آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: " زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    16/03/2007
    العمر
    61
    المشاركات
    43
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي " زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر

    ( زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر


    [ 1 ]


    [ غرفة واسعة ، مفروشة أرضيتها بسجادة فاخرة ، فى جانب منها مكتب فخم ، عليه أوراق ، ومقلمة ، ومطفأة سجائر ، وجرائد ومجلات ، يومية ، وأسبوعية ، وخطابات .
    أمام المكتب . كنبة كبيرة ، وأربعة كراسى "فوتيل " ، وفى الوسط ترابيزة متوسطة الحجم ، يعلوها مفرش " الكنافاه " وفى الأركان نباتات الزينة ، وأصص الزهور .
    احتضنت جدران الغرفة أرفف مكتبة ، تضم كتبا مختلفة المقاسات والأحجام ، مرصوصة بعناية ونظام . على شباك الغرفة الواسع ، ستارة خفيفة زرقاء ، وأخرى سميكة فى منتصف الغرفة ، تفصل غرفة المكتب عن غرفة أخرى ]
    " يدخل السكرتير حاملا فى يده حقيبة "سمسونيت " وخلفه الناقد الكبير .
    " يضع السكرتير الحقيبة على المكتب ، ويمضى إلى الشباك ، يزيح الستارة .
    " يخلع الناقد الكبير " الجاكت " ويعلقه على شماعة مثبتة على الجدار خلف المكتب ، ويفك رباط العنق ، ويجلس على كرسيه الوثير ، يدور به شمالا ويمينا ، وكأنه يستكشف الغرفة أو يطمئن على نظافتها ونظامها ، خلع نظارته .
    جلس السكرتير على أقرب كرسى مجاور للمكتب ، وأخذ يقرأ له أهم عناوين ومانشيتات الصحف والمجلات
    الناقد " مبتسماُ ومشيرا بيده ":
    = كفى . لا جديد ! ، كلام اليوم هو كلام الأمس ! " وناظراُ إلى تلال الخطابات المكدسة على المكتب "
    = كل هذه الخطابات !
    السكرتير :
    # عشرة خطابات يعرب فيها أصحابها عن إعجابهم بمقالك الذى كتبته الأسبوع الماضى ، وعشرون خطاباُ تحمل كتبا لشعراء ، وقصاصين ، وروائيين ، معظمها من إصدارات نوادى الأدب.
    الناقد متنهدا :
    = لعنة الله على نوادى الأدب ، إنها هدر للمال العام !
    السكرتير " ساحباُ مظروفاُ أبيض كبيرا" :
    # هذا الخطاب جاءت به صاحبته ، وانتظرتك ما يزيد على الساعتين ، وانصرفت لقضاء بعض حوائجها، وستعود فى الخامسة مساء .
    الناقد :
    = وماذا تريد ؟
    السكرتير :
    # تريد أن تكتشف موهبتها .
    الناقد :
    = كم عمرها ؟
    السكرتير :
    # تتجاوز الأربعين .
    الناقد :
    = أربعون عاما ُ .. ولم تكتشف بعد !
    السكرتير " ماطاُ شفتيه ، ولم ينبس "
    الناقد :
    = وماذا تراها ؟
    السكرتير :
    # امرأة، نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة ، وثرية!
    الناقد :
    = أثرية حقاُ ؟!
    السكرتير :
    # نعم .. ويبدو عليها الثراء الفاحش .
    الناقد :
    =إذن . لا تقل نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة.ولكن قل :
    جميلة ، وموهوبة ، ومثقفة ، ومتعلمة .
    السكرتير " ضاحكاُ ":
    # وهي كذلك يا سيدي .
    الناقد " يفض المظروف " :
    = إذن . امض مسرعاُ ، واصنع لى فنجان قهوة .
    " يخرج السكرتير ، ويترك الناقد ، يقلب فى أوراقها ، التى أودعتها المظروف بعناية فائقة "
    الناقد لنفسه :
    = ثرية .. ! وخطها جميل . أوه .. قاصة .. !
    " يقرأ سطوراً .. ويبتسم .. "
    = كم من الآثام ترتكب باسمك أيها الفن المخاتل ، أيها الفن المراوغ الجميل ، ولكن لا بأس ، إنها ثرية !
    " يدخل السكرتير مبتسماُ .. يضع القهوة.. " :
    # ماذا تراها يا سيدي ؟!
    الناقد :
    = بالتأكيد تعانى من عثرات البدايات ، ولكن لا بأس مادامت ثرية
    " يرشف من فنجان القهوة ، ويشير للسكرتير بالجلوس "
    الناقد :
    = قل لى : ماذا عرفت عنها وهى تثرثر معك أثناء انتظاري ؟
    السكرتير :
    # عرفت أنها كانت زوجة لرجل أعمال .
    الناقد :
    = كانت .. !
    " وعابثاً بشاربه " :
    = إذن هى مطلقة .
    السكرتير :
    # بل أرملة
    الناقد " مبتسماُ " :
    = الله يرحمه .
    " وناظرا إلى ساعته ، وإلى السكرتير "
    " وقبل أن يغلق السكرتير الباب خلفه ، يلتفت إلى الناقد . غامزا له بإحدى عينيه ، وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة ".























    [ 2 ]


    " فى الوقت الذى تعلن فيه الساعة المعلقة على الحائط عن الخامسة مساء بدقات رتيبة ومنتظمة ، تُسمع دقات ناعمة على الباب . كأنها نغمات ، يهرول الناقد إلى مكتبه ، ويجلس على كرسيه ، ويفر فى أوراق أمامه "
    ينادى بصوت مرتفع :
    = تفضل بالدخول
    " يندفع الباب بحذر ورفق ، ومن انفراجة صغيرة بالباب ، يتسلل عطر أنثوى يملأ الغرفة ، وساق بيضاء ملفوفة ، لا شوائب فيها ولا زغب "
    " الناقد مادا عنقه ، ومبحلقا بعينيه ، وموسعاً طاقتي أنفه ، ومهدلا شدقيه .. "
    " فرحة هى بآثار فتنتها عليه ، وتفرج ثغرها المكتنز عن ابتسامة حلوة ، وبنظرة سريعة ، كالومضة ، تشع سحرا .. "
    ـ م .. س .. ا .. ء .. الخير
    " ومقتربة من مكتبه ، واقفة قبالته تماما ً، باسطة يدها البضة .. وبنعومة .. "
    ـ حضرتك الأستاذ الدكتور ..
    " ناهضا ، ولم تزل يدها الرقيقة الناعمة فى يده .."
    = نعم .. نعم .. تفضلى .
    " فى المسافة الصغيرة الفاصلة بين مكتب الأستاذ والكرسى المجاور لمكتبه ، تقف ، فاردة جسمها على قدر ما تستطيع ، عيناها فى عينه ، وقائلة برقة :
    ـ سمعت عن احتضانك الحنون للأدباء .. و..
    " لم يفرط فى يدها ، فلم تزل يمناه تحتضن يُمناها ، وعيناه تسبحان فى فضاء صدرها الرحيب "
    = حضرتك أكيد " مدام نجوى "
    " ساحبة عينيها من عينيه " :
    ـ نعم .. نعم
    " وساحبة أيضاً يدها بخفة ورقة ، وجالسة على المقعد الذى على يمينه "
    هو :
    = ماذا تشربين ؟
    هى " بالفرنسية " :
    ـ مرسى
    هو :
    = هذه أول مرة تزورينني فيها ، لابد أن تأخذى واجب الضيافة .
    " وناهضاً" :
    = اسمحي لى أن أصنع لكى مشروباً بنفسي .
    هى :
    ـ أن يصنع لى ناقد كبير مثلك مشروبا بنفسه ، فهذا كثير عليّ .
    " منحنيا أمامها بحركة تمثيلية " :
    هو :
    = أديبة موهوبة مثلك ، تستحق أن ينحنى أمامها كل النقاد !
    هى " خجلة و فرحة " :
    ـ أنا لا أصدق أنني أديبة و ..
    هو " مقاطعاُ " :
    = بل أنتِ موهوبة ، موهوبة ، وموهبتك فى القص ليس لها مثيل فى بنات ونساء العرب من المحيط إلى الخليج !
    هى :
    ـ أنا لا أكاد أصدق .
    هو " مشيرا بيده إلى العقد الذى تطوق به جيدها " :
    = هذا العقد ..
    " ثم يمد يده ليفر حباته " :
    = من الأقدر على معرفة قيمته ؟!
    " ثم مجيبا على نفسه " :
    = بالتأكيد " الجواهرجى "
    " تاركا حبات العقد ، لتمس أصابعه صدرها مسا خفيفاُ ، فينهض واقفاً ، ناظراُ من الشباك ،ومعطياً ظهره لها لثوان ، ثم ملتفتا لها بسرعة ..قبل أن تزول أثار مس أصابعه لصدرها "
    = أنا الجواهرجى !!
    = جبت مصر من أقصاها إلى أقصاها، من أسوان إلى الإسكندرية ، ومن مرسى مطروح إلى بورسعيد و دمياط ، أعرف عزب مصر كلها ، وكفورها ، وقراها ، ونجوعها ، وأزقتها ، وجبتها كلها بحثا عن " الألماظ " والجواهر ، عن المواهب المدفونة فى ثرى أرضنا الطيب ، والآن ، وبعد رحلة بحث زادت عن الثلاثين عاماُ
    " مبتسماُ " :
    = لا يغرنك شكلى ، فأنا فى منتصف العقد السادس..
    هى " مصطنعة الذهول " :
    ـ لا يبدو عليك ، فمن يراك ، يظنك على الأكثر فى منتصف العقد الثالث .
    " ثم ضاحكة وفاردة يدها لتقبض على أحد أركان الترابيزة " :
    ـ وهاأنذا يا سيدي أمسك الخشب !
    هو " مصطنعا الجدية ":
    = أنت رقيقة ومجاملة ، العمر ينسرب ، ولا ندرى ، وها أنت تهلين .. !
    هى" مبتسمة " :
    ـ عفواُ .. خدعتك عيناك ، فالمسافة الزمنية بيننا ليست شاهقة .
    هو " مقتربا منها ":
    = أتمنى ألا تكون بيننا مسافات !
    هى " فى نفسها " :
    ـ من أول جلسة تريد أن تلغي المسافات وكأنه أدرك ما يجول برأسها
    هو :
    = الناقد ، والفنان المبدع ، يجب أن تتلاشى المسافة بينهما .
    هى :
    ـ زدنى وضوحاُ
    هو :
    = أقصد أن ينكشف المبدع للناقد .
    هى " فى نفسها " :
    ـ تتلاشى المسافة بيننا ، ثم أنكشف أو أتعرى ، لك أو أمامك ، لا فرق ! ..إنه الثمن ! أقرأه فى عينيك الواسعتين ، النهمتين ، وفى نبرات صوتك ، إنه ثمن الوصول !!
    لم أستبعد هذا الاحتمال ، ولكنى أرجأته ، وجعلته أخر الاحتمالات .
    ثم لماذا تعزف على هذا الوتر من البداية أيها الناقد الكبير ؟
    .. أعرف أن جواز مرور أى كاتبة يكون من خلالك ، أو بمعنى أكثر وضوحاُ أو صراحة أو وقاحة ، من خلال فراشك ! .. بالتأكيد تلك الستارة السميكة تفصل بين المكتب عن غرفة أخرى للنوم !
    هو :
    = لماذا أنت ساهمة ؟
    هى :
    ـ كنت أفكر .
    هو :
    = فيم تفكرين ؟
    هى :
    ـ فى الثمن !
    هو " مرتبكاُ " :
    = أن .. أن .. أنت ..
    " ثم مستدركا بسعادة " :
    = أنت أذكى من قابلت .
    هى :
    ـ بل قل أكثر واقعية من كل من التقيت بهن .
    هو :
    = أدركت من قراءتي لبعض نصوصك أنك ..
    هى " مقاطعة ":
    ـ رغم أنني لم أكتب سطراُ ، أو حتى كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى ...، إن كل من قرأ لى أدهشه أن ما أكتبه ...
    هو " ضاحكاُ وهازئاُ :"
    = ومن الذى قرأ لكِ ، رئيس نادى أدب مدينتك المجهولة ، وهو غالبا مدرس على المعاش ، وعلى الأكثر مدرس لغة عربية وتربية إسلامية لا يعرف فى الأدب أو حتى فى الدين أكثر مما تتضمنه مناهج وزارة التربية والتعليم .
    " ومصطنعا الجدية " :
    = المسكوت عنه فى قصصك يا سيدتى ، لا يفقهه إلا أولو النهى .
    هى :
    ـ وما هو المسكوت عنه فى قصصى ؟
    هو :
    = أنت ..
    هى :
    ـ أنا !
    هو :
    = نعم
    هى :
    ـ كيف ؟
    هو :
    = لم أرك فى قصصك ؟
    هى " وكأنها تخاطب نفسها " :
    ـ ولن ترانى .
    هو " ضاحكاُ " :
    = ولكننى أراك ، فهاتان عيناك السوداوان الجميلتان ، وهاتان شفتاك القرمزيتان الدقيقتان ، وخداك المتوردان ، وجبتهك العريضة بلون الفضة ، وأنفك العربى ، الشامخ
    هى " ساهمة " :
    ـ فيما مضى – من ربع قرن أو يزيد ، كانت عيناى عمشاوتان ، وخداى صدئين ، وشفتاى زرقاوين .. و.. " تغمض عينها "
    هو " ناقرا بيده على المكتب " :
    = أراك تسرحين ، وتشردين كثيرا .
    هى " باسمة " :
    ـ كلى آذان مصغية .
    هو " ضاحكا " :
    = ما أجمل أذنيك !
    هى " ضاحكة " :
    ـ كم واحدة دخلت هنا،وجلست على هذا الكرسى ، وسمعت هذا الكلام الجميل ؟
    هو :
    = ليس بينهن من فى جمالك !
    هى :
    ـ جمالى فقط .
    هو :
    = وموهبتك.
    هى " جادة " :
    ـ هل أنا فعلا ، أملك الجمال والموهبة ؟
    هو :
    = بالتأكيد . أنا عينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة .
    هى :
    ـ ماذا لو أضفنا إلى نعمتى الجمال والموهبة نغمة المال ؟
    هو " مصطنعا الدهشة " :
    = المال !
    هى :
    ـ نعم .
    هو " مبتعدا عنها بعينيه وممثلا الشرود " :
    = الجمال " وكأنه يخاطب نفسه " ، والموهبة ، والمال ، لا .. لا ، " ثم مستديرا لها بعينيه ومصطنعا الجدية "
    ـ لنكن صرحاء ، توفر المال ، والجمال ، والموهبة ، فى شخص واحد يكاد يكون معدوماُ ، بل مستحيلاً ، من خلال .. ملاحظاتى ، ومشاهداتى ، ومتابعاتى ، وقراءاتى ، وتجوالى ، وخبراتى التى تراكمت عبر سنين طوال ، أجزم باستحالة تجمع هذه النعم الثلاث فى شخص واحد . ولكن أنا لا أستطيع أن أكذب عينى ، فها أنت أمامى ، وعينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة ، أنا أستطيع أن أشم الموهبة على بُعد أميال ، شممت موهبتك قبل عطرك ، وموهبتك أنفذ ، ملأت خياشيمى ، وتسللت إلى قلبى وعقلى قبل أن يتسلل عطرك إلى أنفى ، قبضت عليها من السطور الأولى ، ثم تأتى لتضيفى عطية ثالثة من عطاء الرب لك وهى المال .. هذا كثير !
    " ضاربا كفا بكف .. ومستدركا " :
    = أستغفر الله العظيم ، فليس هناك كثير على الله ، ولكن أصحاب المواهب وخاصة الأدبية ، لا يأتيهم المال إلا متأخرا ، وفى بلدنا هذا وزمننا هذا قد لا يأتيهم أبدا
    " ناظرا إليها " :
    = هل أتاك المال عن ميراث مثلاُ ؟
    هى " متنهدة " :
    ـ لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب .
    " ومسحت بإبهامها جبتها وقالت " :
    ـ هكذا أتانى المال !
    " اعتدلت في جلستها .. وأضافت " :
    ـ أنا أعرف أن أصحاب المواهب ينشغلون بمواهبهم عن جمع المال ، وإن كنت لا أنكر أن جمع المال يحتاج إلى موهوبين أيضا ، وقد أكرمنى الله بأن قيض لى زوجا يملك موهبة جمع المال ! .. وبعد أن آل المال لى وحدى ، ولم يكن لى ابنا أو ابنة يرثانى ، فكرت فى وقف جزء منه لأصحاب المواهب الأدبية الذين يعانون ، هؤلاء الذين يوازنون مثلا بين شراء أرغفة من الخبز وبين شراء كتاب ، هؤلاء الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات أولادهم وأطفالهم لينشروا إبداعاتهم ، كم من مرة – قرأت فى الصحف مناشدات لوزير الثقافة ولرئيس الوزراء ولأصحاب القلوب الرحيمة بالتدخل ، لعلاج الشاعر الفلانى ، أو الأديب العلانى ، لأنه للأسف لا يملك ثمن العلاج ولا حتى ثمن القوت ! .. كم يؤلمنى أن يصبح علاج الأديب استجداء .
    " مخرجا علبة سجائره الأجنبية ، وقبل أن يفتحها ، مدت يدها ، ناولها سيجارة ، وأشعلها لها بقداحته الذهبية ، وأشعل هو الأخر سيجارته ، أخذت نفسا عميقا ، ونفثته ببطء واستطردت :
    ـ ها أنذا يا سيدي أملك المال ؟
    هو :
    = والموهبة والجمال .
    هى " ضاحكة " :
    ـ أشك
    هو :
    = ألا تشعرين بالجوع ؟!
    هى :
    ـ بل أشعر به يقرص أحشائى .
    هو " مديرا قرص التليفون "
    هى :
    ـ ماذا تفعل ؟
    هو :
    = أطلب العشاء من المطعم .
    هى :
    ـ بل أنا أدعوك للعشاء . فى مطعم أحبه ، وأحيانا أحضر إلى القاهرة خصيصا لأتناول وجباتى المفضلة فيه والتى يحسن طهاته طهيها وإعدادها .
    هو " ضاحكا " :
    = ولكنك " ضيفتى "
    هى :
    ـ كلنا ضيوف على القاهرة
    هو " مبتسما " :
    = نعم .. وأنا لست قاهريا !
    هى " ضاحكة " :
    ـ وأنا أيضا
    هو :
    = بصرة إذن .






