آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الفوضــــــــــــوية استثنائية جديدة في متناقضات السياسة الدولية ( ج 1 )

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية محمد بن سعيد الفطيسي
    تاريخ التسجيل
    07/05/2007
    المشاركات
    196
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي الفوضــــــــــــوية استثنائية جديدة في متناقضات السياسة الدولية ( ج 1 )

    يعج التاريخ السياسي المعاصر بعدد هائل من النظريات والفرضيات السياسية التي شكلت وجهه السياسي على صورته الراهنة , فالتاريخ السياسي في مجمله ما هو آلا وليد تلك النظريات والحركات السياسية التي شكلت الصور التي شاهدناها سابقا للتاريخ من أحداث وتغيرات وتحولات في الفكر والتطبيق على صعيد الحركة السياسية الدولية , ونشهد اليوم بروز وتطبيق عدد منها على واقعنا السياسي في جميع أنحاء العالم , وسنشهد غدا ما تبقى من تلك الأفكار والنظريات , بحيث ان التاريخ كما بدا بها سينتهي بها , فالفرق الوحيد الذي نستطيع ان نذكره للفصل بين فترة زمنية سياسية وأخرى هو في نوعية تلك الأفكار ومدى تأثيرها على البشرية أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ 0
    وقد شهدت الإنسانية في فتراتها الماضية اثر تطبيق تلك النظريات عليها بحيث أننا نستطيع ان نقول ان اغلب النزاعات العرقية والحركات السياسية والحروب الكونية , والموت الجماعي والانيقاد وراء العنف والإرهاب و غيرها من الكوارث التي تسبب به الجنس البشري ضد نفسه , لم تكن سوى الصورة العملية للوجه الآخر - أي - الوجه العملي والتطبيقي لتلك النظريات والفرضيات السياسية , مع عدم تجاهل عدد لاباس به من تلك النظريات التي كان لها الفضل الكبير نحو تحسين الحياة وتشكيل الصورة الحسنة في فترات معينة من التاريخ السياسي للإنسانية , وعلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية 00الخ 0
    وها نحن اليوم نشهد تقييم الحركة التاريخية السياسية للقرن العشرين وما خلفه لنا من أفكار ونظريات سياسية شكلت صورته التاريخية ومدى تأثير تلك الأفكار والنظريات على القرن الحادي والعشرين , بحيث أننا نستطيع ان نقول بأنه لم يشهد العالم من قبل ذلك الكم الهائل من الأفكار والنظريات السياسية التي شكلت مجمل الحركة السياسية للتاريخ السياسي المعاصر على صعيد السياسة الدولية في قرن واحد 0
    ونستطيع هنا ان نجزئ تلك الأفكار والنظريات السياسية التي يتشكل منها التاريخ السياسي في مجمل صوره بداية من الماضي ومرورا بالحاضر وانتهاء بالمستقبل وبجميع أشكالها الحسنة والسيئة الى ثلاثة أقسام :-
    أولا :- الفكر الفردي الذي يتناول فيه صاحبه نظرته المستقبلية الى حركة التاريخ متناولا فكرتا ما او نظريتا ما يعتقد بأنها ستكون الاصلح او الأنسب لاستمرار الحركة السياسية للبشرية بشكل صحيح , او يرجو من وراءها تشكيل أيديولوجية ما يعتقد هو بأنها ستشكل الحاضر القائم والمستقبل القادم للإنسانية وبها تبدا او تنتهي الحركة السياسية للتاريخ السياسي , ومن أمثلة تلك النظريات والأفكار التي قام على تشكيل بناءها الأيديولوجي الفكر الفــردي - وقد تناولنا هنا النظريات التي أخذت منحى عام او اصبح لها تأثير عالمي فقط - نظـــرية " نهاية التاريخ " للأســتاذ فرانسيس فوكوياما الياباني الأصــــل الأمريكـــي الجنــسية والذي شغل مناصب عديدة في الحكومــات الاميريكية المتــتالية , حيـث تقــوم هــذه النظرية علــى أســــاس ان ( الديموقراطيات الغربية الحرة قد انتصرت , وانتصر الغرب معها , ولن يعود ألان أمام الأمريكيين والأوربيين – او حتى العالم بأسره - ما ينتظرونه من جديد , لقد حدث هذا الجديد بانهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي , واعتماد الدكتاتوريات العقائدية السابقة , واغلب دول أوربا الشرقية للنظام الحر , هذا الانتصار الكاسح – في رأي فوكوياما – قد اغلق باب التاريخ , فلا جديد بعد اليوم , آلا فـي حدود بعض الإصلاحات الطفيفة , لكن لن يتعدى هذا ليصبح حدثا تاريخيا ) ( 1 ) 0


