بعد السّقطة والضربة التي تلقاها برنامج الدكتور فيصل القاسم المحترم في قناة «الجزيرة» الموقرة (الإتجاه المعاكس) وفي كبوة للجواد وحين استضاف وفاء سلطان وما جرى في تلك الحلقة المشئومة من تجريح وقذف للدين الإسلامي ولمشاعر المشاهدين من المسلمين وغير المسلمين يبدو أنه أي الدكتور فيصل لم يجد من يستضيفه في حلقة تذهب مشاعر الغضب من قلوب المشاهدين وتخفف من سخط الناس. ولأن فلسطين وقضيتها كانت الفزاعة التي يلجأ إليها كل من يواجه الفشل ويعلق عليها أخطاءه ، وكانت الشماعة لكل انقلاب على الشرعية في الوطن العربي ، وكانت البقرة الحلوب للمزايدات والشعارات العربية ، وخزان الوقود للعنتريات الكاذبة ، وكانت بمثابة الجَمَل الذي وقع وكثرت فيه السكاكين ، لم يجد من يستضيف إلاضيفين متعاكسين من الأشقاء الفلسطينيين ولم يجد فزاعته من هذا السقوط إلا الموضوع الفلسطيني في مصارعة حرة بين الديوك الفلسطينية على خشبة (الإتجاه المعاكس) في مسرح قناة «الجزيرة». لا يعنينا كثيراً نجاح أو فشل البرنامج والقناة وليس هو السبب في كتابة هذا المقال بقدر ما يعنينا الحوار بين الضيفين الكريمين الدكتور أنور رجا والدكتور جمال نزال اللذان جعلا الحلقة جلداً للذات الفلسطينية بالسوط الفلسطيني بدلاً من أن يجعلا منها مناسبة لرأب الصدع والتقريب بين وجهات النظر المختلفة ونموذجاً للتعايش بين الأشقاء حتى وإن اختلفوا في آرائهم ووجهات نظرهم.

الإختلاف في وجهات النظر يحدث بين الزوج والزوجة ، وبين الأخ وأخيه ، وبين الوالد وابنه ، وبين المدير ونائبه فما بالك بين الفصيل والفصيل ، والإختلاف في وجهات النظر ينتج عن إختلاف في القناعات والتجارب والممارسات والقياس ، وهو اختلاف طبيعي بين الإجتهادات حيال حل موضوع أو مشكلة ، فالفقهاء الأربعة اختلفوا في اجتهاداتهم على الرغم من أن أحكامهم بالأمور القياسية والإستنباطية كانت تنبع من نفس المصادر ، وكان في اختلافهم رحمة للناس وتيسيراً لهم من منطلق ان الدين يسرٌ وليس عسراً. وهنا يبرز فن الحوار والقياس والإستنباط في تحويل مناطق الخلاف الى رحمة ، وفي تسخير الإختلاف لجلب الفائدة ، فعندما يعرض كل طرف من أطراف الحوار المتعاكس وجهة نظره بهدوء وروية وبالمنطق والأدلة والبراهين البعيدة عن التسخيف والتحقير والإستعداء والتخوين المستند للإشاعات والأكاذيب في محاولة لإقناع المستمع بها يتيح للمستمع مزيداً من الإطلاع والموازنة بين الرأيين المتعاكسين ، وتتفاعل هذه الآراء المختلفة في عقل المستمع في مخاض لولادة فكرة متبلورة من تفاعل ايجابي ومفيدة وتخلق رأياً وسطاً بين المتحاورين ليكونا على بعد متساوٍ من المستمع لا يفضل أحدهما على الآخر وينظر اليهما باحترام متماثل. ويكبران في عين المشاهد أو المستمع.

إن مثلث الحوار الناجح بين رأيين متعاكسين يرتكز في الأساس على قاعدة الإحترام المتبادل بين المتحاورين ، والمجادلة بالتي هي أحسن ويعتمد في نجاحه على ضلع ثقافة عالية ومتواضعة تخاطب عقول الأطياف المختلفة من البشر ، وقوة في المنطق ووضوحاً في البراهين ، وبعداً عن التسخيف وعن سفاسف الأمور ، وعلى ضلع الإلتزام بالخطوط الحمر للقيم والأخلاق والمعتقدات والرموز الوطنية والتراث الوطني واحترام مشاعر المستمعين. وعندما يخرج من حدود هذا المثلث يصنف في خانة الرّدح والقدح والمصارعة الحرة التي لا تلتزم بحدود لمناطق التناطح والتضارب بين المتصارعين ولا بوسائل وأماكن التعارك بينهما حتى لو امتدت للكراسي ولمناطق المتفرجين وللحكم.