    [ 3 ]



    " يزيح الستارة التى تفصل غرفة المكتب عن الغرفة الأخرى ويدعوها لتتناول معه مشروبا "
    هو " واضعا يده على بطنه :
    = أنا مدين لك بهذا العشاء الفاخر والشهى ، امتلأت بطنى عن أخرها وكأنى لم آكل من قبل !
    هى :
    ـ بالهناء والشفاء .
    " مخرجا زجاجة خمرة من الثلاجة "
    هو :
    = أتتناولين معى كأسا ؟
    هى :
    ـ لا بأس . قليل منه يشفى .
    " يصب فى كأسين ، يناولها كأسا ، ويتناول كأسا .. قائلا فى صحتك !
    " تصب كأسا أخرى له ، وكأسا لها ، تقرع كأسها فى كأسه ، قائلة فى صحتك ! "
    " يضحكان ، ويجلسان على أريكة وثيرة بجوار السرير "
    هو : " موزعا نظره بينها وبين السرير "
    = هذا السرير ..
    هى :
    ـ ماذا به ؟!
    هو " وهو يدفع بجوفه ما تبقى فى الكأس "
    = شهد معارك عنيفة !
    هى " ناظرة له بجانب من عينها "
    ـ يبدو أن مفعول الخمر ظهر! ، أعرف أنك داهية !
    هو " مدعيا أنه مخمور " :
    = تمددت عليه برنسيسات ، وأميرات ، " ضاحكا " .. ، وخادمات ، ها ها.. ثيبات وأبكار ، مصريات ، عربيات ، أفريقيات ، أوروبيات ،..
    هى " ضاحكة ضحكة ممطوطة " :
    ـ يخرب بيتك يا دكتور ،كل هؤلاء قدرت عليهن!! ناولنى كأسا ليلتك " للصبح "
    هو "مصفقا بيده ":
    = أيوه كده ، اشرب ، قربع ياجميل ؟!
    " متماديا فى تمثيل الدور ، ومخرجا من الدولاب ، ملبوسات داخلية أنيقة وجميلة ، ومثيرة ، مختلفة أحجامها ، وأشكالها ، وألوانها ، يفردها أمامها ويمسك قميص تلو قميص ..
    = هذا القميص " ويشم رائحته " ، لزنجية ، وهذا القميص لخليجية ، وهذا " ويقربه من أنفه " : مازالت رائحتها فيه ، عرقها أشتمه عطرا ، تخللت أنوثتها نسيجه وصارت من مكوناته .
    وهذا القميص ! " يحتضنه ويشرد قليلا .. "
    = كانت ليلة !
    = لا أعتقد أن قضى مثلها واحد من خلفاء أمية أو حتى من بنى العباس
    هي " والخمر تدور في رأسها " :
    ـ وكيف تعرفت عليهن ؟ !
    هو " مقتربا منها ، وواضعا يده علي كتفها " :
    = أقول لك ، شوفي يا ستي ، بعضهن يأتين ليدرسن الأدب العربي ، أو ليحصلن علي الماجستير والدكتوراه ، ولكل شيء ثمنه ! ، ومن يأتين أيضا طالبات للشهرة ، فمصر كما تعلمين هي جواز المرور للشهرة ، والأدب مثل الفن وغيره ، تحتكره مصر ، هل سمعت مثلا عن مطربه أو ممثله أو حتى راقصة حققت شهره إلا من خلال اعتمادها في مصر !
    هي " ضاحكة " :
    ـ وما أكثر اللواتي اعتمدن في مصر
    هو "ضاحكا " :
    = والعبد لله هو الذي يعتمد الأديبات اللائى يفدن إلي مصر !
    هى " ضاحكة " :
    ـ هنا .. على هذا السرير !
    هو :
    = على هذا السرير ، وكل من دخلن هذه الغرفة اعتمدن ! وأصبحن نجمات يملان سماء دنيا الثقافة والأدب .
    هى " متطوحة " : وهل مازلن يذكرنك ؟
    هو " متطوحا " : أحيانا ! ، و" شاردا" ..
    = غالبا ما يأخذهن الحنين ، ويأتين .
    قد أفاجأ بواحدة منهن أحيانا ، تأتى ، بعد مرور سنوات فى محاولة منها لاستعادة الماضى والذكريات .
    هى " وهى تدفع بآخر رشفة فى قاع الكأس فى جوفها "
    ـ وتعتمدها من جديد !
    هو " وهو يصب كأسا جديدة ":
    = نعم .. واعتمادها هذه المرة يكون أوقع وأمتع وألذ ، فانتفت المصلحة !
    هى " وهى تتناول منه كأسا " :
    ـ " هى دى مصر !"
    هو " ضاحكا " :
    = من ذقن حلاوتها لا ينسينها أبداُ ، ويعاودهن الحنين بين الفينة والأخرى .
    هى " تناوله كأساُ " :
    ـ صب لى كأسا ، فمازال فى عقلى نبض ، أريد أن يتوقف !
    هو " يصب لها كأسا وله كأسا " :
    [ لحظة صمت ]
    " يدير جهاز التسجيل تنبعث منه موسيقى ، هادئة ، ناعمة .. "
    هو " قاطعا الصمت " :
    = لماذا لا تفضفضين ؟!
    هى :
    ـ فيما أفضفض ؟!
    هو :
    = تطلعيني على السر أو الأسرار التى تدفنينها فى أعمق أعماقك .
    هى :
    ـ أى سر وأي أسرار تقصد ؟
    هو:
    = ما خفى عنى ، وعن كل الناس .
    هى :
    ـ ليس عندى ما أخفيه ؟
    هو :
    = بحثت عنك فى قصصك ولم أجدك .
    هى :
    ـ كيف تجدنى ، وأنا لا أكتب سيرة ذاتية .
    هو :
    = الكاتب مبثوث بطريقة أو بأخرى فى أعماله ، وأستطيع بحكم دراستى ، وخبرتى ، أن أستخرج الكاتب بسهولة من أعماله .
    كل من قرأت له ، حددت ملامحه العامة والخاصة ، وطرائق تفكيره ،وأسلوب حياته ، ومزاجه النفسى و ..
    " يوقف جهاز التسجيل ، يفر فى أشرطة أمامه ، ينتقى شريطا ، يضعه فى جهاز التسجيل ، يديره ، تنبث موسيقى أكثر نعومة ، و... يقلل كمية الضوء ، بالكاد تنير الغرفة "
    هى : " تسترخى " تغمض عينها :
    هو :
    = لما لا تتمددي على هذا السرير ، وتتحررى ..
    هى " سابحة مع الموسيقى " :
    ـ تريدنى أن أتحرر من ملابسى ! وأصير مثل صديقاتك . مجرد قميص نوم شفاف ، أترك لك فيه رائحتى ، ذكرى لليلة الجميلة أو حتى ليلة خائبة . ويأخذ رقماً ، ويدون عليه تاريخ الليلة ، ويدس فى الدولاب مع غيره من القمصان .
    هو " مقتربا منها وواضعا يده على كتفها " :
    = صدقينى . لم أقصد هذا التحرر ، لكنى أقصد التحرر من الداخل .. تطلعينى على صفحات نفسك المطوية .
    من فضلك ، وبنعومة :
    ـ هذا السرير . [ يبسط لها يده ، تقرأ فى عينيه رجاء ، تمد له يدها ، شئ خفى يدفعها للنهوض ، مغمضة العينين تسير وكأنها مغيبة ، يتناول يدها برفق ، تخلع حذائها الأبيض ، تصعد إلى السرير ، تحت تأثير الخمر والموسيقى ، وسحر كلامه ، تستلق ]
    هو :
    = أصغى إلى الموسيقى ، وانظري إلى اللوحات المعلقة على الجدار ، أو أغمض عينيك ، وانظري إلى داخلك ، واسمعيني نبضات قلبك ، وأصداء نفسك ، ولا بأس من كأس تلو كأس ، فالخمر تغيب العقل الذى يحد من الفضفضة ، كلنا بحاجة إلى البوح ، بوحى ؟!.. اشربي حتى الثمالة ، لتخرجى كل المدفون – هناك فى القاع وفى الأغوار ، وتأكدى ، تأكدى أنك لو غبت تماما عن الوعى ، فجسدك فى مأمن.
    هى " مغمضة العينين " :
    ـ نعم .. أحتاج للفضفضة .
    هو " بصوت ناعم ودافئ " :
    = بوحى ؟! .. اتركي نفسك على سجيتها ، لا تقفى فى طريقها ، غيبى العقل أو نحيه جانبا .
    هى :
    ـ أراني !
    هو :
    = ماذا ترين ؟
    هى :
    ـ أراني فى حجرة صغيرة ملحقة بمسجد صغير بجوار مقابر القرية
    هو " مندهشا " :
    = استرسلي ، بوحى .. ؟ .. بوحى ؟! .. بوحى ؟! .
    هى :
    ـ كنت أحبو بين المقابر .
    ويُحكى أن أمي ، كانت تأتى أخر الليل عندما تعود من العمل فى الغيطان أو فى دور الموسرين . تجدنى قد دخلت قبراُ مفتوحاُ ، وغلبنى النعاس ونمت فيه .
    وكان أبى كفيفاُ ، حفظ فى طفولته بعض سور القرآن ، كانت كفيلة بأن يوكل إليه الرجل الثرى الذى بنى المسجد – بإقامة الصلاة على وقتها ، وبالصلاة على الميت ، والقراءة عليه ، نظير أجر ، وحراسة المقابر .
    " يبدل شريط الموسيقى ، بشريط أخر، تنبعث منه موسيقى أكثر شجناُ .
    ـ أذكر أن أبى كثيرا ما كان يقيم الصلاة ، ويصلى بمفرده ، فلم يكن للمسجد من رواد ، إلا عابر سبيل ، ونادرا ما يطرق هذا الطريق عابر .
    أحيانا ، أحيانا قليلة ، يرتاد المسجد بعض من يعملون فى الغيطان حينما يريدون قضاء الحاجة أو الهروب من الشمس وقت الظهيرة !
    [صدى صوته يتردد فى أركان الحجرة .. بوحى ؟!.. بوحى ؟!.. بوحى ؟! .. ب..و..ح..ى.. ح.. ى..ى..ى .... ]
    ـ قـُدر لنا أن نعيش مع الأموات ، فالمسافة بيننا وبين القرية ، تزيد عن الثلاثة كيلومترات .
    هناك على طريق غير مأهول ، على أرض كانت فى الزمن البعيد تنكر الزرع ، أقاموا مقابرهم ، كنت أفرح بكل ميت جديد ، فهو بالنسبة لنا فلوسا ، تدس فى يد أبى خفية وجهرا ، أو فى جيبه نظير قراءته ، ولحوما وفاكهة تملأ حجر أمي ، وحكايات النساء عن المتوفى ، زوجته أو أمه ، أخته ، وعمته ، خالته وجارته .
    على صغرى كنت أندس بينهن ، وأصغى لحكايتهن عنه ، أعرف تفاصيل حياته ، وأقف على أفعاله ، أعرف الأموات واحدا واحدا ، الشرير والطيب ، الكريم والبخيل ، النبيل واللئيم ، المريض والسليم ، البدين والنحيف ، الجميل والدميم . كنت أعجب بهذا ، وأبغض ذاك .
    " وتضحك ضحكا متواصلا لدقائق ، يناولها كأسا ، تتجرعه دفعة واحدة "
    ـ أول حب فى حياتى ، كان لواحد ميت . تصور !
    اقتحمنى من خلال حكايات أمه وأخته وابنة عمه عنه . اللائى رحن يعدون محاسنه ومآثره ، وينعين جماله وشبابه ، ومن الصدف – كان اسمه يوسف ، واقترن فى ذهنى بيوسف الصديق ، وظللت لأيام أراوده فى نومى عن نفسه !
    " وتضحك ، فيناولها كأسا "
    ـ فى المدرسة . كنت أجتذب البنات بحكاياتى ، وخيالاتى ، وشطحاتى ، كنت أجذبهن لى ، بل كن يسعين إلى ويخطبن ودى ، ويتمنين لو أظل أحكي لهن طوال العمر ، وكم تكون سعادتهن عندما يتغيب مدرس أو يعتذر عن الحصة ! يتحلقن حولى ، وأنا كل يوم أصنع حكاية جديدة ، فالمدد عندى لا ينفد ، شهرزاد حكت ألف حكاية وأنا حكيت ألف ألف حكاية . حكايات الأموات ، والأحياء .
    الأموات الذين يتعاركون ويتصايحون فى الليل ! الذين يخرجون من مقابرهم ، ويحكون لى عن حياتهم الخاصة ، فهم لا يظهرون إلا لى ، ثقة منهم فى " هئ هئ هئ هئ " هل فعلا يتصايحون ويتعاركون ؟! .. هل فعلاً يخرجون ؟! .. هل حقا يثقون بي ؟!.. هئ هئ .. هئ ....
    من تطلب مني أن أحكي لها عن أبيها ، ومن تطلب منى أن أحكي لها عن أمها أو أخيها ، هذه تسألنى عن عمتها أو خالتها ، وتلك تسألنى عن حبيبها الذى اختطفه الموت ..!
    كيف يعيشون ، وماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ .. عشرات الأسئلة تحتاج إلى إجابات .. عرفت كيف أستقطبهن ، وكيف أستثمرهن . أحكي لهذه همسا بأن أبيها فى الجنة ، وأن أبو البنت التى لا تحبها فى النار ، .. وأطلب منها ألا تخبرها ، فتفرح بما أسررته لها ، فتزيد من عطاياها لى ، كتبا وكشاكيل ، وأقلاما وملابس ، والأخرى أخبرها بعكس ما أخبرت به عزيمتها ، فتكثر من عطاياها لى ، عرفت كيف تكون لحكاياتى ثمن ؟! .. وأصبح على أن أدافع عنها ، فهى تعطينى نوعا من الوجاهة والتميز ، وتدر على دخلا ، ومصدر رزقى ، ومدرس اللغة العربية و التربية الدينية يمثل خطرا لى وعلى ، فيقول للبنات بغير ما أقول .. أحيانا أجدنى لا إراديا ، أقف فى الحصة معترضة ، ومحتدة على ما يقوله ، فيبتسم ، تغيظنى ابتسامته ، وثقته وهدوءه ، أشعر به يعرينى ، ويسفه من أفكارى ، وحكاياتى للبنات .
    تطفر الدموع من عينى ، وأنا أقرأ فى كلماته – تلميحا لحياتى مع الأموات ، ونشأتى فى هذه البيئة ، كرهته . نعم كرهته. وزادت كراهيتى له عندما حفرت أصابعه خطوطا على خدى وقال علنا : بأن بنت التربى ستفسد البنات !
    " تتحسس خدها " ، " يبادر بصب كأس لها "
    ـ أول يد تصفعنى ، ابتلعت غيظى ، وأقسمت ألا أعود إلى المدرسة ، وظللت يومين أو أكثر منقطعة عن المدرسة ،حتى زارتنى بعض زميلاتى ، أول مرة يزورنى أحد ، وأول مرة أخجل من غرفة واحدة هى مسكننا ، وحصيرة متآكلة مفروشة ، على أرضيتها ، ولحاف متسخ مثقوب تخرج منه قطع القطن ، و" حِرام " من الصوف ، الخشن متهرئ ، وبعض أطباق وحلل صدئة ، ووابور جاز، وقلة ماء هى كل متاعنا ، ورجل ضرير ، بالى الثوب ، صامت دائما ، عايرنى به فى المدرسة فى الفصل أمام البنات ، وامرأة عجفاء ، ناحلة ، وطويلة ، تخرج مع أول ضوء للنهار ولا تعود إلا فى منتصف الليل معها الزاد والزواد .