    ومن الأمثلة الأخرى على تلك النظريات الفردية التي لازال تأثيرها قائما الى يومنا هذا وبشكل كبير جدا , نظرية " صدام الحضارات " لصاموئيل هنتينغتون وهو أستاذ جامعي بجامعة هارفرد الاميريكية ونختصر نظريته في التاريخ السياسي على فكرة ان الحضارات القائمة - ويعرفها بأنها أعلى تجمع ثقافي للناس و أوسع مستوى للهوية الثقافية لشعب , وتتحد بالعناصر المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات معا – ستصطدم معا فــــي حرب من نوع ما وبطريقة ما وعلى أساس ما , ولاسباب كثيرة أكانت مباشرة او غير مباشرة , كالفرو قات الأساسية في الفكر والتطبيق والتفاعل الحضاري الذي جعل من العالم اصغر مساحة بسبب التقدم التكنولوجي والصناعي 000 الخ , وبسبب عمليات التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي التي ترمي الى فصل الفرد عن جذوره او العكس كالعولمة , و نمو الوعي بالحضارة نفسها وغيرها من الأسباب النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وقد حدد الحضارات القائمة بسبع حضارات وهي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية والأرثوذكسية و الاميريكية اللاتينية 0
    ونظرية " الإسلام والغرب " لبريان بيدهام والتي يرى فيها ان القرن القادم سيكون قرن صراع بين عدد من الحضارات التي اختزلها الى ثلاث حضارات من اصل سبع في نظرية صاموئيل هنتينغتون وهي أولا ( حضارة الغرب او بتعبير آخر الثقافة الأوربية الاميريكية , التي نتجت عن النهضة العلمية والانفتاح الحضاري , و أفرزت الرأسمالية والديموقراطية المعاصرتين , وثانيا الحضارة الصفراء او – كما يعبر عنها بيدهام – الثقافة الكونفوشيوسية التي تعتبر تجسيدا للأفكار الناشئة في إطار اللغة الصينية – ولكنه يعود ليقول بان أفكار وثقافة هذه الحضارة – لا تزيد عن كونها ضربا من الوهم نسجه الأدب فتاريخ الناطقين بالصينية يحوي الأنانية والوحشية من طرف الحكام ومن المعاناة من طرف المحكومين , أما الحضارة الثالثة التي يشير إليها بيدهام فهي الثقافة الإسلامية , ويشير كذلك الى ان السبب الجوهري للاعتقاد العام بان الثقافة الإسلامية هي المنافس الفكري الوحيد للغرب في نهاية القرن العشرين , يكمن في ان الإسلام مبني على يقين جازم بأنه فوق الأسس التي يضعها البشر , أي هو – كما يتابع بيدهام – كلمة الله التي أوحى بها على مراحل لمحمد " ص " وبدأت في زاوية يملؤها الغبار من الجزيرة العربية منذ اكثر من 1400 سنة مضت ( 2 )
    ويختصر بيدهام بعد ذلك لغة الصراع التي ستقوم وستنشئ في المستقبل بين حضارتين فقط وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وبعبارة ثانية بين الثقافتين الإسلامية والثقافة الأوربية الغربية , وذلك لعدة أسباب رأى من خلالها بيدهام استحالة التقاء تلك الحضارات و تلك الأفكار في بوتقة واحدة , او على الأقل تفاهم ولو بسيط في ذلك الاتجاه الأيديولوجي رغم بعض حالات التقارب والتسامح في العديد مــن المرات , والمحاولات المستمرة لجمعهما على طاولة واحدة ولو مــن الناحية النظرية , وغيرها الكثير من النظريات الفردية والتي لا زال تأثيرها قائما الى وقتنا هذا , بل ولا زالت في حالة من التطور الثقافي , والاستمرارية في البناء الفكري رغم هشاشتها وضعـف بناءها النظري 0
    ثانيا :- الأفكار والنظريات التي تتبناها الشعوب والجماعات كالحركات السياسية المراد من وراءها تغيير الفكر القائم للدولة او على المستوى الفكر الدولي في فترة زمنية ما من التاريخ السياسي المعاصر, او الأفكار التي تتبناها عدد من الأحزاب السياسية او التكتلات الدولية في محاولتا منها للتغيير او التصدي لوضع سياسي او اقتصادي او اجتماعي قائم او على وشك القيام بطريقة او بأخرى , ومن أمثلة تلك الأفكار او الحركات السياسية الحديثة والتي برزت مع بداية القرن العشرين او نهايته او مع بدايات القرن الحادي والعشرين ومن اشهرها على سبيل المثال لا الحصر , الحركة الارتدادية " Backlash " وقد نشا هذا المصطلح في الولايات المتحدة الاميريكية حيث كانت حركة البيض الارتدادية ضد التدابير المتخذة للتخفيف من أوضاع السود القائمة في تلك الدولة , او حركة البلشفيك وهي الفئة المنتمية الى الحزب الاجتماعي الديموقراطي والعمل الذين فازوا في المناظرة الرئيسية في مؤتمر الحزب الثاني في عام 1903 أو الكوميونالية وهي وصف لنوع المجتمع الذي يوجد حين تكون الانقسامات الاثنية واللغوية والدينية فيه عميقة , ويوجد هذا النوع من المجتمعات في أوربا الغربية وايرلندا الشمالية وبلجيكا وهولندا , او حركة المخالفون والتي أصبحت تطلق على المعارضين لنظام الحكم – في دول الكتلة السوفيتية والصين الشيوعية أو الديموقراطية المسيحية , وغيرها من الحركات والأفكار السياسية التي شهدها تاريخنا السياسي الدولي المعاصر( 3 )
    ثالثا :- الفكر العام او النظريات التي تتبناها الدول و الحكومات كفكر سياسي او اجتماعي او اقتصادي لتسيير او تغير الاتجاهات القائمة على الصعيد المحلي او الدولي , ومن اشهر تلك الأفكار والاتجاهات العالمية والتي برزت مع بداية القرن الحادي والعشرين ونهاية القرن العشرين , فكرة العولمة – أي – نمو شبكات من الاعتماد المتبادل على صــعيد العالم كـله , ورغم أقدمية هذه الفكرة من الناحية التاريخية , إنما الجديد فيها هو ان تلك الشبكات قد أصبحت أكثف واكثر تعقيدا , ونستطيع هنا ان نقول ان فكرة العولمة هي فكرة عالمية دولية ولكن بمركزية أمريكية , وتختلف المركزية هنا عن التأصل في النشوء والولادة , - أي – ان العولمة في اصلها ليست أمريكية , حتى ولو كان الجزء الأكبر من محتواها الحالي شديد التأثير بما يحدث في الولايات المتحدة الاميريكية , وبمعنى آخر ( ان جزء كبير من ثورة المعلومات يأتي من الولايات المتحدة الاميريكية , كما ان قسما كبيرا من محتويات شبكة المعلومات العالمية يتم تكوينه حاليا في الولايات المتحدة الاميريكية ( 4 )
    ولا تقتصر العولمة على شبكة المعلومات فقط إنما تتعداه الى كل أشكــال الحـياة , كالثقافة والعلوم والتكنولوجيا والطعام والشراب والفضاء و000الخ , ومن اقدم أشكال وأنواع العولمة على الإطلاق – على سبيل المثال - هو الاعتماد البيئي المتبادل , وقد كان لهذا الاتجاه منحيين أحدهما سلبي و آخر إيجابي , فعلى سبيل المثال ( فان أول وباء للجدري مسجل في مصر سنة 1350 قبل الميلاد , وقد وصل المرض الى الصين سنة 49 ميلادي , والى أوربا سنة 700 م , والى الأمريكيين سنة 1520 م والى استراليا سنة 1789 م ) رغم ولادته الأصلية في القارة الأسيوية ( 5 ) ولكنها – أي العولمة – من ناحية أخرى وعلى صعيد المجال نفسه فقد كان لها تأثير إيجابي كبير حيث ( استفادت التغذية والمطابخ في أوربا واسيا معا من بعض محصولات الدنيا الجديدة كالبطاطس والذرة والطماطم , كما ان الثورة الخضراء في التكنولوجيا الزراعية في العقود القليلة الأخيرة قد ساعدت الفلاحين الفقراء في جميع أنحاء العالم ) ( 6 )
    ومن الأمثلة الأخرى على تلك الأيديولوجيات الفكرية و النظريات العامة والدولية والــتي اعتبرها مــــن - وجهة نظري الشخصية - من اخطر واهم الأفكار والنظريات التي برزت مع بدايات القرن الحادي والعـــشرين و أثرت بشكل خطير وكبير على العالم بأسره و على مختلف الجوانب الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وربما الأيديولوجية لإنسان القرن الحادي والعشرين , هي نـظرية او فــــكرة " مكافحة الإرهاب " والتي ظهرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 بالولايات المتحدة الاميريكية نتيجة ضرب برجي التجارة العالميين بها , رغم ان هذه الحركة السياسية قد ظهرت في مراحل عديدة من التاريخ السياسي الإنساني , في عدد من الدول و في فترات مختلفة من التاريخ وقام بتبنيها عدد من القادة والحكومات كاستراتيجيات عسكرية وسياسية للقضاء على وحش الإرهاب و التطرف والعنف السياسي , ولكن لم يكن ذلك الظهور بهذا المستوى من الاجتماع العالمي والاتفاق الدولي عليه من الناحيتين " الكم والكيف " , وقد أطلقت الحكومة الاميريكية بقيادة الرئيس جورج بوش الابن هذا المصطلح على تلك الفكرة التي تبنت تغير مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني السياسي بهذا القرن بهدف مكافحة الإرهاب والتطرف السياسي والعنف الموجه في مختلف أرجاء الأرض , رغم عدم وجود تعريف دولي على معنى المصطلح او حتى على طريقة مكافحته ومحاربته , ولهذا نجد ان تلك اللائحة الدولية – الغير منصفة - لم تشمل دولة كإسرائيل رغم قيامها بعدد هائل من الخروقات القانونية والاعتداءات على الفلسطينيين , والقتل والإرهاب والتطرف , وسنتناول تأثير هذه الفكرة بشكل منفصل في السطور القادمة من خلال اعتبارها أحد أهم وابرز الأسباب التي أدت الى بروز نظرية الفوضى السياسية او الفوضوية في السياسة الدولية , ودخول العالم بسببها الى سديم مظلم ملئ بالعنف والخوف والدماء والقتل الجماعي 0
    وهكذا نرى تأثير تلك النظريات والأفكار العامة والخاصة على مجمل حركة التاريخ السياسي المعاصر, أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ , ومدى تأثيرها في الفكر الإنساني على مختلف نواحي الحياة البشرية , وكيف استطاع بعضها ان يستمر ويقاوم المتغيرات المناخية السياسية , وتلاشى البعض الآخر لعدم وجود من يتبناها من الناحية العملية او التطبيقية , فأصبحت مجرد هباء تذروه رياح التقلبات والتغييرات السياسية الدولية

