العيون الزرقاء


كان قدوم ألماني إلى ملهاي عيدا حقيقيا، لم يعلم سببه أحد. كنت كوردة غريبة تشمّ رائحة الأيادي التي زرعتها ، رغم أن لا أحد فكّر في تلك البذرة التي نبتت تلقائيا في اللا مكان: أنا تونسية، من أب ألماني لا أملك من ذكراه سوى بضع رسائل وأمّ يهودية لا أعرف منها سوى فساتين قليلة حرصت على الاحتفاظ بها رغم قدمها، أحمل الجنسية الفرنسية دون أن تطأ قدماي أرض فرنسا، أو أن تكون لي أدنى علاقة بها غير تلك الامتيازات التي يتمتع بها الرعايا الفرنسيين في تونس، وأرملة رجل لم أتزوجه، بل ولم أعرفه!
لقد أتقنت اللغة الألمانية عن طريق معلّم جلبه لي الوجيه سوسو نزولا عند رغبتي، وأصبحت أسرّ باستعمالها كلما سنحت لي الفرصة كنت أحلم بالسؤال عن أبي وعن مصيره، لكني لم أجد الجرأة الكافية والمناسبة السانحة لذلك، كانت لي في الحقيقة رغبة سرية في أن يكون لي أقارب سرّيين، أو أيّة علاقة ودّ مع مواطني أبي، كنت أحلم لساعات بعمّ ينزل في فندقي وأكتشف من أوراقه الشخصية قرابتي به، وأعيش للحظات تلك الرّعشة الحميمة وذلك الاضطراب الداخلي والأحاسيس المتناقضة، بين الفرح الشديد وذلك الإحراج. لكن الزبائن، رغم ترحابي الشديد بهم وفرحي الظاهر، كانوا يعاملونني إما باستعلاء وجفاء مجانيين، أرجعتهما لمهنتي، أو بحذر يشوبه بعض الحياء، لأن الممارسات التي يأتونها في هذا المكان تعطيهم تلك اللذة الوقتية التي تنتجها المتعة الجسدية الخالصة، ولا يريدون عند الخروج من هنا أن تربطهم أي علاقة بساكنيه...
كانت الشموع الخافتة تضيء الطاولات التي تصطف عليها أشهى المأكولات شرقيّها وغربيّها وأفخم أنواع الشراب الذي يأتي من أكبر معاصر الخمور في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا. كل الفتيات يعلمن أنه كلما تأخّر صعود الزبون إلى غرفته كلما زاد استهلاكه للطعام والشراب، ولهذا كنت أسمح ببعض المداعبات الخفيفة خلال العشاء وذلك لكي لا يستعجل النزلاء مرافقة الفتيات إلى الغرف، وتصبح " دار مسكة للضيافة" مجرّد بيت دعارة عادي كالكثير من البيوت التي وجدت مع تكاثر عدد الفرنسيين في الحاضرة.

كانت دلندة تعزف على عودها وتغني بصوتها الساحر:
كَانْ يْرانِي بَابَاي يَضْرَبْنِي حتى يٌقْتُلْنِي
على رَايِي ومَا عْمَلِّي نْتَبَّعْ فِلِّي مْهَبَّلْني
آه يا ربّي ها الزين مْعَذِّبْ قلبي يَمَّه

كنت أجلس إلى طاولة صغيرة قرب الاستقبال أراقب الصالة، وأرشف عصير فواكه كعادتي كل ليلة لأحافظ على نضارة بشرتي حين رنّ جرس الباب، ولم أعرف لم خفق قلبي على غير عادته، هذا القلب الذي لم يعرف الخفقان والأحاسيس مذ كنت نطفة! ولكني حين رأيته يدخل والشوشان يتبعه حاملا الحقائب عرفت السبب: فارع الطول بشعر أصفر كالتبر وعينين زرقاوين كموج بحر المرسى، الشفاه كأنما صبغت بشقائق النعمان، والأسنان بيضاء. البذلة البيضاء التي يرتديها من القبعة إلى الحذاء توحي بأنه مجرّد تجلّ، أو ظهور طيفي.
"لا يمكن أن تتجوّل الملائكة في أيامنا هذه على الطرقات! وإن فعلت فهي لن تأتي إلى هذا المكان المليء بالخطيئة! لا يمكن للنسائم أن تتجسد بكل هذه الرقة وهذه العذوبة. كيف يمكن أن تكون لرجل مثل هذه الأصابع الرقيقة كأصابع ناظم اللؤلؤ؟..."
كانت الفتنة تقف أمامي تلامس أطراف شاربها بأصابعها في توتّر تحاول أن تخفيه، وكانت عيناي تحاولان ألاّ تفلت أي تفصيل. ابتسمت الفتنة وقالت بفرنسية غير طليقة بجرس ألماني فاضح:
- سيدتي، أرغب في الحصول على غرفة إن أمكن.
- إن لم تكن لدينا غرفة شاغرة، سأكون سعيدة لو تركت لك غرفتي! أجبت بألمانيتي الطليقة، دون أن أعرف كيف خرجت من فمي هذه الجملة دون إرادة مني كأنما نطقها شخص آخر غيري.
ازدادت وجنتاه احمرارا وقال بعد أن أفاق من صدمة الكلمات التي لم يكن يتوقّعها.
- لن أكون بروسيّا حقيقيا لو قبلت أن آخذ منك غرفتك، ولكن يشرّفني ويسعدني أن أقاسمك إياها، سيدتي الفاتنة!
ابتسم...
رقصت ملائكة صغار على شواطئ لازوردية، وهبّت نسائم تحمل روائح الياسمين والفلّ، وطغت على عزف دلندة ترانيم طيور الفراديس وأغاريد بلابل.
التفتّ للشوشان، وأمرته أن يحمل الحقائب للغرفة التي أتركها لسوسو بيشي الذي يرغب أحيانا في قضاء ليلة عندي. امتثل الشوشان وهو يحاول أن يخفي استغرابه. ثمّ دعوت الفتنة للجلوس إلى طاولتي.
- مسكة شامي، صاحبة الدار.
- جوزيف هاينريش فون مالتزان، نائب بنك أرلنجر، سعيد بلقائك سيدتي، وأحسد اللغة الجرمانية التي تخرج من بين شفتيك كالتبر. عفوا على تطفّلي، ولكن هل ولدت في بروسيا؟
- لم تطأ أرضها قدماي حتى الآن!... ولكن هل أنت ابن الرحالة الشهير هاينريش فون مالتزان؟
- هو بعينه، هل سمعت به؟ ظننت أن لا أحد في هذه البلاد يمكنه أن يعرف المرحوم والدي.
- مات إذن، رحمه الله! لقد قرأت كتاباته الرائعة عن شمال إفريقيا، لقد كتب وهو يحكّم ضمير الرحّلة المؤرخ ولم يكن عنصريا كذلك الأمير المغامر...
- تقصدين الأمير بوكلير موسكاو؟! لا علاقة البتة بينه وبين أدب الرحلات، كان مجرّد أمير مفلس يرغب في الإثراء بالكتابة للغرب عن الشعوب الأخرى كما يرغب هذا الغرب الباذخ في رؤيتها: شعوبا بدائية تفتقر لأدنى مقوّمات الحضارة، وفي حاجة للتدخل الغربي المنقذ للخروج من التخلّف!!!
- هذا بالضبط ما أحسسته عندما قرأت كتابه، ولكنك أنت الأوروبي الأول الذي يصرّح بهذا الكلام دون أن يشعر بالخجل أو الإحراج...
- ليس لي أن أخجل، كل إنسان مسؤول عن سلوكه، وكل إناء بما فيه يرشح كما بقول مثلكم العربي الشهير!
- أنا سعيدة جدا بالتعرّف عليك، أرجو أن تطول إقامتك بيننا لنمتّن صداقتنا... إن كان هذا لا يزعجك، طبعا!
- يشرّفني أن أكون صديقك، أنت ملكة بتاجين: الجمال والثقافة، فكيف لا يسرّ أي شخص عاقل بصداقتك.
- هذا إطراء أقبله بكل سرور! ولكن أرى أنك مرهق من السفر، عليك أن ترتاح، وغدا سنواصل حديثنا... سآمر أن يقدموا لك عشاء خفيفا في غرفتك بعد أن تستحم وتغيّر ملابسك.
وقف الفاتن وهو يمطرني بالشكر على لطفي وحفاوتي...
- لا تستعجل الحكم، يا صديقي، لنترك الأحكام، فالزمن كفيل بتأكيدها أو نفيها!
لم أنم ليلتها، وذلك يعني أني لم أغمض جفنيّ. بقيت مسهّدة أفكر بهذا الغريب الذي استحوذ على ملكاتي منذ النظرة الأولى وكيف سأتصرف معه، بل كيف سأتصرّف معي، وكيف سأكبح جموح رغبتي في الركوع تحت قدميه وتقبيل أنامله الرقيقة. لم أستعجل قطّ قدوم الصباح كتلك الليلة، وعرفت ليلتها معنى العشق وعذرت أمي وما فعلت، وعلمت أن للحب سلطانا لا يقاوم. وسحبت من الدرج الرسائل الغرامية الأولى التي قرأتها في حياتي وأعدت قراءتها...






















المديّنة في 24 ديسمبر 1864
نصفي المفقود صفيّة:
ما أوحش الوجود وأنا بعيد عنك، فما بالك إذا كنت وسط القفار.
مدينة الكاف هي آخر مدن هذه الناحية، وكل ما يعترض طريقنا الآن مجموعات من الخيام من وبر الإبل وبدو رحّل لا يضمرون خيرا للحكومة، على عكس ناحية الشمال.
ليس بوسعي هذه المرّة أن أوافيك بتفاصيل سياحية عن الجهة فالأوضاع الراهنة غير سانحة للقيام بجولات استطلاعية لمزيد التعرف على البلاد، فلا أحد يغادر المخيّم دون مرافقة دورية مسلحة. لقد لاذ باي المتمرّدين علي بن غذاهم بالفرار إلى مرتفعات صغيرة يقال لها "جبل بو حناش"، وفي هذا الموقع يعتصم مع بضعة آلاف من رجاله وهو لا يعرف ما عليه أن يفعله.
لقد نفد زادي من النبيذ ولولا أن صديقي السيد شميدت بعث لي نصيبا من "الروم" و"الكونياك" لما كنت أدري كيف أقاوم البرد.
إن هذا الصديق لا يدّخر جهدا لصالحي، وإن كتب لي الإحراز على منصب ملائم في تونس فالفضل يعود له ولمساعيه.
أثناء تواجدنا بهذا المكان انطلقت "محلّة الشتاء" نحو بلاد الجريد على رأسها "باي المحلّة " سيدي علي باي لاستخلاص الأموال من الجهة المذكورة. وفي شرق البلاد تمكن الجنرال زروق منذ زمن من الانتصار على المتمردين وانتزاع أموال طائلة بالابتزاز أو بتسليط العقوبات. وها نحن في الغرب نسعى إلى نفس الهدف بيد أن التمكن من رأس الثورة ذاته مازال يتطلّب بعض العناء.
ولكي أبعدك عن جوّ الثورات والعسكر سأروي لك أني أرى الفريق رستم يوميا عند الزوال وفي المساء لأني أتناول الطعام على مائدته، فأجلس القرفصاء كبقية الحاضرين على البساط وأقتطع بإصبعي لحما من الخروف المصلي لذيذ الطعم وأضعه في فمي وأعيد الكرّة على هذا المنوال.
ويتميز الطعام بتنوعه وكثرة أصنافه وهي كلها تفوح لي وتمتاز بالنسبة لي بطعمها الحار وكثرة توابلها. وتقدّم المأكولات فوق طبق نحاسي كبير يسطع نظافة, أثناء الأكل يقف خلفنا خدم بأكواب مملوءة ماء.
هذا، وراقت لي كذلك بقية عادات المسلمين المثقفين اليومية وأجدها في منتهى الكياسة رغم ما هو شائع لدينا في أوروبا من آراء حولها تسودها الأخطاء، لأنه قلّما تتاح لأوروبي فرصة الإطلاع على أساليب عيش رقاة الناس في حياتهم الخاصة ولعلّك تعلمين من حياتهم أضعاف ما أعلم ولكنها خواطر أحببت أن أشركك فيها.
دمت زهرة يعبق عبيرها في خاطري
المخلص غوستاف

ملحق: لقد وصلتني رسالتك بعد أن أنهيت كتابة الرسالة ولقد كدت أطير فرحا عند قراءتها. وشكرا على الأغطية الحريرية التي أخشى أن أتعوّد عليها. مع حبي الأبدي