف نأتى إليها عما قليل.
    وفى البيان لون من التدليس الرخيص، إذ يحاول كاتبوه إقناعنا بأن النصرانية توحد الله مثلما يوحده الإسلام، فيقول كاتبوه إن السيد المسيح قد ذكر أن أول الوصايا لبنى إسرائيل هى: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا إله واحد"، إذ السؤال هو: هل يؤمن النصارى بأن الله واحد أحد لا شريك له كما نؤمن نحن المسلمين؟ بطبيعة الحال فإن السيد المسيح كان يؤمن بوحدانية الله كما كان رسول الله يؤمن بها، إلا أن الحوار المراد لن يكون بيننا وبين السيد المسيح، بل بيننا وبين النصارى المثلثين الذين يزعمون أن عيسى بن مريم هو الرب، وأن أمه هى أم الرب. وشتان الطريقان. وقد وصف الله سبحانه فى القرآن عقيدة التثليث بأنها شرك وكفر، وتوعدهم على ذلك بالعذاب الأليم. وهذه بعض من تلك النصوص القرآنية الكريمة:
    ففى سورة "المائدة" يقول سبحانه: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)"، "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)"، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)"، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)". وفى سورة "النساء" نقرأ: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)".
    فلماذا التعمية والتضليل إذن وخلط الأوراق بعضها ببعض؟ إن كتبة البيان يلجأون إلى حيلة عجيبة لا تجوز إلا على الأغرار، ألا وهى الاستشهاد ببعض آيات الأناجيل دون بعض، وهذه الأناجيل هى من صنع البشر كما هو معلوم، فضلا عن أن الآيات المستشهَد بها لا تمثل كل النصوص المتعلقة بالقضية التى بين أيدينا، إذ هناك نصوص أخرى تقول شيئا آخر، كما أن النصارى المثلثين يفهمون النصوص المستشهَد بها فهما آخر غير ما يريد كُتّاب البيان توصيله إلينا، وإلا فلماذا يعبدون المسيح عليه السلام؟ ولماذا يسبون الله رب العالمين الذى نؤمن نحن المسلمين به؟ ولماذا يشتمون النبى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ مرة أخرى نحن لا نتدخل فى إيمان أحد، ولا نقول بإكراه أحد على متابعتنا فيما نؤمن به، لكننا فى ذات الوقت لا نقبل أبدا أن نُقَاد من أنوفنا ونحن مبصرون.
    وإلى القراء بعضا من تلك النصوص التى تجاهلها كتبة البيان: "13حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. 14وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» 15فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. 16فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، 17وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». 1ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. 2فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. 3فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا». 4فَأَجَابَ وَقَالَ:«مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ». 5ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، 6وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ»" (متى/ 3- 4). "21«لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 22كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَارَبُّ، يَارَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (متى/ 7). "28وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ، اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدًّا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ. 29وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ:«مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟" (متى/ 8). "13وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً:«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» 14فَقَالُوا:«قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 15قَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» 16فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ:«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!». 17فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 18وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. 19وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ»" (متى/ 16). "1وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. 2وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. 3وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. 4فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا»" (متى/ 17). "41وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ 42قَائلاً:«مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ:«ابْنُ دَاوُدَ». 43قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا؟ قَائِلاً: 44قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. 45فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» 46فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ" (متى/ 22). "1وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. 2وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. 3وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. 4فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. 5فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ :«لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. 6لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. 7وَاذْهَبَا سَرِيعًا قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا»" (متى/ 28). "16وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. 17وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. 18فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ" (متى/ 28).
    كذلك فقد استشهد كاتبو البيان بقوله تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" بوصفه أحد الأسس التى ينبغى أن يقوم عليها الحوار بين المسلمين والنصارى. والآية تطلب من الطرف الآخر غير المسلم أن يعلنوا إيمانهم بكل الأنبياء لا يفرّقون بين أحد منهم وأن يؤمنوا بما آمن به المسلمون، وهو أن محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن عيسى ليس إلا عبدا ورسولا له سبحانه، لا إلها ولا ابنا للإله، وإلا ما كانوا مهتدين، ولَعُدَّ هذا توليا وشرودا منهم عن الحق، فما قول صائغى البيان فى هذا؟ أم هو مجرد رَصّ كلام، والسلام؟
    ثم إن الرسالة حين تتحدث عن حب الله فى القرآن الكريم لا تجد إلا قوله تعالى: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً"، مع أنه ليس فى الحب، بل فى الذِّكْر والتبتُّل. ولقد كان بإمكان المستشهدين أن يسوقوا النصوص التالية: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" (البقرة/ 165)، "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران/ 31)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة/ 54)، "قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة/ 24)، لكنهم لم يفعلوا، ولا أدرى لماذا، إلا أن يكون السبب فى ذلك هو الكسل العقلى والرغبة العاجلة الملحة فى إصدار الوثيقة على أى نحو إرضاءً للطرف الآخر كى يستغلها فى أنحاء الدنيا كلها، وبخاصة بين جماهير العالم الإسلامى، وهى المستهدَفة بهذه الوثيقة فى الأساس تحطيما لاعتزازها بدينها وإيمانها أنه هو وحده الدين الحق، فى الطنطنة بأن المسلمين لا يجدون فى دين النصارى بوجه عام شيئا يخالف ما عندهم.
    (يتبع)...


  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كَلِمَةً سواء، بل طعنةً فى السُّوَيْدَاء!
    (القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار)د. إبراهيم عوض
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    ومن الطوامّ الكبرى أن يستشهد كُتّاب البيان بما قاله بولس بوصفه حجة موثوقة ويعلنوا تبجيلهم له ولما يقول، ملقبين إياه بــ"القديس" رغم معرفتنا أنه هو الذى حوّل دعوة عيسى التوحيدية الصافية إلى ديانة تقول بثلاثة: الآب والابن والروح القدس، وتؤله المسيح عليه الصلاة والسلام، وكان أولَ ما قاله فى هذا السبيل ادعاؤه المضحك بأنه رأى الله فى أفق السماء يشكو سبحانه إليه مما كان يُنْزِله به من اضطهاد وأذى. تصوروا! الله جلت قدرته يشكو إلى بولس ظلم بولس له واضطهاده إياه؟ أى إلهٍ ذلك يا ترى؟ جاء فى الإصحاح التاسع من سفر "أعمال الرسل": "1أَمَّا شَاوُلُ (وهذا هو الاسم الآخر لبولس) فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ 2وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. 3وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، 4فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ:«شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» 5فَقَالَ:«مَنْ أَنْت َيَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ:«أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ». 6فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ:«يَارَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:«قُمْ وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ». 7وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَدًا. 8فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ الأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَدًا. فَاقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. 9وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ". ولكى أُضْحِك القارئ أسوق إليه الترجمة الكاثوليكية والترجمة البولسية والترجمة المشتركة لهذا النص، فهى تعطينا المعنى الأصلى دون تزويق، ومن هنا نراها قد ترجمت قول بولس: "من أنت يا سيد؟" إلى "من أنت يا رب؟". ووجه الإضحاك أن بولس كان يعرف أنه يخاطب الله، ومع ذلك يسأله: "من أنت يا رب؟". ترى هل للسؤال فى هذه الحالة من معنى؟ إن بولس فى الواقع إنما يغنى ويرد على نفسه، إذ السؤال يتضمن الجواب كما هو واضح.
    تقول الترجمة الكاثوليكية: "1أََمَّا شاول ما زالَ صَدرُه يَنفُثُ تَهديدًا وتَقتيلاً لِتَلاميذِ الرَّبّ. فقَصَدَ إِلى عَظيمِ الكَهَنَة، 2وطَلَبَ مِنه رَسائِلَ إِلى مَجامِعِ دِمَشق، حتَّى إِذا وَجَدَ أُناسًا على هذِه الطَّريقَة، رِجالاً ونِساء، ساقَهم موثَقينَ إِلى أُورَشَليم.3وبَينَما هو سائِرٌ، وقَدِ اقتَرَبَ مِن دِمَشق، إِذا نورٌ مِنَ السَّماءِ قد سَطَعَ حولَه، 4فسَقَطَ إِلى الأَرض، وسَمِعَ صَوتًا يَقولُ له: شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟ 5فقال: مَن أَنتَ يا ربّ؟ قال: أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ تَضطَهِدُه. 6ولكِن قُمْ فادخُلِ المَدينة، فيُقالَ لَكَ ما يَجِبُ علَيكَ أَن تَفعَلِ.7وأَمَّا رُفَقاؤُه فوَقَفوا مَبْهوتين يَسمَعونَ الصَّوتَ ولا يَرَوْنَ أَحَدًا.8فنَهَضَ شاولُ عنِ الأَرض وهُو لا يُبصِرُ شَيئًا، مع أَنَّ عَينَيهِ كانَتا مُنفَتِحَتَين. فاقتادوه بِيَدِه ودَخَلوا به دِمَشق.9فلَبِثَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَكْفوفَ البَصَر لا يأكُلُ ولا يَشرَب".
    وتقول الترجمة البولسية: "1أَمَّا شاوُلُ فَإِذ كانَ لا يزالُ يَقْذِفُ على تَلاميذِ الرَّبِّ، تَهديدًا وقَتْلاً، أَقبلَ على رَئيسِ الكَهَنةِ 2وطَلَبَ مِنهُ رَسائلَ إلى مَجامِعِ دِمَشْقَ، حتَّى إِذا ما وَجَدَ أُناسًا على هذا المَذْهَبِ، رِجالاً أَوْ نِساءً، يَسوقُهم مُوثَقينَ الى أُورَشليم. 3وفيما هُوَ ماضٍ، وقدِ اقْتَربَ مِن دِمَشْقَ، أَبْرقَ حولَهُ بَغْتةً نورٌ منَ السَّماء؛ 4فَسَقطَ على الأَرْضِ وسَمعَ صَوْتًا يَقولُ لَه: شاوُلُ، شاوُلُ، لِمَ تَضْطَهدُني؟ 5فقال: مَنْ أَنْتَ، يا ربّ؟ قال: أَنا يَسوعُ الذي تضْطَهِدُهُ؛ 6ولكِن انهَضْ، وادْخُلِ المدينةَ، فيُقالَ لَكَ ماذا يَنْبغي أَنْ تَفْعل. 7 أَمَّا الرِّجالُ المُسافِرونَ مَعَهُ فَوَقَفوا مَبْهوتينَ، يَسْمعونَ الصَّوتَ ولا يَرَوْنَ أَحدًا. 8فنهَضَ شاولُ عنِ الأَرضِ، ولم يكُنْ يُبْصِرُ أَحدًا مَعَ أَنَّ عَينَيْهِ كانَتا مَفْتوحَتَيْن. فاقْتادوهُ بِيَدهِ وأَدْخَلَوهُ دِمَشْق. 9فَلَبِثَ ثَلاثةَ أيَّامٍ لا يُبْصِرُ ولا يَأْكُلُ ولا يَشْرب".
    وتقول الترجمة المشتركة: "1أمَّا شاولُ فكانَ يَنفُثُ صَدرُهُ تَهديدًا وتَقتيلاً لِتلاميذِ الرَّبِّ. فذهَبَ إلى رَئيسِ الكَهنَةِ 2وطلَبَ مِنهُ رسائِلَ إلى مجامِـعِ دِمَشقَ، ليَعتَقِلَ الرِّجالَ والنِّساءَ الذينَ يَجدُهُم هُناكَ على مَذهَبِ الرَّبِّ ويَجيءَ بِهِم إلى أُورُشليمَ.3وبَينَما هوَ يَقتَرِبُ مِنْ دِمَشقَ، سَطَعَ حَولَهُ بغتةً نُورٌ مِنَ السَّماءِ، 4فوقَعَ إلى الأرضِ، وسَمِعَ صَوتًا يَقولُ لَه: شاوُلُ، شاوُلُ، لِماذا تَضطَهِدُني؟ 5فقالَ شاوُلُ: مَنْ أنتَ، يا ربُّ؟ فأجابَهُ الصَّوتُ: أنا يَسوعُ الذي أنتَ تَضْطَهِدُهُ. [صَعْبٌ علَيكَ أنْ تُقاوِمَني. 6فقالَ وهوَ مُرتَعِبٌ خائِفٌ: يا ربُّ، ماذا تُريدُ أن أعمَلَ؟ فقالَ لَه الرَّبُّ:] قُمْ واَدخُلِ المدينةَ، وهُناكَ يُقالُ لَكَ ما يَجبُ أنْ تَعمَلَ.7وأمَّا رِفاقُ شاوُلَ فوَقَفوا حائِرينَ يَسمَعونَ الصَّوتَ ولا يُشاهِدونَ أحدًا.8فنهَضَ شاوُلُ عَنِ الأرضِ وفتَحَ عَينَيهِ وهوَ لا يُبصِرُ شيئًا. فقادوهُ بِـيَدِهِ إلى دِمَشقَ. 9فبَقِيَ ثلاثةَ أيّامٍ مكفوفَ البَصَرِ لا يأكُلُ ولا يَشرَبُ".
    والعجيب الغريب أن الله يترك بولس يضطهده ويؤذيه دون أن يتعرض له بعقاب يَرْدَعه ويُلْزِمه حدودَه مع رب الكون، لكنه لما تاب وأناب وآمن طمس على عينيه لمدة ثلاثة أيام. أى إيمان ذلك الذى يبدأ بمثل هذا العمى الحيسى؟ وأعجب من ذلك وأغرب أن أحدا لم ير المسيح، الذى هو الله فى هذا النص، مع أن الناس جميعا كانوا يَرَوْن المسيح طوال عمره، حين كان يعيش بين ظهرانيهم، دون أدنى مشكلة، ولم يحدث قط أن بهر عيونهم بضياء، بل كانوا يَرَوْنَه كما هو بشرا يمشى ويتكلم ويأكل ويشرب وينام. بل إنه قد رؤى بعد موته كما تقول الأناجيل المؤلفة. فلماذا يكتفى هنا بأن يظهر على هيئة نور، ولبولس وحده دون الباقين؟ ترى هل يمكن تصديق مثل تلك الحكاية؟ وأعجب وأعجب وأعجب من ذلك وأغرب أن يأتى بولس بعد هذا فيقول فى موضع آخر من "أعمال الرسل" كلاما مختلفا عما قرأناه هنا، إذ يحكى بنفسه القصة قائلاً إنه هو الوحيد الذى سمع كلام الرب يسوع وهو فى أفق السماء، أما الباقون فلم يسمعوا مما قال الرب كلمة واحدة، وإن كانوا قد رَأَوُا النور مثله، وهو ما يعاكس الرواية الأولى المذكورة فى الإصحاح التاسع التى تقول إنه وحده هو الذى رأى نور الرب، أما هم فكانوا يسمعون ما يقوله الرب دون أن يَرَوْا شيئا. وهذا هو نص روايته للحكاية كما وردت فى الإصحاح الثانى والعشرين من "أعمال الرسل": "6فحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ النَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ السَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ. 7فَسَقَطْتُ عَلَى الأَرْضِ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا قَائِلاً لِي: شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ 8فَأَجَبْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ لِي: أَنَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. 9وَالَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا النُّورَ وَارْتَعَبُوا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الَّذِي كَلَّمَنِي. 10فَقُلْتُ: مَاذَا أَفْعَلُ يَارَبُّ؟ فَقَالَ لِي الرَّبُّ: قُمْ وَاذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ. 11وَإِذْ كُنْتُ لاَ أُبْصِرُ مِنْ أَجْلِ بَهَاءِ ذلِكَ النُّورِ، اقْتَادَنِي بِيَدِي الَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَجِئْتُ إِلَى دِمَشْقَ". ثم يأتى بعض المحسوبين على علمائنا فيسمونه: "القديس بولس"! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ! والله فيكم الخير أيها العلماء، فأنتم أهل الجود والكرم!
    ويقول بولس أيضا فى أول فقرة من رسالته إلى أهل رومية، وهى أول رسالة فى العهد الجديد، مؤلها عيسى عليه السلام:"1بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ، 2الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، 3عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، 4وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا. 5الَّذِي بِهِ، لأَجْلِ اسْمِهِ، قَبِلْنَا نِعْمَةً وَرِسَالَةً، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ، 6الَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مَدْعُوُّو يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 7إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ اللهِ، مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". أفيصح أن يسمى المسلمُ بولسَ بعد هذا: قديسا؟ كذلك فبولس هذا هو الذى عبث بالتشريعات الموسوية بعدما أكد سيدنا عيسى عليه السلام فى الأناجيل التى بين أيدينا أنه ما جاء لينقضها بل ليكمل، فأتى بولس رغم ذلك وأحل الخنزير وألغى الختان...
    وعلى هذا فإن ما جاء فى البيان الذى نحن بصدده الآن من الإشارة إلى قوله سبحانه وتعالى فى سورة "البقرة" من أن "مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" إنما يعنى عكس ما يريد كُتّابه، فالطرف النصرانى يتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله، على حين أن المسلمين أشد حبا لله، ولا يتخذون أى ند له جل وعلا. فنحن إذن وهُمْ على طَرَفَىْ نقيض فى هذه النقطة الخطيرة التى لا يمكن إغفالها أو التقليل أبدا من شأنها كما يحاول كتبة البيان أن يفعلوا ظنا منهم أننا لسنا متنبهين إلى ما يصنعون، وهيهات!
    كذلك فليس فى كتب التفسير أن "كلمة سواء" معناها الأمور التى يتفق عليها المسلمون والنصارى وإغضاء المسلمين عن إشراك المثلِّثين وكفرهم بالرسول عليه الصلاة والسلام، فضلا عن تطاولهم عليه ورميه بكل نقيصة والزعم بأن دينه دين الإرهاب، بل معناها هو الذى قلناه: ففى الطبرى نقرأ: "{إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء}: يعنـي إلـى كلـمة عدل {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. والكلـمة العدل هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا. وقوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا}، يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بـالطاعة فـيـما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بـالسجود له كما يسجد لربه". وفى الزمخشرى: "{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}: مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل (يقصد التوراة والإنجيل الصحيحين لأن القرآن يتهم اليهود والنصارى بتحريف كتبهم على ما هو معروف). وتفسير "الكلمة" قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ}. يعني: تعالَوْا إليها حتى لا نقول: عُزَيْرٌ ابن الله، ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا وبشر مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله، كقوله تعالى: {ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـٰهًا وٰحِدًا} (التوبة/ 31). وعن عَدِيّ بن حاتم: "ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال: أليس كانوا يُحِلّون لكم ويُحَرّمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال: هو ذاك". وفى القرطبى: "والسواء: العدل والنصفة. قاله قتادة... فالمعنى أجيبوا إلى ما دُعِيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق. وقد فسرها بقوله تعالى:{أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ}... الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ}، أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى: {ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ} (التوبة/ 31). معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرّمه الله ولم يحلّه الله". وفى ابن كثير: "{سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها. ثم فسرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل. قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ} (الأنبياء/ 25)، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ} (النحل/ 36). ثم قال تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ}. قال ابن جريج: يعني: يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة: يسجد بعضنا لبعض". وفى الشوكانى: "السواء: العدل... فالمعنى: أَقْبِلوا إلى ما دُعِيتم إليه، وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق. وقد فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ}... وفي قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعُزَيْر، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلَّل ما حلّلوه له، وحرَّم ما حرَّموه عليه. فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قَلّده ربا. ومنه {ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ} (التوبة/ 31)".
    وبالنسبة إلى سبب نزول تلك الآية يقول السيوطى فى "لباب النقول فى أسباب النزول": "أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم راهِبَا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَعْجَل حتى يؤامِر ربه، فنزل عليه: "ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم... من الممترين". وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس، قال: إن رهطا من نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك، تَذْكُر صاحبنا؟ قال: من هو؟ فقالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله. فقال: أجل. فقالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أُنْبِئُتَ به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أَتَوْك: "إن مَثَل عيسى عند الله كمَثَل آدم... من الممترين". وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه "طس" سليمان: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي... الحديث. وفيه: فبعثوا إليه شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبارا الحرثي، فانطلقوا فأَتَوْه فسألهم وسألوه، فلم يزل بهم وبه المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم. فأصبح الغد، وقد أنزل الله آيات "إن مثل عيسى عند الله... فنجعل لعنة الله على الكاذبين". وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن الأزرق بن قيس، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أسقف نجران والعاقب فعرض عليهما الإسلام، فقالا: إنما كنا مسلمَيْن قبلك. قال: كذبتما! إنه منع منكما الإسلام ثلاث: قولكما: اتخذ الله ولدا، وأكلكما لحم الخنزير، وسجودكما للصنم. قالا: فمن أبو عيسى؟ فما درى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يردّ عليهما حتى أنزل الله "إن مَثَل عيسى عند الله... وإن الله لهو العزيز الحكيم"، فدعاهما إلى الملاعنة، فأبيا وأقرا بالجزية ورجعا".
    وفى تفسير الطبرى أنه "لـما فَصَل جل ثناؤه بـين نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم وبـين الوفد من نصارى نـجران بـالقضاء الفـاصل والـحُكْم العادل أَمَرَه، إنْ هم تولَّوْا عما دعاهم إلـيه من الإقرار بوحدانـية الله وأنه لا ولد له ولا صاحبة وأن عيسى عبده ورسوله وأبَوْا إلا الـجدل والـخصومة، أن يدعوهم إلـى الـملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلـما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انـخذلوا فـامتنعوا من الـملاعنة ودَعَوْا إلـى الـمصالـحة، كالذي حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير عن مغيرة عن عامر، قال: فأمره... بـملاعنة أهل نـجران بقوله: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ... الآية". فتواعدوا أن يلاعنوه، وواعدوه الغد، فـانطلقوا إلـى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم، فـانطلقوا إلـى رجل منهم عاقل فذكروا له ما فـارقوا علـيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما صنعتـم؟ ونَدَّمهم وقال لهم: إن كان نبـيا ثم دعا علـيكم لا يغضبه الله فـيكم أبدا، ولئن كان ملكا فظهر علـيكم لا يستبقـيكم أبدا. قالوا: فكيف لنا، وقد واعَدْنا؟ فقال لهم: إذا غدوتـم إلـيه فعرض علـيكم الذي فـارقتـموه علـيه فقولوا: نعوذ بـالله! فإن دعاكم أيضا فقولوا له: نعوذ بـالله! ولعله أن يعفـيكم من ذلك. فلـما غَدَوْا غدا النبـيّ صلى الله عليه وسلم مـحتضنًا حَسَنًا آخذًا بـيد الـحسين، وفـاطمة تـمشي خـلفه، فدعاهم إلـى الذي فـارقوه علـيه بـالأمس فقالوا: نعوذ بالله! ثم دعاهم فقالوا: نعوذ بـالله! مرارًا. قال: فإنْ أبَـيْتُـمْ فأسْلِـمُوا، وَلَكُمْ ما لِلْـمُسْلِـمِينَ وَعَلَـيْكُمْ ما علـى الـمُسْلِـمينَ كما قال الله عزَّ وجلّ. فإنْ أبَـيْتُـمْ فأعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وأنْتُـمْ صَاغِرُونَ كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا. قال: فإنْ أبَـيْتُـمْ فَإنّـي أنْبِذُ إلَـيْكُمْ عَلـى سَوَاءٍ كما قال الله عزّ وجلّ. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الـجزية. قال: فجعل علـيهم فـي كل سنة ألفـي حُلّة: ألفـًا فـي رجب، وألفـًا فـي صفر. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أتانِـي البَشِيرُ بِهَلَكَةِ أهْلِ نَـجْرَانَ حتـى الطَّيْر علـى الشَّجَرِ أوِ العَصَافِـير عَلـى الشَّجَرِ لو تَـمّوا علـى الـمُلاَعَنَة... حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة عن ابن إسحاق عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: "إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ... إلـى قوله: فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، فدعاهم إلـى النَّصَف وقطع عنهم الـحجة. فلـما أتـى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الـخبرُ من الله عنه والفصلُ من القضاء بـينه وبـينهم، وأَمَرَه بـما أمره به من ملاعنتهم إن ردّوا علـيه دعاهم إلـى ذلك، فقالوا: يا أبـا القاسم دعنا ننظر فـي أمرنا ثم نأتـيك بـما نريد أن نفعل فـيـما دعوتنا إلـيه. فـانصرفوا عنه، ثم خَـلَوْا بـالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد الـمسيح، ما ترى؟ قال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتـم أن مـحمدًا نبـيّ مرسل. ولقد جاءكم بـالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علـمتـم ما لاعَنَ قومٌ نبـيًّا قط فبقـي كبـيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصالُ منكم إن فعلتـم. فإن كنتـم قد أبـيتـم إلا إلف دينكم والإقامة علـى ما أنتـم علـيه من القول فـي صاحبكم فوادِعُوا الرجل ثم انصرِفوا إلـى بلادكم حتـى يريكم زمنٌ رأيه. فأَتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبـا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك وأن نتركك علـى دينك ونرجع علـى ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بـيننا فـي أشياء قد اختلفنا فـيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضًا... حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط عن السدي: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ... الآية"، فأخذ... النبـيُّ صلى الله عليه وسلم بـيد الـحسن والـحسين وفـاطمة، وقال لعلـيّ: اتْبَعْنَا‍. فخرج معهم، فلـم يخرج يومئذ النصارى وقالوا: إنا نـخاف أن يكون هذا هو النبـيّ صلى الله عليه وسلم، ولـيس دعوة النبـيّ كغيرها. فتـخـلفوا عنه يومئذ. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ خَرَجُوا لاَحْتَرَقُوا". فصالـحوه علـى صلـح علـى أن له علـيهم ثمانـين ألفـًا، فما عجزت الدراهم ففـي العروض الـحلة بأربعين، وعلـى أن له علـيهم ثلاثًا وثلاثـين درعًا، وثلاثًا وثلاثـين بعيرًا، وأربعة وثلاثـين فرسًا غازية كل سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتـى نؤديها إلـيهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نـجران من النصارى، وهم الذين حاجُّوه فـي عيسى، فنكصوا عن ذلك وخافوا. وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "وَالَّذِي نَفْسُ مُـحَمَّدٍ بِـيَدِهِ، إنْ كانَ العَذَابُ لَقَدْ تَدَلّـى علـى أهْلِ نَـجْرَانَ. وَلَوْ فَعَلُوا لاسْتُؤْصِلُوا عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ". حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة فـي قوله: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ"، قال: "بلغنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج لـيلا عن أهل نجران، فلـما رأوه خرج هابوا وفَرِقُوا فرجعوا. قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل نجران أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتْبَعِينَا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله رجعوا". حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن عبد الكريـم الـجزري عن عكرمة عن ابن عبـاس، قال: "لو خرج الذين يبـاهلون النبـيّ صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا". حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زكريا عن عديّ، قال: ثنا عبـيد الله بن عمرو عن عبد الكريـم عن عكرمة عن ابن عبـاس مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نفْسِي بِـيَدِهِ لَوْ لاعَنُونِـي ما حالَ الـحَوْلُ وَبحَضْرَتِهِمْ مِنْهُمْ أحَدٌ إلاَّ أهْلَكَ اللَّهُ الكاذِبِـينَ". وهذا إن أخذْنا بأن أهل الكتاب فى تلك الآيات هم النصارى، إذ هناك من يقول إن المراد هم اليهود، ومن يقول إنهم اليهود والنصارى جميعا، وإن كنت أرجح من سياق الآيات السابقة على آيتنا أنهم النصارى الذين يعبدون المسيح ويقولون بربوبيته.
    (يتبع)...