    الفوضوية ,,, من النظرية الى التطبيق على الواقع السياسي :-


    بالمقاييس الفكرية السياسية الحديثة لا يمكن اعتبار نظرية الفوضى السياسية , او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية بالنظرية الجديدة بشكل تام وكامل , نظرا لتناول عدد لاباس به من المفكرين والمنظرين السياسيين لهذه الفكرة على مستوى السياسة الدولية بشكل مباشر او بالإشارة أليها بطريقة غير مباشرة , وان تباينت مستوى الطروحات و الأفكار الجديدة من كاتب الى آخر, فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تناول هذه الفكرة المنظر والكاتب الأمريكي زبغينيو بريجنسكي والذي شغل منصب وزير الخارجية أثناء فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر, في كتابه الفوضـى - الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين - , والذي تناول فيه فكرة الاضـــــــطراب والفراغ السيـــاسي حيال واقع السياسة العالمية اليوم وما يمكن ان يحدث مع مستهل القرن الحادي والعشرين , وتناول فكرة سياسة الجنون المنظم , وغيرها من النقاط الهامة, ككيف سيكون الشكل الجيوسياسي والمذهبي لعالم القرن الحادي والعشرين ؟ وما هي الأهمية التاريخية للفشل الكبير الذي لحق بالمبدأ القمعي خلال القرن العشرين بشكل عام وبالشيوعية على وجه الخصوص باعتبارها قوة أيديولوجية في الشــؤون العالمية ؟ وغيرها الكثير من النقاط الهامة والمفيدة للولوج لمعرفة اكثر عمق لفكرة الفوضى السياسية الدولية 0
    وتختلف نظريات الفوضى السياسية من مفهوم الى آخر وذلك بحسب الطرح السياسي المقصود من وراءه وضع الفكرة , كما ان تعريف مفهوم الفوضى السياسية نفسه يختلف كذلك اختلافا تاما من أطروحة الى أخرى, ومن مستوى دولي بمفهومه الشامل والعالمي , الى آخر لا يتعدى الطرح الداخلي او الإقليمي او حتى الشخصي , فتارتا تعرف نظرية الفوضـــى او – Chaostheory - بأنها التغيرات التي تحــدث على التوازنات المســــتقرة فهـي ( نظرية تقول بان تغييرات ضئيلة جدا قد تسبب انهيارات التوازنات المستقرة جدا , وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النظريات المستقاة من العـلوم الطــبيعية , فان مكان تطبيقها على العلوم الاجتماعية أمر مشكوك فيه ولم يتم إثباته , ومن الصعب التفكير بأي مثال على ذلك من خلال دراسة الأنظمة السياسية ) 0
    وبمفهوم آخر ينظر الى الفوضوية كاصطلاح سياسي بأنها كلمة مأخوذة من اللغة اليونانية وتعني " لا نظام " وبالتالي الفوضى , ( ولقد بدأت صورة الإنسان الفوضوي – كإرهابي يحمل قنبلة – في روسيا حيث قام أحد الفوضويين باغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881 , وقام الفوضويون الفرنسيون باغتيال الرئيس كارنو عام 1894 , وقتل الفوضويون الأمريكيون الرئيس ماكينلي عـام 1901 م ) ( 7 )
    أما بالنسبة لتعريف نظرية الفوضى السياسية المراد الوصول أليها من خلال هذا الطرح او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية , فهي نظرية تقوم على استراتيجية نشر الفوضى السياسية بشتى الطرق الممكنة وبمختلف الوسائل المتاحة , أكانت تلك الطرق سياسية كنشر الفوضى والاضطرابات السياسية و إقامة قوى وأحزاب معارضة للمعارضة فقط في الداخل والخارج بهدف زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي للدول والشعوب ليس إلا , وبث روح الاختلاف والتفرقة والصدامية , او عسكرية كالتدخلات في الشؤون الداخلية للدول بالطرق العسكرية بهدف إسقاط الأنظمة القائمة وقلبها ودعم المعارضة لنفس الغرض السابق , او اجتماعية و ثقافية بنشر الأيديولوجيات الاجتماعية التي تقوم على القوميات والنعرات الطائفية والعصبيات وخلافه او بنشر الأفكار الهدامة التي تقوم على الفساد والانحلال الأخلاقي بهدف زعزعة المجتمعات المستقرة , وذلك بقصد السيطرة على العالم ككل وعلى تلك الأنظمة القائمة او النظم التي ينتظر بروزها وظهورها كمنافس دولي او إقليمي للطرف الأقوى , - وبمعنى آخر – تحويل العالم ككل وبدون استثناء الى شكل من أشكال الفوضوية والغوغائية السياسية والاقتصادية , بهدف بقاءه في حالة من عدم الاستقرار, وبالتالي تحويله الى ارض خصبة لرعي قوى " الظلام والشر " واصحاب المصالح وعصابات السلاح والموت والمخدرات وخلافه0
    وبشكل عام - فان كل ما يحدث في العالم اليوم من متغيرات سياسية , تأخذ منحى الغرابة الواقعية والسير على طريق العنف السياسي , و السياسة الصلبة , وتراجع الدبلوماسية العالمية , والموت الجماعي والحروب وغيرها ما هي آلا استراتيجية عالمية " مقصودة ومفتعلة " بهدف زعزعة العالم وتحطيم بناءه السياسي والاقتصادي بهدف بقاءه في حالة من الانقياد نحو القوي العالمية الكبرى , حيث انه من المعروف سياسيا بان القوى الصغيرة تكون دائما في حاجة الى القوى الكبرى للانزواء خلفها , وبالتالي فان فكرة فرق تسد ونشر الفوضى السياسية في العالم هي الطريقة الوحيدة للوصول الى تلك الاستراتيجية في ظل الواقع السياسي الراهن , وهي الوسيلة الناجحة لبلورة عالم يسير خلف الأقوى سياسيا وعسكريا وثقافيا , وقد نتصور بطريقة أخرى ان تلك الاستراتيجية المفتعلة قد خرجت عن نطاق السيطرة , فأصبحت على ماهي عليه اليوم , حيث أنها قد بدأت تشمل حتى الدول المستفيدة من وراء هذا النوع من الاستراتيجيات – أي – أنها انقلبت على صانعها ومهندسها 0

    وقد برزت هذه الظاهرة و بشكل كبير وملفت للانتباه على مشارف القرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص , حيث كان وراءها عدد من الأسباب السياسية والاقتصادية و التي أدت الى استفحالها وانتشارها كسرطان ينخر العالم وبشكل مخيف ويهدد البشرية بالانقراض والفناء , لدرجة أننا نستطيع ان نطلق على الحالة المرضية من فلتان الأمن والاستقرار والنزوع الى القتل والحروب الغـير مبررة , ورائحة الموت المنتشرة في كل مكان , وتداخل المصطلحات السياسية , وخلط المفاهيم الواضحة بأخرى موبوءة , بجنون العالم الحديث و أصابته بسرطان الفوضى السياسية 0

    الأحداث الدولية وصناعة الفوضى السياسية : -

    لقد هز العالم كثير من الأحداث التاريخية على مدى السنوات الماضية , والتي كان لها الأثر البالغ في تحطيم التوازنات المستقرة والثوابت السياسة الدولية والتي كان الاعتقاد السائد – على الأقل – حتى ساعتها بأنها غير قابلة للتصدع والتراجع والانهيار أمام المتغيرات الجيوبولتيكية و الجيوسياسية العالمية , ولكن التاريخ اثبت لنا عكس ذلك التصور , حيث شاهدنا الكثير منها – أي – تلك الأحداث وهي تمخر الجدار الصلب للكثير من الإمبراطوريات والنظم السياسية القائمة فتهوي بها الى القاع , وتعيد صياغة وتشكيل العالم السياسي من جديد بشكل آخر وصورة جديدة لم يكن لتكون على ذلك الشكل بدون تدخل تلك المتغيرات والأحداث السياسية في تشكيلها وبناءها على ذلك النحو 0

    فإذا ما عدنا الى الوراء قليلا في استقراء لتلك الأحداث والمتغيرات التاريخية منذ بداية القرن العشرين حتى نهايته, فأننا سنجد ان هناك أحداث كثيرة قد زلزلت العالم وحطمت من بناءه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل خطير جدا , فمع إطلالة اليوم الأول من العام 1900ساد العالم بان هذا القرن سيكون بداية السعادة والخير للبشرية قاطبة , بحيث ستندمل جراح كثيرة خلفها قرن فائت طغت عليه رائحة الجثث المتناثرة في كل مكان , واللون الأحمر الذي سطرته عدة حروب دولية كحرب القرم بين فرنسا وبريطانيا من جهة وروسيا من جهة أخرى في الفترة من 1853 – 1856 والحرب البروسية الفرنسية في الفترة من عام 1870 – 1871 وغيرها من الحروب الدامية 0

