تعريف علم التاريخ عند
ابن أبي الضياف

"إنّ علم التاريخ، وإن كان من الفنون الأدبية، فهو من وسائل العلوم الشرعية، يكسب النّاظر برهان التجريب، ويشحذ فكر الأديب الأريب، ليقيس على ما مضى، مواقع الانتقاد والرضا، ويرى الأسباب وما تولّد منها، والحوادث وما نشأ عنها. ولولاه لماتت الفضائل بموت أهلها، وأدّى ذلك إلى جهلها. ولا ينكر النّفع إذا كانت الأخبار منقولة، والشوارد بقيد الكتابة معقولة، والآثار مأثورة، والأعمال بعد أهلها مذكورة :
من ملك آثر على حظّ النفس مراعاة الصلاح بغرس الخير وأسباب الفلاح، وآخر قنع بظواهر الأشباح فاستباح منها من استباح، ولم يبق حسنة تنفع ولا ذكرا جميلا يرفع... وعالم رام الصعاب فأخذ بنواصيها وقرّب قاصيها بسياسة شرعية، أساسها المصلحة المرعية، وآخر قدّمه الزمان، فحرّك بما لا يفيد اللسان وثابر على إرضاء ذوي السلطان... وكاتب يعمل قلمه عمل السنان ويقود العقول بسحر البيان، وآخر يريق المداد ويشين ببياض الطرس بوضر السواد.إلى غير ذلك من فوائد علم التاريخ في الخليقة، على اختلاف الأديان والألسن والألوان، وطبائع الأبدان. وسبحان من علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يكن يعلم."




"ولكن كيف الفرار من هرج السياسة اليومية واتقاء غضب أولي النعمة إذا اعتزلت بدعوى التأليف وليس فيهم عالم بضرورته المؤكدة، ولا مهتمّ بمن سيستفيد بما سأترك بعد رحيلهم ورحيلي؟؟؟
ولست أزعم أني مبدع علم أو مبتكر منهج، ولكن رياح الوطن حرّكتني، وعلّمني ما رأيت من المحن أنّ التاريخ يكتبه الأوّلون ليستفيد منه من يخلفهم ليتّقوا زلاّتهم ويحترسوا ممّا وقعوا فيه من فخاخ...
الأرض والأنهار والوديان الصغيرة والربوع المخضرّة بسنابل القمح والزيتون والحلفاء والمشمش والبرتقال، أو الجرداء ترتبط أسماؤها بتاريخ هؤلاء الرّعاة السّذج كالحملان، الدّهاة كالذئاب. البدو، عرب البوادي من جلاص والمثاليث والهمامة والفراشيش وعرب دريد الرحالة وأولاد عيّار وعمدون والشيحية وأولاد بوسالم، فهي أرضهم التي أصلحوها بعد فساد وعمّروها بعد خراب.
رأيت ثلج تالة يغطي التلال وأشجار الصنوبر، وعاينت فيضان مجردة يغطي حقول القمح في "فْريقة"، وتسلقت جبال الكاف الشامخة وتعرّفت برجالها الأكثر شموخا.
لم أذق الجوع ولا الحاجة ولا الفقر ولكني بعد كل السنين التي مرّت، مازال قلبي يخفق حزينا متألما كلما مرّت بخاطري ذكرى تلك المشاهد وأنا في ركاب الباي.
رأيت الجوع يسكن عيون الأطفال في أرجاء البلاد، ورأيت أبناء عمومتي وعشيرتي ينامون في خيمة واحدة مع ماعزهم خوفا عليها من البرد، لأنها إذا ماتت ماتوا جوعا، ثمّ يأتي القائد أو شيخ التراب ليسلبهم إياها لأنهم لم يتمكنوا من دفع المال الذي أمر الباي به لمساندة الدولة العليّة في حربها ضدّ أعدائها!!!
فاكتب إذن!!!
لا أحد مثلك قادر على التعبير عن هموم هؤلاء، وأنت القادم من أصلابهم التي حملتك جيلا بعد جيل، والرّاضع من حليب كرمهم وشهامتهم.
كل أوراقك جاهزة، كل الأسانيد والوثائق، كل الأوامر العليّة والاتفاقيات بين القناصل والممثلين والنواب والوزراء، كل الرسائل الشخصية، كل الأحاديث التي دارت في الغرف الوثيرة، والتي توهّم المشاركون فيها أنّها لن تغادر جدران المكان مدوّنة، محفوظة ومرقّمة...
كل أنّات الفلاحين، كل غارات البدو، كل صيحات الاستغاثة المكتومة، كل زيتونة شحّت عليها السماء بقطرة مطر لأن زيتها سيذهب لابن عيّاد وأعوانه.
كل حزن الرعية وحسراتها تغلي في قلبك كالمرجل ولا شيء يطفئ سعيرها إلا أن تكتب.
فاكتب إذن!!!
لا أحد مثلك قادر على فضح هؤلاء وتعرية نهمهم للجاه والسلطان والمال.
ولن تمّحي ليلة الاثنين الثاني عشر من صفر عند بلوغي الثالثة عشر من عمري وقد نمنا دون أن يعود أبي من خدمة يوسف صاحب الطابع ودون أن يأتينا من يخبرنا ببقائه خارج الدار كعادته إذا استدعته الضرورة للبيات خارجها.
ولمّا أصبحنا والعامة تتلاعب بجثة الوزير صاحب الطّابع والحاج لم يظهر بعد وهو المؤتمن على مكامن نفسه وكاتب سرّه، هلعت أمّنا واعترتنا المخاوف وحسبناه قضى نحبه مع صاحبه ولكن قلّة شأنه بين أهل السياسة والمتصرّفين في أمور الحكم جعل الناس يهملون ذكر موته.
ولكن ما كاد الناس ينصرفون من صلاة الظهر حتى جاءنا من يبشّرنا بنجاته.وظل والدي يقول: "أنا صنيعة العربي زروق" لأنه من كفّ عنه سيف باش حانبة الترك وهو يهم بقتله قائلا:" إن مات هذا الآن ضاعت أموال صاحب الطابع، لأنّه العالم بزمامه والمطلع على أسراره. فأودعوه السجن.
ولعلّ هذه الذكرى ظلّت في دخيلة نفسي ناقوسا يدقّ كلما وثقت بساسة الإطلاق و بمن يدور في فلكهم."