  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    فهل فى هذه الواقعة والآيات التى نزلت بسببها ما يشير إلى أن النبى قد دعا نصارى نجران إلى الالتقاء حول ما هو مشترك بين توحيد الإسلام وتثليث النصرانية؟ أبدا أبدا أبدا. إنه لو فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أجهز على الدعوة التى جاء بها. ومع هذا يجرؤ صائغو البيان والموقعون عليه فعلا (إذ هناك من قالوا إنهم لم يوقعوا رغم وجود أسمائهم بين الموقعين على ما ذكرتْ د. زينب عبد العزيز لنا فى أحد اللقاءات البحثية أمس)، نقول إن صائغى البيان يجرؤون مع هذا على اتخاذ الآية الكريمة شعارا لشىء يناقض تمام المناقضة ما تغيّاه الرسول وعبرت عنه آيات سورة "آل عمران" بمنتهى الوضوح. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فلعله يكون من المفيد أن أشير إلى كتاب بالفرنسية قرأته وأنا فى أكسفورد أدرس للحصول على درجة الدكتوريّة فى النقد الأدبى فى سبعينات القرن البائد، يذكر فيه مؤلفه قصة راهب نصرانى وَفَد على أحد سلاطين بنى أيوب فيما أتذكر وعرض عليه أن يتباهل هو وفريق من شيوخ المسلمين تطبيقا لتلك الآية بأن يدخلوا جميعا النار: فمن نجا منهم فهو على الحق، ومن احترق كان من المبطلين. ومن الجلىّ أن الراهب كان يهزل، وإن كان هزلا من الضرب الخبيث، إذ كان موقنا أن الطرف المسلم لن يقبل هذا المحكّ لأن النار ستحرق الطرفين جميعا. ثم إن المباهلة إنما كانت عَرْضًا من النبى على نصارى نجران، الذين نَكَلُوا عنها ولم يتقحموا فيها لعلمهم أنها ليست فى صالحهم بالمرة. ومن ثم فقد فات أوان تلك المباهلة تماما، إذ لا تصلح من أى مسلم بل من النبى وحده طبقا لما تقوله الآية. كما أنها لم تكن تنافسا على الدخول فى النار، بل على الملاعنة، أى اشتراك الفريقين المختلفين فى الدعاء باللعنة على الكاذب منهما، وهو ما نَكَل عنه فريق النصارى وآثر دفع الجزية بدلا منه هروبا من الحق الناصع والإذعان له. ومن ثم أراد الراهب الخبيث أن يحوز سمعة كاذبة بأنه كان على استعداد لدخول النار ثقةً منه بدينه على عكس المسلمين. والواقع أنه لو كان صادقا غير هازل، وإن كان هزله كله خبث ودهاء كما قلنا، لَعَرَض أن يدخل النار وحده أوّلاً، فإن نجا طلب من المسلمين أن يحذوا حذوه ليرى ماذا يحدث لهم. هكذا يقول العقل والمنطق والترتيب الطبيعى، لكنه لجأ إلى تلك الحيلة الماكرة ظنا منه أن بمكنته اكتساب سمعة كاذبة على حساب المسلمين، وهيهات!
    كذلك فإن قوله تعالى: "ولا يتّخِذَ بعضُنا بعضًا أربابا من دون الله" يمتد ليشمل الأحبار و الرهبان ولا يقتصر على السيد المسيح عليه السلام، وذلك واضح من قوله جل جلاله فى الآية الحادية والثلاثين من سورة "التوبة"، وهى ثانى آية فى النص التالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ". وقد أشكلت هذه الآية فى البداية على عَدِىّ بن حاتم الطائى أول دخوله الإسلام، وكان قبل ذلك نصرانيا، إذ حسب أن المقصود من اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله هو عبادتهم، فنفى ذلك للرسول، الذى أفهمه أن المراد تلاعبهم بشرع الله من خلال تحريمهم ما حلله سبحانه وتحريمهم ما أحله. وهذا نص الحديث: "قَدِم عَدِيّ بن حاتم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: "اتَّخَذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا من دون الله والمسيحَ بنَ مريم. وما أُمِروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون". قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحِلّون ما حرَّم الله فتُحِلّونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم". وهذا هو السبب فى حملة الآيات الكريمات على كثير من الأحبار والرهبان. فالمسألة إذن ليست أبدا كما يحاول البيان أن يُوقِع فى رُوعنا من خلال تفسير قوله تعالى: "كلمة سواء" بأن المراد ما نتفق عليه نحن والنصارى (واليهود أيضا) مع تجاهل مواطن الاختلافات، وما أكثرها وأعقدها وأعمقها، بل معناه كلمة الحق والصدق التى ينبغى التزام أهل الكتاب بها، وهى الإيمان بإله واحد أحد ليس له شريك ولا صاحبة ولا ولد. أما القول بخلاف ذلك فلا معنى له ولا حكمة من ورائه، بل وراءه الضرر كل الضرر، إذ يناقض الإسلام من جذوره. وهذا أشبه شىء باقتراح الكفار على الرسول أن يكفّ عن انتقاد شِرْكهم فيكفّوا هم من ثم عن إيذاء المسلمين، وهو ما كان وأشباهه من المقترحات الوثنية سببا فى نزول مثل قوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ". أما الالتفاف على نصوص القرآن وإنطاقها بما لا تقوله من تلقاء نفسها فلا يؤدى إلى طائل، بل يضر بقضية الإسلام، قضية الحق والصدق والاستقامة. ولغرضٍ ما فإن الموقعين على البيان، حين أرادوا التعبير عن عقيدة الإسلام فى الوحدانية واستشهدوا لذلك بسورة "الإخلاص"، اكتفَوْا بالنصف الأول منها، وهو: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ" وتجاهلوا نصفها الأخير رغم أن هذا النصف هو صلبها ومحورها، ونَصُّه: "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"، فلماذا؟ إن النصارى المثلثين يقولون فى السيد المسيح إنه ابن الله، وإن أمه مريم هى أم الإله، وهو ما يناقض الآيتين الكريمتين تماما. أفمثل هذه البداية يمكن أن تبشر بخير؟ إن دلالتها فى واقع الأمر لمخيفة!
    وإذا كان النصارى فيما بينهم لا يتفقون فيما بينهم حول أمور العقيدة، بل يتبادلون التكفير كما هو واضح مثلا من بيان الفاتيكان منذ عدة أسابيع حين أعلن أن العقيدة الكاثوليكية هى وحدها التى تكفل لصاحبها الخلاص وتنجيه من الجحيم، مما هاج الأرثوذكس والبروتستانت وأغضبهم إغضابا رهيبا، وكما هو واضح من الاتهامات التخوينية والتكفيرية التى يتبادلها منذ مدة الأب ماكسيموس بابا المقطم وجماعته من جهة، والبابا شنودة بابا الإسكندرية وأتباعه من جهة أخرى. لا بل إن الأرثوذكس فى مصر كانوا قد قالوا قبل هذا بعدة أشهر فقط فى غيرهم من فرق النصارى ما قاله مالك فى الخمر. كتب حسنين كروم فى مقاله اليومى بــ"القدس العربى" يوم الجمعة 16 مارس 2007م تحت عنوان جانبى هو "معارك الأقباط"، ونصه: "تسبب الأنبا بيشوي أسقف دمياط وسكرتير المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية التي تضم الغالبية الساحقة من المسيحيين في أزمة جديدة مع الكاثوليك والبروتستانت بسبب هجومه عليهم في مؤتمر عن تثبيت العقيدة. وقد تم تسريب كلامه علي سي دي يتم توزيعه، ونشرت "المصري اليوم" أمس الخميس تحقيقا عنه أعده زميلنا عمرو بيومي جاء فيه: إن الكاثوليك والبروتستانت لن يدخلوا ملكوت السماء. ونفي أن يكون بذلك قد أخذ حق الله في الحكم وتقرير المصير لأنه لم يحدد اسم شخص بالتحديد، وذلك لأمور لا يعلمها إلا الله. وأضاف ضاربا مثلا بشخص كاثوليكي في لحظات حياته الأخيرة يقول: يارب، اقبل إيماني بالأرثوذكسية، ولعنة الله علي قائد الكاثوليك. وأشار بيشوي في كلمته الساخنة إلى أن كهنة هذه المذاهب مشلوحون بمجامع أرثوذكسية، نافيا أن يكون لهم قديسون أو حتي مشهود لهم بالقداسة. من جانبه وصف الدكتور القس إكرام لمعي هذا الكلام بأنه يعود بالمسيحيين إلى العصور الوسطي، مشيرا إلي أن البروتستانتية جاءت كحركة إصلاح للكنيسة الأرثوذكسية. وطالب لمعي الأنبا بيشوي بالرجوع إلى الكتاب المقدس".
    بل هناك ما هو أدهى من ذلك وأمر، إذ حين أعلن ماكسيموس بابا المقطم منذ أيام أنه يدعو للمسلمين فى صلاته ويحترم النبى محمدا انتفضت الكنيسة المصرية الأخرى على بكرة أبيها وكال له رجالها الاتهامات البشعة ورفضوا أن يتابعوه فى ذلك الأمر قائلين إنه يخالف النصرانية ولا يمكن من ثم قبوله. فأى "كلمة سواء" إذن يمكن التقاؤنا نحن وهم حولها؟ إن فى البيان المذيل بأسماء الــ138 عالما مسلما عبارةً غريبةً مدسوسةً بطريقة تبدو معها وكأنها قد وردت فى الموضع الذى وردت فيه بتلقائية وعلى نحو عارض، ألا وهى: "فى الوقت الذى يُعْتَبَر فيه الإسلام والمسيحية دينين مختلفين بوضوح، وفى نفس الوقت لا يوجد تقليل لبعض الاختلافات الشكلية بينهما..."، ويبدو لى أن هذه العبارة تريد أن تقول الكثير دون أن تفصح عنه، بل تتركه للقارئ ليقوله بنفسه، متصورة أن القارئ المسلم من السذاجة بحيث يبتلع الطعم دون أن يشعر، إلى أن يجد السنارة قد نشبت فى حلقه فلا يستطيع منها تخلصا. ترى أية خلافات شكلية بين الإسلام والنصرانية، والنصارى يكفرون برسول الله ويسبونه ويتهمونه بالإرهاب ويشركون بالله ويقولون بالتثليث، ويعملون بكل قواهم على تنصير العالم كله واضعين فى نيتهم أن يفرغوا من تلك المهمة عما قريب، جاعلين المسلمين على رأس قائمتهم التنصيرية؟
    وفوق هذا فقد لاحظت أن فى البيان المذكور، والمفترض أنه قد كتبه علماء مسلمون، عددا من التحليلات اللغوية للمصطلحات اليهودية والنصرانية التى تتطلب معرفة عميقة باليونانية والعبرية مما قد يعرفه أحبار اليهود وكهان النصارى لا علماء المسلمين. كذلك فقد استُخْدِم فى ذلك البيان مصطلح "الإنجيل" للكتاب المقدس كله بعهديه القديم والجديد كما هو الحال حين استشهد كاتبوه بكلمة لسليمان عليه السلام وردت فى سفر "الأمثال"، وهى: "بدء الحكمة مخافة الرب"، "مخافة الرب بداية المعرفة"، إذ مهدوا لها بقولهم: "وهذا يشبه بوضوحٍ كلماتِ النبى سليمان عليه السلام فى الإنجيل: ...". ومعروف أن المسلمين لا يطلقون لفظ "الإنجيل" إلا على الوحى الذى نزل على عيسى عليه السلام، ومن ثم لا يصح أن نقول: "الإنجيل" لشىء من الأناجيل الأربعة ولا لأى سِفْر من أسفار العهد الجديد لأن الأولى ليست سوى قِصَصٍ وسِيَرٍ كتبها بعض الكتّاب بعد عيسى عليه السلام بعدة عقود على الأقل، أما الأخيرة فلا علاقة لها بالوحى، بل لا علاقة لها بعيسى على الإطلاق، فما بالنا بتسمية الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى بعهديه الاثنين جميعا بــ"الإنجيل"؟ ليس ذلك فحسب، بل إن صياغة البيان بوجه عام يفتقر إلى الروح الذى نعهده فى كتابات علماء الإسلام، ومن ذلك العبارة التالية: "وأيضا يصف القرآن الكريم النبى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات تُظْهِر المعرفة، ومن ثم العقل والذكاء، وتبعث فى النفس الأمل، ومن ثم العاطفة، وتطبع فيها الرهبة والخشية، ومن ثم تحفز الإرادة: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الأحزاب/ 45)، "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" (الفتح/ 8)". كما تتكرر الركاكة الأسلوبية والأخطاء اللغوية على نحو ملحوظ لا يتناسب مع إمكانات علماء المسلمين.
    كذلك ففى قول كتبة البيان إن المفسرين القدامى للقرآن الكريم كابن كثير والجلالين يتفقون عموما على أن قوله تعالى فى الآية 177 من سورة "البقرة": "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" هو إشارة إلى الحركات الأخيرة فى صلاة المسلمين" رطانة غير إسلامية بالمرة، فالمسلم لا يقول عن الصلاة: "صلاة المسلمين"، كما أنه لا يسمى ما فيها من أفعال بــ"الحركات"، فضلا عما فى عبارة "الحركات الأخيرة فى الصلاة" من غموض، إذ السؤال هو: أية حركات هذه يا ترى؟ وأخيرا فالواقع والحق أنه لا علاقة للعبارة القرآنية بتاتًا بأية حركات فى الصلاة على الإطلاق. كما أنه لا تفسير ابن كثير ولا تفسير الجلالين قال شيئا من هذا. فلننظر كَمْ من الأخطاء والتدليسات تحتويها هذه العبارة القصيرة جدا!
    (يتبع)...