    نعم 00 فقد كان العالم ينتظر إطلالة شمس القرن العشرين ليداوي جراحه النازفة جراء تلك الكوارث التي تسببت بها فكر القوة والسياسية الصلبة التي تحكمت بإنسان القرن التاسع عشر ميلادي , فإذا به يصطدم مع قرن اشد وطئة من سابقه , بل واشد كارثية وخراب وموت بلا حدود , فقد وصفه العديد من المحللين و أطلق عليه الكثير من كتاب التاريخ السياسي المعاصر بأنه " قرن الموت الجماعي " فإذا بتلك الجراح التي ما كادت تندمل , تعود لتنزف من جديد ولكن هذه المرة بشكل اكبر واخطر على خلاف ما كان يتوقع , فكانت تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي هزت استقرار العالم في تلك الفترة من التاريخ , هي بداية لإرهاصات التوجه نحو منطق القوة والسياسة الصلبة والتي تحكمت في العالم بعد ذلك 0

    ( فقد أمسى القرن العشرون , على نقيض ما وعد به , القرن الأكثر دموية وكراهية في تاريخ الإنسانية , انه قرن الهلوسة السياسية والقتل الوحشي , لقد باتت القساوة جزءا من عمل مؤسساتي على درجة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل , وغدا القتل جماعيا , وبهذا اصبح التناقض بين المسعى العلمي للخير وبين الشر السياسي الذي انطلق عنانه بحق أمرا محيرا بل وصادما , فلم يشهد سفر التاريخ من قبل قتلا بحجمه الكوني هذا , ولم يستهلك التاريخ أرواحا كما استهلك اليوم ولم تكن إبادة الإنسان مسعى مدعوما بالنيابة عن أهداف متهورة تماما 0

    فقد اطل القرن العشرين وهو يحمل للإنسانية حربين كونيتين شكلتا صورته القاتمة والسوداوية القادمة , راح فيهما ملايين الضحايا الأبرياء , نتيجة للغطرسة والسلطوية , وتحكم المصلحة الفردية وحــب ألانا , والسير على نهج القسوة السياسية في اتخاذ القرارات المصيرية للعالم , و دونما اعتبار لحق البشرية في الحياة والاستقرار والسلام والعدالة , وكانتا بداية لانقسام العالم الحديث على نفسه وعلى الآخرين , فالأبعاد - ( الفريدة لإراقة الدماء في القرن العشرين إنما هي نتاج نضالات وجودية – آنية - مركزية هيمنت على هذا القرن وحددت هويته , وهي نضالات قد أفضت بدورها الى اشد انتهاكين جماعيين وأخلاقيين في عصرنا , نقلا قرن الأمل الى واحد ميزته الجنون المنظم , فقد شمل الانتهاك الأول على حرب طويـلة ومـدمرة , ليس فقط بضحاياها من العسكر بل من المدنيين أيضا , انهما الحربان العالميتان , وما لا يقل عن ثلاثين حربا دولية كبرى وأهلية ) ( 8 )

    و من أبرز تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي شكلت الصورة السوداوية للقرن العشرين , وحطمت من بناءه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي , وحولته الى وحش مضطرب نفسي , يستمد طبيعة من الحروب و الموت و الدمـاء , ويعيش على حالة من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار , الحربين الكونيتين الأولى والثانية والتين أسفرتا عن هتك ستار الإنسانية بكل بجاحة وسفور وقد تم استخدام السلاح النووي – الأمريكي – و لاول مرة في تاريخ الإنسانية وبدون إنسانية ورحمة , و حــرب " بأورغواي – بوليفيا في الفترة من 1928 حتى عام 1935 " و" الحرب الأهلية الأسبانية مع بداية العام 1939 " وحرب التقسيم الهندية الباكستانية و الحرب الكورية , وحرب فيتنام , والحرب الإيرانية العراقية في الفترة من 1980 حتى 1988 , وحرب الخليج بتوابعها بداية من غزو العراق للكويت في 12/ أغسطس / 1990 م الى حرب تحرير الكويت في 17/ يناير/ 1991 , وسقوط الاتحاد السوفيتي " 1917 – 1992 " وغيرها من الأحداث الخطيرة التي أدت الى موت الملايين من الكائنات الحية وبدون مراعاة ولا ضمير إنساني ولا أخلاقي 0
    وها هو القرن الحادي والعشرين يستمد امتداده من ذلك الوضع ألا أخلاقي السابق , الوضع الذي لم تستطع البشرية الانتصار عليه والتخلص منه , والحيلولة دون استمراره وولوجه الى هذا القرن , وضع ملئ بدماء الأبرياء , وتطلعات سياسية لقوى عظمى لا هم لها سوى السيادة على العالم وحكمه بشكل مطلق وفردي , ونزوع الى الغطرسة والانا وحب الذات , وبالتالي توفير مناخ مناسب لامتداد ظاهرة الفوضى والغوغائية السياسية والعنف والإرهاب الى عالم ما بعد القرن العشرين , ولكن هذه المرة بشكل اكثر شراسة واخطر من ذي قبل , مع ملاحظة ان هذه الظاهرة قد خرجت عن نطاق السيطرة السياسية واتجهت الى طريق الفلتان السياسي والأمني , كمن يصنع وحش مخيف ويقوم بتربيته وتغذيته حتى يكبر ويقوى , فإذا ما وصل الى تلك المرحلة , انقلب على صانعه بل واصبح من اشد أعداءه 0
    وهذا هو وضع الفوضى السياسية المقصودة من وراء هذا الطرح , حيث قامت على إيجادها وصناعتها قوى أرادت ان تنال من وراءها السيطرة والسيادة على هذا العالم , وارتأت من وراءها التحكم بثروات الأرض وخيراتها وإمكانياتها , ولكن ما حدث بعد ذلك هو ان ذلك الوحش قد خرج عن نطاق السيطرة فاصبح قوة مخيفة تآكل الأخضر واليابس , بل وتصيب صانعيها قبل من صنعت من أجلهم , وترتد سهامها على من أطلقها قبل ان تصيب من أطلقت عليه , وقد ساعدها على ذلك بروز عدد من المتغيرات والأحداث السياسية مع مطلع هذا القرن والتي شكلت الوجه الجديد والصورة السوداوية له , فزادت من شراسة ذلك الوحش , وغذته حتى اصبح على ما هو عليه اليوم , وبالشكل الذي نشاهده هذه الآثام في كل أنحاء العالم ودون استثناء , ومن أهم وابرز تلك المتغيرات الدولية والتي أحدثت ذلك الشرخ الهائل بين المفروض والمرفوض في السياسة الـدولية , والمتوقع وعكسه , والتي ربما تكون استمرار ونتاج لأحداث القرن العشرين من كوارث و أخطاء سياسية , وتراجع دبلوماسي , كارثة الحادي عشر من سبتمبر, او أيلول الأسود , بالولايات المتحدة الاميريكية بتاريخ 11 / 9 / 2001 م وإفرازاتها , بداية من بروز النظرية " الهيلامية " لمكافحة الإرهاب والشر, والتي حددت الولايات المتحدة الاميريكية أطرافها الرئيسية بإيران والعراق وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي قد ترفض الدخول الى بوتقة السيادة الاميريكية على العالم , وكتبت و أخرجت ذلك السيناريو , وانتهاء بما قد نطلق عليه الجيوسياسية والجيوبوليتيكية الاميريكية الجديدة للعالم 0
    وقد أدت هذه النظرية التي تبناها العالم بأسره " بنكهة " أمريكية بحتة , بقصد مكافحة الإرهاب الدولي والعنف والتطرف السياسي العالمي , وعلى أساسها قد تم ضرب معاقل طالبان في أفغانستان وإسقاط النظام العراقي السابق , وقد يتم بعد ذلك تأديب سوريا وإسقاط النظام الإسلامي بإيران , الى عكس الموازين والأهداف المتوقعة مــن وراءهــا , فقد زاد مستوى التطرف السياسي في العالم بدرجة مخيفة جدا , بل وانتشر الإرهاب والعنف بشكل اكبر واخطر في كل أنحاء الأرض وبطرق مستحدثة وغير متوقعة , واستخدمت فيها التكنولوجيا الحديثة التي لم تستخدم من ذي قــبل , ونتج عنه بروز عدد من الظواهر السياسية الخطيرة والتي لم تكن موجودة قبل ذلك بهذا الشكل المخيف والملفت للنظر 0