في حلقة يوم الثلاثاء الموافق 11 مارس (آذار) 2008 ، ما شاهدناه يقع خارج حدود مثلث الحوار الناجح بين المتحاورين ولا نستطيع وصفه بأكثر من ذلك لكي لا نشارك في جلد الذات الفلسطينية وننزل الى مستويات متدنية من النقد لهذا الحوار. ما سمعناه وفهمناه من الحوار يمثل حوالي خمسين بالمائة من مدة الحوار ، فكان كل طرف يتداخل مع الطرف الآخر في وقته المخصص له لكي لا يسمح له بالحديث ، وما سمعناه في الخمسين بالمائة الباقية نصفهُ كان سباباً واتهامات وقدحاً وذماً طال الرموز الوطنية وطال التاريخ النضالي المشرف للثورة الفلسطينية وطال القادة التاريخيين ، والنصف الآخر كان تبادلاً للشتائم والقذف الشخصي بين المتحاورين. حتى كانت تلك الحلقة من البرنامج كبوة صغيرة في محاولة النهوض من كبوة كبيرة.

لم نشاهد الإحترام المتبادل بين المتحاورين ، فكلما تحدث أحدهما كان الآخر يقتحم عليه الحديث بلكمة سب أو بصفعة شتم مخالفاً لصرخات الحكم بعد أن تعطلت الصفارة ، وإن أنصت له كان يسخر ويستهزؤ منه بالإبتسامة الساخرة ، أو مهملاً لحديثه لا يستمع له منهمكاً في تحضير جواب قاسٍ على سؤالٍ سابق أو ليرد على شتم واتهام لخصمه ليقابله بشتم أقسى أو اتهام مضاد. أعتقد أنه كان بإمكان المتحاورين أن يؤديا حواراً مفيداً ومقرباً ومحترماً يعكس ثقافتيهما والدرجة العلمية التي نالاها ، فلا نشك في وطنية كل منهما ، ولا نشك في ثقافتيهما وفي درجتيهما العلمية ، ونؤمن أن لكل منهما قناعاته ووجهة نظره المستقلة ، ونتفهم أن لكل منهما حدوداً بحكم انتمائه للفصيل وللمحور ، ولكننا لا نشك في قدرتهما على التخلص من القيود التنظيمية بفن الحوار ، ولباقة التصرف حيال الأسئلة المستفزة ، والتحكم بمسيرة الحوار ليصب في مصلحة القضية التي نحملها ، بالتحزب للوطن في هذا الحوار الذي يستمع اليه العالم العربي كله والذي لا ينظر لفلسطين من خلال حزب أو فصيل ، وإنما ينظر اليها وطناً عربياً وأرضاً مقدسة محتلة . فلسطين بحاجة الى الحكماء والعقلاء في هذا الوقت الصعب الذي يمر به الوطن والشعب والقضية التي تحتاج الى لملمة الشتات ورأب الصدع. ويحق لنا أن نتساءل ونطرح عليهما أسئلة ملحة: هل خلت جعبة كل واحدٍ منكما من الحكمة وفن الحوار وديبلوماسيته؟ وما الفائدة التي جناها المستمع من حواركما؟ وما الفائدة التي عادت على القضية التي تتحاوران وتتنافسان من أجل خدمتها كما ادعى كل منكما؟ وما هي نتائج حواركما على الأشقاء المتعاطفين مع شعبنا وقضيتنا؟ كنا نتمنى خروجكما الإثنين معاً من الحوار منتصريْن متحابين ، لكي تكونا مثالاً يحتذى للأشقاء المختصمين ، كنا نتمنى أن تساهما في حلقة ناجحة من الحوار البناء لتنسي الناس حلقة وفاء سلطان وتكونا نموذجاً يقتدى به في الحلقات القادمة ولتحدثا تغيُّرا في نهج البرنامج من حوار ناري بين الأشقاء الى حوار دافيء وحميمي رغم الإختلاف في الرأي على قاعدة وحدة المصير المشترك والعدو المشترك.

نتمنى على الدكتور فيصل القاسم أن لا يساهم في جلد فلسطين بالسوط الفلسطيني ، ندرك الألم في ضمير كل عربي على ما آلت اليه القضية ، ونتفهم أن فلسطين أصبحت غصة وهماً يحمله كل عربي ، ونطلب من الجميع أن يمد يد العون والبناء ، لا يد الهدم والفرقة في لحظة غضب من أجل فلسطين. ولنحول طاقة الغضب وردة الفعل الى طاقة حلم وصبر ودعاء ودعم بالمحافظة على قدسية القضية بتجنيبها حوارات عقيمة تحبل بحمل كاذب وتلد ريحاً يهوي بالقضية الى مهب الريح فتذهب مع الريح.