  12. #12
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    وكى يطمئن القارئ تمام الاطمئنان إلى ما نقول نسوق إليه ما قاله ابن كثير، وهو: "اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة كما قال ابن أبي حاتم. حدثنا أبي حدثنا عبيد بن هشام الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه "ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهَكم" إلى آخر الآية. قال: ثم سأله أيضا، فتلاها عليه. ثم سأله فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك. وهذا منقطع، فإن مجاهد لم يدرك أبا ذر، فانه مات قديما. وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: "ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار بيده: المؤمن إذا عمل حسنة سَرَّتْه ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها. رواه ابن مردويه، وهذا أيضا منقطع، والله أعلم. وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حوَّلهم إلى الكعبة شَقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجَّه واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل. وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه. ولهذا قال: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر... الآية". كما قال في الأضاحي والهدايا: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تصلّوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها. وروى عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك. وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبِل قِبَل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب". يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل. وروى عن الحسن والربيع بن أنس مثله". ثم نُقَفِّى عليه بما ورد فى الجلالين، وهذا نصه بالحرف: "{ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم} في الصلاة {قِبَل المشرق والمغرب}. نزل ردًّا على اليهود والنصارى حيث زعموا ذلك". وهذا كله يدعونا إلى التساؤل عن الكتبة الحقيقيين لذلك البيان: أهم فعلا العلماء المسلمون المذكورة أسماؤهم أسفل البيان، أم هم ناس آخرون كتبوه أو على الأقل: اشتركوا فى صياغته ثم وضعوا تحته تلك الأسماء الإسلامية؟ كما أن نص الهامش 15، وهو: "إن جميع النصوص الإنجيلية (لاحظ: "الإنجيلية" مرة أخرى رغم أنها مأخوذة من الكتاب المقدس كله بعهديه القديم والجديد) المستشهد بها هنا مأخوذة من نسخة الملك جيمس الجديدة (حقوق نسخ 1982، نشرتها دار توماس نيلسون). وقد استُعْمِلَتْ بإذن، وجميع الحقوق محفوظة". وهذه طريقة لا يعرفها مستخدمو الكتاب المقدس من علماء الإسلام، فضلا عن أن يترك هؤلاء العلماء العرب ترجمات الكتاب المقدس العربية كلها ولا يجدون إلا نسخة الملك جيمس الإنجليزية. عجيبة! أليس كذلك؟ ثم متى حدث أن استأذن علماء المسلمين طابعى الكتاب المقدس قبل أن يستشهدوا بنصوصه؟ إن هذه طريقة الأوربيين، وهى طريقة لا تخطئها العين.
    هل معنى ذلك أننا ضد الحوار؟ كلا بالثُّلُث، فديننا هو دين الحوار، وكل شىء فى القرآن وفى سيرة النبى وأحاديثه يقول بملء الفم بالحوار: ففى سورة البقرة" مثلا نرى حوارا بين الله والملائكة. يقول عز شأنه عن قصة الخلق: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)".
    وهناك حوار بينه جل شأنه وبين إبليس تجاوز فيه الرجيم كل الخطوط، ومع هذا لم يزجره ربه ولم يمنعه الكلام والتعبير عن رأيه، بل أَنْظَرَه سبحانه إلى يوم يُبْعَثون استجابةً إلى طَلِبَته. جاء فى سورة "الحِجْر": "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)".
    وثمة حوارات كثيرة فى تضاعيف القرآن بينه سبحانه وبين عدد من رسله، كحواره مثلا مع إبراهيم فى سورة "البقرة"، وفيه يطلب أبو الأنبياء منه جل جلاله أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى، فلم يزجره الله عن طلبه، بل أراه كيف يمكنه التحقق منه: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)"، وكحواره مع موسى فى أول سورة "الشعراء" عندما أمره بالذهاب إلى فرعون ومَلَئِه: "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)"، وكحواره أيضا آخرَ سورة "المائدة" مع المسيح أثناء الحساب الأخروى بشأن اتخاذ النصارى المثلثين إياه إلها: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)".
    وفى قصص الأمم القديمة مع أنبيائها نسمع دائما الحوار بين الطرفين، فعلى سبيل المثال نقرأ فى سورة "الأعراف": "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)".
    ونفس الشىء نجده بين الرسول الأكرم وقومه كما فى الحوار التالى الذى سجلته سورة "الإسراء": "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)". بل إن القرآن ليوجب على المسلمين أن يكون جدالهم، أو فلنقل بلغة العصر: حوارهم، مع أهل الكتاب جدالا بالتى هى أحسن: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)"... وهكذا.
    على أن الحوار فى القرآن المجيد لا يقتصر على الحياة الدنيا، بل يتعداها إلى الآخرة حيث نجد الحوار مثلا بين الله جل جلاله وبين أهل الجحيم فى سورة "المؤمنون": "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)". وهناك أيضا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف، وقد ورد فى السورة المسماة بذلك الاسم: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)"، وبين بعض أهل الجنة وبعض كما فى سورة "الصافات": "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55"، وكذلك بين بعض أهل النار وبعض فى سورة "الصافات" أيضا: "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)"... إلخ.

    (يتبع)...


  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    هذا عن القرآن، أما فى السيرة والأحاديث النبوية فهناك حوارات بينه صلى الله عليه وسلم وبين كل الطوائف التى تعامل معها من مشركين ومنافقين ويهود ونصارى: فمن ذلك مثلا الحوار التالى الذى دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين وفد من مشركى قريش فى أوائل الدعوة: حين أرسلت قريش عتبة بن ربيعة، وهو رجل رزين هادئ، "فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيتَ قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا سوَّدْناك علينا فلا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد مُلْكًا ملّكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ. فلما فرغ قوله تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام صدر سورة "فصلت": حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)".
    ومن ذلك أيضا الحوار التالى بينه وبين يهود المدينة: "لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدر وقَدِم المدينة جَمَع اليهودَ في سوق بني قَيْنُقَاع فقال: يا معشر يهود، أَسْلِموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا. قالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنّك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ".
    ومنه كذلك الحوار بينه صلى الله عليه وسلم وبين نصارى نجران. وخلاصة القصة، وقد مضت من قبل "أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تَذْكُر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم أنه عبد الله! قالوا: فهل رأيت مثل عيسى وأُنْبِئْتَ به؟ ثم خرجوا من عنده. فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أَتَوْك: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ".
    ومن حواراته عليه الصلاة والسلام مع المنافقين ما جرى بينه وبين زعيمهم ابن سَلُول بشأن بنى قينقاع حين هُزِموا فى حربهم مع المسلمين، وتقرر إجلاؤهم عن المدينة حسمًا لدابر ما كانوا يعملون على تأريثه من الفتن ويرتكبونه من الخيانات: "فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبّيّ بن سَلُول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد، أَحْسِنْ في مواليَّ. وكانوا حلفاء الخزرج. قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ. قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئي لوجهه ظلل، ثم قال: ويحك! أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تُحْسِن في مواليّ. أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُمْ لك".
    ومن تلك الحوارات أيضا رسائله إلى ملوك الأرض القريبين من بلاد العرب، ومنها رسالته إلى هرقل، وهى تجرى على النحو الذى يسجله الحديث التالى: "عن بن عباس أن أبا سفيان أخبره مِنْ فيه إلى فيه، قال: انطلقتُ في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، يعني عظيم الروم، قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بُصْرَى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم. قال: فدُعِيتُ في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كَذَبني فكذِّبوه. قال: فقال أبو سفيان: وَايْمِ الله لولا مخافة أن يُؤْثَر عليَّ الكذب لكذبت. ثم قال لترجمانه: سَلْه كيف حَسَبُه فيكم. قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن يتبعه: أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سِخْطَةً له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا: يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أُدْخِلُ فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو حسب. وكذلك الرسل تُبْعَث في أحساب قومها. وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمتَ أنْ لا. فقلت: لو كان من آبائه ملك قلتُ: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أنْ لا. فقد عرفتُ أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سِخْطَةً له؟ فزعمتَ أنْ لا. وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمتَ أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمتَ أنكم قد قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا: ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرسل تُبْتَلَى ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمتَ أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمتَ أنْ لا. فقلتُ: لو قال هذا القول أحد قبله قلتُ: رجلٌ ائتمَّ بقولٍ قيل قبله. قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقا فإنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم. ولو أني أعلم أني أَخْلُص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فعليك إثم الأريسيين. و"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ". فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللَّغَطُ وأمر بنا فأُخْرِجْنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أَمْرُ بن أبي كبشة. إنه ليخافه مَلِك بني الأصفر. قال: فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام".
    وثم حوار آخر تم فى ظروف مختلفة تماما، إذ كان فى الحبشة طائفة مهاجرة من الصحابة فروا بدينهم إليها تحت ضغط من أذى المشركين فى مكة، إلا أن وثنيى قريش لم يدعوهم يهنأون بملجئهم الهانئ الأمين، فبعثوا وراءهم بعض الرسل يوغرون عليهم صدر النجاشى حاكم البلاد، ذلك الرجل الكريم النبيل الذين لاذوا بعدله ورحمته، فاستدعاهم إلى حضرته، وعنده البطارقة والرهبان، ليسألهم عن حقيقة ما يقوله رسل قريش عن عداوتهم لدينه وشُنْع مقالتهم فى عيسى عليه السلام، ودار بين الفريقين حوار ترويه لنا أم سلمة رضى الله عنها فى القصة التالية: "لما ضاقت علينا مكة وأُوذِيَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتِنوا ورَأَوْا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومه وعمّه لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظْلَم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار أمنًا على ديننا، ولم نخش منه ظلمًا.
    فلما رأت قريش أنْ قد أصبنا دارًا وأمنًا أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يَدَعوا منهم رجلاً إلا هيأوا له هدية على ذي حدة، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا.
    فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا له هديته وكلموه وقالوا له: إنا قَدِمْنا على هذا الملك في سفهاءَ من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل. فقالوا: نفعل. ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم، فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه. وقد لجأوا إلى بلادك، فبَعثَنَا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردّهم عليهم، فهم أعلى بهم عينًا. فقالت بطارقته: صَدَقوا أيها الملك. لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينًا، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك. فغضب ثم قال: لا لَعَمْرُ الله لا أردهم عليهم حتى أدْعوهم وأكلمهم وأنظر ما أَمْرُهم. قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري: فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أُخَلِّ بينهم وبينهم، ولم أُنْعِمْهم عينًا.
    فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيءٌ أبغضُ إلى عمرو بن العاصي وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم. فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك، كنا قومًا على الشرك: نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونُسِيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحلّ شيئًا ولا نحرّمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الرحم ونحسن الجوار ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره. فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله. فقال جعفر: نعم. قال: هلم فاتْلُ عليّ ما جاء به. فقرأ عليه صدرًا من "كهيعص"، فبكى والله النجاشي حتى أَخْضَلَ لحيته، وبكت أساقفته حتى أَخْضَلُوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى. انطلقوا راشدين. لا والله لا أردهم عليكم ولا أُنْعِمُكم عينًا. فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة، فقال له عمرو بن العاصي: والله لآتينّه غدا بما أستأصل به خضراءهم. لأُخْبِرَنّه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد، عيسى بن مريم، عبد. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا ولهم حقًّا. فقال: والله لأفعلنّ.
    فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا، فأَرْسِلْ إليهم فسَلْهُمْ عنه. فبعث إليهم، ولم يَنْزِل بنا مثلُها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه. فدخلوا عليه، وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عُوَيْدًا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلتَ هذا العُودَ. فتناخرتْ بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله. اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي (والشيوم: الآمنون)، ومن سَبَّكم غَرِم، ومن سَبَّكم غَرِم، ومن سَبَّكم غَرِم، ثلاثًا. ما أُحِبّ أن لي دبيرًا وأني آذيت رجلاً منكم (والدبير بلسانهم: (جبل من) الذهب). فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليَّ مُلْكِي، فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه. ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، واخرجا من بلادي. فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به". والعبرة فى هذه القصة أن المسلمين المهاجرين إلى الحبشة لم يَنْكِلوا عن الحوار، بل لم يترددوا لحظة فى أن يَصْدَعوا بالحق الذى كانوا يتوقعون أن يُوغِر صدر النجاشى ورجاله وكل شعبه ضدهم فيأمر بقتلهم أو إيداعهم السجون، أو يطردهم ويعيدهم إلى قريش تؤذيهم وتنكل بهم، ولم يفكروا رغم ذلك فى اللجوء إلى النفاق أو المداورة والمجاملة، بل لم يفكروا فى اعتماد أسلوب الـجَمْجَمَة أو الرد العائم الغائم بغية تجنب الحرج على أقل تقدير مع أهل البلد الذى ضَيَّفَهم وفتح أبوابه وصدره لهم.
    لكن مبدأ الإسلام فى مثل تلك المواقف لا ينتهى هنا، بل يأمر أتباعه بالبِرّ والإقساط مع المخالفين فى الدين حتى لو كان دينهم هو الوثنية ذاتها، إذ نقرأ فى سورة "الممتحنة": "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)". كما يبغض العدوان ويدينه حتى لو وقع من المسلمين على الذين بينهم وبينهم كراهية وشنَآن. جاء فى سورة "المائدة": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)". وبالنسبة إلى أهل الكتاب، وهم المقصودون بالكلام الحالى، فقد جاء فى حقهم فى سورة "العنكبوت": "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)". وواضح أن علينا ألا نبدأ مجادلتهم بما يسوؤهم، اللهم إلا إذا بدأ بعضهم بالظلم والعدوان، فعندئذ فمن حقنا الرد على ذلك بمثله. والشر بالشر، والبادئ أظلم. ليس ذلك فحسب، بل إن القرآن المجيد ليذهب فى ذلك السبيل إلى آماد لم يصلها أحد، إذ يخاطب مخالفيه، وعلى رأسهم الوثنيون، قائلا حسبما ورد فى سورة "سبأ": "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)". فهل هناك موضوعية وحيادية وتجرد ولين جانب وعقل ولياقة وذوق وفهم واحترام للآخر ومراعاة لمشاعره وإحساساته وعمل على رتق الفتق بين المسلم وغير المسلم مثل هذا، ولا أقول: أحسن منه؟ فدلونى عليه إذن!

    (يتبع)...