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية محمد بن سعيد الفطيسي
    تاريخ التسجيل
    07/05/2007
    المشاركات
    196
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي الفوضــــــــــــوية استثنائية جديدة في متناقضات السياسة الدولية ( ج 1 )

    يعج التاريخ السياسي المعاصر بعدد هائل من النظريات والفرضيات السياسية التي شكلت وجهه السياسي على صورته الراهنة , فالتاريخ السياسي في مجمله ما هو آلا وليد تلك النظريات والحركات السياسية التي شكلت الصور التي شاهدناها سابقا للتاريخ من أحداث وتغيرات وتحولات في الفكر والتطبيق على صعيد الحركة السياسية الدولية , ونشهد اليوم بروز وتطبيق عدد منها على واقعنا السياسي في جميع أنحاء العالم , وسنشهد غدا ما تبقى من تلك الأفكار والنظريات , بحيث ان التاريخ كما بدا بها سينتهي بها , فالفرق الوحيد الذي نستطيع ان نذكره للفصل بين فترة زمنية سياسية وأخرى هو في نوعية تلك الأفكار ومدى تأثيرها على البشرية أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ 0
    وقد شهدت الإنسانية في فتراتها الماضية اثر تطبيق تلك النظريات عليها بحيث أننا نستطيع ان نقول ان اغلب النزاعات العرقية والحركات السياسية والحروب الكونية , والموت الجماعي والانيقاد وراء العنف والإرهاب و غيرها من الكوارث التي تسبب به الجنس البشري ضد نفسه , لم تكن سوى الصورة العملية للوجه الآخر - أي - الوجه العملي والتطبيقي لتلك النظريات والفرضيات السياسية , مع عدم تجاهل عدد لاباس به من تلك النظريات التي كان لها الفضل الكبير نحو تحسين الحياة وتشكيل الصورة الحسنة في فترات معينة من التاريخ السياسي للإنسانية , وعلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية 00الخ 0
    وها نحن اليوم نشهد تقييم الحركة التاريخية السياسية للقرن العشرين وما خلفه لنا من أفكار ونظريات سياسية شكلت صورته التاريخية ومدى تأثير تلك الأفكار والنظريات على القرن الحادي والعشرين , بحيث أننا نستطيع ان نقول بأنه لم يشهد العالم من قبل ذلك الكم الهائل من الأفكار والنظريات السياسية التي شكلت مجمل الحركة السياسية للتاريخ السياسي المعاصر على صعيد السياسة الدولية في قرن واحد 0
    ونستطيع هنا ان نجزئ تلك الأفكار والنظريات السياسية التي يتشكل منها التاريخ السياسي في مجمل صوره بداية من الماضي ومرورا بالحاضر وانتهاء بالمستقبل وبجميع أشكالها الحسنة والسيئة الى ثلاثة أقسام :-
    أولا :- الفكر الفردي الذي يتناول فيه صاحبه نظرته المستقبلية الى حركة التاريخ متناولا فكرتا ما او نظريتا ما يعتقد بأنها ستكون الاصلح او الأنسب لاستمرار الحركة السياسية للبشرية بشكل صحيح , او يرجو من وراءها تشكيل أيديولوجية ما يعتقد هو بأنها ستشكل الحاضر القائم والمستقبل القادم للإنسانية وبها تبدا او تنتهي الحركة السياسية للتاريخ السياسي , ومن أمثلة تلك النظريات والأفكار التي قام على تشكيل بناءها الأيديولوجي الفكر الفــردي - وقد تناولنا هنا النظريات التي أخذت منحى عام او اصبح لها تأثير عالمي فقط - نظـــرية " نهاية التاريخ " للأســتاذ فرانسيس فوكوياما الياباني الأصــــل الأمريكـــي الجنــسية والذي شغل مناصب عديدة في الحكومــات الاميريكية المتــتالية , حيـث تقــوم هــذه النظرية علــى أســــاس ان ( الديموقراطيات الغربية الحرة قد انتصرت , وانتصر الغرب معها , ولن يعود ألان أمام الأمريكيين والأوربيين – او حتى العالم بأسره - ما ينتظرونه من جديد , لقد حدث هذا الجديد بانهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي , واعتماد الدكتاتوريات العقائدية السابقة , واغلب دول أوربا الشرقية للنظام الحر , هذا الانتصار الكاسح – في رأي فوكوياما – قد اغلق باب التاريخ , فلا جديد بعد اليوم , آلا فـي حدود بعض الإصلاحات الطفيفة , لكن لن يتعدى هذا ليصبح حدثا تاريخيا ) ( 1 ) 0


