كلمة غير احتفالية: جمعية المترجمين العرب
26/12/2005
د. حسام الخطيب
كاتب عربي


بحلول العام الميلادي الجديد تحتفل الصبيّة واتا طءشء (الجمعية الدولية للمترجمين العرب) بعيد ميلادها الثالث الذي أحبّت الجمعية أن تعتبره يوم المترجمين العرب (الأول من كانون الثاني/ يناير).
بعد التهنئة والمباركة وتمنيات مستقبل زاهر حافل بالنشاط والفعالية لدعم حركة الترجمة العربية من الزاويتين التقنية والأخلاقية المتعلقة بالمهنة، وكذلك من ناحية إنصاف المترجمين العرب من الزاويتين المادية والمعنوية. وهذه أولويات شديدة الأهمية، وبغير توفيرها يصعب أن تستطيع الجمعية توسيع نطاق حركتها الاجتماعية والوطنية، ومن الواضح أن هذا الهدف الأخير يشكل أفقاً مهماً من آفاق تطلعات الجمعية و حسناً تفعل، لكنها يجب أن تتذكر أن قضايا الوطن العربي شائكة متداخلة، ولكي يوفر الإنسان الجهد للغاية التي يمكن أن يكون ناجحاً فيها ينبغي له أن يسعي إلي الهيجاء بسلاح أقوي من السلاح الافتراضي. (ما زلت أبحث عن ترجمة أفضل من هذه الترجمة الضالة لكلمة ًّيفٌ ويبدو أن المشكلة قائمة في المصطلح الإنكليزي نفسه).
إن هذا الاستهلال بما يشبه الانتقاد متعمد حقاً. وهو نوع من التحوُّط لما قد تؤول إليه الشهادة التالية من إسراف في ترجيح لغة المنجزات علي لغة السلبيات (المتوقعة من تنظيم ناشئ في الفضاء ًّيفٌ !).
وإذ يُزجي المرء التهنئة حارةً صافية لرئيسها عامر العظم ولمهندستها راوية سامي وللأعوان المخلصين الذين تتردد أسمائهم في مختلف أوجه نشاط الجمعية وعلي شاشاتها ومواقعها المختلفة، عليه أن يذكّر أن الجمعية خلال سنتين من عمرها فقط أصابت نجاحاً مذهلاً في جمع شمل المترجمين العرب بعد أن ظل موقعهم في حركة المجتمع زمناً طويلاً بغير معالم لأن جهودهم كانت مبعثرة، لا يجمعها جامع من إطار مهني أو فني أو نقابي، إلي جانب اضطهادهم المادي والمعنوي. ومن هنا كانت المفاجأة التي لا يجوز أن يُبخس وزنها، وتلك هي مفاجأة الإقبال الهائل علي عضوية الجمعية حتي فاق تعداد منتسبيها ثلاثة آلاف ونيّف من مختلف فئات العاملين في مجال الترجمة أو دارسيها أو مدرّسيها أو الملتفين حولها من خلال اهتمامات ثقافية عامة...

إن هذه الهبّة المفاجئة بل المباغتة هي أشبه بظاهرة حركة كفاية في مصر ومثيلاتها في بلدان عربية أخري. ومغزاها يكمن في أنها تعبير عن بدء شعور المجتمع العربي بأنه شب عن الطوق أو كاد، وأن الأوان قد آن لكي تأخذ الفئات الاجتماعية بمقودها الخاص وتشارك في لعبة صنع الحاضر والمستقبل بعد أن كانت حتي اللحظة راسخة في القيود والانحلال وعاجزة عن مجرد الإمساك بطرف خيط المقود الذي يخص كلاً منها. وهذا يعني أن نجاح جمعية المترجمين العرب هو أنموذج لنجاح بذرة متطلبات المجتمع المدني وحركته الطوعية من خلال الالتزام الذاتي وحق تقرير المصير الجمعي.

ويزيد من تقدير هذه الهبّة أنها قامت علي أكتاف عدد محدد جداً من الأفراد. وسرعان ما لقيت مبادرتهم (أو في الحقيقة مبادرتهما!!) تجاوباً طوعياَ بل تطوعياً من مجموعة من ذوي الكفاءة وأهل الرأي المخلصين والمجلّين في تخصصهم. وكل هذا بدأ عملياً من الصفر، أي دون وجود نواة دعم مالية أو سياسية أو إقليمية أو جهوية أو قبلية.

وهذه الحقيقة تقودنا إلي أهمية العمل التطوعي... طوال عمرنا نشاهد أوكس فام دٍّنفٍ وحركة الخضر اْمفَ ذمفكم مثلاً، وحركة أطباء بلا حدود حمليكي َّفََّ ئَُُّْيمَّْ، وغيرها من الحركات الدولية المتجاوزة للحدود ولا نكاد نصدق ما نراه. إن هذا النفس التطوعي هو زكاة المجتمع الحي. وهناك مجتمعات في العالم قامت علي أكتاف العمل التطوعي. والمجتمع الياباني هو المثال البارز في هذا المجال. إن الياباني بطبيعته متطوع دائم، وهذا من أسباب نجاح اليابان وارتقائها، خلال مدة غير طويلة، من بلد مهزوم مدمّر بقنبلتين ذرّيتين إلي بلد متقدم يناطح مدمِّريه السابقين في عقر دارهم باقتصاده وعلمه وصناعته وحيويته وابتكاره والتزام أبنائه بواجباتهم، هكذا دون مدافع ولا أساطيل ولا قذائف هائجة.

وها نحن اليوم نشاهد (انتفاضات) هونغ كونغ حيث أتي الهائجون من مختلف أنحاء العالم ليناطحوا حركة العولمة التجارية قبل أن تقضي علي الأخضر واليابس من قوتهم اليومي.

أعترف أن الشعور بأهمية الموضوع ساق المقال بعيداً عن التركيز. ولكن لو سئلت أن ألخصّ سرّ إعجابي بمنجزات الجمعية الدولية للمترجمين العرب، لقلت إنه العمل التطوعي. ولكن هناك إلي جانب ذلك بعدٌ رائع آخر يقع في رأس أبجدية العمل القومي الذي بتنا نفتقده يوماً بعد يوم. وليس المقصود هنا العمل القومي السياسي. ففي رأيي أن الجمعية كلما ابتعدت عن هذا النهر الملوّث كانت فرصة استمرارها أقوي وأعمق وأبعد غوراً وأوسع انتشاراً... علي شاشة الجمعية ليس هناك مصري أو سوري أو أردني، هناك قبل هذه الصفات: مترجم أو مثقف عربي، وبعدها مغربي أو جزائري أو يمني أو قطري أو ماشئت. وهذه ليست رؤية نظرية حالمة، إنها (ترجمة) لواقع ملموس ولقضية واحدة. وما أجمل مداخلات المثقفين والمترجمين العرب من جميع أنحاء العالم، وأخص الإخوة من اليابان وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا وغيرها.

هذا منبر للمناظرة والحوار فائق لا يصح إلا بفضل التقانة (التكنولوجيا) والتقنية (التكنيك) الافتراضية. والمستفيد الأكبر من هذه الفرصة هم أهلنا في فلسطين المحاصرة. والملاحظ أن إسهامهم هو الأغزر والأقوي والأكثر حميميّة... إنه متنفس لهم من حالة الحصار المفروضة عليهم منذ أكثر من نصف قرن. فو الله لو لم يكن للجمعية من فضل سوي هذا المتنفس لثقافة فلسطين وأدبها وشجون أهليها لكفي شاهداً علي الدور الحيوي الذي تضطلع به. وها أنذا في لحظة الكتابة هذه ألقي نظرة علي الشاشة أمامي فأري بعيوني الدكتور فاروق مواسي، حسبما يقول عنوان الرسالة. وأتذكر إسهاماته الغزيرة وغيره من زملائنا المثابرين.

وإلي جانب ذلك أري إعلانات تكريم أكثر من سبعين عضواً من الزملاء المرموقين في شتي أنحاء الوطن العربي. ومعظمهم لم ينالوا في بلادهم مثل هذا التكريم، وكذلك لم يدعهم أحد ويرجوهم أن يقبلوا هذا الشرف ذا الباعث الطوعي والخالي من شبهات التزلف والمحاباة.

بقيت كلمة:
في هذا الوطن العربي الكبير، رقصنا وهزجنا وعلقنا آمالاً عراضاً علي بروق تراءت لنا كأنها المخرج، وبعد ذلك تحولت بسرعة إلي سراب. علي الجمعية أن تتمسك بثلاثِ ركائز أساسية حتي تستطيع الاستمرار في إشعاعها وحتي تتجنب المصير المألوف والتحديات أمامها كبيرة.

الركيزة الأولي: أن تظل جمعية عربية مفتوحة، غير منحازة لدولة أو حاكم أو مموّل، وأن تتجنب التحول إلي فيدرالية للجمعيات المحلية في الأقطار العربية وألا تقاومها أيضاً بل أن تتعاون معها بإيجابية. ولكن ينبغي أن تبقي العضوية اختياراً فردياً لكل من ينتسب إلي الوطن الكبير أو إلي اللغة العربية الرائعة.
الركيزة الثانية: أن يظل عمل الجمعية طوعياً وتطوعياً وأن تظل فقيرة في مواردها غنيّة بجهود منتسبيها، حرةً في تصرفها، ديمقراطية في قراراتها، علنيّة في نواياها، بعيدة عن الأعطيات المشروطة حتي لو كانت الشروط ملحوظة وغير ملفوظة.

الركيزة الثالثة: أن تركز جهودها في ترابيةٍ مرحلية، وأن تظلّ نواة خططها موجهة لتقوية احترافيّة أعضائها والدفاع عن حقوقهم المشروعة وتكثيف جهودهم باتجاه أهداف محدّدة قابلة للتحقيق. وأن لا تقع فريسة الغرور فتشتط في تطلعاتها المتجاوزة لإمكاناتها وأن تحرص علي جمع الشمل وأن تفتح صدرها للنقد البناء.

نكرر التهنئة ونرجو أن يكون العام المقبل عام إنجاز وإبداع.

http://www.raya.com/site/topics/arti...4&parent_id=23