  14. #14
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    الحوار إذن مع الآخرين غير مرفوض فى الإسلام، بل هو يرحب به ولا يترك سانحة إلا اهتبلها لإدارة حوار مع هذا الطرف أو ذاك بغية الوصول إلى حل لمشكلة أو نشرا لدعوة أو تقريرا لحق مهضوم... بيد أن للمسألة وجها آخر بل وجوها أخرى، إذ السؤال هو: حوار حول أى شىء؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ فأما أن يكون الحوار قائما على التضليل بحيث يزعم أصحابه مثلا أن بين المسلمين والنصارى المثلثين أرضية مشتركة فى قضية الربوبية، فكلا ثم كلا. إن الربوبية لدينا نحن المسلمين هى ربوبية التوحيد المطلق الذى لا تشوبه أية شائبة، وأما عند النصارى المذكورين فرُبُوبِيّة تثليثية كما هو معروف، وعيسى عندهم إله، مَثَلُه مَثَلُ الله سبحانه، ولهذا يسمونه بصراحة ووضوح: "الربّ يسوع"! وكذلك الروح القدس عندهم إله أيضا. ومريم فى هذا التصور هى أم الرب. فهل فى هذا ما يسوِّغ القول بأن هناك أرضية مشتركة بين الإسلام والنصرانية فى مسألة الربوبية؟ لا أظن الجواب إلا يكون بالنفى، وبالنفى المطلق الشامل الكامل. أيعنى هذا أنى أرفض أن يؤمن النصارى بما يؤمنون به؟ كلا أيضا، بل لهم الحق فى أن يؤمنوا بما يشاؤون، لكن هذا لا يستتبع أبدا أن أدلِّس أنا فأقول إن قضية الربوبية هى من القضايا التى لا خلاف بيننا نحن المسلمين وبينهم! كلانا فعلا يؤمن بالله، لكن الإيمانين مختلفان أشد الاختلاف، ولا سبيل إلى التقاءٍ، أىّ التقاءٍ، فى هذا الصدد. ولهم، بعد هذا وقبل هذا، الحق كل الحق فى أن يقولوا فى المسيح عليه السلام وفى الروح القدس ما يريدون، مثلما لنا نحن أيضا الحق كل الحق فى أن نقول إن إلهنا هو إله مختلف تماما عن إلههم، وإلا كنا نكذّب بالقرآن وبالنبى الكريم الذى نزل عليه القرآن. أليس كذلك؟
    وأغلب الظن أن صائغى البيان قد قصدوا قصدا أن يحذفوا بقية سورة "الصمد"، ونصها: "لم يَلِدْ ولم يُولَد* ولم يكن له كُفُوًا أحد"، واكتفَوْا بآيتيها الأُولَيَيْن: "قل هو الله أحد* الله الصَّمَد" لغرض فى نفس يعقوب، وبخاصة أن السورة من القصر بحيث لا مسوغ هناك لحذف هذا الجزء أبدا، كما أن هذا الجزء هو محور السورة الأساسى الذى تدور حوله، فضلا عن أن ما يقرره هذا الجزء المحذوف إنما هو الفيصل بيننا وبين مثلِّثة النصارى. فلماذا حُذِف الجزء إذن؟ أغلب الظن أنهم أرادوا التعمية والتغطية على القارئ المسلم حتى لا يلتفت إلى ما لا يمكن تجاهله، ألا وهو أن بيننا وبين مثلّثة النصارى أخدودا لا يُعْبَر أبدا، اللهم إلا إذا ترك أحد الفريقين دينه واتبع طريق الآخر.
    كذلك فإن الاستشهاد بقوله سبحانه: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران/ 113- 115) فى مقام التدليل على أن القرآن يثنى على بعض أهل الكتاب بوصفهم يهودا أو نصارى هو استشهاد خاطئ تمام الخطإ. ذلك أن أهل الكتاب الذين يثنى عليهم القرآن هنا وفى أى نص آخر منه إنما هم الذين دخلوا فى الإسلام وآمنوا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا بَيِّنٌ جلىٌّ مما وصفتهم به الآية من أنهم يتلون آيات الله آناء الليل، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ ليست الآيات التى يتلونها إلا آيات القرآن كما هو مفهوم، لأن القرآن قد أكد تحريفهم لما نزل على موسى وعيسى عليهما السلام، ومن ثم فالنصوص الموجودة فى كتب اليهود والنصارى لا تسمى: آيات الله. كما أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يتمّ أبدا إلا إذا آمن المرء بسيدنا محمد وبالقرآن الذى نزل عليه حسبما تبين لنا الآيات التالية من سورة "النساء" و"الأنعام" و"الأعراف"، وهى على التوالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)"، "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)"، "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ (أى الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام) الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)". إلا أن صائغى البيان قد تجاهلوا هذا كله أو جهلوه، وهو ما لا يصح وقوعه من مسلم يعرف دينه.
    ثم إن اليهود، علاوة على أن منهم من يقول إن عُزَيْرًا ابنُ الله، قد صادروا مفهوم الألوهية لصالحهم هم فقط واحتكروا الله لأنفسهم، أستغفر الله، فجعلوا منه ربًّا قبليا لا ربًّا للعالمين أجمعين كما فى الإسلام، إلى جانب أنهم صوروه بصُوَرٍ بشعةٍ فى كتابهم المقدس كأنه بشر من البشر. ويا ليته كان بشرا ممتازا، إذ رسموه فى صور لا تليق حتى بالبشر فى كثير من الأحايين كما هو معروف لكل من قرأ العهد القديم. وهذه بعض من تلك النصوص المسيئة إلى رب العزة:
    "1وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» 2فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، 3وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا». 4فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». 6فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. 7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. 8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ»" (تكوين/ 1).
    "1فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا. 2وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. 3وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا" (تكوين/ 2).
    "1وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ. 5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»" (تكوين/ 6).
    "1وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً. 2وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. 3وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ. 4وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ». 5فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. 6وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. 7هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». 8فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، 9لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ" (تكوين/ 11).
    "22ثُمَّ قَامَ (أى يعقوب) فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَخَذَ امْرَأَتَيْهِ وَجَارِيَتَيْهِ وَأَوْلاَدَهُ الأَحَدَ عَشَرَ وَعَبَرَ مَخَاضَةَ يَبُّوقَ. 23أَخَذَهُمْ وَأَجَازَهُمُ الْوَادِيَ، وَأَجَازَ مَا كَانَ لَهُ. 24فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». 29وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. 30فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». 31وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ. 32لِذلِكَ لاَ يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِْذِ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنَّهُ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا" (تكوين/ 32. والذى صارعه يعقوب وأمسكه فلم يستطع أن يفلفص منه إلا بعد أن ضربه على حُقّ فخذه هو الله! أستغفره سبحانه على هذا الكفر!).
    "1وَكَانَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلَةً: 2«يَا ابْنَ آدَمَ، عَرِّفْ أُورُشَلِيمَ بِرَجَاسَاتِهَا، 3وَقُلْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: مَخْرَجُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. 4أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ، وَلَمْ تُغْسَلِي بِالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ، وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحًا، وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطًا. 5لَمْ تَشْفُقْ عَلَيْكِ عَيْنٌ لِتَصْنَعَ لَكِ وَاحِدَةً مِنْ هذِهِ لِتَرِقَّ لَكِ، بَلْ طُرِحْتِ عَلَى وَجْهِ الْحَقْلِ بِكَرَاهَةِ نَفْسِكِ يَوْمَ وُلِدْتِ. 6فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ، فَقُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي، قُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي. 7جَعَلْتُكِ رَبْوَةً كَنَبَاتِ الْحَقْلِ، فَرَبَوْتِ وَكَبُرْتِ، وَبَلَغْتِ زِينَةَ الأَزْيَانِ. نَهَدَ ثَدْيَاكِ، وَنَبَتَ شَعْرُكِ وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 8فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ، وَحَلَفْتُ لَكِ، وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي. 9فَحَمَّمْتُكِ بِالْمَاءِ، وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ، وَمَسَحْتُكِ بِالزَّيْتِ، 10وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً، وَنَعَلْتُكِ بِالتُّخَسِ، وَأَزَّرْتُكِ بِالْكَتَّانِ، وَكَسَوْتُكِ بَزًّا، 11وَحَلَّيْتُكِ بِالْحُلِيِّ، فَوَضَعْتُ أَسْوِرَةً فِي يَدَيْكِ وَطَوْقًا فِي عُنُقِكِ. 12وَوَضَعْتُ خِزَامَةً فِي أَنْفِكِ وَأَقْرَاطًا فِي أُذُنَيْكِ وَتَاجَ جَمَال عَلَى رَأْسِكِ. 13فَتَحَلَّيْتِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِبَاسُكِ الْكَتَّانُ وَالْبَزُّ وَالْمُطَرَّزُ. وَأَكَلْتِ السَّمِيذَ وَالْعَسَلَ وَالزَّيْتَ، وَجَمُلْتِ جِدًّا جِدًّا، فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ. 14وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ، لأَنَّهُ كَانَ كَامِلاً بِبَهَائِي الَّذِي جَعَلْتُهُ عَلَيْكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 15فَاتَّكَلْتِ عَلَى جَمَالِكِ، وَزَنَيْتِ عَلَى اسْمِكِ، وَسَكَبْتِ زِنَاكِ عَلَى كُلِّ عَابِرٍ فَكَانَ لَهُ. 16وَأَخَذْتِ مِنْ ثِيَابِكِ وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَاتٍ مُوَشَّاةٍ، وَزَنَيْتِ عَلَيْهَا. أَمْرٌ لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يَكُنْ. 17وَأَخَذْتِ أَمْتِعَةَ زِينَتِكِ مِنْ ذَهَبِي وَمِنْ فِضَّتِي الَّتِي أَعْطَيْتُكِ، وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ صُوَرَ ذُكُورٍ وَزَنَيْتِ بِهَا. 18وَأَخَذْتِ ثِيَابَكِ الْمُطَرَّزَةَ وَغَطَّيْتِهَا بِهَا، وَوَضَعْتِ أَمَامَهَا زَيْتِي وَبَخُورِي. 19وَخُبْزِي الَّذِي أَعْطَيْتُكِ، السَّمِيذَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ الَّذِي أَطْعَمْتُكِ، وَضَعْتِهَا أَمَامَهَا رَائِحَةَ سُرُورٍ. وَهكَذَا كَانَ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 20أَخَذْتِ بَنِيكِ وَبَنَاتِكِ الَّذِينَ وَلَدْتِهِمْ لِي، وَذَبَحْتِهِمْ لَهَا طَعَامًا. أَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ زِنَاكِ 21أَنَّكِ ذَبَحْتِ بَنِيَّ وَجَعَلْتِهِمْ يَجُوزُونَ فِي النَّارِ لَهَا؟ 22وَفِي كُلِّ رَجَاسَاتِكِ وَزِنَاكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ، إِذْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً وَكُنْتِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ. 23وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ شَرِّكِ. وَيْلٌ، وَيْلٌ لَكِ! يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، 24أَنَّكِ بَنَيْتِ لِنَفْسِكِ قُبَّةً وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَةً فِي كُلِّ شَارِعٍ. 25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ، وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ. 26وَزَنَيْتِ مَعَ جِيرَانِكِ بَنِي مِصْرَ الْغِلاَظِ اللَّحْمِ، وَزِدْتِ فِي زِنَاكِ لإِغَاظَتِي. 27فَهأَنَذَا قَدْ مَدَدْتُ يَدِي عَلَيْكِ، وَمَنَعْتُ عَنْكِ فَرِيضَتَكِ، وَأَسْلَمْتُكِ لِمَرَامِ مُبْغِضَاتِكِ، بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، اللَّوَاتِي يَخْجَلْنَ مِنْ طَرِيقِكِ الرَّذِيلَةِ. 28وَزَنَيْتِ مَعَ بَنِي أَشُّورَ، إِذْ كُنْتِ لَمْ تَشْبَعِي فَزَنَيْتِ بِهِمْ، وَلَمْ تَشْبَعِي أَيْضًا. 29وَكَثَّرْتِ زِنَاكِ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَبِهذَا أَيْضًا لَمْ تَشْبَعِي. 30مَا أَمْرَضَ قَلْبَكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِذْ فَعَلْتِ كُلَّ هذَا فِعْلَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ سَلِيطَةٍ، 31بِبِنَائِكِ قُبَّتَكِ فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق، وَصُنْعِكِ مُرْتَفَعَتَكِ فِي كُلِّ شَارِعٍ. وَلَمْ تَكُونِي كَزَانِيَةٍ، بَلْ مُحْتَقَرةً الأُجْرَةَ. 32أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ الْفَاسِقَةُ، تَأْخُذُ أَجْنَبِيِّينَ مَكَانَ زَوْجِهَا. 33لِكُلِّ الزَّوَانِي يُعْطُونَ هَدِيَّةً، أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ أَعْطَيْتِ كُلَّ مُحِبِّيكِ هَدَايَاكِ، وَرَشَيْتِهِمْ لِيَأْتُوكِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلزِّنَا بِكِ. 34وَصَارَ فِيكِ عَكْسُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي زِنَاكِ، إِذْ لَمْ يُزْنَ وَرَاءَكِ، بَلْ أَنْتِ تُعْطِينَ أُجْرَةً وَلاَ أُجْرَةَ تُعْطَى لَكِ، فَصِرْتِ بِالْعَكْسِ...»" (حزقيال/ 16. ولينظر القارئ كيف يصور كتبة العهد القديم الله سبحانه وتعالى على أنه زوج مخدوع لا يملك من أمر زوجته شيئا ولا يجد إلا التهديدات الصارخة الفارغة والشتائم البذيئة المقذعة التى ينفّس بها عن عجزه والتى تنتهى دائما برجوعه صاغرا إليها. ومن الواضح أن الله هنا ليس هو الله رب العالمين، بل هو إله بنى إسرائيل وحدهم، لا يفكر إلا فيهم، ولا يهتم إلا بهم. ومن هنا نفهم سر ذلك الانفعال العنيف فى خطابه سبحانه إلى تلك الأمة العاصية صلبة الرقبة التى وسمها بأنها امرأة قحبة تفتح فخذيها لكل عابر وتترامى عليه فى شبق ملتهب رخيص معطيةً إياه مالاً كى يرضى فعل الفاحشة بها).
    ونأتى إلى محبة الجار التى يُكْثِر من الحديث عنها صائغو البيان فنقول: إنه إذا كانت محبة الجار قيمة كريمة يدعو إليها كل من الفريقين، فإن الأمر لا يستحق إطلاقا كل هذه الضجة التى يُحْدِثها البيان؟ ذلك أنه لم يقل أحد إن المسلمين والنصارى فى بلادهم يذبحون جيرانهم تذبيحا، فلِمَ كل تلك الطنطنة على أمر لا يستدعى شيئا منها؟ من الممكن جدا أن يظنّ بعض الناس أن أصحاب البيان إنما أرادوا التظاهر بالاهتمام بتلك المسألة حتى لا يتنبه جماهير المسلمين إلى التدليس فى مسألة الإيمان بالله، وإلا فعلى الفريقين أن يكوّنا لجانا مشتركة مهمتها المرور بالبيوت فى كل بلاد المسلمين والنصارى لتبصير الناس بسوء مغبة القيام على الجيران وتذبيحهم وبأهمية الإحسان إليهم وتلاوة الآيات القرآنية والعبارات الكتابية والأحاديث النبوية التى تحض على إكرام الجار وتحذر من الإساءة إليه. لكن لا أظن أن الأمور قد بلغت من الشُّنْع إلى هذه الدرجة بعد! فلننتظر إلى أن تؤذن الأمور بسوء العاقبة فنشكل عندئذ مثل تلك اللجان المشتركة ولا نستبق الأحداث، بل نتريث إلى أن تقع الواقعة أولا، وعندها يصير لكل حادث حديث، وإلا كنا كمن يبيع جلد الدب قبل صيده، وهو ما لا يليق بالعقلاء.
    ومع هذا كله فإن البيان لشديد الأسف لم يورد أى نص قرآنى فى التوصية بالجار رغم أن مثل ذلك النص موجود فى قوله تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (النساء/ 36). كما نقرأ فى سياق التوصية بالجار النص الفريد التالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ" (التوبة/ 6). وهذا نص لا يوجد له نظير فى أى دين، وبخاصة إذا علمنا أن المشركين فى الوقت الذى نزلت فيه الآية كانوا يغدرون بالمسلمين ويقتلونهم وينقضون المعاهدات التى كانت قائمة بين الطرفين. ويبدو أن السبب فى إهمال الاستشهاد بهذين النصين هو الكسل العقلى عند كاتبى البيان والرغبة فى إخراج الوثيقة بأسرع ما يمكن لأن المهم هو نشرها فى أركان المعمورة للطنطنة بأن المسلمين لا يجدون شيئا يستحق أن يقوم حوله خلاف بينهم وبين النصارى فى العقيدة والدين.
    لكن هل محبة الجار هى فعلا قيمة كريمة عند أهل الكتاب ينبغى أن تحترم؟ أرجو أن يعكف القراء على أسفار العهد القديم التى تتحدث عن العلاقة بين بنى إسرائيل وجيرانهم ليعرفوا كيف كان أولئك الأقوام يتعاملون مع الجيران؟ ونبدأ بما اقترفوه فى حق المصريين حين استعاروا منهم حُلِيّهم عشيّة خروجهم من أرض النيل، إذ استولَوْا على تلك الحلىّ وسرقوها ولم يعيدوها لأصحابها، وهو ما سجله كتبة العهد القديم بأقلامهم فى الفصل الثانى عشر من كتاب "الخروج": "35وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. طَلَبُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا. 36وَأَعْطَى الرَّبُّ نِعْمَةً لِلشَّعْبِ فِي عُِيُونِ الْمِصْرِيِّينَ حَتَّى أَعَارُوهُمْ. فَسَلَبُوا الْمِصْرِيِّينَ". وكان هذا فى الواقع تنفيذا لخطة الرب التى باح بها لموسى قديما فى طريق عودته من مدين إلى مصر حين كلمه عند العُلَّيْقة: "19وَلكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لاَ يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ وَلاَ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ، 20فَأَمُدُّ يَدِي وَأَضْرِبُ مِصْرَ بِكُلِّ عَجَائِبِي الَّتِي أَصْنَعُ فِيهَا. وَبَعْدَ ذلِكَ يُطْلِقُكُمْ. 21وَأُعْطِي نِعْمَةً لِهذَا الشَّعْبِ فِي عُِيُونِ الْمِصْرِيِّينَ. فَيَكُونُ حِينَمَا تَمْضُونَ أَنَّكُمْ لاَ تَمْضُونَ فَارِغِينَ. 22بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا وَمِنْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا، وَتَضَعُونَهَا عَلَى بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ. فَتسْلِبُونَ الْمِصْرِيِّينَ»". وفى القرآن فى سورة "طه": "قَالَ (أى الله سبحانه لموسى عليه السلام) فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)". وفى الأوقات التى كان لليهود دولة فى فلسطين، سواء فى القديم أو فى الحديث، فإنهم لم يعرفوا فى هذه الحالة إلا لغة الإبادة والإحراق والمحو رغم أنهم ليسوا أصحاب الأرض، بل مجرد واغلين فيها. وقد سجَّل العهد القديم عليهم جرائمهم قديما مع أولئك الجيران بكل تفصيلاتها بحيث لا يستطيع أعتى المدلسين أن يصنع إزاءه شيئا. فعلوا ذلك مع الْكَنْعَانِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ وغيرهم، وكان هذا دَيْدَنَهم على الدوام لم يشذّوا يوما عنه. أما فى العصر الحديث فما زلنا نكتوى بجرائمهم الوحشية الشيطانية يساعدهم فى هذا أولئك الذين يدعهم علماؤنا المائة والثمانية والثلاثون إلى الحوار حول حقوق الجار، تلك الحقوق التى لا يفهمونها ولا يمكنهم أن يفهموها، فضلا عن أن يراعوها ويحترموها.

    (يتبع)...


  15. #15
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د.إبراهيم عوض

    والواقع أنه لا يَرِدُ للجار ولا لإكرامه أىُّ ذِكْرٍ فى الوصايا العشر التى تلقاها موسى فوق الجلل بسيناء على اللوحين حسب رواية العهد القديم. وها هى ذى تلك الوصايا كما جاءت فى الفصل الخامس من كتاب "التثنية": "6أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. 7لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. 8لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا صُورَةً مَّا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. 9لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ وَفِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي، 10وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. 11لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. 12اِحْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 13سِتَّةَ أَيَّامٍ تَشْتَغِلُ وَتَعْمَلُ جَمِيعَ أَعْمَالِكَ، 14وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَسَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، لاَ تَعْمَلْ فِيهِ عَمَلاً مَّا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَثَوْرُكَ وَحِمَارُكَ وَكُلُّ بَهَائِمِكَ، وَنَزِيلُكَ الَّذِي فِي أَبْوَابِكَ لِكَيْ يَسْتَرِيحَ، عَبْدُكَ وَأَمَتُكَ مِثْلَكَ. 15وَاذْكُرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْدًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَأَخْرَجَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ هُنَاكَ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ. لأَجْلِ ذلِكَ أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ أَنْ تَحْفَظَ يَوْمَ السَّبْتِ. 16أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ، وَلِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ علَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 17لاَ تَقْتُلْ، 18وَلاَ تَزْنِ، 19وَلاَ تَسْرِقْ، 20وَلاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، 21وَلاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ وَلاَ حَقْلَهُ وَلاَ عَبْدَهُ وَلاَ أَمَتَهُ وَلاَ ثَوْرَهُ وَلاَ حِمَارَهُ وَلاَ كُلَّ مَا لِقَرِيبِكَ. 22هذِهِ الْكَلِمَاتُ كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ كُلَّ جَمَاعَتِكُمْ فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَالسَّحَابِ وَالضَّبَابِ، وَصَوْتٍ عَظِيمٍ وَلَمْ يَزِدْ. وَكَتَبَهَا عَلَى لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ وَأَعْطَانِي إِيَّاهَا". ونفس الشىء ينطبق على الأناجيل الأربعة، إذ لم يرد فيها أى كلام عن الجار وحقوقه. ومن الواضح أن كُتّاب البيان قد تعبوا فى البحث عن الجار وحقوقه فى الكتاب المقدس فلم يجدوا فقالوا لأنفسهم: يا عيب الشؤم! أونرجع هكذا بخُفَّىْ حُنَيْنٍ من ذلك المسعى الطويل؟ وعندئذ خطر لهم أن يستعيضوا عن الجار بكلمة "القريب"، وشىء خير من لاشىء على كل حال. وقد ورد فى كتاب "اللاويين" وفى إنجيلَىْ متى ومرقس: "تحبّ قريبك كنفسك". لكن ألم يكن من اللائق أن يُقِرّ كتبة البيان بأنه ليس فى الكتاب المقدس حقوق للجار ينبغى مراعاتها على المؤمنين بذلك الكتاب؟ بلى كان ينبغى، لكنهم للأسف لم يفعلوا!
    فما السر يا ترى فى أنهم كانوا رغم ذلك حُرَصاء على ذِكْر حقوق الجار هنا كأرضية مشتركة رغم انعدام تلك القيمة فى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؟ لقد فهم بعض من تناقشت معهم، ويبدو أن لهم كل الحق فى هذا الفهم، أن المقصود هو جارنا "الأبعد" فى فلسطين، العدو الصهيونى، على أساس أن صناع البيان يريدون تمهيد الطريق من بعيد كى يزرعوا فى نفس المسلم أن إكرام ذلك الجار اللص المجرم السفاك مصّاص الدماء قتّال القَتَلة هو قيمة إسلامية ينبغى التمسك بها بغية إحراز الجنة. طبعا هم لم يقولوا ذلك فى بيانهم، لكن من السهل كما نعرف القول بأن للسياسة ألاعيبها وطرقها الطويلة الملتوية التى تنتهى دائما رغم طولها والتوائها إلى هدفها البعيد. وقد يكون لمن يَرَوْن هذا الرأى قدر غير قليل من صفاء البصيرة وعمق التفكير. أما الجار الفلسطينى فلْيأكل الزلط ولْيَمُتْ بغيظه، فهو غير داخل فى تلك اللعبة، وإلا فأين الكلام عنه فى ذلك البيان الذى من الواضح أنه إنما يخطب ود الغرب ويترامى على قدميه الدنستين يقبلهما ويتمسح بالتراب الذى تدوسانه عملا بالمثل القاتل القائل: "يَرْضَى القتيلُ، وليس يَرْضَى القاتلُ"؟ وهكذا تنقلب القيمة الإسلامية العظيمة الخاصة بحقوق الجار إلى التنكر لها والعمل بنقيضها تماما: إكراما للمجرمين، وتجاهلا لجيراننا وإخوتنا من الفلسطينيين النبلاء الطيبين المظلومين المضطهدين المحرومين من خيرات أوطانهم، بل المحروم كثير منهم من تلك الأوطان أصلا.
    لقد كان المفروض أن يكون الغرب هو صاحب تلك الدعوة إلى الحوار، ولكن بعد أن يعتذر ويغسل يديه من الدماء التى أراقها منا، والسرقات التى اغترفتها أيديه النجسة من أموالنا، والدمار الذى أحدثه فى بلاد المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وبعد أن يردّ لنا المظالم التى أوقعها بنا، أما أن يكون فريق من بين أظهُرنا هم كتبة ذلك البيان فهذا ما لا أفهمه ولا أبلعه ولا أستسيغه. ذلك أننا منذ قرون نقاسى من ظلم الغرب لنا، ومن إجرام الغرب فى حقنا، ومن تقتيل الغرب لأهلينا، ومن سرقات الغرب لثرواتنا، ومن تدمير الغرب لوحدتنا، فكان الأجدر بالغرب أن ينتفض ضميره ويستغفرنا نحن المظلومين ويعمل بكل طاقاته على التكفير عن تلك الجرائم النجسة اللعينة التى اقترفها فى حقنا وحق آبائنا وأجدادنا وأوطاننا. أما أن نكون نحن أصحاب ذلك البيان فإن الأقلام لتعجز أشد العجز عن وصف الأمر بما يستحق! وأشد من ذلك إيلاما وإيغالا فى الغرابة ألا يحاول كتبة البيان، ولو مجرد محاولة لبَرْو العَتَب وذَرّ الرماد فى العيون، أن يذكّروا الغرب بشىء من جرائمه.
    وليس الفلسطينيون هم وحدهم المظلمة الغائبة فى هذا البيان التى كان ينبغى أن يطالب المسلمون الغرب برَدّها والاعتذار والتعويض عنها أولا قبل التفكير فى بدء أى حوار بيننا وبينهم، بل هنالك أيضا سب الرسول والتلذذ الإجرامى الأثيم به والزعم النجس الدنس أن ذلك السباب إنما هو تعبير عن قيمة الحرية التعبيرية عند أولاد الأفاعى، كأنهم سيموتون ولن يجدوا ما يتبلّغون به وستختفى الديمقراطية من الأرض كلها إن لم يشتموا سيدهم وسيد الخلق أجمعين، عليهم لعائن الله والملائكة والناس جميعا إلى أبد الآبدين. وهذا السب لا ينفرد به الغربيون وحدهم، بل يشاركهم فى قلة الأدب والإجرام المهاويس من إخوان الوطن، وبخاصة ممن يُسَمَّوْن: أقباط المهجر، حيث تمتلئ مواقعهم المشباكية وقنواتهم الفضائية بهذا السِّبَاب الذى ينمّ عن معدن أصحابه الخسيس وأصلهم الوضيع ونفوسهم الحقيرة الدنسة، ولا يستطيع شىء منه أن يطول بدر السماء فى عُلاَه وبَهَاه، فينكفئ أصحابه على أنفسهم ينبحون من الغيظ والحقد الأسود سواد قلوبهم. وبالمناسبة فآخر تقاليع المهاويس من "أقباط المهجر" ما أطلقوا عليه: "أسبوع الإسلام الفاشى"، إذ انخرطوا مؤخرا مع مائة منظمة أمريكية فى الكيد للإسلام والادعاء عليه بالباطل واتهامه بالفاشية رغم أنهم هم وأمثالهم الفاشيون، ونحن المعتدَى عليهم. ولكن ماذا نقول للوقاحة والتنطع والإجرام الفاحش الذى لا يعرف حياء ولا تسترا؟ وهنالك فوق هذا تخطيط الغربيين وذيولهم من مهاويس أقباط المهجر لمحو الإسلام وتنصير المسلمين، وكأن أرض الله الواسعة التى تسع من الحبائب ما لا حصر له قد ضاقت على رحبها ولم تعد تطيق إلا دينا واحدا هو النصرانية وأتباعها. وهنالك كذلك احتلال الغربيين بأنفسهم أو بوكلائهم للعراق ولأفغانستان وللصومال. وهنالك "الفرقان الحق" (أو بالأَحْرَى: "الضلال المبين") الذى دلَّسوه كعادتهم فى التحريف والتزييف لوحى السماء وملأوه بالشتائم البذيئة فى حقنا وحق أمهاتنا ورسولنا وقرآننا وإلهنا رب العالمين، وقالوا فيه إننا نحن المسلمين كفار منافقون أولاد زوانٍ، وإن رسولنا سفاح مجرم كذاب قاتل زانٍ شهوانى، زاعمين أن "بهتانهم الباطل" هذا هو الوحى الصادق، أما القرآن الكريم فهو، حسب كذبهم وتدليسهم، وحى شيطانى مزيف. وهنالك تعضيدهم للمستبدين من حكام المسلمين ضد الشعوب التى يحكمونها رغم تشدق المجرمين بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتصديعهم أدمغتنا بها ليل نهار، ونهار ليل. ومن يُرِدْ أن يقرأ ردى الصاعق الذى أقض مضاجع مؤلفى هذا البهتان ومن يقف وراءهم ويَؤُزّهم على الهلاك، وعنوانه: "الفرقان الحق: فضيحة العصر- قرآن أمريكى ملفق"، فيمكنه الرجوع إلى موقعى المشباكى مشكورا.
    وهنالك ما يردده المهاويس من نصارى مصر (المهاويس، وليس النصارى الكرام الطيبين الذين كانت وما زالت تربطهم بإخوانهم المسلمين، وتربط إخوانهم المسلمين بهم، مشاعر المودة والحب) من أن المسلمين فى مصر ليسوا من أهل البلاد، بل واغلين أَتَوْا إليها من الجزيرة العربية، وينبغى أن يعودوا من حيث جاؤوا، وكأن بضع عشرات الألوف القليلة التى استقرت من العرب فى مصر فى القرون الأولى من تاريخ الإسلام قد تكاثرت إلى أن أصبحت عشرات الملايين بنسبة تسعين فى المائة على الأقل من سكان المحروسة، على حين أن الملايين النصرانية والوثنية التى كانت تسكن البلاد فى ذلك الوقت قد نزل عليها التخفيض فقلَّت وقلَّت حتى صارت نسبتها لا تزيد عن عشرة فى المائة أو قد تنقص، بينما الحقيقة التى تفقأ عين كل غبىٍّ عنيدٍ مَرِيد هى أن الأغلبية الساحقة الماحقة من المصريين قد رحبوا بالدين الجديد وكتابه ولغته ودخلوا فيه واستقرت نفوسهم إليه ووجدت السكينة فى رحابه الطيبة الطاهرة.
    وهنالك وهنالك وهنالك، فعلام الحوار إذن إذا غابت عنه تلك القضايا الملتهبة التى حولت وتحول حياتنا نحن المسلمين إلى جحيم لا ينطفئ أواره؟ ومع ذلك كله نرى كتاب البيان يتبارَوْن فى إضفاء الألقاب الفخيمة على جميع الباباوات والأحبار والرهبان من مثل "الكُلِّىّ الوقار" و"الجزيل الاحترام" و"قداسة الأنبا فلان". واللقب الأول يذكّرنا بأسماء الله التى تترجم فى الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوربية بــ"كُلِّىَ القدرة، وكُلِّىّ العلم..." ترجمةً لــ"القدير، والعليم...". فما كل هذا التخاضع والتخاشع أمام ناس لا ينبغى للمسلم أن ينافقهم أبدا، وإن لم يكن من الحصافة ولا اللياقة أيضا التحقير من شأنهم؟ لكنْ شتان بين النفاق والمجاملة، وإن كان لا ينبغى أن نضع المجاملة فى غير موضعها أو نبذلها لمن لا يستحقها.
    وحتى يرى القارئ الأبعاد الكاملة لإشارتى إلى تخطيط الطرف الآخر فى الحوار من أجل تنصير العالم بما فيه المسلمون، بل وعلى رأسه المسلمون، أجد من اللازم نقل المقال الذى كتبته د. زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية سابقا بآداب المنوفية ونشرته بتاريخ 3/ 11/ 2007م فى موقع "The World Of Islam" الضوئى باللغتين الفرنسية والعربية جميعا. وعنوان النص العربى: "هيستريا تنصير العالم! خطاب مفتوح إلى البابا بنديكت السادس عشر"، وهذا هو المقال: "بمناسبة انتهاء شهر أكتوبر، شهر التنصير فى العُرف الكنسى، ويوم التبشير العالمى، الذى يتم الإحتفال به يوم 21 أكتوبر، وانتهاء مؤتمر التبشير المنعقد فى مدينة نابولى من 21 إلى23 أكتوبر، وكل ذلك فى إطار قرار "تنصير العالم " الذى فرضه مجمع الفاتيكان الثانى عام 1965، اسمح لى أيها الأب المبجل أن أتناول موضوعا شديد الحساسية لم يعد أحد يجهل عواقبه التى تتخذ أبعادا هيستيرية استحواذية. فسواء أكانت مؤتمرات أو ندوات أو موائد مستديرة أو أياما عالمية للشباب أو تحت أية مسميات أخرى كالألعاب الأولمبية وبعثات التبشير الموجهة إلى أركان الدنيا الأربعة أو محشورة فى العتاد الحربى لجيوش الاحتلال، فلم يعد أحد لا يلحظ المبشرين وأعمالهم. إن هوس الإصرار على تنصير العالم قد تعدى أى منطق، خاصة وأنكم لا تكفون عن ترديده فى كل خطبكم تقريبا، أن الكنيسة أولا تبشيرية استجابة للآية رقم 19، فى آخر إصحاح إنجيل متّى القائل: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعَمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس".
    ولقد قام مجمع الفاتيكان الثانى بتجنيد كل المسيحيين فى وثيقة "إلى الأمم" لكى يساهموا فى عمليات تنصير العالم. لقد تم تجنيد ترسانة بأكملها من المؤسسات والمنظمات الرسمية وغير الحكومية وجماعات تبشيرية من الشباب، بل ومن الأطفال ومن الخلايا الكنسية التبشيرية، وكل الوسائل فى كافة المجالات فى المجتمع قد تم وضعها كسلاح للتبشير. وإن كان ذلك قد مر فى البداية بصورة غير ملحوظة، فقد أعلنها البابا يوحنا بولس الثانى صراحة عام 1982 فى مدينة شانت يقب. ومنذ ذلك الوقت لم يحدث أن كان الهوس أكثر عُجَالة وأكثر هيستيرية لشيطنة الإسلام والمسلمين فى العالم! وهنا اسمح لى، أيها الأب المبجل، أن أوضح لك أن نصوص العهد الجديد تناقض تلك الآية التى تعتمدون علي نصها، ومن هنا فهى تدين كل ما يترتب عليها، وهو السبب الحقيقى للإرهاب الذى يثيره هذا التبشير!
    ووفقا لنصوص العهد الجديد فإن رسالة يسوع كما يقولها شخصيا: "لم أُرْسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متّى 15: 24)! وهو نفس ما كان قد قاله فى الإصحاح العاشر من نفس إنجيل متّى: "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل إذهبوا بالـحَرِىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (آية 5 و6)، وهو ما نطالع معناه أيضا فى أعمال الرسل، إذ تقول: "إليكم أولا إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم بِرَدّ كل واحد منكم عن شروره" (3: 26). وذلك يعنى أن يسوع لم يُبْعَث، وفقا للنص، إلا من أجل اليهود الغارقين فى الشرور لكى يبتعدوا عنها. وليست هذه الآيات وحدها التى يحتوى عليها العهد الجديد (طبعة 1966 العربية)، فما أكثر الآيات التى تكشف عن أن يسوع كان يبشر بملكوت الله، وليس بتبشير الأمم! فما أكثر المرات التى كان يؤكد فيها اقتراب موعد ذلك الملكوت. ومنها ما نطالعه فى إنجيل متّى: "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين إنه اقترب ملكوت السموات" (10: 7)، أو "فإنى الحق أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتى ابن الإنسان" (10: 23). بل إن إنجيل متّى به أكثر من ثلاثين آية تشير إلى تبشير يسوع بملكوت الله، بخلاف ما فى الإصحاح الثالث عشر وحده من الآية 1 إلى الآية 52، فكلها تتحدث عن ملكوت الله واقترابه الوشيك! بل لقد كانت سرعة اقتراب حدوث ذلك الملكوت وشيكة إلى درجة أنه عندما ذهب الاثنا عشر حواريا فى أولى جولاتهم قال لهم يسوع بوضوح: "ومتى طردوكم فى هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإنى الحق أقول لكم: لا تكملون مُدُن إسرائيل حتى يأتى ابن الإنسان" (متّى 10: 23). وحتى أثناء مثول يسوع أمام الكاهن الأكبر أثناء المحاكمة نراه يقول لهم: "وأيضا أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء" (متّى 26: 64). أما إنجيل مرقس فيورد فى الإصحاح الأول كيف أن يسوع يواصل الرسالة التى بدأها يوحنا المعمدان والتبشير بنفس المضمون، إذ تقول الآية: "وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (14 و15). وفى الإصحاح التاسع نطالع: "وقال لهم: الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة". وتتكرر المقولة: "الحق أقول لكم: لا يمضى هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان لكن كلامى لا يزول" (مرقس 13: 30 و31). ونطالع فى إنجيل لوقا أن يسوع "لما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء، وكان الجموع يفتشون عليه فجاءوا إليه وأمسكوه لئلا يذهب عنهم. فقال لهم: إنه ينبغى لى أن أبشر المدن الأخر أيضا بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرْسِلْتُ" (4: 42 و43). وهو ما يثبت أن رسالة يسوع كما تتضح من كل هذه الآيات تنحصر، كما يقول هو، فى إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد بالله الواحد وليس بالثالوث، وفى التبشير باقتراب ملكوت الله الذى هو العدل والسلام والفرحة. ونطالع فى نفس إنجيل لوقا، فى بداية الإصحاح التاسع، أن يسوع قد "دعا تلاميذه الاثنى عشر وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء أمراض وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى" (آية 1 و2). وهو ما يكشف عن أنه أسند إليهم كل السلطات التى كان هو يمارسها. وفى الإصحاح العاشر يواصل نفس الوصية قائلا: "واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله. وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا: حتى الغبار الذى لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم. ولكن اعلموا هذا: أنه قد اقترب منكم ملكوت الله" (9: 11). وهو ما يثبت أنه لم يكن يسوع وحده الذى كان ينادى باقتراب ملكوت الله، وإنما قد أسند هذه المهمة إلى الحواريين أيضا. وهو ما يوضح أهمية هذا الملكوت الذى يمثل أساس رسالته، ملكوت العدل والسلام والفرحة، وليس تنصير العالم. ويبدأ الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا بواقعة نيقوديموس الفاريسى الذى قال له: "لا أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن معه الله. أجاب يسوع وقال: الحق الحق أقول لك. إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله". وكما رأينا للتوّ فإن الأناجيل الأربعة تتحدث عن ملكوت الله على أنه الرسالة الأساس ليسوع، فما من إنجيل إلا وتناولها بنسب متفاوتة من الآيات. وهو ما سوف نتابعه أيضا فى أعمال الرسل والرسائل التى تبدأ فى الإصحاح الأول بالإشارة إلى ما فعله يسوع وعلَّمه إلى اليوم الذى ارتفع فيه عندما أمضى "أربعين" يوما بعد بعثه، كما يقولون، يتحدث عن الأمور المختصة بملكوت الله: "وهو يظهر لهم أربعين يوما ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله" (1- 3). ونغض الطرف هنا عن الاختلاف أو تناقض مدة بقاء يسوع على الأرض بعد بعثه عن الأناجيل المعتمدة، التى تمتد من يوم واحد إلى أربعين يوما، وهى واحدة من الآف المنتناقضات التى يزخر بها الكتاب المقدس، لكنا نكتفى بتوضيح نقطة جوهرية: أنه حتى بعد بعثه، وفقا لأعمال الرسل، وليس أثناء حياته فقط، ظل أربعين يوما يحدث حوارييه فقط عن الأمور المختصة بملكوت الله! بل والأدهى من ذلك تنتهى أعمال الرسل بالآيتين التاليتين: "وأقام بولس سنتين كاملتين فى بيت استأجره لنفسه. وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزًا بملكوت الله ومعلما بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع" (28: 30 و31). وفى رسالته إلى أهل رومية يوضح بولس قائلا: "لأن ليس ملكوت الله أكلا وشربا. بل هو بِرٌ وسلامٌ وفرحٌ فى الروح القدس" (14: 17). وفى رسالته إلى أهل كورنثوس يضيف بولس قائلا: "أم ألستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟" (6: 9). ويواصل السرد فى رسالته إلى أهل غلاطية معددا أعمال الجسد الظاهرة محذرا إياهم: "فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضا: إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله" (5: 19). وفى رسالته إلى أهل أفسوس يقول: "فإنكم تعلمون هذا: أن كل زان أو نجس أو طماع الذى هو عابد للأوثان ليس له ميراث فى ملكوت المسيح والله" (5: 5)، ونلاحظ هنا تغييرا واضحا: فبعد أن واصل بولس تصعيده لعملية تأليه يسوع و جعله "ربنا يسوع" فى أقواله السابقة، ها هو يسند إليه ملكوت الله ويشرك ملكية الملكوت للمسيح ولله معا! وهو تغيير يزايد عليه بطرس فى رسالته الثانية، إذ يقول فى الإصحاح الأول: "لأنه هكذا يقدَّم لكم بسعةٍ دخولٌ إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى" (الآية 11)! فبعد أن كان يسوع يبشر بملكوت الله واصل الحواريون تصعيد أهمية يسوع، وجعلوا الملكوت شركة بين الله ويسوع، ثم تحول إلى "ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى "! وأيا كان صاحب ذلك الملكوت فإن هذا لا يغير شيئا من أن الرسالة التى أتى من أجلها يسوع والتى أرسله الله ليحققها هى، بكل وضوح، إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد، والتبشير بملكوت الله الذى اقترب مجيئه. بل والأدهى من ذلك يقول يسوع لمن عصوا كلام الرب: "لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنْزَع منكم ويُعْطَى لأمةٍ تعمل أثماره" (متّى 21: 43).

    (يتبع)...


  16. #16
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    وقبل أن ننهى هذه الجزئية لا بد لنا من لفت نظركم إلى بعض التناقضات المتعلقة بالنص و تطبيقكم له. فقد رأينا أن يسوع قد حدد قائلا إنه لم يرسَل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى 15: 24)، وكذلك فى نفس الإنجيل حينما حدد قائلا لحوارييه: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحَرِىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (10: 5 و6). ألا يبدو من غير المنطقى، بعد كل هذه النصوص، أن نراه يملى لحوارييه بعد "بعثه"، سواء أكان طيفا أو تجليا، و أن يأمرهم بالذهاب ليتلمذوا جميع الأمم ويعمّدوهم باسم الثالوث، وهو القائل: "إلى طريق أمم لا تمضوا"؟! ألا يعنى ذلك مخالفة لرغبة يسوع وإرادته و القيام بفرض المسيحية على العالم، خاصة وأن نص ذلك الكتاب مرتاب فى أمره بين العلماء؟! وهناك تناقض آخر بين متّى و مرقس حول نفس هذه المقولة عن التبشير بالثالوث، إذ يقول متّى إن هذا الأمر قد أُعْطِىَ للحواريين الأحد عشر فى الجليل: "إلى الجبل حيث أمرهم يسوع" (28: 16)، بينما يورد مرقس أن هذا الأمر قد أُعْطِىَ للحواريين الأحد عشر فى المنزل، إذ يقول: "أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبَّخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع وأاكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (16: 14 و 15). أى أنه ظهر لهم فى المنزل كطيف وأوصاهم بالرسالة! وبغض الطرف عن مثل هذا التناقض بين متّى و مرقس فى موضوع بمثل هذه الأهمية فلا نملك إلا أن نندهش من مضمون الرسالة التى أملاها: "وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدَن". ونتجاوز هنا عن هذا "التسامح" لنرى علامات الذين يؤمنون وصفاتهم فهم: "يُخْرِجون الشياطين باسمى ويتكلمون بألسنة جديدة. يحملون حيّاتٍ، وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون" (مرقس 16: 15ـ 18)! ووفقًا لهذا المعيار يبدو أن هناك قلّة قليلة جدا من المؤمنين بين المسيحيين! وتأتى أعمال الرسل بتناقض آخر يتعلق بالتعميد، ففى آخر الإصحاح العاشر، عندما ذهب بطرس إلى قيصرية للقاء كورنليوس، "أمر بأن يعتمدوا باسم يسوع المسيح" (10: 48). أى أنه وفقا لأعمال الرسل فإن بطرس الحوارى كان يجهل أنه يتعيّن عليه التعميد "باسم الآب والابن والروح القدس"! بل والأدهى من ذلك نرى فى الإصحاح الحادى عشر من أعمال الرسل أنه عندما "صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين: إنك دخلت إلى رجال ذوى غُلْفَة وأكلت معهم" (الآية 3) (أى أنه دخل وأكل مع غير اليهود). وبدأ بطرس يحكى لهم القصة كما وردت فى الإصحاح السابق كنوع من التبرير، ثم أضاف قائلا: "فتذكرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عَمَّدَ بماء، وأما أنتم فستعمَّدون بالروح القدس" (آية 16). والقائل هنا فرضا هو نفس يسوع. ومما تقدم، وهو جد قليل من كمّ الأمثلة الواردة، نرى أن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات تمت لاحقا. فأيا كانت وسيلة التعميد فذلك يثبت أنه، حتى كتابة أعمال الرسل، وهى سابقة على كتابة الأناجيل الأربعة، لم تكن عبارة "الثالوث" موجودة أو قد تم اختلاقها بعد، وأن يسوع لم يطلب منهم تنصير كل الأمم! وذلك لأننا نطالع فى نفس الإصحاح الحادى عشر أنهم تشتتوا "إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية وهم لا يكلمون أحدا بالكلمة إلا اليهود فقط" (11: 19)، وهو ما يخالف عبارة يسوع بأن يعمِّدوا "كل الأمم"، فكيف للحواريين ألا يتحدثوا مع الوثنيين المفترض تنصيرهم بأمر يسوع، ولا يتحدثون إلا إلى اليهود أمثالهم؟ ولا يسع المجال هنا لإضافة كل ما تضمه أعمال النقد الحديثة من عدم توافق، لكنا على الأقل نشير إلى أن أغلبية النقاد، ومنهم كنسيين، يقرّون بأن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات متأخرة قام بها القديس جيروم فى آخر القرن الرابع، لأن نفس الأصل المعروف باسم "كودكس سيناء" و"كودكس الفاتيكان"، ويرجعان إلى القرن الرابع، لا يتضمنا تلك الإضافة! ونوجز كل ما تقدم بأن يسوع طوال فترة تبشيره، سواء أكانت بضعة أشهر أو ثلاث سنوات، وفقا لأى إنجيل نعتد، وسواء بعد صلبه وبعثه كما يقولون، وظهوره يوما أو اأربعين يوما، فهو لم يكف عن الإعلان بوضوح: أنه لم يرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة، ومن أجل التبشير بملكوت الله.
    ترى أمن ضرورة لنضيف هنا أن عقيدة التثليث هذه، والتى قامت بمساواة الله بيسوع بالروح القدس، قد تم اختلاقها وفرضها فى مجمع القسطنطينية عام 381؟ فكيف نراها موجودة فى نص مكتوب فيما بين أواخر القرن الأول وبداية القرن الثانى؟! فبدلا من ذلك الطريق الهيستيرى الضال و الهادف إلى اقتلاع الإسلام والمسلمين، وبدلا من هذه الهيستريا المضادة للإرهاب زعما والتى تخفى الأخطار الحقيقية السياسية المعاصرة، وأولها مسألة الفاقة الغذائية فى العالم، حيث أن هناك 854 مليونا من البشر يعانون من الجوع وفقا للمدير العام لمنظمة الفاو، ألا يُعَدّ أول واجب هو العمل على إطعامهم، العمل على إنقاذهم كآدميين لهم كل الحق فى الحياة، بدلا من أن تلوحون لهم بالطعام بيد، وتفرضون عليهم الكتاب المقدس باليد الأخرى؟ فمثل هذا النص "المقدس" المختلف عليه وحوله بهذا الشكل، والذى فرضه مجمع الفاتيكان الأول عام 1869 على أن "الله هو مؤلفه"، ثم فى مجمع الفاتيكان الثانى عام 1965 حكمت عليه أغلبية مكونة من 2344 كنسيا ضد 6، ورأوا "أن هذه الكتب، وإن كانت تتضمن الناقص والبالى، فهى رغم ذلك تُعَدّ شهادات لعلم تربوى حقيقى"! إن مثل هذا النص يتطلب شىء من "التواضع" من جانب من يمثلونه ومن جانب من يتّبعونه، وليس فرضه على العالم بأى وسيلة وبأى ثمن. ويبقى سؤال يفرض نفسه فيما يتعلق بعملية التنصير، وهو "الدور الأساسى للكنيسة" كما لا تكفون عن ترديده: ترى ما هو مصير اليهود الذين منحتوهم أرضا ليست من حقهم يقينا، بينما يعانى الشعب الفلسطينى من عملية قتلٍ عِرْقِىِّ مكتومة الأصداء على مرأًى ومسمعٍ من العالم أجمع؟ ترى هل ستقومون بتنصير اليهود أيضا، أم أنهم مُعْفَوْن من الخلاص؟! مع التعبير عن شكرى للقراءة، أرجو أن تتقبل، أيها الأب المبجل، تحياتى وأمنياتى بأن تتمكن من إقامة العدل الحقيقى والسلام الحقيقى والفرحة الحقيقية بعدالة تليق بمقام يسوع النبى والرسول، وتليق بالمكانة التى تحتلونها".
    هذا، وقد كانت هناك على طول تاريخ المواجهة بين الغرب والإسلام رسائل متبادلة بين الطرفين. وحين كان المسلمون أقوياء كانت لهجة الرسائل التى يبعثون بها إلى الطرف الغربى لهجة عزة وشموخ وثقة بالنفس ترتكز على ثقة عميقة الغور بالله سبحانه والاطمئنان إلى أنه جل وعلا ناصرهم ومعلى يدهم. ومن هذه الرسائل ردّ هارون الرشيد على نقفور ملك الروم، الذى كان قد بعث له برسالة يعلنه فيها بأنه لن يرسل إليه ما كانت الملكة السابقة عليه ترسله له من جزية بمقتضى المعاهدة التى كانت بين الدولتين، وزاد فهدده إن لم يردّ إلى الروم ما كان قد حصل عليه منها من أموال فسوف يكون السيف هو الحكم بينهما. فلما قرأ الرشيد الرسالة غضب غضبًا شديدًا حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه، ودعا بدواة وكتب إلى ملك الروم ردّا على رسالته قائلا: "بسم الله الرحمن الرحيم. من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام". وقاد بنفسه جيوشًا جرارة، ولقّنه درسًا لا يُنْسَى، فعاد إلى أداء الجزية صاغرًا بعد أن خضع أمام قوة المسلمين وعزة نفوسهم. كذلك لا ينسى التاريخ للمعتصم فتح عمورية سنة 223هـ، يوم استغاثت به امرأة عربية اعتدى الروم عليها على الحدود، فصرخت: وامعتصماه! فلما بلغه صراخها كتب إلى ملك الروم: "من أمير المؤمنين المعتصم بالله، إلى كلب الروم: أطلق سراح المرأة، وإن لم تفعل بعثت لك جيشًا أوله عندك، وآخره عندي". ثم أسرع بجيش جرار تلبية لصرختها غزا به الروم وفتح عمورية، وسجل أبو تمام ذلك الانتصار الكبير فى بائيته الرائعة التى يجد القارئ تحليلا لها فى كتابى: "فى الشعر العباسى- تذوق وتحليل".
    ربما قيل إن ذلك أمر قد أصبح فى "خبر كان" بعد أن ضعف المسلمون وعادوا لا يستطيعون الرد على الغرب والنصرانية بذات الطريقة. لكننا، على سبيل المثال، نعلم بمناظرة جرت فى كلكتا أواسط القرن التاسع عشر بين بعض العلماء المسلمين وبعض المبشرين انتهت بانسحاب الجانب النصرانى بعد أن أحس بعجزه عن الرد مما كان له دوى فى كل مكان فى العالم الإسلامى آنذاك. وهناك مناظرة أخرى حول العقيدة النصرانية والأسس التى ترتكز عليها تمت فى الخرطوم على مدار سبعة أيام فى أول الشهر الأخير من عام 1980م بين عدد من علماء الدين المسلمين وعدد آخر من القساوسة والمبشرين دعا إليها الطرف الأول وانتهت بإعلان الفريق الثانى جميعا إسلامه. ويجد القارئ كل ما يحتاج إلى معرفته عن ذلك الموضوع فى كتاب "مناظرة بين الإسلام والنصرانية لمناقشة العقيدة الدينية بين مجموعة من رجال الفكر من الديانتين الإسلامية والنصرانية"، وهو من نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد فى المملكة العربية السعودية بالرياض فى 1413هـ- 1992م. كما رأينا منذ قليل كيف أن سيدة واحدة، وفى ظل ذات الظروف التى بعث فيها العلماء المسلمون الــ138 رسالتهم إلى بابا الفاتيكان وعدد من زعماء النصرانية، قد أرسلت بخطاب مفتوح إلى بابا الفاتيكان كله عزة وكرامة واستمساك شديد بثوابت الإسلام، وليس فيه أية مواربة أو مجاملة كاذبة أو تفريط فى شىء مما لا ينبغى أن يفرّط فيه المسلم. ومثل خطابها ذلك النداء الذى أطلقه مؤتمر تعظيم حرمات الإسلام من الكويت بعنوان "دعوة للمراجعة!"، فهو نداء كله عزة ورجولة وشهامة، ولا شىء فيه بتاتا من خشوع أو خضوع أو تودد إلى من لا يستحقون التودد، بَلْهَ النفاق الذى لا معنى له، إذ صارح موقعو النداء نظراءهم الغربيين بجرائم أممهم المستمرة ضد المسلمين والإسلام، ودَعَوْا تلك الأمم إلى الإقلاع عن غرورها والاعتراف بخطاياها فى حقنا وبذل الجهد للتعرف على قيم الإسلام العظيمة التى تعمى عن إبصار ضيائها الكريم. ومن عجبٍ أن كتبة ذلك النداء هم أيضا يرتكزون على آية "آل عمران" الرابعة والستين: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، لكن شتان بين السماء والأرض. نعم شتان بين الدم الثائر الفائر وما يبدعه من غضب نبيل وعزة كريمة وبين الماء البارد الذى يجرى فى عروق بعض من لا يعرفون كيف ينفعلون أو يغضبون مهما وُجِّهَ إليهم وإلى أممهم وأوطانهم من إهانات وإذلالات. وهناك حوارات مكتوبة بين أقباط المهجر، وعلى رأسهم ذلك القمص السفيه البذىء، وبين عدد من العلماء والكتاب المسلمين عبر الواقع المشباكية المختلفة لم يترك فيها الجانب الإسلامى شيئا مما يزعمه بالكذب والتزوير والتدليس أولئك المهجريون إلا بينوا عواره وفضحوه وأظهروا للعالم أجمع أنه كلام لا يختلف عن رَغَاوَى الصابون وفقاقيعه لا يغنى عن الحق شيئا، وكانت نتيجته أن انقلب السحر التافه على الساحر الفاشل. ولكاتب هذه السطور ما لا يقل عن عشرة كتب ضوئية فى هذا المجال يُلْفِيها القارئ فى موقع "http://awad.phpnet.us/" الخاص به.
    على أن نعرف قبل هذا كله وبعد هذا كله أن الذى سوف يحسم الأمر من جذوره ليس هو الحوار فى حد ذاته، بل القوة التى نحن عليها. فإذا كانت فى أيدينا القوة والمقدرة فلسوف يكون لكلامنا معنى وهيبة، ولسوف تَصْغَى إليه الآذان والأفئدة، ولسوف يلقى كل احترام وتقدير، ولسوف يكون كلاما واجب النفاذ، شاء من شاء، وأبى من أبى. أما إذا ظللنا كما نحن الآن ضعفاء أذلاء عاجزين فلن نحظى باحترام أحد، ولن يبالى بما نقول أو نفعل أحد، ولن يرعى حقنا أحد، ولن يبكى علينا مهما ملأنا الأرض والسماء صياحا ونواحا وصراخا وأنفقنا السنين والقرون فى الحوار أحد. والقرار فى يد الشعوب لا فى يد الحكومات، فقد وضح أن حكومات المسلمين فى عمومها ليست للمسلمين، وعلى الشعوب أن تنظر لترى ماذا يجب عليها عمله كى تجبر حكوماتها على أن تكون فى خدمتها وتعبر عن موقفها وتحمى مصالحها. وإلا فإذا ظلت الشعوب فى هذا الخنوع والهوان والخوف والرضا بالخزى والعار الذى يجللها من فرع رأسها إلى أخمص قدمها فلسوف تبقى الحكومات بدورها فى خنوعها وهوانها وخوفها ورضاها بالخزى والعار أمام القوى الغربية، إذ إن الحكومات إنما هى انعكاس لأوضاع شعوبها. كما أن الطبيعة البشرية بوجه عام تميل إلى التمدد والانتشار والاستبداد، ولا تكف عن ذلك إلا إذا وقف فى طريق تمددها وانتشارها واستبدادها مانع يمنعها ويردعها عن ذلك، وعلى هذا فلن يرعوى حكام المسلمين عن استبدادهم بشعوبهم وعدم مبالاتهم بها من تلقاء أنفسهم، بل بوقوف تلك الشعوب فى وجوههم وتكشيرها عن أنيابها واستعدادها للدفاع بكل ما أوتيت من قوة وإرادة عن مصالحها وحاضرها ومستقبلها. ولتأخذ تلك الشعوب عظة وعبرة من موقف حكامها من الغرب: ترى هل يجرؤ أحد هؤلاء الحكام المستبدين أن يقول للغرب: "ثلث الثلاثة كم؟". طبعا لا. فلماذا؟ لأن الغرب يستطيع أن يوقف امتداد هذا الحاكم وحبه للانتشار والتسلط ويخلعه من الحكم خلعا متى أراد، لأن الغرب أقوى منه. وهذا الغرب يظل يعتصره ويوظفه فى خدمة مصالحه، فيقوم بها على أحسن وجه ويتفانى فى أدائها خادما مطيعا، حتى إذا تم اعتصاره إلى آخر قطرة وانتهى الغرض منه انقلب عليه نفس هذا الغرب وتخلى عنه تاركا إياه لمصيره الأسود عند هيجان شعبه عليه، أو مدبرا انقلابا يطيح به ويأتى بوجه جديد ينخدع فيه الشعب لفترة من الوقت يكون فيها قد قام بالخدمات التى يريدها الغرب منه... وهكذا دواليك. وما نظام برويز مشرف مثلا بالغريب علينا أو البعيد منا.
    والواقع أن أى حاكم إنما يدين لمن يأتى به إلى السلطة أو لمن يمكنه خلعه منها متى أراد، ولأن الشعوب الإسلامية ليست هى التى تأتى بحكامها فإنها من ثم لا تدينهم بشىء، فلماذا يُعَنِّى الحاكم المسلم نفسَه بشعبه إذن، وهو شعب لا يحل ولا يبل ولا له فى عير أو نفير؟ وعلى كل فقد قيل بحق: "كما تكونوا يُوَلَّ عليكم". وقيل أيضا وبحق: "مِنْ أعمالكم سُلِّطَ عليكم"، والحكام هم من عمل الشعوب: إما بخنوع شعوبهم لهم وتركها إياهم يفعلون بها الأفاعيل دون أن ترفع فى وجوههم إصبعا، بل دون أن تئن مجرد أنين خوفا من أن تعكر عليهم صفو يومهم وليلهم، وإما بتربيتها لهم منذ أن كانوا أطفالا فصبيانا فشُبّانًا على الطريقة التى تمارس بها حياتها، فإن كانت طريقة سليمة مستقيمة جاء حكامها أصحاء مستقيمين، وإن كانت طريقة منحرفة منحطة جاء حكامها منحرفين منحطين. وإن من يقارن بين لغة الحاكم المسلم فى خطابه إلى شعبه فى أوليات سلطانه وبينها بعد مرور فترة من الوقت يلاحظ كيف أنه فى البداية يعمل لشعبه حسابا فيتودد إليه ويخاطبه بالكلام المعسول، ثم تتغير نغمة خطابه بعد ذلك. والسبب أنه فى أول الأمر يظن أن تحت القبة شيخا وأن الشعب يستطيع أن يصنع شيئا له أو ضده، لكنه يفاجأ بأنه شعبٌ مِثْلُ عَدَمِه، فيَشْرَع فى التجبر عليه والتعامل معه بالمداس، ليجد أن الشعب لا يثور بل يخرج فى مظاهرات يفدّيه فيها بروحه ودمه رغم أنه ليس لديه من الدم قليل أو كثير، فيزداد الحاكم بطشا وتجبرا ويتأله ويبغى فى الأرض غير عامل لأحد ولا لشىء حسابا. والمسؤول عن ذلك كله هو الشعب. ومن يَهُنْ يسهل الهوان عليه، ومن لم يَبْكِ على نفسه فلن يبكى عليه أحد، ولن ترحمه الأيام والليالى. ولا يعرف التاريخ حاكما مستبدا باطشا صحا ضميره عند قيامه من النوم ذات صباح فقرر أن يتحول إلى حاكمٍ شُورِىّ. هذا من أول المستحيلات. كما لا يعرف التاريخ شعبا فرّط فى حقوقه ولم يأكله بدنه من تخلفه وكسله وتهاونه فى الأخذ بأسباب الحضارة والكرامة والعزة والحرية، ثم حصل له التقدم وحاز الكرامة والحرية فجأة، اللهم إلا فى الأوهام التى برعت فى العيش عليها الشعوب المتبلدة الذليلة كشعوب أمة الإسلام فى هذا الطور المخزى من تاريخها.
    ولكن يوم يرى الحاكم المسلم المستبد أن شعبه صار قويا ولا يخشاه ويمكنه منعه من الفساد والاستبداد وإسقاطه إن لم يَرْعَوِ فعند ذلك، وعند ذلك فقط، وليس قبله أبدا، سوف يعمل ذلك الحاكم لشعبه مليون حساب. أما إن استمرت تلك الشعوب على ما هى عليه من خزى وهوان وخنوع وخضوع وتركت رؤساءها وملوكها وأمراءها يتصرفون فيها كما يتصرف صاحب الزريبة فى مواشيه مثلما هو حالها الآن، فلا تلومنّ إلا نفسها، ولْتَسْتَعِدّ للاختفاء فى أطواء التاريخ حيث تذهب الشعوب البائسة دون أن يبالى بها أحد. إن الشعوب هى صاحبة المصلحة، أما الحكومات فلن تخسر شيئا إذا استمرت الأوضاع على ما هى عليه، فهى باقية فى السلطة والمال والاستبداد والترف لقاء الخضوع والخشوع والخنوع للأجنبى، وهو أمر لا يضايقها ولا يشغلها فى شىء، فالمهم لديها هو الاستمرار فى الإمساك بصولجان السلطان حتى لو كان ثمنه الانبطاح أمام القوى الكبرى. وعلى شعوبنا أن تكف عن انتقاد حكامها ما دامت هى مثلهم فى الخنوع والخضوع: هى تخضع لهم وترتعب منهم، وهم يخضعون للدول الكبرى ويرتعبون منها. وإذا كانت الشعوب المسلمة لا تريد عزة ولا كرامة فى علاقتها بحكامها، فلماذا تريد من أولئك الحكام أن تكون عندهم عزة وكرامة فى علاقتهم بالغرب؟ أليس هذا ضد المنطق؟ أليس هذا ظلما لأولئك الحكام؟ نعم هو ظلم، لأنه كيل بمكيالين، والكيل بمكيالين ظلم، وظلم فادح! فلتنظر شعوبنا إلى نفسها فى المرآة وتنظر إلى حكامها بعد ذلك، ولسوف ترى أنه لا فرق بينها وبين حكامها فى شىء: فالعيوب هى العيوب، والآفات هى الآفات. وليس من المعقول أن يكون هؤلاء الحكام قد هبطوا عليها بالمظلات من السماء. إنهم نبت التربة ذاتها التى نبتت فيها الشعوب، وهى تربةٌ سَبِخَةٌ، ولذلك لا تنتج أبدا نباتا طيبا أو فاكهة حلوة، اللهم على سبيل الشذوذ والندرة. والدول لا تتقدم بالشذوذ والندرة، بل بالاتجاه العام والأغلبية الكبيرة!

    (يتبع)...


  17. #17
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    وأيا ما يكن الحال فهذا نص النداء الذى بعث به أعضاء مؤتمر الكويت الخاص بالدفاع عن حرمات الإسلام إلى نظرائهم فى الغرب، وهو نداء يتفجر بالعزة والكرامة، فبينه وبين الرسالة التى وجهها الــ138 عالما إلى باباوات النصرانية وكبار بطاركتها ومطارنتها فارق مرعب:
    "مقدمة:
    باسم الله الإله الواحد، الذي لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه، رب الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، كُتِبَتْ هذه الرسالة من قِبَل لفيف من العلماء والمثقفين المسلمين اجتمعوا لبحث تطور العلاقة مع الغرب، والأسلوب الأمثل والأعقل للتعامل مع تنامي ظاهرة التعدي على حرمات الإسلام ومقدسات المسلمين من قِبَل أشخاص ومؤسسات وهيئات رسمية ودينية وإعلامية في الغرب. ونحن الموقعين نوجه هذه الرسالة إلى المفكرين والمثقفين وصناع القرار في الغرب، وإلى الزعامات الدينية والشعبية، بشأن تلك الظاهرة، ولهم نقول:
    عندما يكثر ويتكرر التعدي على رموزِ وحرماتِ أمةٍ ما من قِبَل جماعات من أمم أخرى، فلا بد أن تنشأ ردود أفعال، وتَرِد العديد من الأسئلة حول أسباب هذا التعدي والظروف التي تسهم في استمراره. غير أن الخيار الأنسب لمصلحة البشرية جمعاء هو أن يتوقف الظلم والعدوان، فليس هناك أمة على وجه الأرض تعاني الآن من الاحتلال والقهر والظلم من بعض القوى الغربية قدْرَ ما تعانيه الأمة الإسلامية، وليست هناك شعوب أو أمم في عالم اليوم تعاني من الاستهزاء والاستهانة بحُرُماتها ودينها قدر ما تعاني منه هذه الأمة حتى أصبحت هذه الظاهرة تمثل تحديًا وتعديًا غير مقبول على أمة ذات رسالة سماوية وتاريخ عريق وحضارة أصيلة يمثل أهلها اليوم أكثر من ربع سكان العالم. من أجل ذلك رأينا أن نلفت الأنظار إلى موقفنا من تلك الظاهرة، حتى يُتَدَارَك الخطأ ويُصحَّح المسار.
    علاقاتنا الحالية:
    ندرك أن الموقف الغربي بالعموم منذ أول احتكاك له بالإسلام لم يكن موقفًا إيجابيًّا لاعتبارات متعددة من أهمها أن الأوربيين لم يتعاملوا مع الإسلام بصفة مباشرة، وظل عامل التوجس والخوف ملازمًا لهم، وتحوَّل الأوربيون المشتّتون لصناعة تكتل ديني نصراني ضد الإسلام، ومن ثَم تحول الإسلام في ذلك الوقت إلى عدو خارجي يمكن أن يجمّع أوربا بعد أن كانت شتاتًا يقتل بعضُهم بعضًا. نحن على يقين أن التعميمات تؤدي إلى الكثير من الأخطاء في الحكم، وندرك أيضًا أن أوربا وأمريكا قد حاولتا خلال القرون الماضية التخلص من بعض ما شاب الحضارة الغربية من عيوب ونقائص في مجال التعامل مع المخالفين، لكن السنوات الأخيرة نسفت تلك المحاولات. ولهذا نؤكد أننا نعني بالغرب هنا عموم المجتمع الغربي، وليس فقط القوى المعادية للإسلام، ونخاطب في رسالتنا المنصفين أيضًا، وندرك أن الغرب ليس كله سواء.
    من صور التعدي:
    إننا ننبه قادة الفكر والرأي في الغرب إلى خطورة هذه الظاهرة المتزايدة والمتعددة، فلا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن نشهد في أقلَّ من ثلاثة أعوام حملات تعدٍّ على حرماتنا تبدأ من التعدي على كتاب ربنا المعظم (القرآن الكريم) بتأليفِ ونشرِ وتوزيعِ كتابِ بديلٍ يُسْخَر فيه من ديننا عقيدة وشريعة وأخلاقًا وتاريخًا. ثم تبدأ بعد ذلك حملة مغرضة ومُسِفّة ضد شخص نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم تنعته بأبشع الصفات، وتصوره رسمًا بأكثر الرسومات سخرية واستهزاءً حيث بدأ ذلك من خلال صحف بالدانمارك ليتكرر في بلدان أوروبية عديدة: إما بالمشاركة أو بالتأييد. ثم تطور الأمر إلى وضعٍ أسوأَ بكثير عندما وصف بابا الفاتيكان الإسلام والقرآن والنبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في خطاب علني بصفاتٍ أقلُّ ما يقال فيها إنها جائرة.
    لم تغفل الأمة الإسلامية أيضًا عن متابعة صور الاستفزاز المتكرر بإهانة القرآن الكريم على أيدي الجنود الأمريكيين في معسكرات الاعتقال في أبو غريب بالعراق وجوانتنامو في كوبا، حيث اقترنت إهانة الإنسان مع إهانة القرآن. وبمزيد من الدهشة والتعجب يراقب المسلمون حملة التعدي على الحريات الشخصية للمسلمين المواطنين منهم والمقيمين في كبرى عواصم البلدان الغربية. كما لا ننسى التذكير بالاعتداءات على المساجد التي تتكرر في العراق وأفغانستان الواقعتين تحت الاحتلال: بالنسف المباشر أحيانًا، وبالاقتحام بحجة البحث عن مسلحين وقتلهم وقتل الناس داخلها أحيانًا أخرى.
    وهناك نظرة من الكراهية تظهر بشكل متكرر من خلال أقوال الكثير من القادة والسياسيين، ومن خلال كتابات بعض المفكرين، وكذلك من خلال بعض المنتجات الإعلامية المتعددة من أفلام ومسلسلات وقصص درجت على وَصْم الإسلام والمسلمين بالنقائص والعنف والإرهاب.
    إن سكوت أغلبية قادة الفكر والرأي عن استنكار تكرار هذه الظواهر في بلادكم يجعلنا في حيرة من اختيار الخندق الذي نضعكم فيه: هل هو خندق الحريات وحقوق الإنسان واحترام الآخرين أم خندق كبت حرياتهم ومصادرة هوياتهم؟ إننا نتساءل: هل أنتم مع التطاول وازدراء الأنبياء باسم حرية الرأي أم مع الحرية ضد ظاهرة المصادرة؟
    الهجوم على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام:
    رغم أن بعض الحضارات حاربت المسلمين، إلاّ أنّ معظم تلك الحضارات لم تحتفظ بتراث من الكراهية تجاه نبي الإسلام مثلما احتفظت به دويلات أوروبا وكنائسها. إن العـداء النصراني للإسـلام ولنـبي الإسلام خـارج أوروبـا الغربية لم يتحول إلى كراهية تاريخية يجري الاحتفاء بها وتأكيدها في المناسبات الدينية وعلى حوائط الكنائس والأديرة كما حدث في أوروبا الغربية، وهي ظاهرة تستحق التوقف عندها، ووضع السبل الكفيلة بالحد من آثارها.
    إننا نسأل هنا: لماذا يسعى البعض في الغرب إلى هدم كل القدوات التاريخية والمعاصرة؟ إن الذي يعيش بلا قدوة هو بلا مستقبل، وأمة بلا تاريخ هي بناء بلا أساس. فهل على هذا الأساس تتركز الإساءة إلى نبينا؟ إننا على يقين أن التيار المادي الانحلالي في الغرب يريد للبشرية بوجه عام، وللمسلمين بوجه خاص، التخلص من النماذج الإنسانية المضيئة، وليس الهجوم على أخيار الأمة من الأنبياء وأتباعهم إلا حلقة في مسلسل التخلص من القدوات التاريخية. سيظهر في مقابل ذلك حرص الأمة الإسلامية على عدم التنازل مطلقًا عن الدفاع عن نبيها وعن سائر النبيين، فهذه نقطة فاصلة لا نسمح بتجاوزها مهما كانت المسوِّغات المتعلقة بما يسمى بحرية الفكر والرأي. إن العالم الإسلامي لا يمكن أن يتقبل رغمًا عنه نتائج الحرية الفكرية في الغرب، كما أن الغرب لا يحب أن يتحمل نتائج بعض الحريات الإنسانية الأخرى في الشرق. إننا ندعو إلى وقفة جادة من المفكرين الغربيين للتعامل مع هذه الظاهرة، ونحن نتوقع من المفكر الغربي أن يكون حريصًا على مكتسبات حضارة الغرب، وليس عن حق الغرب، فيما يزعم البعض، في سباب الآخرين والاستهزاء بهم، وبخاصة الأنبياء.
    الاعتداء على المسجد الأقصى (مسجد كل الأنبياء):
    إن من التعدي على حرماتِ ومقدساتِ الأمة الإسلامية احتلال المسجد الأقصى وتكرار الاعتداءات عليه، والتي تجري بمساندةِ أو سكوتِ معظم الحكومات الغربية وتأييد بعض التيارات الدينية الغربية. لقد لفت نظرنا أن الفيتو الأمريكي أصبح لا يستخدم غالبًا في أروقة الأمم المتحدة إلا للدفاع عن الاعتداءات الصهيونية المتكررة على أرض فلسطين المحتلة، وإلا لحماية السيطرة اليهودية على المسجد الأقصى الذي لن تتنازل عنه الأمة الإسلامية مطلقًا. ونكرر تساؤلنا لقادة الفكر والرأي في الغرب: أين مواقفكم في مواجهة الظلم الحاصل على مقدسات المسلمين في فلسطين، وعلى الشعب الفلسطيني الذي يُحْرَم من أبسط حقوقه؟
    نحن نراقب التناقض الصارخ بين دعوة الغرب للمسلمين بتبني النموذج الغربي للديمقراطية، بينما تحارب الحكومات الغربية نفسُها ما أسفرت عنه الانتخابات المعبرة عن اختيار الفلسطينيين لحكومتهم. إن سكوت المفكرين والمثقفين الغربيين عن التجاوزات بحق الإنسانية والمقدسات في فلسطين يمثل وصمة عار على جبين دعاة الحرية والديمقراطية في العالم أجمع. ولهذا ندعوكم إلى إزالة هذه الوصمة بالانضمام إلى الكثير من المنصفين من مفكري العالم ومثقفيه ممن يدافعون عن حقوق الأمم والشعوب في استعادة مقدساتها وأراضيها المحتلة، واستعادة حقها في اختيار من يمثلها ويدير شؤونها السياسية والاجتماعية، وحقوقها في الكرامة الإنسانية ومقاومة الظلم والاحتلال والتصدي للقهر والإذلال بكل الوسائل المشروعة.
    الاستهزاء بالحجاب الإسلامي:
    إن الحرية الشخصية مكفولة في الديمقراطيات الغربية كما ينادي الغرب في أدبياته الفكرية والاجتماعية، ومن ثم فإن من حق المرأة ديمقراطيًّا ألا تُمْنَع من حريتها الشخصية في أن تلبس ما تشاء مما لا يخالف القواعد الأخلاقية أو القِيَم العامة للمجتمعات. لكن العالم الإسلامي فوجئ بتزايد حملة الهجوم والاستهزاء بالحجاب الإسلامي في الغرب، وهو ما يناقض المبادئ الديمقراطية التي يجري الترويج لها في العالم الإسلامي. ولم تتحرك جمعيات الحركة النسوية العالمية للدفاع عن حقوق المرأة المسلمة، فهل حرية العري مقبولة ويدافَع عنها، وحرية الاحتشام تحارَب وتُتَّهَم؟!
    إن حقوق الإنسان في الغرب تكفل حق الحفاظ على الهوية، بل وحمايتها وليس الهجوم عليها، فكيف يقبل الغرب أن يهاجم حق مواطنيه من المسلمين في اختيار ما يناسبهم من الملبس؟ وأين الغرب من إرثه الفكري والديني والاجتماعي؟ فقد كانت المرأة الغربية المتحلية بالأخلاق ولا زالت تلبس الملابس المحتشمة التي تقترب كثيرًا من الحجاب الإسلامي، كما في حال الراهبات ونساء الريف. فهل إذا تخلى الغرب عن هذا التاريخ يعني أن على دول العالم أن تحذو حذوه؟ إننا نرفض أن تحارَب الفضيلة في عالم اليوم، ولا نرى أن هذا يجب أن يكون ثمنًا أو نتاجًا للتمدن والتطور؟ فهل المشكلة أن الحجاب قد أصبح رمزًا للفضيلة التي تحارَب في عالم الغرب اليوم؟ إن القوانين والتشريعات المقيدة لحق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب الإسلامي كما نشهد الآن يُسَنّ في عدد من دول أوربا بهدف قمع حرية الفكر والملبس للمرأة المسلمة في الغرب، فهل هذا بسبب العداء للإسلام الذي تظهره التطورات الأخيرة المتلاحقة لدى البعض أم بسبب العداء للفضيلة من أنصار التيارات التحررية أم لإرضاء أمزجةِ وأهواءِ دعاةِ الانحلال الخلقي والاجتماعي؟ أسئلة نرى أن على قادة الفكر والرأي في الغرب أن يواجهوا تساؤلات العالم الإسلامي بشأنها، وأن يواجهوا أيضًا ما تشير إليه هذه الظاهرة من ازدواجية في معايير الحياة الفكرية في الغرب.
    حرب الأفكار:
    لقد وُصِم الإسلام بالعديد من الاتهامات في الأعوام الأخيرة على يد نخبة من المفكرين والشخصيات الدينية والسياسية في الغرب. وقد تراوحت هذه الاتهامات بين ادعاء أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه بالسيف، وأنه لا مكان للعقل في الفكر الإسلامي، وأنه دين الإرهاب والتخلف ونحو ذلك من الاتهامات الباطلة. وليس هدف هذه الرسالة أن تقدم تفصيلاً لدحض هذه الاتهامات، ولكننا فقط نشير إلى أنها اتهامات تتنافى مع منطق البحث العلمي والجدال العقلي، وتتماشى مع منظومة "حرب الأفكار" التي دعت إليها بعض المؤسسات المتنفذة في أمريكا بغرض تغيير الإسلام.
    نقر أن الإسلام انتشر من خلال الجهاد في سبيل الله ومن خلال الدعوة السلمية أيضًا، فجميع الحضارات احتاجت دائمًا إلى القوة للدفاع عن مكتسباتها ومبادئها، ويشهد على ذلك أن منطق الحرب العادلة (Just war) هو ما استقرت عليه الكنيسة الأوربية، وكذلك التيار العلماني الغربي من أجل حماية المكتسبات الحضارية الغربية. فلِمَ الإنكار على الإسلام؟ وأنتم تقرأون التاريخ وتعلمون أن إندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها من بلاد آسيا وإفريقيا لم تصلها جيوش عسكرية، فكيف دخل ملايين البشر هؤلاء في الإسلام؟! بل إن السؤال الذي يفرض نفسه في عالم اليوم هو: لماذا يستمر الإسلام في الانتشار في مختلف أنحاء العالم عمومًا، وفي الغرب بشكل خاص، رغم عدم استخدام أي قوة، بل بتأثيره الذاتي وتجاوب الفطرة معه؟
    أما الحديث عن دور العقل في حضارة الإسلام والحضارات الأخرى فلا بد أن نمهد له بأن نقول: إن المؤرخين يُجْمِعون على أن تاريخ الغرب حافل بإهدار العقل، أو عبادته، أي الانتقال من نقيض إلى نقيض آخر، في الوقت الذي عُرِف فيه العالم الإسلامي بالاعتدال في استخدام العقل وتوظيفه بالشكل الصحيح لخدمة الإنسان والبشرية. ونتساءل: لماذا يحاول بعض رموز التيار الديني في الغرب الهجوم على دور العقل في الإسلام؟ هل هذا لإخفاء النقص عندهم أم للتقرب من التيار العلماني في مواجهة الإسلام؟
    إننا ندعو رجال الكنيسة خصوصًا إلى مراجعة معتقداتهم مراجعة عقلية وعلى رأسها عقيدة الألوهية، وعندها سيدركون حجم التناقضات العقلية المذهلة فيها. وربما كان تسلط رجال الكنيسة وعداؤهم للعلم والعقل سببًا رئيسًا للثورة عليهم، ودافعًا لموجة الإلحاد المادية التي اجتاحت بلادهم.
    أما ما شاع في الغرب من اتهام للأمة الإسلامية وللدين الإسلامي بما اصطلح الغرب على تسميته بــ"الإرهاب"، فهي تهمة ظالمة لا أساس لها في تاريخِ وواقعِ هذه الأمة التي عُرِفت أنها أمة الرحمة والإحسان. نحن نطلب من قادة الفكر والرأي في الغرب أن يبادروا بالتحرر من عقدة الـحَيْف القديمة الموروثة من الحروب التي سماها الغرب نفسه: "صليبية" والتي كانت تُعَدّ حربًا إرهابية بامتياز. أما من يتهمنا اليوم بالإرهاب فهو ذاته الذي تسبب بالأمس واليوم في معظم فظائعِ وكوارثِ القتل والحروب والتي حصدت عشرات الملايين من البشر في عالمنا المعاصر، وبخاصة في الحربين العالميتين اللتين لا دخل للمسلمين في إشعالهما.
    إن المفكرين في العالم الإسلامي يلاحظون التحول من بعض المعادين في الغرب من الهجوم على المسلمين إلى الهجوم على الإسلام نفسه، ومن السعي إلى تغيير المسلمين إلى السعي لتغيير الإسلام. ونقول لهم: ليس الإسلام بحاجة إلى بروتستانتية تحريفية معاصرة لأن الإسلام عُرِف أنه دين التجديد، وهو ينتشر دون الحاجة لأن يتغير. فلماذا تطالبون بتغييره؟ لقد بلغ الغرور ببعض المفكرين وصناع القرار في الغرب كما نرى ونلاحظ إلى الحد الذي جعلهم يدعون إلى إجراء إصلاحات عقدية وفكرية في دين لا يكادون يعرفون عنه شيئًا إلا أنه مخالف لما اتفقت عليه النصرانية المعاصرة التي امتزجت بالليبرالية الغربية ليكوِّنا معًا دينًا آخر يعتقد أصحابه أن على كل مخالف له أن يغير من مواقفه لكي يتماشى مع ذلك الدين الجديد.
    إننا على يقين أن ديننا الذي سيبقى دون تحريف يمكنه أن يعالج ويصلح مشكلات الحضارة الغربية، ولذلك يسعى البعض في الغرب للتخلص من الإسلام بشكله النقي، ونعتقد أن بقاء الإسلام نقيًّا يهدم أسطورة نهاية التاريخ لدى البعض.
    نحن نرفض وبشدة محاولة قمع حق أمتنا في أن تتبنى المنطق الفكري الخاص بها، ونؤكد في الوقت ذاته على أننا نهتم بالتعرف على حضارات الغير والاستفادة من النافع منها، مع التأكيد على أن الفكر الغربي في مجال العقائد والتشريعات والأخلاق والقيم ليس عالميًّا وليس مقدسًا، ولن تجدي محاولة جعله كذلك. إن عموم المجتمعات الإسلامية قد بدأت تعتقد أن هجوم بعض الغربيين على الإسلام باسم حرب الأفكار إنما يعكس فزع هؤلاء من الرسالة الحضارية للإسلام، التي تقف بلا شك ضد الهيمنة الغربية.
    إن ما درجتم على تسميته بـ"حرب الأفكار" هو خيار لا نوافق عليه، لكننا لن نتخلف عن التصدي لما يؤذي مشاعرنا، فساحة الحرب في مجال الأفكار هي ساحة أمتنا، ونحن فرسان ميدانها، ليس بالضرورة لتميز مفكرينا أو صناع القرار في عالمنا، ولكن بما عندنا من يقين وثقة لا تهتز في أصولنا وثوابتنا وقناعتنا الراسخة بالقدرة على إظهارِ بل وتصحيحِ ما لدى حضارة الغرب من تناقضات حادة في ميادين الاعتقاد والفكر والمبادئ.
    كيف نفسر الهجوم على حرماتنا؟
    يظهر لنا من خلال الخطاب الرسمي لبعض قادة الغرب، ومن خلال الطروحات الشفوية أو المكتوبة التي تعبر عن التيارات الفكرية السائدة في الحياة الغربية اليوم، أن الهجوم على العالم الإسلامي ليس حدثًا فرديًّا أو ردَّ فعل على موقف معين. إنه يبدو كمخطط تم إعداده بعناية لتقزيم الأمة الإسلامية في عالم اليوم، وهذا ما يفسر استخدام الرئيس الأمريكي "جورج بوش" لعبارة "الحرب الصليبية" في وصف حربه المفتوحة على ما يسمى بــ"الإرهاب" في العراق وأفغانستان وغيرهما، ويفسر كذلك عبارات رئيس وزراء إيطاليا السابق سيلفيو بيرلسكوني واتهاماته الجائرة للإسلام واعتباره دينًا متخلفًا، متنكرًا لعطائه عبر التاريخ الطويل. وقد تكررت مثل تلك التصريحات على لسان المستشار الألماني السابق الذي ذكر أنه لن يسمح للإسلام بتهديد الحضارة الأوربية.
    وهنا يتبادر للذهن سؤال ملح، وهو: ما الغرض الحقيقي من هذا الهجوم بصوره المتعددة؟ إن كان التفسير هو حرية الرأي في نقد الأديان المخالفة فنحن لا نرى في الأدبيات الغربية المعاصرة هجومًا على المعتقدات الأخرى كالهندوسية واليهودية والبوذية وغيرها، وإنما رأينا الهجوم على الإسلام وحده مما يبطل تلك الدعوى. كما نتساءل: هل ما حدث أخيرًا من أحداث سياسية هو سبب تلك الحملة؟ إننا لا نوافق على مثل هذا الادعاء لأن الهجوم على الإسلام قد سبق الأحداث الأخيرة التي اتُّهِمَتْ فيها قلة من المسلمين بالاعتداء

    (يتبع)...


  18. #18
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    (ليست كلمة سواء، بل طعنة فى السويداء!
    د. إبراهيم عوض

    إن هناك كثيرًا من المفكرين والقادة المسلمين يَرَوْن أن الهجمة الحاليّة على الحرمات والشعائر الإسلامية إنما جاءت نتيجة لإدراك بعض القادة والمفكرين في الغرب أن العالم الإسلامي يستعيد نهضته، ويصحو من غفوته لاستئناف رسالته في إصلاح البشرية وإسعادها، وأنه قد أصبح يمثل منافسًا حقيقيًّا في المجالات الفكرية والحضارية.
    إننا ننظر باهتمام إلى تقرير منظمة التسامح الديني بكندا، الذي يقدِّر عدد المسلمين عام 2003 بحوالي 1.226 مليار بما يمثل حوالي 19% من إجمالي سكان العالم في ذلك الوقت، ويؤكد أيضًا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تنمو نسبة معتنقيه، بينما تتراجع نسبة معتنقي الأديان الكبرى الأخرى. كما توقعت تلك المنظمة أيضًا أن يكون الإسلام هو الدين الأول في العالم قبل عام 2023م. فهل هذه الإحصاءات الأخيرة هي الدافع في عودة نزعة الخوف من العالم الإسلامي لدى بعض القادة والمفكرين في الغرب؟ إنه سؤال نوجهه إليكم.
    إننا نتأكد من ازدواجية المعايير عندما نرى استمرار القادة والمفكرين في الغرب في التأكيد على القيم الغربية المتمثلة في دعم الحريات الشخصية والنهج الديمقراطي، في الوقت الذي نشهد فيه تنامي قمع حريات المسلمين في بلادكم والضيق من مظاهر الالتزام بالإسلام في حياة المسلمين اليومية، والتحريض على الإضرار بهم في ديارهم، واستمرار محاولات السيطرة والهيمنة الاستعمارية على العالم الإسلامي.
    إننا نلاحظ أيضًا انتقال الأجواء المعبرة عن العداء مؤخرًا من بعض قادة الغرب إلى بعض الشعوب بفعل الإعلام والسياسات العدوانية التي تبرَّر ثقافيًا وفكريًا. ونحن ندرك أن الإعلام الغربي ليس منفصلاً عن السياسات، بل يتبادل الأدوار مع صناع القرار.
    وقد نتج عن ذلك التحريض الإعلامي ما هو أخطر منه، وهو صد الشعوب عن قبول الهداية الربانية. ومن اللافت للنظر أيضًا أن ينجرَّ التيار الديني في الغرب إلى المشاركة بقوة في هذه الحملة إما بتعمد إخفاء حقيقة الإسلام أو بمحاولة تشويهه وتنفير الناس عنه أو بإخفاء البشارات القطعية الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلام في العهدين القديم والجديد.
    وهناك ظاهرة أخرى، وهي الهجوم الإعلامي والسياسي في الغرب على الكتابات الغربية التي تظهر أحيانًا وتنصف المسلمين لكنها تُهاجَم بعنف وضراوة، مما يؤكد أن في الغرب قوى تجد من مصلحتها ألا ترى الشعوب الغربية إلا صورة قاتمة وظالمة عن أمة الإسلام وعن دين الإسلام.
    في الختام: إننا نؤكد على أهمية الحوار بين الثقافات بضوابطه وأصوله للوصول إلى الحقيقة، وبالتالي إلى الحد من ظواهر الاعتداء بغير الحق. ونؤكد أيضًا على أن التواصل بين الحضارات في عالم اليم ممكن، بشرط تحقيق العدل والإنصاف.
    إن حضارة الغرب اليوم ليست إلا نتاجًا لتراكم حضارات العالم وإبداعه المدني والعمراني، غير أن الغرب يريد احتكار خلاصتها لنفسه ولمن يدور في فلكه، ويصر على حرمان العالم الإسلامي من أسباب التقدم التقني المادي، حتى يظل مشغولاً في صراعاته وخلافاته التي ظل الغرب يثيرها ويؤججها.
    إن تعثُّر مسيرة التحديث والتنمية والإبداع عندنا لأسباب عديدة لأمرٌ يختلف عما كانت عليه الحضارة الإسلامية طوال تاريخها، ولكن هذا التعثر لا يعني أننا أمم متخلفة حضاريًّا وقيميًّا، بل إننا نملك ثروة من القيم والمثل ومصادر الهداية والنور لا يمكن أن نفرّط فيها أو نتنازل عن أمانة الدعوة إليها بين البشر.
    ندعوكم إلى مراجعة مواقف الاستعلاء الحضاري على الآخرين، ونلح على قادة الرأي والفكر فيكم أن يلتزموا الحياد الموضوعي والموقف النزيه من الإسلام وقيمه العظيمة وعطائه الخيّر للإنسانية عبر العصور.
    قد لا يكون واقع عالمنا الإسلامي متميزًا، ولكن أسس الإسلام العَقَدية والتشريعية والحضارية والأخلاقية هي متميزة بالتأكيد، وصالحة لكل زمان ومكان. وإذا كنا نرى أن عالم الغرب قد حقق الإبداع المادي فإن أسسه الحضارية على ما هي عليه الآن غير مفيدة للبشر على المدى الطويل. نحن نؤكد لكم أن عيوب واقعنا لا تشتت رؤيتنا عن أهمية حضارتنا وديننا للبشرية. ولذلك نخاطبكم يا قادة الرأي ويا صناع القرار، ونخاطب من خلالكم الأغلبية الصامتة من الشعوب، ونخاطب أيضًا أولئك المتورطين في حملات العدوان على حرماتنا ومقدساتنا ومقدراتنا، ونطالب الجميع بالأمور الآتية:
    أولاً: كُفُّوا أيديكم عن ظلمنا وعن التدخل في شؤوننا والتعدي على حرماتنا ومقدساتنا، إذ إن تلك التعديات سوف تأتي بآثار عكسية لا تخدم مصالحكم الاقتصادية التي لا غنى لكم عنها في بلادنا، والتي لن تتحقق إلا في ظل العدل والإنصاف.
    ثانيًا: ندعوكم أن تتعاونوا معنا لكي تُرفَع الأقلام وتصمت المنابر الإعلامية والثقافية التي تتطاول على المقدسات، وتحديدًا على قرآننا وشخص نبينا، حيث إن البديل في حال الإصرار على استمرار ذلك التطاول هو أن تلجأ الأمة الإسلامية إلى استعمال حقها المشروع في مقاومة كل ألوان الهيمنة الثقافية والحضارية والسياسية والعسكرية مع الغرب.
    ثالثًا: نرى أن تخصصوا، بدلاً من حملات البحث والتخطيط الهادف لاحتوائنا والهيمنة علينا ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، جزءًا من الجهد الفكري والعلمي للبحث عن الحقيقة فيما يتعلق بالأزمة الحضارية المتفاقمة بيننا وبينكم وفيما يتعلق بجوهر رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وندعوكم إلى فتح الصدور والعقول لفهمِ أو تفهمِ عالمية إسلامنا وحقائق ديننا وقيمنا قبل الهجوم عليها والصد عنها.
    رابعًا: نشير إلى أهمية أن يهتم المفكرون والقادة في الغرب بإصلاح شؤونهم قبل التدخل في شؤون دولِ وحضاراتِ العالم الأخرى، فالغرب يحتاج حقًّا إلى مشروع إصلاح جذري، وهو أوْلى من مشاريع الإصلاح التي يراد فرضها على عالمنا الإسلامي. ونحن موقنون بأن مجتمعات الغرب ودُوَله مقبلة على هاوية سحيقة من التفكك والانهيار والإفلاس الحضاري إذا استمر قادته في مسلك تصدير المفاسد والمظالم إلى العالم حيث سترتد هذه المساوئ كلها سهامًا في نحور مصدِّريها ومروِّجيها. إننا في هذه الرسالة ندعو قادة الفكر والرأي في البلاد الغربية إلى تبني مشروع "إصلاح الغرب" بهدف العودة لقيم الإيمان الحقة التي جاء بها الرسل، وبهدف احترام هؤلاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومناصرة الأبرياء وكف الظلم والأذى في العالم أجمع، وليس في الغرب فقط. إننا ندعو مفكري الغرب وقادته أن يتبَنَّوْا، قبل دعوات الإصلاح في العالم الإسلامي أو "الشرق الأوسط الكبير" كما يسمونه، إصلاح مجتمعاتهم فيما يتعلق بقيم الأسرة والزواج والفضيلة، وأن يُحْمَى الفرد من إرهاب الشركات وسلطة الرأسمالية، وأن يُعَاد احترامُ وتقديرُ القيم الاجتماعية في مقابل قيم السلعة والسوق، وأن ينضم إلى الجهود العالمية في مقاومة تهميش الفقراء وإعادة الفضيلة إلى التعليم. إنه مشروعٌ آنَ أوانه لإنقاذ الغرب من سيطرة قلة لادينية تسعى إلى هدم كل المعايير والقيم الأخلاقية في عالم اليوم.
    خامسًا: يجب على الغرب أن يعتذر عن إساءاته المتكررة للإسلام، وأن يعتذر أيضًا عن الكثير من الجرائم التي ارتُكِبَتْ باسمه ضد المسلمين إبّان الاستعمار وقبله وبعده، ويجب أن يتفهم طرق إدارة القوة في عالم من التعددية الفكرية والثقافية.
    أما رسالتنا إلى من يصرُّون على العداء لأمتنا فهي أن الإسلام لم يتوقف انتشاره عندما هوجم في أي من العصور السابقة، وكذلك لن يتوقف في العصر الحالي ولا في ما بعده من عصور حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإن الأمة المسلمة لها قدرة فريدة على استعادة النهوض الحضاري بعد الكبوات كما تشهد بذلك حقب التاريخ.
    ودور أمتنا لن يتركز فقط في الدفاع عن حرماتها ودينها، بل سيركز أيضًا على فضح مخططات خصوم الإنسانية، وستعرف الشعوب الغربية أن ما يقوم به المعادون للأمة الإسلامية في الغرب يضر بالعالم الغربي أكثر بكثير مما يضر الأمة المسلمة، ويُفْقِد الغربَ فائدة التعامل مع أكثر من مليار وربع المليار من البشر يمثلون قوة استهلاكية كبرى في العالم، وتجمع بلدانهم الإسلامية رصيدًا ضخمًا من كافة الثروات الطبيعية اللازمة لدفع عجلة التقدم والتمدن، ويحملون على عاتقهم النصيب الأكبر من إمكانية الحفاظ على العدل والإنصاف.
    إن الانفتاح على ما عند الغرب من تقدم تقني نافع للبشرية لا يعني ولا يقتضي أن نقايض قيمنا بالاندماج القسري في ثقافته، فنحن نعارض الولاء الأعمى للغرب أو لغيره، وإن كنا في الوقت نفسه لا نمانع من الاستفادة من إبداعه التقني والصناعي وتبادل المنافع معه.
    إننا ندعو قادة الفكر والرأي في الغرب إلى التعرف الحقيقي على دين الإسلام وعلى الأمة الإسلامية، وحافزُنا في ذلك ودليلُنا إليه هو الأمر الرباني الذي ورد في كتاب الله، القرآن الكريم، ونجده أفضل ما نختم به رسالتنا إليكم. يقول الله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران:64)".

    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    (انتهى)


  19. #19
    أديب وكاتب الصورة الرمزية سعيد نويضي
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    العمر
    68
    المشاركات
    6,488
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم ...

    الدكتور إبراهيم عوض...مع كامل الاحترام و التقدير...
    في قراءتي للرسالة سأحاول قراءة فكرة فكرة ثم الإجابة عنها لتوها...ثم من بعد ذلك أقدم لك فكرتي الإجمالية عن الرسالة...لا لأنني من المتخصصين بل لأنني من المهتمين...ففي شخصكم الكريم ما يغني عما يمكن أن أضيفه...واستنادا إلى حديث الحبيب الرسول عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم..."من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"...و أحمد الله عز و جل و أشكره أن من بفضله و إحسانه أن جعلنني و جعلكم من المسلمين...

    الإعلام بصفة عامة يقدم الإسلام و المسلمين على أنهم من الوحشية بمكان و لست أدري من قائل أن "البرابرة" على وشك اقتحام أوربا نسبة للمسلمين...فالقائل مثل هذا القول لا ينظر لا للإسلام و لا للمسلمين بأنهم من صنف البشر...لا لأن البرابرة ليسوا بشر بل لأن البرابرة بالمفهوم الغربي الذي أضاقهم الويلات في زمن ولى و انقضى...فهو إسقاط لحالة تاريخية على واقع حالي...

    فالمسلمون انطلاقا من معاناتهم أرادوا أن يذكروا من كان لديهم ذرة إيمان "بالكلمة السواء" التي جعلها الله عز وجل جسرا بين كل الأديان...و هي التوحيد و عدم الإشراك مع التنزيه بطبيعة الحال...

    فواقع الأمر في عقيدة المسيحية أو النصرانية على اختلاف التسمية يقوم كما في ورد في الكتب التي أقر بحب الله عز و جل وحده لا شريك له من القلب و النفس و القدرة...أم أنها أشركت بالأقانيم الثلاث و أشركت ما لم ينزل به سلطانا...فما من مسيحي إلا ويقول نحن أبناء الله تنزه الله عما يصفون...فلو التزموا بما ورد في الكتب من وصايا و خاصة الوصيتين الأولى الخاصة بحب الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ...و حب الجار أو القريب... لما كان هناك أية مشكلة في اعتناقهم الإسلام كما جاء به آخر الأنبياء و المرسلين...و لكن ما هو واقع في اعتقادهم و ليس ما تم الاستشهاد به على عقيدة التوحيد هو الأساس في عقيدتهم...و من تم يكون قول الرسول النبي الأمي عليه أفضل صلاة الله و سلامه "لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك... و له الحمد...و هو على كل شيء قدير" تبين ما اختلط عليهم في الواقع من التوحيد و التنزيه في قضية الاعتقاد و ما يترتب على ذلك من حب لله عز و جل و حب الأخ المؤمن الذي يشاركك نفس المعتقد بنفس الصفات و نفس المفاهيم...و من تم لا يكتمل هذا الإيمان إلا إذا أحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه...كأعظم وصية في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان...و ليس كما أفرز الواقع انطلاقا من العداوة المتأصلة في الإنسان"الإنسان ذئب على أخيه الإنسان"... فأين هو الحب الذي أوصى به المسيح علبه السلام و ما جاء في كتاب موسى عليه السلام من قبل ذلك...فقد قامت الحروب بينهم و العداوة و بغى بعضهم على بعض لسنوات عديدة...و التاريخ يشهد على ذلك و ما الحربين العالميتين إلا تطبيقا لمقولة"الإنسان ذئب على أخيه الإنسان" و ليس حب الله و حب القريب فذاك ما جاء به النبيئون من قبل...فكيف يصنعون مع من لا يشاركهم بالأقانيم الثلاث...ألم يشهد التاريخ و العالم على ظلمهم و استكبارهم و استعمارهم للشعوب المستضعفة لا لشيء سوى لأنها تمتلك من الخيرات ما دفعهم و لا زال محركا للجشع و الطمع مما يؤدي إلى الاعتداء تحت أية أسباب و تبريرات لا تمت لا إلى الحقيقة و لا إلى الواقع بصلة...و واقعنا الحالي يشهد بذلك...

    فالتشابه في المعنى لا يقابله تشابه في الواقع مما يؤدي إلا أن ذلك المعنى يظل على المستوى النظري رهينا بالكتب و ليس حتى على المستوى النظري مادام هناك تثليث في العقيدة بالنسبة للمسيحية على المستوى النظري و ما يعكس ذلك على المستوى الواقعي في كل كنائس العالم هو وجود الصليب كرمز للإله...أما في واقع المسلمين فليس هناك ما يدل على رمز الإله سوى كتابه الكريم...الذي هو في واقع الأمر كلامه المنزه عن التحريف...

    فالمسيح عليه السلام لو تواجد بين ظهرانينا في الوقت الحالي لكان أول المسلمين كما قال إبراهيم عليهم السلام لما قال له رب أسلم قال أسلمت لرب العالمين... {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }البقرة131...

    ( حسن ) وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها ؟ فقال أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي . رواه أحمد والبيهقي في كتاب شعب الإيمان .

    وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها . كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجبل على كتاب الله وحده . . في فترة تكونه . . . وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة من التوراة وقوله : ( حسن ) ( إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) ( 1 ) . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي الذي يتضمنه القرآن الكريم . ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد ثم ما الذي حدث ؟ اختلطت الينابيع صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم وعلم الكلام كما اختلط بالفقه والأصول أيضا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا ) . ثم ذكر - رحمه الله - عاملين آخرين ثم قال ( ص 17 ) : ( نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية . . . تصورات الناس وعقائدهم عاداتهم وتقاليدهم موارد ______ ( 1 ) قلت : هو حديث حسن أخرجه الدارمي وأحمد وغيرهما وقد خرجته في ( إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ) ( 1589 ) .

    لكن المشكلة في أتباع المسيح عليه السلام كما هي مشكلتنا في إتباع الرسول النبي الأمي عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم...

    فالأرضية السواء التي هي التوحيد دون التثليث أو غير ذلك لا يعتقد بها إلا المسلمون في أرض الواقع أما المسيحية و اليهودية فلا تؤمن بإله واحد إلا من خلال...[ ليس النصوص التي تم الاستشهاد بها]...و لكن من خلال ما حرفوه و أضافوه إلى الكتب...فلو كان التوحيد هو أساس العقيدة لما كان هناك اختلاف أصلا...و هذا ما يقره ما استشهدت به من النصوص سواء في الكتاب القديم أو الجديد...و أي الكتب أصدق قولا و آخرهم تنزيلا...أليس القرآن الكريم؟ فلو كان اعتقادهم بالتوحيد يقوم على نفس الاعتقاد الوارد في القرآن الكريم لما هناك اختلاف جوهري...كما هو واقع في العصر الراهن...

    و من تم كان من واجب المسلمين تبليغ ما أمرهم الله جل و علا من أمر هذا الدين...فكل آية تبتدئ ب"قل" يكون المراد بها و الله أعلم بذلك هي تصيح القول الذي ينطلق من الاعتقاد...فما دام اللسان هو الشاهد على الكلام و ما دام كل كلام قول فالقول السديد هو الآتي على الشكل الذي أوضحه الله جل و علا ابتداء بكلمة "قل"...
    فانظر كم آية وردت فيها "قل" و الموجهة بشكل صريح و واضح "لأهل الكتاب" و التي تبتدأ ب"قل يا أهل الكتاب..." يقول الله جل و علا:

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64...

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }آل عمران98...

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }آل عمران99...

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }المائدة59...

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }المائدة68...

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }المائدة77...

    فالخطاب الموجه لأهل الكتاب هو في جوهره تصحيح لمعتقدهم و تثبيت للوحدانية و توجيههم إلى الوجهة الصحيحة التي وردت في التوراة و الإنجيل من قبل أن يتم تحريفها و إضلال الناس إما بالغلو و إما بإتباع الهوى...

    فالدعوة إلى الله عز و جل هي من شأن المسلمين...لأسباب عدة أذكر منها قول الله عز و جل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }البقرة143
    وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين, جعلناكم أمة خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم بلَّغتهم رسالات ربهم, ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. وما جعلنا -أيها الرسول- قبلة "بيت المقدس" التي كنت عليها, ثم صرفناك عنها إلى الكعبة بـ "مكة", إلا ليظهر ما علمناه في الأزل؛ علما يتعلق به الثواب والعقاب لنميز مَن يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت, ومَن هو ضعيف الإيمان فينقلب مرتدًا عن دينه لشكه ونفاقه. وإن هذه الحال التي هي تحول المسلم في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة لثقيلة شاقة إلا على الذين هداهم ومنّ عليهم بالإيمان والتقوى وما كان الله ليضيع إيمانكم به وإتباعكم لرسوله, ويبطل صلاتكم إلى القبلة السابقة. إنه سبحانه وتعالى بالناس لرءوف رحيم...

    {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }الحج78
    وجاهدوا أنفسكم، وقوموا قيامًا تامًّا بأمر الله، وادعوا الخلق إلى سبيله، وجاهدوا بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, مخلصين فيه النية لله عز وجل، مسلمين له قلوبكم وجوارحكم، هو اصطفاكم لحمل هذا الدين، وقد منَّ عليكم بأن جعل شريعتكم سمحة, ليس فيها تضييق ولا تشديد في تكاليفها وأحكامها, كما كان في بعض الأمم قبلكم, هذه الملة السمحة هي ملة أبيكم إبراهيم، وقد سَمَّاكم الله المسلمين مِن قبلُ في الكتب المنزلة السابقة, وفي هذا القرآن، وقد اختصَّكم بهذا الاختيار ; ليكون خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم شاهدًا عليكم بأنه بلَّغكم رسالة ربه, وتكونوا شهداء على الأمم أن رسلهم قد بلَّغتهم بما أخبركم الله به في كتابه، فعليكم أن تعرفوا لهذه النعمة قدرها، فتشكروها, وتحافظوا على معالم دين الله بأداء الصلاة بأركانها وشروطها, وإخراج الزكاة المفروضة, وأن تلجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى, وتتوكلوا عليه, فهو نِعْمَ المولى لمن تولاه, ونعم النصير لمن استنصره...

    في هاتين الآتين أجد أن قول الله عز و جل:{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}...سورة البقرة الآية 143...و في سورة الحج الآية 78...{ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}...فالشهادة متبادلة بين الرسول الكريم عليه أفضل صلوات الله و سلامه و أمة الإسلام...أي المسلمين كيفما كانت جنسيتهم...شهادة الحق بأن الله عز و جل واحد أحد لا شريك له... له الملك و له الحمد و هو على كل شيء شهيد...و هو على كل شيء و قدير...فالرسول عليه الصلاة و السلام بلغ الأمانة و أدى الرسالة و ترك من بعده ما إن تمسكتم به لن تضلوا كما ورد في الحديث...فهل قام المسلمون بتبليغ ما أمرهم به....هل بينوا لغير المسلمين من أهل الكتاب و غيرهم من بني آدم...من البشر أنه لا إله إلا الله له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير...المقولة التي أرسل بها جميع الأنبياء بدون استثناء...و التي وردت في التوراة و الإنجيل و القرآن...بتعبير مختلف لاختلاف لسان كل أمة و لكن بمعنى واحد....لأن القائل واحد هو رب العالمين...

    فمشكلة المسيحية أنها لم تتقبل التفسير الذي قدمه القرآن الكريم لعيسى عليه السلام لا مولدا و لا بشرا كباقي البشر أتاه الله عز وجل النبوءة و الكتاب و لا حتى لما رفعه الله جل و علا...و الطائفة التي آمنت به نبيا و بشرا اضطهدتها الطائفة التي ظلت مؤمنة بموسى عليه السلام و لم تعترف بنبوة عيسى عليه السلام...في حين أن النبي الأمي عليه أفضل صلوات الله و سلامه و المسلمين الذين اتبعوه يؤمنون بكل الأنبياء و الرسل و لا يفرقون بين الرسل و لا بين الأنبياء على أساس أن من بعثهم واحد أحد لا شريك له...هو الله رب العالمين...لذلك سميت سورة الإخلاص لأن المؤمن بها خلص إيمانه من الشرك و هي الأخرى ابتدأها الله عز وجل ب"قل"....يقول الله عز و جل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} سورة الإخلاص...

    و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...و دمتم في رعاية الله عز و جل...


  20. #20
    عـضــو الصورة الرمزية فؤاد عزام
    تاريخ التسجيل
    15/08/2009
    المشاركات
    167
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: القول فى رسالة بعض علماء المسلمين إلى زعماء النصرانية فى العالم يدعونهم إلى الحوار

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أستاذي الدكتور إبراهيم عوض
    جزاكم الله خيرا على هذا الكتاب الثمين الذي تجلى فيه الكثير من الحقائق في هذه القضية , ولقد قرأت الكتاب كاملا فأفدت منه الكثير ورأيت كيف أن الادعات الباطلة تحمل بذور نقضها في تركيبها الذاتي فلا تلبث أن تحيلها أثرا بعد عين بمجرد الإشارة إليها من أستاذ فاضل , وكذلك فقد بصرتني أستاذي الكريم بأن عرض نماذج الفكر (العلمي) في صحيفة واحدة إلى جانب نماذج الفكر اللاموضوعي يفضح هذا الفكر الأخير مظهرا قزامته الفكرية وضحالته (الأخلاقية ) في مجال الكتابة العلمية .
    أطال الله بقاءك في ثوب العافية وأدامك ذخرا لدينه .
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •