قال محمد بن قيس الأسديّ: وجّهني عامل المدينة إلى يزيد بن عبد الملك وهو خليفة فخرجت، فلما قربت المدينة بليلتين أو ثلاث وإذا أنا بامرأةٍ قاعدةٍ على قارعة الطريق، وإذا رجلٌ رأسه في حجرها كلّما سقط رأسه أسندته، فسلّمت فردّت ولم يردّ الشاب؛ ثم تأمّلتني فقالت: يا فتى، هل لك في أجرٍ لا مرزئة فيه؟ قلت: سبحان اللّه! وما أحبّ الأجر أليّ وإن رزئت فيه! فقالت: هذا ابني، وكان إلفاً لابنة عمّ له تربيّا جميعاً، ثم حجبت عنه، فكان يأتي الموضع والخباء، ثم خطبها إلى أبيها فأبى عليه أن يزوّجها؛ ونحن نرى عيباً أن تزوّج المرأة من رجل كان بها مغرماً، وقد خطبها ابن عمّ لها وقد زوّجت منذ ثلاثٍ، فهو على ما ترى لا يأكل ولا يشرب ولا يعقل، فلو نزلت إليه فوعظته! فنزلت إليه فوعظته؛ فأقبل عليّ وقال:
ألا مـا للحبيبـة لا تعـود
أبخلٌ بالحبيبـة أم صـدود
مرضت فعادني قومي جميعاً
فما لك لم تري فيمن يعـود
فقدت حبيبتي فبليت وجـداً
وفقد الإلف يا سكنى شديـد
وما استبطأت غيرك فاعلميه
وحولي من بني عمّي عديـد
فلو كنت السّقيمة جئت أسعى
إليك ولم ينهنهنـي الوعيـد
قال: ثم سكن عند آخر كلمته؛ فقالت العجوز: فاضت واللّه نفسه ثلاثاً! فدخلني أمرٌ لا يعلمه إلاّ اللّه، فاغتممت وخفت موته لكلامي. فلما رأت العجوز ما بي قالت: هوّن عليك! مات بأجله واستراح ممّا كان فيه، وقدم على ربّ كريم؛ فهل لك في استكمال الأجر؟ هذه أبياتي منك غير بعيدة، تأتيهم فتنعاه إليهم وتسألهم حضورهم. فركبت فأتيت أبياتاً منها على قدر ميلٍ، فنعيته إليهم وقد حفظت الشعر، فجعل الرجل يسترجع. فبينما أنا أدور إذا امرأة قد خرجت من خبائها تجرّ رداءه ناشرةً شعرها، فقالت: أيها النّاعي، بفيك الكثكث، بفيك الحجر! م تنعى؟ قلت: فلان بن فلان. فقالت: بالذي أرسل محمداً واصطفاه، هل مات؟ قلت: نعم. قالت: فماذا الذي قال قبل موته؟ فأنشدتها الشعر، فو اللّه ما تنهنهت أن قالت:
عداي أن أزورك يـا حبيبـي
معاشر كلّهـم واشٍ حسـود
أشاعوا ما سمعت من الدواهي
وعابونا ومـا فيهـم رشيـد
وأمّا إذ ثويـت اليـوم لحـداً
فدور النـاس كلّهـم لحـود
فلا طابت لـي الدنيـا فواقـا
ولا لهـم ولا أثـرى العبيـد
ثم مضت معي ومع القوم تولول حتى انتهينا إليه، فغسّلناه وكفّنّاه وصلّينا عليه، فأكبّت على قبره؛ وخرجت لطيّتي حتى أتيت يزيد بن عبد الملك، وأوصلت إليه الكتاب؛ فسألني عن أمورالناس، قال: هل رأيت في طريقك شيئاً :نعم، رأيت واللّه عجباً.وحدّثته الحديث؛ فاستوى جالساً، ثم قال: للّه أنت يا محمد بن قيس! امض الساعة قبل أن تعرف جواب ما قدمت له، حتى تمرّ بأهل الفتى وبني عمّه، وتمرّ بهم إلى عامل المدينة، وتأمره أن يثبتهم في شرف العطاء، وإن كان أصابها ما أصابه، فافعل ببني عمّها ما فعلت ببني عمه ثم ارجع إليّ حتى تخبرني بالخبر، وتأخذ جواب ما قدمت له. فمررت بموضع القبر، فرأيت إلى جانبه قبراً آخر، فسألت عنه فقيل: قبر المرأة، أكبّت على قبره، ولم تذق طعاماً ولا شراباً، ولم ترفع عنه إلى ثلاثة أيام " إلا " ميتةً. فجمعت بني عمّها وبني عمّه، وأثبتّهم في شرف العطاء جميعاً.
منقول
المفضلات