    ولأول مرة أشعر بالفارق ، بالمسافة الواسعة بينى وبينهن ، أخذنني من يدي ، وسرن بي بعيدا عن الغرفة الرطبة والنصف مظلمة ، وجلسنا هناك فى ظلال شجرة عند أحد المقابر .
    قلن : ولا يهمك يا بنت .. نحن نعلم أنه يغار منك ، لأن حكاياتك أكثر تشويقا وإمتاعا ، تتسلل إلى القلب ، وتدغدغ النفس وتلهب الخيال ، أما هو فحكاياته باردة ، والأحاديث التى يوردها مأخوذة عن فلان .. عن علان .. عشرات العنعنة ، أما أنت ، فتأخذين منهم حكاياتك مباشرة ، تلقى فى روعك ، إنهم يثقون فيك ، يبوحون لك بأسرارهم ، يوقفونك على أحوالهم ، أحيانا يأتى الميت لمن يحب فى المنام ، ويوصيه وصية أو يطلب منه طلبا أو يخبره بأمر أو يسر له بسر ، وأنت هنا ، تعيشين بينهم ..
    " وتضحك ، يناولها كأساُ "
    ـ أخرجت إحداهن كتاباً كانت قد دسته فى حقيبتها ، لأول مرة أرى كتابا غير كتب وزارة التعليم ، كتابا أكثر أناقة وأكثر فخامة ، قلبت الكتاب بين يديها وقالت : هذا الكتاب يتحدث مؤلفه ، وهو بالمناسبة رجل مشهور – عن الأرواح والأشباح والجن والعفاريت والأموات !
    وراحت تقرأ من الكتاب بعض الحكايات – كانت قد خطت تحته بالقلم ، تتفق فى مضمونها ، وفى معظم تفاصيلها مع ما أحكيه لهن ، الفارق هو اللغة الأنيقة ،والساحرة التى يكتب بها،وتناولت منها الكتاب بفرح،واستأذنتها فى استعارته كنت أتعجل انصرافهن حتى أخلو بالكتاب ، وانفردت به بعد انصرافهن ولم أقم ، إلا بعد أن أتيت عليه جملة ، التهمته كلمة ،كلمة،وسطرا ، سطرا..رد لى هذا الكتاب اعتباري ، وحضنته ،وقبلته ،وقبلت صورة مؤلفه الوسيم على ظهر الغلاف ، وفى الصباح ، ذهبت إلى المدرسة ، وقد أعاد لى هذا المؤلف المشهور كبريائى أمام هذا المدرس المغرور والمغمور ، وقلت للبنات بزهو وأنا أقرأ لهن صفحات من الكتاب : احكمن أنتن ، ومن الذى يوثق فيه ، هذا المدرس المغمور ، الذى لا يعرفه أحد أم هذا المؤلف المشهور الذى تعرفه الدنيا كلها.
    وانحزن إلى المؤلف المشهور ، وبالطبع انحزن لى ، وأعدت الكتاب لزميلتى التى أخذته من مكتبة أخيها لتعيده ، ورجوتها أن تبحث لى عن كتب أخرى لهذا المؤلف ، وفاجأتنى فى اليوم التالى بكتابين آخرين له ، وسعدت بهما سعادة لا توصف ، ومن يومها عرفت القراءة ، وأحببتها ، وأدمنتها ، وهذا الكاتب – بنى إمبراطوريته من حكايات تشبه حكاياتى ، ورحت أوثق صلتى بالأموات ، أجلس أمام مقابرهم – فى أوقات متفرقة من الليل والنهار ، أتصنت على قبورهم ، أرهف السمع وأدقق النظر ، أعيش بالكلية معهم ، ومع حكاياتهم التى تتناثر من أفواه المشيعين والزوار ، صرت أسمع نحيبهم وضحكهم ، أنينهم ونجواهم ، يخرجون .. نعم .. أراهم يخرجون ، ويمرقون بسرعة تفوق سرعة الريح ، وبعضهم يومض كالبرق الخاطف ، كالشهب ، دربت أذني على سماع دبة النملة ، وعيني على رؤية كف يدي فى الظلام ، وأنقى على الشم دون أخذ الشهيق ، خففت جسدى بالامتناع عن الأكل والصوم لفترات طويلة ، حتى دق ، ورق ، وشف ، وصرت من النحافة ، بحيث تذرونى الرياح ، فى الليل تستطيل أذناى وأشعر بها وأنا أستعيد صورتي في ذلك الزمان ـ كأنهما طبقان هوائيان مثل تلك الأطباق التي تملأ الآن أسطح عمارات القاهرة ، ويتمدد أنفي ويصبح بطول ذراع ، وتستدير العينان ، وتتسع الحدقتان ، وانشغلت بها لفترات طويلة عن كل ما حولي ، عالم غريب وعجيب ولجته ، وعشته ، كل قبر دخلته ، أتحول إلي عينين كبيرتين أو أتحول إلي أذنين ، أتعذب بما أري وبما أسمع ، قصص مثيره وعجيبة ، تجاوزت حدود العقل ، وفاقت الخيال .
    [ كانت تتحدث ، وجسدها كله ينتفض ]
    [ الناقد ناظرا لها ، مأخوذا ومذهولا ، بالرعشة العنيفة التي ترج السرير ]
    " مد يده إلى جبينها ، غاصت يده في عرق مالح ، وكأنها محمومة ، راحت تهذي ، تذكر أسماء غريبة ، ومصطلحات لم يسمع بها من قبل ، وتحول لسانها فجأة إلي لغة . ليست بالعربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الفارسية ولا الألمانية ، ولا أي لغة يعرفها ، قال في نفسه : لابد أنها لغة .... ، ارتعدت فرائصه ، أخذ يهزها بعنف ، هزت رأسها ، فتحت عينها ، دعكتهما بيديها ، وقالت :
    ـ دكتور ! .. أنا تعبانه يا دكتور
    [ يمد يده ، يربت علي كتفها ، يصب لها كأسا ، تدفعه في جوفها دفعه واحدة ]
    ـ هل يمكن أن تجد لي علاجا يا دكتور ؟! ..
    " هو قائلا في نفسه : ماذا تظنني ؟! "
    = شهورا انقضت يا دكتور ولا أمل في الشفاء ، مرتين في الأسبوع ،
    وأحيانا ثلاث مرات ، أتردد علي عيادتك .. قالوا أنك أفضل طبيب للأمراض العصبية والنفسية في مصر ، صارحني ، صارحني يا دكتور
    هو " في نفسه " :
    = طبيب ،طبيب نفسي ، لا بأس !
    هو " متقمصا دور الطبيب النفسي "
    هي :
    ـ لا أدري يا دكتور ـ لماذا يقفز إليّ ، من هوة سحيقة في أعماقي ، يبدأ بحجم القزم ، يتنطط أمام عيني ، ويتنامي شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا يقطع علي الطريق ، ويسد كل منافذ الرؤية ، شبحا أسود قاتما رهيبا ، يقلق مضجعي ، ويعكر صفو تفكيري وحياتي ، يصارعني وأصارعه ، في النوم وفي اليقظة
    هو :
    = ومنذ متي يأتيك هذا الشبح ؟!
    هى :
    ـ تحديدا منذ أن مات بهاء !
    هو :
    = هل تستطيعين أن تحددى ملامحه ؟
    هى :
    ـ أصوات تتعارك ، وتتصايح ، لا أتبين لها ملامح ، تتداخل ، وتنمو ، وتكبر ، شيئا فشيئا ، وتصير شبحا واحدا ، عملاقا ورهيبا ، يجثم فوق صدرى ويكاد يزهق روحى .
    هو :
    = هل تستطيعين أن تحددى من أين تأتى هذه الأشباح الصغيرة قبل أن تتحد فى شكل واحد ؟
    هى :
    ـ من فوهة قبر !.. من مشرحة فى مستشفى !.. وربما لقمة فى حنك أرملة تصير شبحا .. أو جنيها فى جيب موظف .. أو .. أو ..
    هو :
    = استرخى أكثر .. وارجعى إلى القبر .
    هى :
    ـ القبر .. القبر لا يفارقنى .
    هو " متخابثا " :
    = هل تعرفين القبر ؟
    هى :
    ـ أعرفه ؟ نعم أعرفه .. لا أحد يعرفه مثلى .. إنه يسكننى وأسكنه .
    هو :
    = أتخافين عذابه ؟
    هى :
    ـ ليس فيه عذاب .
    هو :
    = وما أدراك أن ليس فيه عقاب ؟
    هى :
    ـ كنت أعيش فى المقابر ، لم أر الثعبان الأقرع ، ولم أسمع طقطقة العظام ولا اختلاف الأضلاع ، ولا رأيت ملائكة العذاب ولا حتى ملائكة الرحمة .
    هو :
    = ما دينك ؟
    هى :
    ـ دينى ؟! " لحظة صمت "
    هو :
    = لا بأس . هل تستطيعين أن تتذكرى تاريخ ميلادك ؟
    هى :
    ـ ميلادى !
    [ لحظة صمت ]
    ـ ميلادى الحقيقى – مع قرار الانفتاح الذى اتخذه الرئيس السادات
    هو :
    = والسنوات التى قبلها .
    هى :
    ـ الانفتاح يجب ما قبله !
    هو :
    = أهجرة جديدة إذن ؟!
    " تفرط يدها ، وبصوت مرتفع "
    هى :
    ـ نعم .. بزغ عصر جديد ، ودين جديد .
    هو :
    = ودخلت فى الدين الجديد ، والعصر الجديد ؟
    هى :
    ـ نعم .. كنا من الطلائع !
    هو :
    = الطلائع ؟!
    هى :
    ـ نعم .. فلكل دين طلائع ومبشرين .
    هو :
    = وكيف دخلت هذا الدين الجديد .
    هى :
    ـ زارني لأول مرة .
    هو :
    = من ..؟
    هى :
    ـ بهاء .
    هو :
    = زوجك ؟
    هى :
    ـ نعم ، كان يكبرنى بثلاثة أعوام ، تعرفت عليه فى كلية التجارة ، قابلته لأول مرة فى مبنى شئون الطلبة ، كنت أسأل عن استمارات الإعانة الاجتماعية ، ساعدنى ، وسهل لى مأموريتي ، سرعان ما تصادقنا ، وتحاببنا ، كنت مبهورة بثقافته ، فمع الناصريين كان يعرف عن ناصر وثورته أكثر من الناصريين ، ومع الشيوعيين يعرف عن ماركس ولينين والثورة البلشفية أكثر مما يعرفون ، ومع الإسلاميين ، يعرف عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان أكثر مما يعرفون ، ولأن الناس على دين ملوكهم .. اختار الملك !
    وزارنى لأول مرة ، فالقرية التي يعيش فيها لا تبعد عن القرية أو المقابر التي نعيش فيها غير بضعة كيلو مترات ، فاجأني ، وأسعدني بزيارته ، جلسنا بجوار مقبرة وقال : ـ اسمعي يا هنومة ،
    هو :
    = أكان اسمك هنومة ؟
    هى :
    ـ نعم .. كان اسمي " هنومة " واستبدلته بنجوى وكانت أمي تدعى على ألسنة الناس بشيتا وكان إسمه " شرخبيل " واستبدله ببهاء ، وكما غادرنا إسمينا ، غادرنا قريتنا ، والمحافظة كلها ، وسرنا بإسمينا الجديدين إلى محافظة أخرى بعيدة نبدأ فيها من جديد !
    قال لى : لا اشتراكية ، ولا شيوعية ، ولا ناصرية بعد اليوم .
    قلت : كيف ؟
    قال : الرئيس سيفتح المنافذ .
    قلت : إمبريالية أم رأسمالية ؟
    قال : إمبريالية ، رأسمالية ، لا يهم !.. المهم أن الرياح ستأتى من الغرب ، وهذه فرصتنا !
    قلت : كيف ؟
    قال : دائما – تكون هناك قرارات مصيرية فى حياة كل مجتمع ، قرارات – تحول المجتمع مائة وثمانون درجة ، المهم من يكون مؤهلا لاستقبال هذه القرارات ، واحتضانها ، والاستفادة منها . " وأضاف "
    منذ عام 1952م والمجتمع المصرى معبأ بشعارات ، وأحلام ، وحدة عربية ، قومية عربية ، ثوار يا عرب ثوار ، أمجاد يا عرب أمجاد ..
    من الصعب أن يتقبل الشعب المصرى هذه القرارات ، أو يتحول بين عشية وضحاها ، قد تحتاج معظم شرائح المجتمع إلى وقت أطول ، كل حسب قناعته وإيمانه بمبادئه ، والتخلص من ناصر صعب ويحتاج إلى وقت ، فتحول المبادئ وإحلال القناعات ، مبدأ بمبدأ وقناعة بقناعة يحتاج إلى زمن ، ونحن مقبلون على قرار ، سيتحول فيه المجتمع من الضد إلى الضد ، وحتى يستقر النظام الجديد ، سيحتاج إلى وقت ، وقد تكون هناك حالات ارتباك ، وهنا فرصتنا !
    قلت وأنا مبهورة بتطلعاته وتحليلاته :
    ولكن ما هى بشائر هذا الانفتاح ، وكيف نتعامل معه ، وما الأدوات التى سنستخدمها ، كنت أقصد الآليات التى نتعامل بها مع النظام الجديد .
    قال : أنا لا أكف عن المتابعة ، والقراءة ، والبحث . فى الدول التى تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالى إلى النظام الديمقراطى ، إلى الاقتصاد الحر ..
    قلت : إذن سنجعل النموذج الغربى نبراسا لنا .
    قال : أمامنا وقت طويل حتى نصل إلى النموذج الغربى ، فالنموذج الغربى نضج وإكتمل واستقر . أما هنا فالأمر يختلف .
    قلت : ولماذا لا تكون المسالة كلها لا تعدو أن تكون مناورة سياسية .
    قال : لا أظن ، فالمسألة تبدو لي عند الرئيس ، مسألة قناعة ، ومنذ أن طرد الخبراء الروس وقام على الناصريين فى مايو ، وأنا أرى فى أفق خياله وفى مرامى كلماته البعيدة بذرة التحول ، وعندما وافق على وقف إطلاق النار فى 1973 م ، وزار إسرائيل ، وعقد الصلح ، خرج الأمر من حيز الظن إلى حيز اليقين ، وها هو الأمر يتحقق بقرار الانفتاح السعيد ، السعيد علينا ، " ونظر إلى مبتسما "
    والسعيد على أولادنا !
    فرحة قلت : أولادنا !
    قال وهو يداعب وجنتيّ : نعم أولادنا .. هل عندك شك ؟
    وسرقنا الوقت ، وسرقتنا الأحلام ، ودخل الليل ، ولم نشعر بالبرد إلا عندما برقت الدنيا ورعدت ، وهطلت بالمطر...
    أسرعنا بالدخول إلى المقبرة ، نحتمى بها من العواصف والأمطار .
    فى ظلام القبر ، جلسنا القرفصاء ، نرتعد ، التصق بي ، والتصقت به ، كل منا ينشد الدفء فى الآخر ، ورحنا نلتصق أكثر . وكانت تلك الليلة الأولى التى أسلمه فيها جسدى .
    ولا أدرى لماذا بعد سنوات ، رحت أربط بين الانفتاح هنا والانفتاح هناك !!




    [ 4 ]


    كانت قد منحت الخدم إجازة ، بعد أن أنهوا أعمال النظافة بالفيلا ، وإعداد الطعام ، وأخذت حماما ، وتأنقت ، وتعطرت ، وجلست تنتظره
    فى تمام الساعة الخامسة مساءاُ ، رن جرس الباب ، همت لتفتح ، وما كادت تفتح الباب حتى وجدته أمامها بطوله الفارع وعطره النفاذ ، وابتسامته العريضة ، لم تستطع أن تدارى فرحة نطت فى عينيها .
    احتضنت يدها يده ، وأمطرته بعبارات الترحيب ، قادته عبر ردهة طويلة على جانبيها نباتات الزينة ، وأصص الزهور ، إلى سلالم خشبية ، وتقدمته إلى غرفة واسعة بالطابق الثاني تحوى :
    مكتبة كبيرة ، تليفزيون ، فيديو ، جهاز كاسيت ، بيانو ، مكتب فخم أمامه بضع كراسى وثيرة ، وفى جانب من الغرفة سرير .
    هو :
    = ذوقك جميل .
    هى : " بالفرنسية " :
    ـ مِرسى
    هو " ناظرا لصورة رجل معم على الحائط " :
    = أبوك ؟!
    هى :
    ـ نعم .. من رجال الأزهر !
    هو " مبتسما من داخله " :
    = من رجال الأزهر يا بنت التربى !
    " ملتفتا إليها "
    ـ يبدو عليه وقار العلماء ، وسمت العظماء ، وفى طلعته هيبة .
    هى :
    ـ رحمة الله عليه ، كان مفوها ، وعالما جليلا ، جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها لنشر الدعوة ، ولم يكن أبدا متزمتا .
    " مستدركة " :
    ـ أمازلت واقفا ؟.. أف لى ! .. كم أنا آثمة !.. كيف لم أنتبه إلى أنك مازالت واقفا؟ .. تفضل ، تفضل بالجلوس يا دكتور ، فأنا لا أصدق أنك لبيت دعوتي .. ماذا تشرب ؟
    هو :
    = أنا ضيفك ، وأي مشروب تحتضنه يدك يكون لذيذاُ ومثيراُ .
    هى " مبتسمة " :
    ـ أولا أنت لست ضيفا ، أنت صاحب بيت ..
    هو " مقاطعا وضاحكا " :
    = تقصدين صاحب فيلا ! ثم ماذا عن ثانيا ؟
    هى " بدهاء " :
    ـ فلنكمل أولا أولا ، فتتمة أولا – الفيلا تزدان بك وتصبح قصراً منيفا .
    أما ثانيا : فأنا لست " ديكتاتورة " حتى أفرض عليك مشروبا ، فلك أن تختار !
    هو "ضاحكا ُ " :
    = "ديكتاتورة " مؤنث ديكتاتور ، أليس كذلك ؟
    هى :
    ـ نعم ، ولكنى لست هى .
    هو :
    = يا سيدتى العلم كله مبنى على الديكتاتورية ، فالديكتاتورية هى الأصل ، والحرية والديمقراطية هما الاستثناء .
    هى :
    ـ أرجوك – لا تفسد جلستنا بالكلام فى السياسة .
    هو :
    = نفترض أن المشروب الذى أريده ليس متوفرا ، فماذا يكون الموقف ؟
    هى :
    ـ لو طلبت لبن العصفور سأحضره لك . أو حتى النوق الحمر !
    هو " ضاحكا " :
    = يا ولد يا عنترة !
    هى :
    ـ صدقنى أنا فرحانة ، وسعيدة جدا بتشريفك لى .
    هو :
    = وأنا سعيد جدا بأنني تعرفت عليك ، فأشعر بأن ثمة شيئا ما يشدنى إليك ، وأنك تختلفين عن كل من التقيت بهن .
    هى :
    ـ هذه المشاعر الجميلة نحوى تسعدنى ، وكلامك يأسرنى .
    هو " كان طوال الطريق يفكر ، كيف يجذبها – إلى الفضفضة والبوح ، كيف تُسر له بخيبات نفسها وشروخ روحها ، وتطلعه – دون أن يستخدم الخمر وسيطا – على عالمها الغريب ، عالم غرائبى ومثير ، حالة خاصة جداُ "
    ـ كنت أظن أننى ... ، ولكن هناك من هو أسوأ ! ولم لا أفضفض أنا لها ، حتى تأنس لى ، وتفضفض .. ولماذا لا أكون أنا فعلا محتاج للفضفضة
    هى " ضاحكة " :
    ـ ألو .. نحن هنا .. أين ذهبت يا دكتور ؟
    هو " ناظراً إليها " :
    = كنت أفكر .. لماذا أنت وحدك – التى أريد أن أفضفض لها ؟
    هي " بسعادة " :
    ـ فضفض ؟! .. فضفض يا دكتور ؟! .. كلي آذان صاغية !
    هو " ضاحكا " :
    = الصواب مصغية .
    هي :
    ـ صاغية أو مصفية ، لا يهم ، المهم أن تفضفض ، والأهم أنك اخترتني من دون النساء جميعا لتفضفض لي .
    هو :
    = وكيف أفضفض ؟
    هي :
    ـ مطرقة رأسها قليلا ، ثم قائلة :
    ـ وجدتها :
    هو " مبتسما " :
    = ماذا يا نيوتن ؟
    هي :
    ـ فكرة رائعة ..
    ـ اخلع نعليك ؟
    هو " متلفتا ًحوله وضاحكا " :
    = هل نحن بالواد المقدس ؟
    هي :
    ـ اخلع نعليك وتمدد علي هذا السرير !
    هو :
    = ماذا ؟!
    هي :
    ـ لا تسيء الظن : ، سأفعل معك كما يفعل أطباء النفس !
    هو :
    = ناهضا ، وخالعا نعليه ، وفاردا جسمه علي السرير .
    = ولكنني أريد أن أتوسد رجليك ، أو أن أدفن رأسي في صدرك وأفضفض .
    هي :
    ـ دعك من الشقاوة . وتذكر أنني طبيبتك . هل تستطيع أن تفعل هذا مع طبيبتك ؟
    هو :
    = حين أتوسد رجليك ، قد انكمش وأعود طفلا .. و..
    هي " مخرجة أوراقا وقلما ، وتلبس نظارة طبية " :
    ـ ها أنذا الطبيبة ! ، تخيل انني الطبيبة ، احك ، فضفض ؟، بح ؟ تفضل .. أوه ـ تصور أنني نسيت أن أحضر لك المشروب .
    هو :
    = دعك من المشروب ، فإما أن تسقيني من شهد رضا بك أو تأتيني بخمر
    هي :
    ـ سآتيك بخمر ، فالخمر أرحم من الذى تطلبه !
    [ تعود بعد قليل بزجاجة خمر معتقة ، وثلج ، وكأسين ، وتصب له كأسا تلو كأس ..]
    هو " وفي ذهنه من البداية ألا يغادر منطقة البين بين ، وأن يظل في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي " :
    = أراني !!
    هي " فرحة " :
    ـ ماذا تراك ؟!
    هو " مغمض العينين " :
    = أراني ، طفلا صغيرا .
    هي :
    ـ استرسل ؟ ..استرسل يا دكتور ..
    " وتصب له كأسا "
    هو :
    = ولدت في قرية صغيرة ، لأب كان يعمل كلافا !
    هي " في نفسها " :
    ـ كلافا !
    "وتصب له كأسا تلو الأخر .. "
    هو :
    = كان يعمل كلاّفاً عند أسرة تنحدر من سلالة عربية ، ذات حسب ونسب
    " ويضحك " :
    = وطبعا كل الأسر العربية من نسل طاهر !..و..
    هي:
    ـ وماذا بعد يا دكتور .
    هو : " وهو يدفع بما تبقي في الكأس في جوفه " :
    = وانحسرت حياة أبي في زرائبهم واسطبلاتهم ، لا يغادرها إلا ساعات قليلة ، يأتينا فيها آخر الليل ، كان راضيا ، وقانعا ، خادما أمينا ، لم يتطلع يوما إلى ما منّ الله به علي مخدومه من خير وفير ورزق كثير .
    قبل أن يغادر فراشه كل صباح ، يقبل باطن كفه وظهره ، ويحمد الله ويستغفره " ويضحك " .
    ويستغفر من ذنب لم يقترفه ، ومن ذنب قد يقترفه ولن يقترفه أبدا ..
    كنت وهند وحيدين بعد موت أمي ، يأخذني في كل صباح من يدي لأساعده ، نطعم البهائم ، ونسقيها ، كنت علي صغرى أسوق ثلاثة حمير ، يحملني إياها بالروث ، ويوصيني ألا أنشغل في الطريق باللعب ، ويحذرني من وقوع " السباخ " علي الأرض أو انحراف الحمير عن مسارها ، " وتُجرِد " في أراضي الجيران ، فتتلف زراعتهم ونقترف إثما .
    " تصب له كأسا .."
    ـ عندما طلبت الست الكبيرة " هند " للخدمة في البيت الكبير مجاملة لأبي ، ولتقيه عناء همها ، وانشغاله عليها ، ولتكون تحت بصره ، راوغ ، ولم يكن أبدا مراوغاً ، وتعلل بصغر سنها ، وضعف جسمها ، ومرضها ، وما كانت ضعيفة ، ولا عرف المرض الذى يجتث أطفال القرية الغلابة طريقة إليها .
    لماذا ناورت ، وراوغت ، وكذبت يا أبي ؟ ..
    هل كنت تعلم أن ابنتك ..؟! .. فعصمتها من الخدمة في البيت الكبير ، وأقصي أماني بنات القرية ، أن يخدمن فيه حتى لا يفترس العمل في الحقول جمالهن .. وعلي صغرهن ينهد حيلهن ، ويذبلن وهن في عمر الزهور .
    من يدرى ؟ !
    .. قد يظن الكثيرون ـ أن الناس الغلابة ـ بينهم وبين الله مسافة بعيدة ، وان الله قريب فقط من الأثرياء والوجهاء .. " ويضحك فتناوله كأسا .."
    الوجهاء ! .. الوجهاء!..
    الوجهاء يسكنون .. ، الوجهاء يأكلون .. الوجهاء .. الوجهاء .. الوجهاء ـ في الصفوف الأولي في المساجد ! ، وكأنها محجوزة لهم ، وعلي مقاعد الصدارة في سرادقات الأفراح ! ، والعزاء!، يفسحون لهم الطريق إذا ساروا !.. حتى لا تقع عينهم علي قبيح .
    لا أذكر ـ حين كنت أصلي ، أن تجرأ فقير، ودخل المسجد ، وتخطي الرقاب ! ، وجلس في الصفوف الأولى !!.
    أحيانا يكون المسجد خالي من المصلين ، ولكنه أبدا لا يتجرأ علي التقدم إلي الأمام ، يختار مكانا في مؤخرة المسجد ، وينوى الصلاة ، وإذا فرغ من أداء الفرض ، يتلفت يمينا ويتلفت يسارا ، وكاللص يتقدم بحذر خطوة ، خطوة واحدة ليصلي السنة ، فإذا رجع هذه الخطوة للخلف فمن المؤكد عند الركوع أو السجود .. ستصطدم مؤخرته بالجدار ، وإذا ازدحم المسجد يوم الجمعة بالمصلين ، يخرج الأجراء والبسطاء من المسجد ، ويتراصوا خارجه ، فالأرض لهم فقط " مسجدا وطهورا " !!
    " تلاحقه بكأس .."
    ـ الولد ابن الشيخ ـ شيخ القبيلة ، وقع في هوى هند ، وهند بنت فلاحة . بنت الكلاف أسرت عقله ، واستعمرت قلبه ، انشغل بها عن بنت العم ، بنت الحسب والنسب .
    " لحظة صمت "
    ـ جيء بأبي ، علقوه من قدميه في سقف الغرفة ، وظلوا يضربونه بالخيزران بقسوة ، حتى شحب جسده بالدم ، وكووه بالنار . فالولد ـ ابن الحسب والنسب ، حزم أمتعته وبرح مع البنت هند في القرية ، فأرض الله واسعة .
    الويل لكم كل الويل يا أهل هند الفقراء ، قالها الشيخ ـ لساكني العشش وألأكواخ الحقيرة التي أشعلوا فيها النيران .
    " لا تدرى إن كان يضحك أو يبكي ، اختلط الضحك بالبكاء ، صبت له كأسا ، دفعة في
    جوفه مرة واحدة .."
    ـ شق صراخ النساء ، وبكاء الصبية الليل ، ولم يرحم الرجل ، شيخ القبيلة يتيما ولا أرملة ، عجوزا أو طفلا !
    " ينكمش علي السرير ، وينكمش ، ويضع يديه بين فخديه .. "
    وقال الرجل الشيخ ـ قد تصير سُنة عند الفلاحات الحقيرات ، يغوين الواحدة تلو أخرى سباب القبيلة .
    " وأضاف مطوحا بعصاه الأبنوس في الهواء " :
    ـ ومن يدرى .. قد يتجرأ فلاح في قادم الأيام علي إغواء فتاة من فتياتنا ، ونظر إلي .. وقال هاتوا هذا الولد ، وأخذوني ، وضعوا علي عيني عصابة ..و..
    "يضع يده بين فخديه ، ويصرخ :
    ـ لا..، لا..
    هي " تناوله كأسا " :
    ـ وماذا فعلوا بهند يا دكتور ؟
    هو :
    = طلب من شباب القبيلة أن يطاردهما في المدن وفي القرى ، وفي الحوارى وفي الأزقة ، وفي البحار ، وفي الصحارى .. يجب أن يدركوهما ولو كانا في بطن الحوت " يبتسم " :
    ـ هند ، هند شقيقتي الوحيدة ، لا تفارقني ، كانت تكبرني بعشر سنين ، كان بينى وبينها خمس بطون ماتوا ، قليل من الأطفال كانوا يعيشون !
    بنت فلاحة ، تحيك الثوب ، وتطعم الطير ، وتكنس الدار ، وتربى الماشية ، عفية كالمهرة ، وسامقة كالنخلة ، ذات عينين سوداويين وشعر أسود فاحم ، هل بارك أبى حب محمد لها ؟!.. لا أظن ، ولكننى متأكد أنه طلبها على شرع الله وسنة نبيه ، وبالتأكيد أبى أمهله ولم يعطه ردا حتى يقنع أهله وعشيرته ، وبالتأكيد كان يعلم أنه المستحيل ! .. ألهذا يا أبى ، ناورت ، وراوغت ، وكذبت ، ورفضت ، أن تخدم هند فى البيت الكبير ، هل أنا أجوب القرى المدن وأجوس خلال الديار ، كل الديار ، بحثا عن مواهب أو بحثا عن هند .
    بالتأكيد محمد يعيش باسم غير اسمه ، وهند تعيش باسم غير اسمها ..
    " علا نحيبه ، وانهمرت دموعه "
    " جففت دمعه بمنديل ومسحت رأسه ، وهزته "
    " استفاق ، ونهض قائلا وهو يردد " :
    ـ هند .. هند .
    هى " مبتسمة وقائلة " :
    ـ اهدأ ..؟! اهدأ يا دكتور ؟! .. من هند ؟!
    هو " ناظرا حواليه " :
    = أنا قلت هند ؟
    " مبتسما "
    ـ هند وما هند إلا مهرة عربية
    سليلة أفراس تزوجها بغل
    هى " فى نفسها " :
    ـ مهرة عربية ، وسليلة أفراس يا بن الكلاف !
    هل تقرض الشعر يا دكتور ؟
    هو :
    = أبدا .. أنا فقط أردد ما قالته هند – عندما أخذها الحجاج عنوة وأرغم زوجها على تطليقها وتزوجها !























    [ 5 ]


    هو " ما شيا بجوارها بحديقة الفيلا " :
    = المنظر هنا ، رائع وجميل .
    هى " تشير إليه بالجلوس ، حيث بضع كراسى فى ظلال الأشجار ، وبين أحواض الزهور "
    ـ المكان هنا أهدأ ، وأروع حين تستقبل الغروب .
    هو " نافخا " :
    = الحياة فى القاهرة خانقة ، وأصبحت لا تطاق .
    كم أتوق لأن أرتمي فى أحضان الطبيعة ، وأعود من جديد لأستقبل الشمس وهى تشرق ، وتبدد مساحات العتمة ، ونسمات الفجر الندية ،..
    هى " مقاطعة وضاحكة " :
    ـ ها هى الطبيعة ، أرتم فى أحضانها كيف تشاء ؟!
    هو " ضاحكا " :
    = أنت الطبيعة .
    " ويفتح ذراعيه "
    ـ دعينى أرتمي ؟!
    هى :
    ـ أنت " شقى أوى " يا دكتور
    هو " متنهداً " :
    = أنا فعلا شقى ، فالشقاء أنا .
    هى :
    ـ حيرتنى !
    والله حيرتنى . حينما أتحدث معك وأنا أقصد ظاهر اللفظ ودلالته المباشرة ، تأخذ أنت ما يستتر خلف اللفظ.
    " وضاحكة "
    ـ أنا لن أتحدث معك إلا بعد أن أقرأ كل كتب البلاغة والفصاحة وما تتضمنه من كناية ، واستعارة ومجاز وتمثيل .
    " وواضعة يدها علي فمها " :
    ـ وها أنا قد لزمت الصمت .
    هو " ضاحكا وناظرا ليدها التي وارت فمها ، ولعينيها الباسمتين " :
    = في صمتك فصاحة وبلاغة ، و..
    هي " مقاطعة ، وناهضة برقة " :
    ـ أفضل شيء أفعله الآن ـ أن أنسحب ، وأتركك تستمتع بهذا الجو ، وأصنع لك فنجان قهوة .
    [ راح يتأمل ظهرها ، وفخذيها ، وهي تسير الهويني ، تداعب بيدها أغصان الأشجار ـ
    التي دنت وتدلت وكانت قاب قوسين أو ادني من متناول يدها ..
    ابتلع ريقه ، ريثما ابتلعتها الفيلا ، ونهض واقفا ، يسير بخطوات وئيدة بين أحواض
    الزهور . وفي نهاية الممشى ، وفي ركن قص من أركان الحديقة ، لصق ظهر الفيلا تماما
    ، لفت انتباهه مبني ، ارتفاعه لا يتجاوز المترين ، بارتفاع سور الحديقة ، وبطول
    عشرين مترا تقريبا ، وعرض ستة أمتار ، له باب حديدى ضخم ، أسود اللون ، علي
    مقربة منه كومة من السباخ ]
    تسلق جدران المبني أشجار الياسمين ، ونباتات أخرى كثيرة ، افترشت سقف المبني . دفع الباب ، ليجد المبني مقسما الي غرفتين ..باب الغرفة الأولي مفتوح ، ضيقة هي الغرفة الأولي ، وباب الغرفة الأخرى موصد ، احتلت المساحة الأكبر .
    ولج إلى الغرفة المفتوحة ، وراح يتفحص محتوياتها ، سرير حديدى قديم تعلوه مرتبة إسفنجية ، وملاءة رخيصة متسخة ، ووسادة كالحة اللون ، وعلي الحائط دقت مسامير معلق عليها ملابس فلاح .
    وفي جانب الغرفة مقطف وفأس وكوريك ، وأجولة قديمة ، وخرطوم ماء ، ودلو ماء ، وسخان كهربائي يعلوه براد قديم صدئ ، وكوبان فارغان متربان ، وبرطمان مملوء بالسكر ، وأخر أصغر حجما يشغل الشاى الخشن نصف حجمه ، وقلة ماء .
    وقف في منتصف الغرفة ، وكادت رأسه تلامس السقف ، لا يدرى لماذا تذكر علي التو ـ بينهم الواطئ القديم ، المصنوع من الصين اللبن ، وتذكر أبوة ، وأمه ، وأخته ، وشيخ القبيلة ، الست الكبيرة زوجة الشيخ ، ومحمد ابن الشيخ .
    شعر بأن الأرض تدور به ، كاد أن يغشي عليه ، جلس علي السرير ، تتراءى له الصور ، وتترى علي ذهنه الذكريات ..
    وجد نفسه يخلع ملابسه ، يعلقها علي مسمار بالحائط ، ويرتدى ملابس الفلاح المعلقة علي الجدار ، وينتعل حذائه القديم ، ويحشر طاقيته في رأسه . يتلمس الفأس ، يتحسس يدها الخشبية ، يتناولها ، يعلقها علي كتفه ، ويمضي ، وفي يده " القلة " ، يقف أمام كومة السباخ ، بتأملها ، يضع الفأس علي الأرض ، يتفل في يده ، يمسك بيد الفأس الخشبية ، ويرفعها لأعلي ، ويهوى بها علي كومة السباخ ، طرقات منتظمة ، وحمحمة منتظمة تخرج من جوفه مع الطرقات ، يتمثل والده ، والعرق يرشح من جسمه .
    صغيراً يرى نفسه ، تعود إليه رائحة عرق أبية ، ورائحة السباخ ، وأبقار الشيخ ، وجاموسة ، وخرافه ،ونعاجه ، وتيوسه ، وأسراب البط والدجاج والاوز ..
    " مدام نجوى حاملة صينية يعلوها فنجانا قهوة .."
    " تمسح بعينها الحديقة ..تنادى " :
    ـ دكتور .. دكتور .. يا دكتور ؟!
    " تندهش "
    ـ عم سعيد ، أنت جئت يا عم سعيد .
    " تقترب منه "
    ـ ألم تر الدكتور ؟!
    الفأس في يده تعلو وتهبط ، يعملها في كومة السباخ ، أصداء ارتطام الفأس ، والحمحمة
    ، ورائحة السباخ والعرق .
    مدام نجوى :
    ـ عم سعيد ، ألا تسمعني ؟! .. ألم ترى الدكتور ؟!
    " متوقفا عن العمل ، وواقفا ، يمسح عرقه بكم جلبابه ، تشهق ، تهتز يدها ، تسقط
    القهوة علي الأرض .."
    ـ ماذا تفعل يا مجنون ؟!
    " ضاربة كفا بكف ، ومستلقية من الضحك ؟!"
    " يرفع " القلة " إلى أعلي ، يكب الماء في فمه ، تصعد حنجرته وتهبط مع ولوج الماء إلى
    بلعومه، تنتفخ عروق رقبته ، يتكرع ..
    = من قال : أن الماء عديم اللون والطعم والرائحة ؟!
    "مازالت تضرب كفا بكف ، تضحك ، ضحكا متواصلا ، وكلما نظرت إليه ازدادت
    ضحكا "
    " دمعت عيناها من الضحك ، وهي تشير إلى وجهه ، الذى التصق به فتات السباخ ،
    وتناثر حول رقبته وشعر رأسه الذى لم تخفه الطاقية وبدا أشعث ، أغبر ، متربا ،
    أفزعها أن ترى باطني كفيه قد امتلأتا بالبثور ، وانتفخ جلدها كبالونات ، وفقاقيع
    صغيرة ، انفجرت بعضها ، ونزت دماً ، امتعضت ، وجرته من يدها ـ وجرت إلى
    حنفية الماء القريبة ، فتحت صنبور الماء ، وراحت تغسل له يده . وفي تلك اللحظة كان
    يقف هناك أمام باب الفيلا ينادى :
    * مدام نجوى .. يا مدام نجوى
    الدكتور :
    = هناك من ينادى
    مدام نجوى :
    ـ إنه سامي
    ـ تعال يا سامي . أنا هنا بالحديقة
    سامي " حاملا حقيبة جلدية منتفخة " :
    * قالوا لي في الشركة أنك لم تحضرى اليوم .
    خيراً يا ست الكل .
    مدام نجوى :
    ـ خيرا يا سامي .
    سامي " ناظرا للدكتور ، وقائلا لمدام نجوى " :
    *جناينى جديد ، حسنا فعلت ، أنا لا أعرف ما الذى كان يدعوك إلى التمسك برجل مثل عم سعيد .
    مدام نجوى " مقاطعة " :
    ـ الموضوع ليس كما فهمت الحكاية ..
    الدكتور " مقاطعا " :
    = نعم .. أنا الجناينى الجديد .
    " لحظة صمت "
    ثم قاطعا الصمت :
    = ومهمتك يا بطل أن تبلغ عم سعيد بأن الهانم استغنت عن خدماته ، فأنت تعلم أن ست الكل ...
    سامى " مقاطعا " :
    *أعلم أن ست الكل لا تحب أن تقطع عيش أحد ، وكان يمكنها بعد المرحوم أن تتخلص من نصف العمال لو أرادت .
    مدام نجوى ناظرة للدكتور بدهشة واستغراب ، يغمز لها الدكتور بطرف عينه " :
    مدام نجوى " بالإنجليزية " :
    ـ " أوكيه " سامى ، أفعل ما أمرك به الدكتور ؟
    سامى " ناظرا حواليه " :
    *دكتور !
    الدكتور " متداركا " :
    = نعم ياسيدى .. أنا الدكتور ، يطلقون على لقب الدكتور لمهارتى فى زراعة وتنسيق الحدائق ، وخبرتى الطويلة التى اكتسبتها من العمل فى حدائق الناس البشوات .
    سامى " هازا رأسه " :
    *ممكن !!.. لكن ألا ترى معى بأن لقب باش مهندس أليق بك وبعملك من لقب الدكتور ؟!
    الدكتور " ضاحكا " :
    = ياسيدى ، لا تدقق ، باش مهندس ! ، دكتور ! ، معلم ، كلها ألقاب !
    سامى :
    * صدقت
    سامى " ناظرا للدكتور " :
    * لكننى لم أتشرف بمعرفتك بعد !
    الدكتور :
    = أخوك سليمان ، سليمان أبو عطية .
    سامى " متفحصا الدكتور من رأسه إلى قدميه " :
    * لكن يبدو أنك لست من أهل الشقاء .
    الدكتور " ضاحكا " :
    = ماذا تقصد ؟!
    سامى :
    * شكلك يقول أنك ..
    الدكتور " ضاحكا " :
    = نصاب ؟!
    سامى :
    * أستغفر الله ، لكن وجهك المدور ، اللامع ، لا أثر للشمس عليه ،ينز دهناً وسمناً ، هاها .. هاها .. وذقنك الحليق ، وأذناك ، وشعرك البارز من الطاقية ، قفاك العريض الحليق ، وزند رقبتك الممتلئ ، وعظام صدرك المكسوة باللحم ، ويدك البضة ، الطرية ، الناعمة ، و.. لا مؤاخذة ....
    مدام نجوى " نافخة بغيظ " :
    ـ ماذا جرى لك يا سامى ؟
    هات ورقة وقلم ، وافتح له محضرا ، ما شأنك أنت به ؟
    هو الجناينى عندك فلاح قرارى ؟!.. أعترف أننا ظلمنا الجناينية . باختيارنا لواحد مثل عم سعيد ، عم سعيد .
    أصبح عندك أنت وأمثالك هو النموذج الذى يقاس عليه ، ونسيت أنها مهنة تحتاج إلى علم وفن ودراسة .
    سامى " مثأثئا " :
    * أ ..أ .. ن ..ا .. أ .. ن .. ا..
    مدام نجوى :
    ـ أنت تدس أنفك فيما لا يخصك ولا يعنيك .
    الدكتور " متدخلا " :
    = يا هانم .. لا داعى للعصبية ، فالأخ سامى معذور ، لم يرنى من قبل ، ويريد أن يطمئن أنك لم تقعى فى شرك نصاب .
    " وناظرا لسامى " :
    = اطمئن يا أخ سامى ، أنا لست غاضبا منك ، بل أغبط حرصك على مصلحة الهانم ، وخوفك عليها ، وتأكد أننى لن أقل عنك حرصا على مصلحتها وخوفا عليها ، وستثبت لك الأيام صدق قولى .
    الدكتور " محاولا الانسحاب إلى غرفته " :
    = اسمحي لى بالانصراف إلى غرفتى ، فأنا مجهد ، وأحتاج إلى بعض الراحة .. كما أنكما تحتاجان للحديث فى أمور العمل .
    مدام نجوى :
    ـ ابق معنا ، نحن لن نتحدث فى أسرار ، وغرفتك تحتاج إلى ..
    الدكتور" مقاطعا " :
    = دعينى أنظفها ، وأرتبها بنفسى ، ..
    بإذنك يا هانم
    " وملتفتا إلى سامى " :
    = أراك على خير يا أخ سامى .
    " مدام نجوى لازمة الصمت ، وقد تغير لون وجهها ، وهى تشيع الدكتور الذى ابتلعته
    الغرفة .."
    كانت الشمس مائلة فى الأفق ، وتبدو من خلف الأشجار العالية كرة صغيرة حمراء .
    مدام نجوى :
    ـ اجلس يا سامى ، وهات ، ما عندك ؟!
    سامى " فاتحا حقيبته الجلدية المنتفخة ، ومخرجا بعض الأوراق " :
    وبصوت هامس :
    * فى هذه الأوراق تقارير مفصلة عن شركة ( ....) ، كيف تدار ، وعدد العاملين بها ، وتخصص كل موظف ، وعمره ، وحالته الاجتماعية ، حتى أوصافه الجسدية من حيث الطول والقصر ، النحافة والسمنة ، حتى لون الشعر والعينين
    " مدام نجوى تفر فى الأوراق وهى مبتسمة "
    " الدكتور يحاول أن يتابع بأذنيه من غرفته الحديث ، بصعوبة تلتقط أذناه بعض
    الكلمات "
    مدام نجوى :
    ـ كانت المهمة شاقة ، أليس كذلك ؟!
    سامى :
    * أبدا ، لم تكن المهمة صعبة أو مستفرية ، فكثيرا ما كنا نقوم بهذه المهام الاستخباراتية أيام المرحوم .
    هى :
    ـ نعم .. نعم .. رحمة الله عليه .
    هو :
    = كان المرحوم قبل أن يتورط مع العميل ، أو حين يريد أن يورط المنافس أو يوقعه فى حفرة أو مطب ، يكلفنى على رأس فريق كامل للانتشار ، والسؤال عن العميل أو المنافس ، والوقوف على أحواله المالية ، ومدى أمانته أو التزامه ، وصدقه أو كذبه ، نعرف نقاط ضعفه ، ونقاط قوته ، و.. ، و ...
    مدام نجوى :
    ـ لكن الأمر هنا ...
    سامى " مقاطعا ":
    * الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للذين يعملون معنا ، فالمطلوب منهم يؤدونه ، فهو عملهم الذى يؤجرون عليه ويقتاتون منه .
    مدام نجوى :
    ـ بالمناسبة ، ماذا فعلتم مع الموظف الذى ادعى الشرف ورفض التوقيع .
    سامى ضاحكا :
    * تخلصنا منه .
    مدام نجوى :
    ـ إياك أن تكون ..
    سامى :
    * لا .. المسألة لم تصل إلى هذا الحد .
    مدام نجوى :
    ـ زدني وضوحاً ؟
    سامى :
    * أبدا – مدير المصلحة التى يعمل بها كان يحتاج إلى مكتب فخم بدلا من المكتب المتهالك ، وكرسى " دوار " يلف به يمينا ويسارا ، ونتيجة حائط ، وأجندة ، ومقلمة ، وقلم شيك .
    مدام نجوى " ضاحكة " :
    ـ والله – ما توقعت أن يكون ثمنه بخسا لهذه الدرجة .
    سامى " ضاحكا " :
    = هذا ثمن باهظ بالنسبة لموظف حكومة درجة ثالثة !
    مدام نجوى :
    ـ والنتيجة ؟
    سامى :
    * نقل للعمل فى الصعيد ، أحراش الصعيد !
    مدام نجوى " ضاحكة " :
    ـ والله " برافو " عليك ، أنت تلميذ المرحوم صح .
    سامى :
    = قولى لى ماذا فعلت أنت مع مدير البنك الجديد ؟
    مدام نجوى :
    ـ ..........
    سامى " ضاحكا " :
    * وأصبح مثل الخاتم فى ..
    مدام نجوى :
    ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
    سامى :
    * ............
    مدام نجوى :
    ـ ...............
    سامى " يلملم الأوراق ، ويضعها فى الحقيبة " :
    * بالإذن يا هانم
    مدام نجوى :
    ـ رافقتك السلامة يا سامى .
    " الدكتور فى غرفته ، فأردا جسمه على السرير المتهالك والمترب ، بلباس الفلاح القديم
    البالى ، مغمضا عينيه "
    " مدام نجوى – تسير نحو الغرفة ، يسوءها أن ترى الدكتور ممددا على الفراش القذر
    المترب "
    مدام نجوى :
    ـ دكتور ، دكتور
    هو " وكأنه مغيب ، وكأن صوته قادم من عالم آخر " :
    = أنا لست دكتورا !
    هى " ضاحكة " :
    ـ إذا لم تكن دكتورا – فأنت ماذا ؟!
    هو :
    = أنا البستانى !
    هى " ضاحكة " :
    ـ البستانى !!
    هو :
    = نعم .. أنا البستانى ، وأنت الست كوثر .
    هى :
    ـ يبدو أنك تقمصت شخصية البستانى ، وعجبك أداء الدور . وأنا الست كوثر ؟!
    هو :
    = نعم .. أنت الست كوثر ، والمرحوم زوجك سيدي ...
    " ينقلب على جنبه الأيمن ، ويوليها ظهره ، ووجه للحائط ، وكلتا يديه بين فخذيه "
    " تقترب من السرير تجلس على حافته ، تتحسس يدها رأسه "
    هى :
    ـ دكتور ، دكتور .
    هو :
    = أرجوك ، لا تنطقيها مرة أخرى ، أنا لست دكتورا .
    هى :
    ـ سأفترض أنك لست دكتورا . وأنك فعلا البستانى .
    من فضلك . هيا . انهض معى لتنزع تلك الملابس البالية القذرة عن جسدك ، ولتأخذ حماما دافئا .. و . .
    هو :
    = من فضلك ، تلك الغرفة غرفتى ، وفيها راحتى ، إنها تعيدنى إلى ..
    " صوت من الخارج "
    ** مدام نجوى ، يامدام نجوى .
    هو :
    = امضى إلى ضيوفك ودعينى .
    هى :
    ـ لا يمكن أن أوافقك على هذا الجنون ، وعموما أنا لا أنتظر أحد.
    " مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
    هو :
    = صاحب الصوت يستعجلك .
    " مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
    هو :
    = اذهبى .. اذهبى إليه من فضلك
    مدام نجوى " تنهض ":
    ـ لحظات وأعود إليك ، أرجو أن تكون قد تخلصت من هذه الأفكار المجنونة .
    " بعد قليل ، تعود مدام نجوى ، تسوق أمامها جديين ، وخروفين "
    " ينهض على أصواتها ، يبش فى وجهها ، يهدهدها ، يربت عليها ، يدلك رؤوسها ،
    ويناغيها ، تستكين ، تهدأ ثورتها ، تندهش مدام نجوى .
    " يصر على المبيت معها فى الغرفة "







    [ 6 ]


    فى منتصف الليل تماما ، تفتح عليه الباب ، وتدخل ، لتجده ، مرتديا " الشورت " فقط ، ومستلقيا على السرير ، ويغط فى نوم عميق ، ويتصبب جسده بالعرق . تتأمل جسده العارى ، وتبتلع ريقها وتقول فى نفسها :
    هي :
    ـ ما شاء الله.
    " وتمرر يدها على جسده "
    " فزعا ينهض "
    = من ؟!
    هى :
    ـ لا تنزعج . أنا نجوى .
    " ممسكا بفوطة ، ومنشفا عرقه ، ويتناول قميصه المعلق على مسمار بالحائط ويرتديه
    على عجل "
    ـ نمت . كما لم أنم من قبل .
    " تنظر إلى الجداء والخراف الراقدة حول السرير . لا تحرك ساكنا "
    هى :
    ـ هل تصر على أن تكمل ليلتك هنا .
    هو :
    = نعم . هنا راحتى
    " تنظر إلى جسده العارى ، تقترب منه تهمس " :
    ـ هناك . فى الفيلا . أعددت لك ، غرفة نوم فاخرة .
    " همّ أن ينطق ، وضعت سبابتها على شفتيه " :
    = تك . تك .. لا تتكلم قبل أن تراها . غرفة أسطورية
    " تسمر مكانه ، ولم يتحرك "
    قالت :
    ـ لا بأس . فأنا مثلك . كرهت الفراش الوثير ، و ..
    " منسحبة بدلال وخفة ، ومعلقة خلفها الباب "
    " تعود بعد قليل تحمل " صينية " عليها أنواع مختلفة من اللحوم ، وخمور ،
    ومسليات "
    هو :
    = كل هذا الأكل لى ! ماذا تظنينني ؟!
    هى :
    ـ ولى أيضا .
    هو :
    = وهل تتنازل سيدتى وتأكل معى .
    هى " ضاحكة " :
    ـ مازلت مُصرّاً على أنك البستانى . وليكن أنك البستانى .
    " وقائلة بنعومة " :
    ـ لماذا لا تكون أنت الليلة السيد ؟!
    هو " مثأثئا " :
    = أ .. أ .. ن .. ا .. أنا الليلة السيد !
    هى " تدس فى فمه شطيرة لحم " :
    " وتمرر يدها على جسده العارى "
    " كأنها تخاطب نفسها "
    ـ ما أفسح صدره ، وما أجمل جسده.
    هو " مطأطئأ رأسه إلى الأرض "
    هى " مطوقة رقبته بيدها وضاحكة " :
    ـ أتمثل الخجل ؟!
    ـ أين اللواتى اعتمدتهن ؟!
    و...
    هو :
    = أنت سيدتى .. وا .. أنا ..
    هى :
    ـ لا تندمج " أوى " فى تمثيل الدور . قلت أنت الليلة السيد وتطبع قبله على شفتيه ، وتمسك بيده .
    هيا .. تعال .. انهض
    " يقوم معها " :
    = لى أين ؟!
    هى :
    ـ لا تخف . على بُعد خطوات من هذه الغرفة ستعرف . تطوق خصره بيدها ، وتسير عبر طرقة صغيرة إلى غرفة واسعة تضيء النور .
    ـ تفضل .
    هو " مرتجفا . وكاد أن يصرخ ويجرى "
    هى " ممسكة بيده وضاحكة "
    ـ تعال .. لا تخف .
    هو :
    = ما هذا ؟
    هى :
    ـ كما ترى .
    هو :
    = مقابر !
    هى :
    ـ هيا كل مقابر ، وليست مقابر .
    هو :
    = وهل الحب يمارس هنا .
    هى :
    ـ نعم .
    هو :
    = ما هذا المزاج الغريب ؟ .. حب فى المقابر ، أعرف أن الحب يمارس فى غرف وثيرة وجميلة ومغلقة ، فى أحواض زهور أو فى حدائق جميلة كما فى أوربا مثلا
    هي :
    ـ ويمارس أحيانا في خرابات ، في حمامات ، في .. وفي ..
    هو :
    = هل تعرفين أنني ..
    هي " مقاطعة " :
    ـ أعرف أنك داهية ، و..
    هو :
    = فى الحقيقة إننى ..
    هى " مقتربة منه ، ونازعة الروب ، لتبدو فى قميص نومها القصير الشفاف – امرأة ، متوهجة ، مكتملة الأنوثة ، تدلك بيدها شعره وتمرر فمها وأنفاسها على شفتيه وأنفه وفمه ، تفك له أزرار القميص ، وتسحب الشورت ، تعلو دقات قلبه وتهبط ، تقبض بيدها على ... ، يبدو فى يدها كقطعة رخوة من عجين ، تنزعج ، وتفرط يدها ، تبتعد عنه ، وتتصلب واقفة ، ناظرة له بدهشة وغضب ، وهو يجرى ، منزويا فى جانب الغرفة ، قابضا على .. بكلتا يديه .. ضاحكة بهستريا .
    ـ أنت ..
    " هازا رأسه ومطأطأ رأسه "
    = نعم .. نعم ..
    قائلة بضيق وغضب :
    ـ كيف ؟!
    هو " مثأثئا ومتهتها " :
    هى " مرتدية الروب " وبحسم :
    ـ ارتد ملابسك ؟!
    هو : " مرتديا ملابسه ":
    = أسف يا سيدتى .. كان بودى أن ..
    هى :
    ـ هئ هئ .. هئ هئ .. لا بأس . لا بأس . وباكية .. تختلط الدموع بالابتسامات والضحك بالبكاء .. وتحدث نفسها :
    معقول هذا الجسد الجميل ، القوى ، غير قادر على .. ، .. " ناظرة له "
    ـ ثم ما هذا " الفشر " ؟!
    وضاحكة " وتقلده فى صوته وحركاته " :
    ـ آلاف النساء التقيت بهن ، سمراوات ، وشقراوات ، بدينات ، ونحيفات ، مصريات ، وأوروبيات ، خليجيات ، وأفريقيات ، و.. ، .. تحتضن الهواء .
    انظري ! .. هذا القميص !
    " وتشد نفسا عميقا "
    مازالت رائحتها فيه ، أنوثتها تخللت نسيجه وصارت من مكوناته .
    آه – كانت ليلة .. هئ هئ .. هئ هئ ..
    " تجلس على حصيرة متآكلة بجوار فوهة المقبرة ، ممسكة بزجاجة الخمر ، وتدفع الخمر من فوهة الزجاجة إلى جوفها مباشرة ، تتطوح قليلا وهى جالسة ، تنادى عليه .
    ـ تعال . تعال يا مسكين ، تعال .. تعال يا " أبو لمعة " اجلس بجوارى ، واحك لى ، واسمع منى .
    ـ اشرب ؟!
    " تقرب الزجاجة من فمه "
    ـ احك .. احك يا أبو لمعة ، بدون كذب ، مكسوف ، معلش ، أحكي أنا .
    ـ كنا نعيش فى المقابر ، بعيدا عن القرية – أظنك تعرف .. أليس كذلك ؟! . المهم لما نمت أثدائي ، ونعم صوتى ، وكبرت أردافى ، التفت لى بعض شباب القرية ، كانوا يطاردوننى بالكلام المعسول ، كنت أفرح به ويطير النوم من عينى ، وطوال الليل ، أسترجع كلماتهم ، الهامسة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى ، فى جسدى ، وعيني ، وشفتى ، وصدرى .. كانوا يحومون حول المقابر بالنهار ، ويمطروننى بعبارات الغزل وجمل الهيام .
    كان لكل بنت فى المدرسة حبيب ، يداعب أنوثتها ، وأحلامها ، كنت أحلم بفارس ، يأتى ، على جواد أبيض ، يأخذنى خلفه ، ويطير بي ، فوق السحاب ، يسكنى على سطح القمر ، أو فى أى كوكب آخر ، ينتشلنى من الفقر ، والمقابر ، والأموات ، وشباب القرية التى تحولت كلماتهم إلى رصاصات ، فتجرأت أياديهم على صدرى ، وعلى خصرى فى الطريق ، يتحلقون حولى ، وأشعر بعشرات الأيادي تمتد لتستبيح جسدى ، أصرخ ، والطريق إلى المقابر ، غالبا ما يكون خال من المارة .
    أحفن بيدى التراب ، وألقيه فى أعينهم ، وأقبض على الطوب والأحجار ، وأحدفهم وأنا أجرى ، وأصرخ ، ويتناهى إلى مسامعى سبابهم ، ومعايرتهم لى بأبى وأمي .
    كنت أدعو عليهم بالموت ، ليأتوا لنا فى المقابر ، فأنتقم منهم ، كنت أشكو لآبائهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو أخوالهم – الذين ماتوا !!.. كنت أتمنى أن يأتوا ويدفنوا ، فأنبش عنهم المقابر ، فأفقأ عيونهم النهمة ، وأقطع ألسنتهم التى ترجمنى ، وأبتر أرجلهم التى تركلنى ، وأياديهم التى تمتد إلى صدرى وخصرى ، ولا أنسى أبداً ذلك الولد العفى ، الذى باغتنى وأنا عائدة ، وخرج من غيطان الأذرة ، وكتم فمى بيده ، ولوى ذراعى ، وحملنى ودخل بي متدثرا بعيد أن الأذرة الفارغة ، وطرحنى أرضا ، وبرك فوقى ، أحسست به كجبل ، مزق قميصى ، وجذب سروالى ، و " سلت " بنطاله ، وبكل ما أوتيت من قوة رحت أقاومه ، لم أستطع أن " أتعتعه " . كان مثل الثور الهائج ، لا يحس بنبش أظفارى ولا بأسنانى المغروسة فى لحمه .
    ولما قضى حاجته . إذ بقوته تخور ، وبجسده يخمد ، وبكل ما أوتيت من عزم و قوة دفعته بساقى ، فوقع على الأرض على ظهره ، ونهضت صارخة ، ألملم ملابسى ، وأمسح عرقى ، وأبصق فى وجهه ،وعدوت منهارة ، وهو لم يزل نائما ، مهدودا ، مثل العجل ، يرمقنى بابتسامة بلهاء !
    " وتدفع بزجاجة الخمر إلى فمها ، وتضحك ... "
    ـ وظلت صورته لا تفارقنى ، يأتينى كثيرا فى النوم ، ولكنى لا أقاومه أبدا ، كان يشبعنى فى الحلم لما توقف بهاء عن إشباعى ، انشغل بالمال والتجارة ، ويئس منى ، ومن نفسه ، كان يحلم بولد يرثه ، وكنت أحلم بعشرة أولاد ، بل عشرين ، ذكورا وإناثا ، طفنا على كل الأطباء . حتى السحرة قالوا لا فائدة مني ولا منه.
    كل هذه الثروة من يرثها ؟!
    ـ الرجل الكفيف والمرأة العجفاء ! أظنهما ماتا ! لم أرهما منذ أن غادرت القرية ، حتى لو كانا حيين ، فماذا يفعلان بها ؟! .. اتفقنا . بهاء وأنا على أن نعطى ظهرينا للماضى ، ونسد كل الطرق إليه ، وخلعنا إسمينا ، وجذورنا الهشة ، وبدأنا المسيرة ، كنا نعرف أن الزمن الآتي زمننا ، وأن الدنيا ستفتح لنا ذراعيها ، وفتحت لنا ذراعيها ، وأغدقت علينا ، ولكنها حرمتنا أيضا ، كنت أتعذب وأنا أراني أرضا يبابا .
    " تغمض عينها ، وتضع يدها على بطنها ..، وتتناول كأسا " :
    ـ كنت أتوق لأن أرى بطنى ، تتكور ، وتتمدد ، وتنفرط أمامى ، وأحس مثل كل النساء الحوامل ، بأصابعه الرقيقة الناعمة ، تنقر على بطنى ، وبقدميه الدقيقتين ترفسانى .
    أتأمل بطنى ، وأنا أبدل ملابسى ، أنقر عليها بأصابعى ، أحس بخواء وخراب ، فالأرض جدب ، والمطر شحيح ، فأبكى ، وأبكى .. وأظل أبكى .. وأبكى ، حتى يزورنى النوم ، وفى نومى ، أرى القابلة لا الطبيب ، قد سحبته من رحمى ، طفلا جميلا ، أول ما وقعت عليه عيناى ، اختلج قلبى ، وغمرتنى فرحة ، أتناوله من القايلة ، أضعه فى حجرى ، يستكين ، أغمره بالقبلات ، أستيقظ ، وأوقظ بهاء ، وأنا أشعر وكأن ، أجنحة طير أبيض تهفهف ، وتخفق فى بطنى ، وبأصوات وكأنها هديل حمام أو زقزقة عصافير أو تغريد كروانات ، أو شدو بلابل أبصرته .. أبصرته فى نومى وأنا فرحانة ، فإذا هو على غير عادة الأطفال الساقطين لتوهم من رحم أمهاتهم ، مبتسم ، ابتسامة تملأ وجهه الصبوح .
    أقول لبهاء . الذى لا يصدق بأنى أحس به يمد عنقه ، ويفرط يديه الصغيرتين ، بأنه يتحسس بطنى ، وينقر عليها بأنامله ، نقرات خفيفة ، كأنها قطرات ندى تسقط على ورق الشجر ، أطلب من بهاء الذى لا يصدقنى ، أن يتحسس بطنى وأن يضع أذنه عليها ليصغى إلى خفقات ابنه ، مغتاظا يغادر الفراش وأنا أصرخ فيه :
    ـ ابق بجوار ابنك ، ولا تفارقه .
    " ويخرج صافقا الباب خلفه "
    وتزداد خفقات الأجنحة فى بطنى ، وأبقى وحدى – أصيخ السمع ، ولا أدرى ، إن كنت أسمع هسيساً أو همساً أو أصوات طير لا أتبينها ، ولا أدرى إن كنت فرحة أم حزينة ، كل ما أدريه – أنى فى عالم غير العالم ، وأبصر نفسى ، وأرانى ، أنا الممتلئة قليلا ، أخف ، وأشف ، وأصير مثل العصفور ، وبطنى الممدود أمامى يرق ويرق ، وتصير جلدة بطنى مثل الزجاج الشفيف ، وأرى هذه المرة بنتا لا ولدا ، وجهها بلون البدر ، وشعرها قطع من الليل ، أتناولها برفق ، أضمها لصدرى ، أهدهدها ، ألاعبها ، أحممها ، أعطرها ، أضع الكحل فى عينيها ، أزجج حاجبيها ، وأراها تكبر ، وتكبر ، وتجرى مع البنات هنا وهاهنا ، وشعرها السارح خلفها يتطوح ويتموج .
    قال الساحر : لا حل لحالتكما إلا فى المقابر .
    كان آخر شعاع أمل ، تردد بهاء
    قلت :
    ـ سنتسلل فى الليل ولن يرانا أحد .
    وذكرته بأول لقاء .
    وتسللنا إلى المقابر ، وبريق أمل يومض فى نفسى ،
    أحسست به بارداُ .
    منذ زمن وأنا أحس به بارداُ.
    وأشعل سيجارته ، وأنا مستلقية على ظهرى ، وأقسم ألا يعود للمقابر مرة أخرى
    أمام دموعى وحالتى النفسية التى تسوء يوما بعد يوم ، حول هذا المكان إلى المقابر عكف على صناعتها بنفسه ، وكنت أساعده ، ويحدونى الأمل ، وها أنت ترى المقابر – بكل تفاصيلها ، حتى أفراس النبى ، والسحالى ، كل الجزئيات ، والمنمنمات الصغيرة لم تغب عنا ، أنظر إلى تلك السحلية وهى تسعى ، أصغ إلى هذا الدبور وهو يزن ! وتلك الأشجار ، أنظر إلى ظلالها !! ومساحات الظلال .
    وبدأنا نمارس الحب هنا ، فقد كان السرير الوثير باردا ، والحجرة باردة
    نهرب إلى هنا ..
    ننام على هذه الحصيرة المتآكلة ، ونشرب من هذه " القلة " وتلك الأسطوانات جئنا بها ،
    " تدير أسطوانة "
    " صفير الرياح ، وحفيف أوراق الشجر ، وصوت البرق ، وصوت الرعد والمطر "
    " وتتناول كأسا .. "
    ـ وأصبحت أقضى جلّ وقتى هنا ، يختلط فى ذهنى الماضى بالحاضر والمستقبل .
    كنت أظن أنى دفنت الماضى ، فكنا بهاء وأنا نبعده عنا حتى لا يعيق خطا تقدمنا .
    حاولنا أن نصنع ماضيا على هوانا .
    هو ابن الحلاق أصبح ابناً لطبيب صيدلى . وأنا بنت التربى أصبحت ابنة لواحد من كبار رجال الأزهر !
    وعندما تملك المال – لا أحد يسأل أو يهتم ، فقولك صدق ، فالأغنياء ملائكة لا يكذبون ، ولا .. ، ولا ..
    " وتضحك " :
    ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
    وامتلكنا المال ! .. لا تقل كيف ؟!
    كان لا بد أن نملكه ، ونقبض عليه ، وقبضنا عليه فى بضع سنين .. لم أكن جميلة ، ولكنى عرفت كيف أكون جميلة ، مسئولون ، وموظفون كبار ، من درجة مديرين عموميين ووكلاء وزراء ، فصاعدا ، نتسلل إليهم ، بهاء وأنا ، ونعرف نقاط ضعفهم ، وحاجتهم إلى .. ، وإلى .. ، إلى ...
    " وتتجرع من الزجاجة "
    ـ هذه شذرات من معاناتى ، ولمحات خاطفة من حياتى ، احك ، احك أنت ، أوقفنى على حكايتك ...
    " وتصب له كأسا .. "
    ـ اشرب .. ولا تخف ، فسرك فى بئر
    " يتناول الكأس ، يدفعه مرة واحدة فى جوفه "، يقول :
    = لا يمكن أن أنسى ، منظر الشيخ ، شيخ القبيلة ، وقد احتقن وجهه بالدم والغضب
    " ويطوح بعصاته الأبنوس فى الهواء " ويقول :
    = من يدرى .. قد يتجرأ فلاح ـ فى قادم الأيام على إغواء فتاة من فتياتنا
    وأشار إلي ..
    احتضننى الخوف ،
    تحلقوا حولى ، وتكاثروا علي ،
    جرونى إليه
    أحكم قبضته القوية حول معصمى ، لم أبدِ مقاومة .
    سحبنى إلى إسطبل الغنم والجداء ..
    دفعنى إلى الإسطبل واغلق خلفه الباب ، مكثت يوما أو بعض يوم
    حتى كان مساء اليوم التالى
    جاء الرجل الأسود ، عبداً حبشياً ، أعرفه ، يأتي مرة كل عام ، يجز صوف الغنمات وشعر الحمير ، كان صديقا لأبي ، وكان أبى يساعده ، ويسامره وهو يعد له الشاي والغذاء ، والنارجيلة ، وينقده أجره قبل أن يجف عرقه ، نيابة عن الشيخ ..
    يعرفنى ، بالتأكيد يعرفنى ، آنست به ، حاولت أن أساعده كما كان يفعل أبى ، ولكنه نهرنى ، كنت أريد أن أبوح له وأحكى له ما جرى لأبي ، وكنت أتمنى أن يسألني عن أبى ؟! ، لكنه لم يفعل ، كان هذه المرة ، متجهما ، عابس الوجه .
    فيما مضى ، كان يداعبني ، وكان حينما يدس أبى فى جيبه الأجرة يبتسم ، ويمنحنى قرشا ، لماذا يتحاشى النظر الي ؟! لا أريد قرشا يا عم ، ولكن أريد أن تبتسم فى وجهى ، وتأخذني فى حضنك ، وتهدهدنى ..
    وفور أن فرغ من جز الصوف وقص الشعر والوبر ، جاء من يساعده فى فصل الجداء والخراف عن المعزات والغنمات ، وسحبها إلى " الجرن " ، ولا أدرى لماذا سحبوني معها ؟!
    وبدأت المراسم السنوية ، فى هذا الوقت من كل عام ، يتحلق حوله جمهرة من الناس ، يتابعون عملية الخِصاء ، جدى وراء جدى ، وخروف بعد خروف ، تمزق أصواتها السكون وتشرخ القلب .
    قال الشيخ وهو يدفع بعصاته فى صدرى : ـ خذ هذا التيس !
    قبل أن يجردونى من ملابسي ، كان البلل قد غطاها ، قيدوا قدمي ويدى ، خرس لسانى ، وجحظت عيناى ، و .. ، ..
    [ يضع يداه بين فخذيه ، وتحس به ، ينكمش ، ويتكور على نفسه ، ويصرخ ، تصب له كأسا ، يتجرعه دفعة واحدة ]
    ـ تارة أراني جديا ، وتارة أراني خروفا ، أحيانا أمأمأ ، وأحيانا أسير على أربع ، أجرش الفول بين أسناني ، وأخطف العلف ، والبرسيم من أمام البهائم ، انكسرت عيناى ، وتدلت أذناي ، إذا ما رأيت امرأة جميلة ، سال لعابي ، وإذا ما اغلق علينا الباب ، أرغو ، وأزبد ، وأصير مثل الجدى أو الخروف المخصى ..
    إذا وطئ الجدى المخصي معزة أو الخروف المخصى غنمة ، جزعت ، ووجلت ، وطرحته أرضا ، وتروح تتفحص مكان أ .. ) بعينها ، وتتشممه بأنفها ، ترفسه برجليها الأماميتين ، وتفر ، وإذا ما نهض وعدا خلفها محاولا ، ترفسه بخلفيتيها .. وكان هذا حالى ، ولكن الجداء والخراف كانت أحسن حالا منى ، فأنقذتها السكاكين ..
    [ ويبكي .. تهدهده ، تصب له كأسا .. يتجرعه ، وينظر إليها ]
    = ما كنت أريد أن أتورط معك ، حتى لا تفرى منى ، مثل اللائى فررن ، لماذا أصررت ؟ ولماذا انسقت وراءك ؟
    فى كل مرة ، مع كل امرأة ، كان يحدونى الأمل !
    أمل كاذب .
    هل كانت المعجزة ستتحقق معك ؟!
    [ ويضحك .. ]
    = ولى زمن المعجزات ، وزمن الأنبياء ، وصرنا فى زمن ..
    هى " مقاطعة " :
    ـ رغم كل شئ ما زال الزمن زماننا
    هو " ضاحكا " :
    = زمن بنت الترابي !
    هى " ضاحكة " :
    ـ وابن الكلاف !
    [ تصب له كأسا ، ولها كأسا ..]
    ـ فى صحتك
    [ يطرق كأسه بكأسها ]
    = فى صحتك
    [ عيناه فى عينيها .. وكفه فى كفيها ... ]
    هى :
    ـ ما رأيك ؟!
    هو :
    = فى ماذا ؟
    هى :
    ـ أنت تملك القلم
    هو :
    = وأنت تملكين الفلوس 0





















    ** المراسلات :
    13 شارع مدرسة التجارة ـ ديرب نجم ـ الشرقية
    ت : 3767986/055


  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    16/03/2007
    العمر
    61
    المشاركات
    43
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي

    نشرت هذه المسرواية ضمن سلسلة كتاب الاتحاد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية صادق ابراهيم صادق
    تاريخ التسجيل
    09/11/2008
    العمر
    65
    المشاركات
    245
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: " زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الاديب الصديق/ مجدى جعفر
    اهنئك على صدور هذة المسراوية وانا ناقشتها فى فرع اتحاد كتاب مصر بالزقازيق واعجبت بها جدا لاانها من اصعب الفنون الادبية لاانها تجمع بين الرواية والمسرح
    وفقك اللة ونريد منك المزيد من الابداع
    مع تحياتى ومحبتى الناقد والقاص/صادق ابراهيم صادق


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: " زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر

    استمتعتُ بقراءة الرواية،
    وقد كتب عنها الدكتور نادر عبد الخالق كتاباً كاملاً،
    وأنا أكتبُ عنا الآن مقالة.
    تحياتي أيها الروائي الجميل.


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •