راح زمن صندوق العجب الذي كان يحمله على ظهره رجل ينحني تحته لكبره واتساعه ، محتضناً مقعداً يتّسع لجلوس طفلين أو ثلاثة ، وصوته ينغّم نداءً مثيراً :

أمّا تفرّج يا سلام
شوف عجايب الزمان
شوف أبو زيد الهلالي
في إيدوا حربة بتلالي

لم نكن قد تعرّفنا بعد على السينما ، التي غزتنا في عقر مخيماتنا ، في عروض في الهواء الطلق ، وعلى حائط المدرسة المطلي باللون الأبيض .

تلك أيّام لا تنسى ، فالعواجيز يتوافدون ، والأمهات يضممن أطفالهن إلى صدورهن ، ويحاولن إسكاتهم بتلقيمهم أثداء حليبها قليل - كانت أيام جوع - ليسمعن أغنيةً أو لينبهرن بمشهد حلو لفريد الأطرش وسامية جمال ، أو محمد فوزي وليلى مراد.

ضحك برئ يختلط بحوارات شخوص الفيلم ، وبكاء الأطفال ، وغثبرتنا نحن الزعران المبسوطين من فيلم لا نستطيع متابعة أحداثه في هذا الهيجان.

في صندوق العجب كنّا نتفرّج على عنترة ، وأبي زيد الهلالي ، والزير سالم ، وأبطال نقشوا في الذاكرة بشواربهم المعقوفة ، وسيوفهم اللامعة.

راح صندوق العجب ، وها نحن في زمن السينما ، والفيديو ، والإنترنت ، والخلوي الذي ينقل لك أخبار الكرة الأرضيّة حيثما كنت.

راح الصندوق وظّل العجب العجاب ، وهو هذه الأيام في فلسطين ، فتعال اتبعني وأنا أنادي :

أمّا اتفرّج يا سلام ، شوف عجايب الزمان ، شوف وزير إعلام السلطة بيعلن القبض على مجرمين قتلا جنوداً بسبب صفقة مريبة ! ،..يتباهى بالقبض على (الجناة) - يعني المقاومين!- رغم أنهم لم يقترفوا (جريمتهم) في مناطق السلطة ! .. ومناطق السلطة هذه منها رام الله ، ونابلس .. وهي مستباحة لقوات الاحتلال ، والوزير وما يمثّله الوزير ، معنيون بالقبض على من يقاوم الاحتلال !

لم اذكر لكم اسم الوزير لأنني فعلاً لا أحتفظ به في ذاكرتي ، فأنا لم اسمع به من قبل ، لم اقرأ له دراسات ،أو مقالات ، أو كتابات ، ولم التق به في قواعد الفدائيين ، وكل ما عرفته أنه فصل من الجبهة الشعبيّة بعد أن أيّد بقوّة اتفاقات أوسلو . ها هو صبر ونال الوزارة ، فلم لا يستنكر ويشجب ، ويصرّح للجزيرة وأخواتها بلهجة جنرال : قبضنا على الجناة ، وهم كما يبدو اقترفوا جريمتهم - قتل جنود الاحتلال جريمة !!- لأسباب جنائيّة !

أمّا رئيس وزراء السلطة فيمضي أبعد من وزيره ، فهو أبلغ شمعون بيرس ، شمعون قانا ومفاعل ديمونة..ألمه الشديد على مقتل الجنديين قرب الخليل ، وقدّم أحر تعازيه لشمعون ، وأسرتي (الفقيدين) الغاليين !

وأشهد الله ، واقسم جادّاً ، أنني بعد قراءة هذه التصريحات ، ما عدت أستغرب أن يعلنوا عن فتح بيت عزاء بالجنديين في رام الله.

الجماعة قرأوا على شيخ واحد كما يقال ، في زمن العجايب ،لذا لحق بهم جنرال سابق هو عبد الرزاق اليحي ، وهو أيضا وزير داخلية ، فزّف خبر تنظيف الضفة قرى ومدناً من السلاح تماماً !

ولكن بعد أيام قرأت أن أجهزة أمن السلطة اكتشفت كميّات كبيرة من المتفجرات المتطورة والذخائر والأسلحة للجهاد الإسلامي ، وحماس ، وهذا يدل على أن المعركة ليست مع حماس ثأراً من فعلتها في قطاع غزّة ، ولكنها حملة جذريّة لاجتثاث المقاومة - أسوةً باجتثاث البعث في عراق بريمر - بكّافة أطيافها ...

في نابلس ولثلاثة أيام اجتثّت قوات الاحتلال بيوتاً ، ومناضلين ، وجرحت أربعين فلسطينيّاً ، وأمعنت في تدمير الاقتصاد المحطّم في المدينة المعروفة بأنها كانت العاصمة الاقتصاديّة الفلسطينيّة قبل أوسلو ، وكّل هذا يحدث بعد (أنابوليس) في نابلس ! ..وبعد موافقة الاحتلال على دخول قوّات أمن السلطة !

أمّا تفرّج يا سلام
على عجايب الزمان

من صحيفة الحياة الجديدة اقرأ لكم هذا الخبر المنشور يوم الأحد 6/1/2008 : وسّعت السلطة الفلسطينيّة الوطنيّة - صفة الوطنيّة وردت في سياق الخبر - أمس (السبت) نطاق حملتها الأمنيّة خارج حدود المدن الرئيسيّة في الضفة ، بالرغم من مواصلة جيش الاحتلال اجتياحه لمدينة نابلس . وقال العميد عدنان الضميري لوكالة فرانس برس : إن حملة الاعتقالات جرت خارج محافظة رام الله والبيرة ، ولم تشمل سوى مدنيين خارجين على القانون ..الجنرال معني بمطاردة الفلسطينيين الخارجين على القانون ، فهو من عازفي قانون السلطة ..أما المقتحمون (لنابوليس) فلا مطاردة ، ولا مواجهة ، ولا تصد لهم ، فتدميرهم للمدينة قانوني ، وفي خدمة السلام ، وخطوات على قيام الدولة الفلسطينيّة !

هذا مآل العسكريّة الفلسطينيّة برتب الجنرالات !..ألف رحمة على أرواح : العقيد عبد الله صيام ، والعميد سعد صايل ، والرائد بلال و..جميع من كانوا أكبر من كّل الرتب ، فنالوا رتبة شهيد على ثرى لبنان وفاءً لفلسطين.

أمّا تفرج يا سلام

نتفرّج على شاربي عنترة ، وأبي زيد الهلالي ، والشارب رمز للاعتزاز بالرجولة. ثوار الـ 36 اشتهروا بشواربهم المعقوفة إلى أعلى كجناحي العقاب ، والتي من فوقها تمرق نظرات تفّل الحديد ، أولئك أبناء الجبال الشامخة ، والليل ، والبواريد ...

اعتزازا بالشارب كان الواحد من أجدادنا وآبائنا يضع أصابعه على طرف شاربه ، ويردد : من هالشارب ..أمّا متوعداً ، أو واعداً يبّر بوعده ، فهو اقسم بشاربه ...

في غزّة اتفرّج يا سلام ، اتفرّج على حلق شارب رجل محترم ، معروف بنزاهته ووطنيته هو إبراهيم أبو النجا ، النقابي المعروف ، عضو المجلس التشريعي ، القيادي المحترم في حركة فتح .

هنا أتوقّف لأذكّر بأن أجهزة السلطة حلقت شوارب بعض قادة حماس وألبستهم المناديل وأمرتهم أن يرقصوا مثل فيفي عبده !.. ياللحقارة والحقراء !

أنا واحد من الذين فضحوا هذه السلوكيات وعلى صفحات هذه الصحيفة المعروفة بمواقفها ومصداقيتها وانحيازها لفلسطين وقضايا ملايين العرب ، وخوضها معارك الدفاع عن كرامة الإنسان العربي على كّل الأرض العربيّة .

وفي غزّة يحرم جمهور فتح من الاحتفال بذكرى الانطلاقة ، وتداهم بيوت ، ومكاتب ، ويعتدي على الناس! ...

عجايب الزمان !

وهذه العجايب أن عدونا يقتل أهلنا في القطاع ، وفي نابلس ..معاً ، فليس عنده لحى ممشّطة ، فكّل فلسطيني هو عدو إلى أن يثبت أنه عميل ، وخائن لقضيته ، وخانع وراكع وبائع ، وهذا الصنف نادر ومرذول دائماً ...

طرفان كل واحد منهما يشّد نصفاً من بقايا وطننا في الضفّة والقطاع ، واحد خياره السلام حتى لو لم يبقي الاستيطان دونم أرض واحد يكفي لإقامة سجن أو مقبرة (وطنيّة)! والآخر لم يعد خياره المقاومة ، يدّعي يوميّاً أنه لم يسع للسلطة ولكنها جاءت إليه ..فماذا يفعل ؟ أيرفضها ؟! طرفان يتصارعان على الفوز باعتراف العدو بمن هو الطرف الذي يتفاوض معه ! .. أهذه هي الشرعيّة التي تتصارعون عليها ؟!

بقايا البنادق المقاتلة في فلسطين باتت تمثّلها الجهاد الإسلامي ، فهي تواصل المقاومة ، ولا تلطّخ أيدي مجاهديها بدم فلسطيني ، ومعها كتائب (أبوعلي مصطفى) وبقايا (كتائب الأقصى) التي لم تفسد...

طرفان يقصّان شوارب بعضهما ، ويطعنان قلب فلسطين وشعبها بشفرتي مقّص ، كل طرف منهما يمسك بحّد منه ويذبح القضيّة وأخوة السلاح. يتشاطر قادتهما بتصريحات مبتذلة كاذبة ، بينما الأرض تنوح من المصادرة والاستيطان والجدار والحواجز ...

أمّا اتفرّج يا سلام
على عجايب الزمان

هل من خيارهم السلام والمفاوضات ، رغم كل جرائم العدو اليوميّة سيحققون شيئا لشعبنا ؟ وهل الذين يختطفون غزّة كما لو أنها طائرة يفاوضون عليها ، يمكن أن يحققوا شيئاً سوى أنهم حشروا أنفسهم ، وزجّوا شعبنا في مأزق لا أفق له ، وغطّوا تهافت الأسلويين العجزة ؟!

أماّ اتفرّج يا سلام
شوف عجايب الزمان
..........................
رشاد أبو شاور

كاتب وقاص فلسطيني

rashads@go.com.jo



1/9/2008