    ومن الأمثلة الأخرى على تلك النظريات الفردية التي لازال تأثيرها قائما الى يومنا هذا وبشكل كبير جدا , نظرية " صدام الحضارات " لصاموئيل هنتينغتون وهو أستاذ جامعي بجامعة هارفرد الاميريكية ونختصر نظريته في التاريخ السياسي على فكرة ان الحضارات القائمة - ويعرفها بأنها أعلى تجمع ثقافي للناس و أوسع مستوى للهوية الثقافية لشعب , وتتحد بالعناصر المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات معا – ستصطدم معا فــــي حرب من نوع ما وبطريقة ما وعلى أساس ما , ولاسباب كثيرة أكانت مباشرة او غير مباشرة , كالفرو قات الأساسية في الفكر والتطبيق والتفاعل الحضاري الذي جعل من العالم اصغر مساحة بسبب التقدم التكنولوجي والصناعي 000 الخ , وبسبب عمليات التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي التي ترمي الى فصل الفرد عن جذوره او العكس كالعولمة , و نمو الوعي بالحضارة نفسها وغيرها من الأسباب النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وقد حدد الحضارات القائمة بسبع حضارات وهي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية والأرثوذكسية و الاميريكية اللاتينية 0
    ونظرية " الإسلام والغرب " لبريان بيدهام والتي يرى فيها ان القرن القادم سيكون قرن صراع بين عدد من الحضارات التي اختزلها الى ثلاث حضارات من اصل سبع في نظرية صاموئيل هنتينغتون وهي أولا ( حضارة الغرب او بتعبير آخر الثقافة الأوربية الاميريكية , التي نتجت عن النهضة العلمية والانفتاح الحضاري , و أفرزت الرأسمالية والديموقراطية المعاصرتين , وثانيا الحضارة الصفراء او – كما يعبر عنها بيدهام – الثقافة الكونفوشيوسية التي تعتبر تجسيدا للأفكار الناشئة في إطار اللغة الصينية – ولكنه يعود ليقول بان أفكار وثقافة هذه الحضارة – لا تزيد عن كونها ضربا من الوهم نسجه الأدب فتاريخ الناطقين بالصينية يحوي الأنانية والوحشية من طرف الحكام ومن المعاناة من طرف المحكومين , أما الحضارة الثالثة التي يشير إليها بيدهام فهي الثقافة الإسلامية , ويشير كذلك الى ان السبب الجوهري للاعتقاد العام بان الثقافة الإسلامية هي المنافس الفكري الوحيد للغرب في نهاية القرن العشرين , يكمن في ان الإسلام مبني على يقين جازم بأنه فوق الأسس التي يضعها البشر , أي هو – كما يتابع بيدهام – كلمة الله التي أوحى بها على مراحل لمحمد " ص " وبدأت في زاوية يملؤها الغبار من الجزيرة العربية منذ اكثر من 1400 سنة مضت ( 2 )
    ويختصر بيدهام بعد ذلك لغة الصراع التي ستقوم وستنشئ في المستقبل بين حضارتين فقط وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وبعبارة ثانية بين الثقافتين الإسلامية والثقافة الأوربية الغربية , وذلك لعدة أسباب رأى من خلالها بيدهام استحالة التقاء تلك الحضارات و تلك الأفكار في بوتقة واحدة , او على الأقل تفاهم ولو بسيط في ذلك الاتجاه الأيديولوجي رغم بعض حالات التقارب والتسامح في العديد مــن المرات , والمحاولات المستمرة لجمعهما على طاولة واحدة ولو مــن الناحية النظرية , وغيرها الكثير من النظريات الفردية والتي لا زال تأثيرها قائما الى وقتنا هذا , بل ولا زالت في حالة من التطور الثقافي , والاستمرارية في البناء الفكري رغم هشاشتها وضعـف بناءها النظري 0
    ثانيا :- الأفكار والنظريات التي تتبناها الشعوب والجماعات كالحركات السياسية المراد من وراءها تغيير الفكر القائم للدولة او على المستوى الفكر الدولي في فترة زمنية ما من التاريخ السياسي المعاصر, او الأفكار التي تتبناها عدد من الأحزاب السياسية او التكتلات الدولية في محاولتا منها للتغيير او التصدي لوضع سياسي او اقتصادي او اجتماعي قائم او على وشك القيام بطريقة او بأخرى , ومن أمثلة تلك الأفكار او الحركات السياسية الحديثة والتي برزت مع بداية القرن العشرين او نهايته او مع بدايات القرن الحادي والعشرين ومن اشهرها على سبيل المثال لا الحصر , الحركة الارتدادية " Backlash " وقد نشا هذا المصطلح في الولايات المتحدة الاميريكية حيث كانت حركة البيض الارتدادية ضد التدابير المتخذة للتخفيف من أوضاع السود القائمة في تلك الدولة , او حركة البلشفيك وهي الفئة المنتمية الى الحزب الاجتماعي الديموقراطي والعمل الذين فازوا في المناظرة الرئيسية في مؤتمر الحزب الثاني في عام 1903 أو الكوميونالية وهي وصف لنوع المجتمع الذي يوجد حين تكون الانقسامات الاثنية واللغوية والدينية فيه عميقة , ويوجد هذا النوع من المجتمعات في أوربا الغربية وايرلندا الشمالية وبلجيكا وهولندا , او حركة المخالفون والتي أصبحت تطلق على المعارضين لنظام الحكم – في دول الكتلة السوفيتية والصين الشيوعية أو الديموقراطية المسيحية , وغيرها من الحركات والأفكار السياسية التي شهدها تاريخنا السياسي الدولي المعاصر( 3 )
    ثالثا :- الفكر العام او النظريات التي تتبناها الدول و الحكومات كفكر سياسي او اجتماعي او اقتصادي لتسيير او تغير الاتجاهات القائمة على الصعيد المحلي او الدولي , ومن اشهر تلك الأفكار والاتجاهات العالمية والتي برزت مع بداية القرن الحادي والعشرين ونهاية القرن العشرين , فكرة العولمة – أي – نمو شبكات من الاعتماد المتبادل على صــعيد العالم كـله , ورغم أقدمية هذه الفكرة من الناحية التاريخية , إنما الجديد فيها هو ان تلك الشبكات قد أصبحت أكثف واكثر تعقيدا , ونستطيع هنا ان نقول ان فكرة العولمة هي فكرة عالمية دولية ولكن بمركزية أمريكية , وتختلف المركزية هنا عن التأصل في النشوء والولادة , - أي – ان العولمة في اصلها ليست أمريكية , حتى ولو كان الجزء الأكبر من محتواها الحالي شديد التأثير بما يحدث في الولايات المتحدة الاميريكية , وبمعنى آخر ( ان جزء كبير من ثورة المعلومات يأتي من الولايات المتحدة الاميريكية , كما ان قسما كبيرا من محتويات شبكة المعلومات العالمية يتم تكوينه حاليا في الولايات المتحدة الاميريكية ( 4 )
    ولا تقتصر العولمة على شبكة المعلومات فقط إنما تتعداه الى كل أشكــال الحـياة , كالثقافة والعلوم والتكنولوجيا والطعام والشراب والفضاء و000الخ , ومن اقدم أشكال وأنواع العولمة على الإطلاق – على سبيل المثال - هو الاعتماد البيئي المتبادل , وقد كان لهذا الاتجاه منحيين أحدهما سلبي و آخر إيجابي , فعلى سبيل المثال ( فان أول وباء للجدري مسجل في مصر سنة 1350 قبل الميلاد , وقد وصل المرض الى الصين سنة 49 ميلادي , والى أوربا سنة 700 م , والى الأمريكيين سنة 1520 م والى استراليا سنة 1789 م ) رغم ولادته الأصلية في القارة الأسيوية ( 5 ) ولكنها – أي العولمة – من ناحية أخرى وعلى صعيد المجال نفسه فقد كان لها تأثير إيجابي كبير حيث ( استفادت التغذية والمطابخ في أوربا واسيا معا من بعض محصولات الدنيا الجديدة كالبطاطس والذرة والطماطم , كما ان الثورة الخضراء في التكنولوجيا الزراعية في العقود القليلة الأخيرة قد ساعدت الفلاحين الفقراء في جميع أنحاء العالم ) ( 6 )
    ومن الأمثلة الأخرى على تلك الأيديولوجيات الفكرية و النظريات العامة والدولية والــتي اعتبرها مــــن - وجهة نظري الشخصية - من اخطر واهم الأفكار والنظريات التي برزت مع بدايات القرن الحادي والعـــشرين و أثرت بشكل خطير وكبير على العالم بأسره و على مختلف الجوانب الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وربما الأيديولوجية لإنسان القرن الحادي والعشرين , هي نـظرية او فــــكرة " مكافحة الإرهاب " والتي ظهرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 بالولايات المتحدة الاميريكية نتيجة ضرب برجي التجارة العالميين بها , رغم ان هذه الحركة السياسية قد ظهرت في مراحل عديدة من التاريخ السياسي الإنساني , في عدد من الدول و في فترات مختلفة من التاريخ وقام بتبنيها عدد من القادة والحكومات كاستراتيجيات عسكرية وسياسية للقضاء على وحش الإرهاب و التطرف والعنف السياسي , ولكن لم يكن ذلك الظهور بهذا المستوى من الاجتماع العالمي والاتفاق الدولي عليه من الناحيتين " الكم والكيف " , وقد أطلقت الحكومة الاميريكية بقيادة الرئيس جورج بوش الابن هذا المصطلح على تلك الفكرة التي تبنت تغير مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني السياسي بهذا القرن بهدف مكافحة الإرهاب والتطرف السياسي والعنف الموجه في مختلف أرجاء الأرض , رغم عدم وجود تعريف دولي على معنى المصطلح او حتى على طريقة مكافحته ومحاربته , ولهذا نجد ان تلك اللائحة الدولية – الغير منصفة - لم تشمل دولة كإسرائيل رغم قيامها بعدد هائل من الخروقات القانونية والاعتداءات على الفلسطينيين , والقتل والإرهاب والتطرف , وسنتناول تأثير هذه الفكرة بشكل منفصل في السطور القادمة من خلال اعتبارها أحد أهم وابرز الأسباب التي أدت الى بروز نظرية الفوضى السياسية او الفوضوية في السياسة الدولية , ودخول العالم بسببها الى سديم مظلم ملئ بالعنف والخوف والدماء والقتل الجماعي 0
    وهكذا نرى تأثير تلك النظريات والأفكار العامة والخاصة على مجمل حركة التاريخ السياسي المعاصر, أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ , ومدى تأثيرها في الفكر الإنساني على مختلف نواحي الحياة البشرية , وكيف استطاع بعضها ان يستمر ويقاوم المتغيرات المناخية السياسية , وتلاشى البعض الآخر لعدم وجود من يتبناها من الناحية العملية او التطبيقية , فأصبحت مجرد هباء تذروه رياح التقلبات والتغييرات السياسية الدولية

    الفوضوية ,,, من النظرية الى التطبيق على الواقع السياسي :-


    بالمقاييس الفكرية السياسية الحديثة لا يمكن اعتبار نظرية الفوضى السياسية , او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية بالنظرية الجديدة بشكل تام وكامل , نظرا لتناول عدد لاباس به من المفكرين والمنظرين السياسيين لهذه الفكرة على مستوى السياسة الدولية بشكل مباشر او بالإشارة أليها بطريقة غير مباشرة , وان تباينت مستوى الطروحات و الأفكار الجديدة من كاتب الى آخر, فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تناول هذه الفكرة المنظر والكاتب الأمريكي زبغينيو بريجنسكي والذي شغل منصب وزير الخارجية أثناء فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر, في كتابه الفوضـى - الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين - , والذي تناول فيه فكرة الاضـــــــطراب والفراغ السيـــاسي حيال واقع السياسة العالمية اليوم وما يمكن ان يحدث مع مستهل القرن الحادي والعشرين , وتناول فكرة سياسة الجنون المنظم , وغيرها من النقاط الهامة, ككيف سيكون الشكل الجيوسياسي والمذهبي لعالم القرن الحادي والعشرين ؟ وما هي الأهمية التاريخية للفشل الكبير الذي لحق بالمبدأ القمعي خلال القرن العشرين بشكل عام وبالشيوعية على وجه الخصوص باعتبارها قوة أيديولوجية في الشــؤون العالمية ؟ وغيرها الكثير من النقاط الهامة والمفيدة للولوج لمعرفة اكثر عمق لفكرة الفوضى السياسية الدولية 0
    وتختلف نظريات الفوضى السياسية من مفهوم الى آخر وذلك بحسب الطرح السياسي المقصود من وراءه وضع الفكرة , كما ان تعريف مفهوم الفوضى السياسية نفسه يختلف كذلك اختلافا تاما من أطروحة الى أخرى, ومن مستوى دولي بمفهومه الشامل والعالمي , الى آخر لا يتعدى الطرح الداخلي او الإقليمي او حتى الشخصي , فتارتا تعرف نظرية الفوضـــى او – Chaostheory - بأنها التغيرات التي تحــدث على التوازنات المســــتقرة فهـي ( نظرية تقول بان تغييرات ضئيلة جدا قد تسبب انهيارات التوازنات المستقرة جدا , وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النظريات المستقاة من العـلوم الطــبيعية , فان مكان تطبيقها على العلوم الاجتماعية أمر مشكوك فيه ولم يتم إثباته , ومن الصعب التفكير بأي مثال على ذلك من خلال دراسة الأنظمة السياسية ) 0
    وبمفهوم آخر ينظر الى الفوضوية كاصطلاح سياسي بأنها كلمة مأخوذة من اللغة اليونانية وتعني " لا نظام " وبالتالي الفوضى , ( ولقد بدأت صورة الإنسان الفوضوي – كإرهابي يحمل قنبلة – في روسيا حيث قام أحد الفوضويين باغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881 , وقام الفوضويون الفرنسيون باغتيال الرئيس كارنو عام 1894 , وقتل الفوضويون الأمريكيون الرئيس ماكينلي عـام 1901 م ) ( 7 )
    أما بالنسبة لتعريف نظرية الفوضى السياسية المراد الوصول أليها من خلال هذا الطرح او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية , فهي نظرية تقوم على استراتيجية نشر الفوضى السياسية بشتى الطرق الممكنة وبمختلف الوسائل المتاحة , أكانت تلك الطرق سياسية كنشر الفوضى والاضطرابات السياسية و إقامة قوى وأحزاب معارضة للمعارضة فقط في الداخل والخارج بهدف زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي للدول والشعوب ليس إلا , وبث روح الاختلاف والتفرقة والصدامية , او عسكرية كالتدخلات في الشؤون الداخلية للدول بالطرق العسكرية بهدف إسقاط الأنظمة القائمة وقلبها ودعم المعارضة لنفس الغرض السابق , او اجتماعية و ثقافية بنشر الأيديولوجيات الاجتماعية التي تقوم على القوميات والنعرات الطائفية والعصبيات وخلافه او بنشر الأفكار الهدامة التي تقوم على الفساد والانحلال الأخلاقي بهدف زعزعة المجتمعات المستقرة , وذلك بقصد السيطرة على العالم ككل وعلى تلك الأنظمة القائمة او النظم التي ينتظر بروزها وظهورها كمنافس دولي او إقليمي للطرف الأقوى , - وبمعنى آخر – تحويل العالم ككل وبدون استثناء الى شكل من أشكال الفوضوية والغوغائية السياسية والاقتصادية , بهدف بقاءه في حالة من عدم الاستقرار, وبالتالي تحويله الى ارض خصبة لرعي قوى " الظلام والشر " واصحاب المصالح وعصابات السلاح والموت والمخدرات وخلافه0
    وبشكل عام - فان كل ما يحدث في العالم اليوم من متغيرات سياسية , تأخذ منحى الغرابة الواقعية والسير على طريق العنف السياسي , و السياسة الصلبة , وتراجع الدبلوماسية العالمية , والموت الجماعي والحروب وغيرها ما هي آلا استراتيجية عالمية " مقصودة ومفتعلة " بهدف زعزعة العالم وتحطيم بناءه السياسي والاقتصادي بهدف بقاءه في حالة من الانقياد نحو القوي العالمية الكبرى , حيث انه من المعروف سياسيا بان القوى الصغيرة تكون دائما في حاجة الى القوى الكبرى للانزواء خلفها , وبالتالي فان فكرة فرق تسد ونشر الفوضى السياسية في العالم هي الطريقة الوحيدة للوصول الى تلك الاستراتيجية في ظل الواقع السياسي الراهن , وهي الوسيلة الناجحة لبلورة عالم يسير خلف الأقوى سياسيا وعسكريا وثقافيا , وقد نتصور بطريقة أخرى ان تلك الاستراتيجية المفتعلة قد خرجت عن نطاق السيطرة , فأصبحت على ماهي عليه اليوم , حيث أنها قد بدأت تشمل حتى الدول المستفيدة من وراء هذا النوع من الاستراتيجيات – أي – أنها انقلبت على صانعها ومهندسها 0

    وقد برزت هذه الظاهرة و بشكل كبير وملفت للانتباه على مشارف القرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص , حيث كان وراءها عدد من الأسباب السياسية والاقتصادية و التي أدت الى استفحالها وانتشارها كسرطان ينخر العالم وبشكل مخيف ويهدد البشرية بالانقراض والفناء , لدرجة أننا نستطيع ان نطلق على الحالة المرضية من فلتان الأمن والاستقرار والنزوع الى القتل والحروب الغـير مبررة , ورائحة الموت المنتشرة في كل مكان , وتداخل المصطلحات السياسية , وخلط المفاهيم الواضحة بأخرى موبوءة , بجنون العالم الحديث و أصابته بسرطان الفوضى السياسية 0

    الأحداث الدولية وصناعة الفوضى السياسية : -

    لقد هز العالم كثير من الأحداث التاريخية على مدى السنوات الماضية , والتي كان لها الأثر البالغ في تحطيم التوازنات المستقرة والثوابت السياسة الدولية والتي كان الاعتقاد السائد – على الأقل – حتى ساعتها بأنها غير قابلة للتصدع والتراجع والانهيار أمام المتغيرات الجيوبولتيكية و الجيوسياسية العالمية , ولكن التاريخ اثبت لنا عكس ذلك التصور , حيث شاهدنا الكثير منها – أي – تلك الأحداث وهي تمخر الجدار الصلب للكثير من الإمبراطوريات والنظم السياسية القائمة فتهوي بها الى القاع , وتعيد صياغة وتشكيل العالم السياسي من جديد بشكل آخر وصورة جديدة لم يكن لتكون على ذلك الشكل بدون تدخل تلك المتغيرات والأحداث السياسية في تشكيلها وبناءها على ذلك النحو 0

    فإذا ما عدنا الى الوراء قليلا في استقراء لتلك الأحداث والمتغيرات التاريخية منذ بداية القرن العشرين حتى نهايته, فأننا سنجد ان هناك أحداث كثيرة قد زلزلت العالم وحطمت من بناءه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل خطير جدا , فمع إطلالة اليوم الأول من العام 1900ساد العالم بان هذا القرن سيكون بداية السعادة والخير للبشرية قاطبة , بحيث ستندمل جراح كثيرة خلفها قرن فائت طغت عليه رائحة الجثث المتناثرة في كل مكان , واللون الأحمر الذي سطرته عدة حروب دولية كحرب القرم بين فرنسا وبريطانيا من جهة وروسيا من جهة أخرى في الفترة من 1853 – 1856 والحرب البروسية الفرنسية في الفترة من عام 1870 – 1871 وغيرها من الحروب الدامية 0

    نعم 00 فقد كان العالم ينتظر إطلالة شمس القرن العشرين ليداوي جراحه النازفة جراء تلك الكوارث التي تسببت بها فكر القوة والسياسية الصلبة التي تحكمت بإنسان القرن التاسع عشر ميلادي , فإذا به يصطدم مع قرن اشد وطئة من سابقه , بل واشد كارثية وخراب وموت بلا حدود , فقد وصفه العديد من المحللين و أطلق عليه الكثير من كتاب التاريخ السياسي المعاصر بأنه " قرن الموت الجماعي " فإذا بتلك الجراح التي ما كادت تندمل , تعود لتنزف من جديد ولكن هذه المرة بشكل اكبر واخطر على خلاف ما كان يتوقع , فكانت تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي هزت استقرار العالم في تلك الفترة من التاريخ , هي بداية لإرهاصات التوجه نحو منطق القوة والسياسة الصلبة والتي تحكمت في العالم بعد ذلك 0

    ( فقد أمسى القرن العشرون , على نقيض ما وعد به , القرن الأكثر دموية وكراهية في تاريخ الإنسانية , انه قرن الهلوسة السياسية والقتل الوحشي , لقد باتت القساوة جزءا من عمل مؤسساتي على درجة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل , وغدا القتل جماعيا , وبهذا اصبح التناقض بين المسعى العلمي للخير وبين الشر السياسي الذي انطلق عنانه بحق أمرا محيرا بل وصادما , فلم يشهد سفر التاريخ من قبل قتلا بحجمه الكوني هذا , ولم يستهلك التاريخ أرواحا كما استهلك اليوم ولم تكن إبادة الإنسان مسعى مدعوما بالنيابة عن أهداف متهورة تماما 0

    فقد اطل القرن العشرين وهو يحمل للإنسانية حربين كونيتين شكلتا صورته القاتمة والسوداوية القادمة , راح فيهما ملايين الضحايا الأبرياء , نتيجة للغطرسة والسلطوية , وتحكم المصلحة الفردية وحــب ألانا , والسير على نهج القسوة السياسية في اتخاذ القرارات المصيرية للعالم , و دونما اعتبار لحق البشرية في الحياة والاستقرار والسلام والعدالة , وكانتا بداية لانقسام العالم الحديث على نفسه وعلى الآخرين , فالأبعاد - ( الفريدة لإراقة الدماء في القرن العشرين إنما هي نتاج نضالات وجودية – آنية - مركزية هيمنت على هذا القرن وحددت هويته , وهي نضالات قد أفضت بدورها الى اشد انتهاكين جماعيين وأخلاقيين في عصرنا , نقلا قرن الأمل الى واحد ميزته الجنون المنظم , فقد شمل الانتهاك الأول على حرب طويـلة ومـدمرة , ليس فقط بضحاياها من العسكر بل من المدنيين أيضا , انهما الحربان العالميتان , وما لا يقل عن ثلاثين حربا دولية كبرى وأهلية ) ( 8 )

    و من أبرز تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي شكلت الصورة السوداوية للقرن العشرين , وحطمت من بناءه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي , وحولته الى وحش مضطرب نفسي , يستمد طبيعة من الحروب و الموت و الدمـاء , ويعيش على حالة من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار , الحربين الكونيتين الأولى والثانية والتين أسفرتا عن هتك ستار الإنسانية بكل بجاحة وسفور وقد تم استخدام السلاح النووي – الأمريكي – و لاول مرة في تاريخ الإنسانية وبدون إنسانية ورحمة , و حــرب " بأورغواي – بوليفيا في الفترة من 1928 حتى عام 1935 " و" الحرب الأهلية الأسبانية مع بداية العام 1939 " وحرب التقسيم الهندية الباكستانية و الحرب الكورية , وحرب فيتنام , والحرب الإيرانية العراقية في الفترة من 1980 حتى 1988 , وحرب الخليج بتوابعها بداية من غزو العراق للكويت في 12/ أغسطس / 1990 م الى حرب تحرير الكويت في 17/ يناير/ 1991 , وسقوط الاتحاد السوفيتي " 1917 – 1992 " وغيرها من الأحداث الخطيرة التي أدت الى موت الملايين من الكائنات الحية وبدون مراعاة ولا ضمير إنساني ولا أخلاقي 0
    وها هو القرن الحادي والعشرين يستمد امتداده من ذلك الوضع ألا أخلاقي السابق , الوضع الذي لم تستطع البشرية الانتصار عليه والتخلص منه , والحيلولة دون استمراره وولوجه الى هذا القرن , وضع ملئ بدماء الأبرياء , وتطلعات سياسية لقوى عظمى لا هم لها سوى السيادة على العالم وحكمه بشكل مطلق وفردي , ونزوع الى الغطرسة والانا وحب الذات , وبالتالي توفير مناخ مناسب لامتداد ظاهرة الفوضى والغوغائية السياسية والعنف والإرهاب الى عالم ما بعد القرن العشرين , ولكن هذه المرة بشكل اكثر شراسة واخطر من ذي قبل , مع ملاحظة ان هذه الظاهرة قد خرجت عن نطاق السيطرة السياسية واتجهت الى طريق الفلتان السياسي والأمني , كمن يصنع وحش مخيف ويقوم بتربيته وتغذيته حتى يكبر ويقوى , فإذا ما وصل الى تلك المرحلة , انقلب على صانعه بل واصبح من اشد أعداءه 0
    وهذا هو وضع الفوضى السياسية المقصودة من وراء هذا الطرح , حيث قامت على إيجادها وصناعتها قوى أرادت ان تنال من وراءها السيطرة والسيادة على هذا العالم , وارتأت من وراءها التحكم بثروات الأرض وخيراتها وإمكانياتها , ولكن ما حدث بعد ذلك هو ان ذلك الوحش قد خرج عن نطاق السيطرة فاصبح قوة مخيفة تآكل الأخضر واليابس , بل وتصيب صانعيها قبل من صنعت من أجلهم , وترتد سهامها على من أطلقها قبل ان تصيب من أطلقت عليه , وقد ساعدها على ذلك بروز عدد من المتغيرات والأحداث السياسية مع مطلع هذا القرن والتي شكلت الوجه الجديد والصورة السوداوية له , فزادت من شراسة ذلك الوحش , وغذته حتى اصبح على ما هو عليه اليوم , وبالشكل الذي نشاهده هذه الآثام في كل أنحاء العالم ودون استثناء , ومن أهم وابرز تلك المتغيرات الدولية والتي أحدثت ذلك الشرخ الهائل بين المفروض والمرفوض في السياسة الـدولية , والمتوقع وعكسه , والتي ربما تكون استمرار ونتاج لأحداث القرن العشرين من كوارث و أخطاء سياسية , وتراجع دبلوماسي , كارثة الحادي عشر من سبتمبر, او أيلول الأسود , بالولايات المتحدة الاميريكية بتاريخ 11 / 9 / 2001 م وإفرازاتها , بداية من بروز النظرية " الهيلامية " لمكافحة الإرهاب والشر, والتي حددت الولايات المتحدة الاميريكية أطرافها الرئيسية بإيران والعراق وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي قد ترفض الدخول الى بوتقة السيادة الاميريكية على العالم , وكتبت و أخرجت ذلك السيناريو , وانتهاء بما قد نطلق عليه الجيوسياسية والجيوبوليتيكية الاميريكية الجديدة للعالم 0
    وقد أدت هذه النظرية التي تبناها العالم بأسره " بنكهة " أمريكية بحتة , بقصد مكافحة الإرهاب الدولي والعنف والتطرف السياسي العالمي , وعلى أساسها قد تم ضرب معاقل طالبان في أفغانستان وإسقاط النظام العراقي السابق , وقد يتم بعد ذلك تأديب سوريا وإسقاط النظام الإسلامي بإيران , الى عكس الموازين والأهداف المتوقعة مــن وراءهــا , فقد زاد مستوى التطرف السياسي في العالم بدرجة مخيفة جدا , بل وانتشر الإرهاب والعنف بشكل اكبر واخطر في كل أنحاء الأرض وبطرق مستحدثة وغير متوقعة , واستخدمت فيها التكنولوجيا الحديثة التي لم تستخدم من ذي قــبل , ونتج عنه بروز عدد من الظواهر السياسية الخطيرة والتي لم تكن موجودة قبل ذلك بهذا الشكل المخيف والملفت للنظر 0


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •