تقديمٌ لكتاب :
" سنوات الضّوء "
تاريخ موجز للأدب الألماني من 1945 حتى اليوم .
د. شاكر مطـلـق

المؤلف : فولكر فايدر مان " Volker Weidermann " ، وهو من مواليد مدينة " دارمشتات – ألمانيا " عام 1969 درس العلوم السياسية وعلوم اللغة الألمانية في " هايدلبرغ و برلين "وهو المسؤول عن القسم الثقافي في الجريدة الأسبوعية الشهيرة " فرانكفورتر ألغِماينهْ – صحيفة فرانكفورت العامة - .
الطبعة المعدة للترجمة هي الطبعة الثالثة : صدرت أواسط عام 2006 ( ط 1 2005 ) .
دار النشر : (كيبن هويَر و فيتشْ - Kiepenheuer and Witsch ) – مدينة كولونيا – ألمانيا .

لمحة عن محتويات الكتاب :
أستعير هنا ما كتبه الناقد الشهير العجوز ، " مارسيل رايش – رانيكه " - " بُعبُع " النقد الأدبي الألماني - على الغلاف الأخير للكتاب الذي يقع في نحو أكثر من 323 صفحة من القطع الوسط :
الكتاب هو : ( دليل يقود خلال المرحلة الحديثة للأدب الألماني . مكتوب بوَلهٍ " عن حياة وأعمال أفضل المؤلفين باللغة الألمانية منذ 1945 - نهاية الحرب الكونية الثانية - .........
إنه كتابٌ مفرح ومذهل ، " مكتوب " بسرعة وحيوية وبرغم ذلك بدقة " منهجية " وبمتانة مبسّطة . تعود نوعيته
" العالية " لذاك الكم الكبير من المعلومات والوضوح ، " و " أحكامه الحاسمة وإلى أصالة عدد كبير من النقاط
" المعلومات " والطُّرَف . إنه يعلِّم ويسلّي في آن واحد معاً ) . – أ هـ - .
Marcel Reich-Ranicki


سأورد فيما يلي عناوين محتوى الكتاب ( سنوات الضوء ) :

- المقدمة .
1- أين كنتَ في الثامن من أيار ؟ - ( أي في نهاية الحرب الكونية الثانية عام 1945) .
2- انهيار عائلةٍ - القصة الحزينة لـ ( أدباء عائلة ) مان الثلاثة :
كلاوس – هاينرش – توماس .
3- سوف لن نعود - الأمريكيون ( الأدباء الألمان المهاجرون ) :
فرانْسْ فيرفِلْ - لِيون فويْشْتْفانغَرْ – أوسكار ماريا غراف – هرمان بروخ .
4- العائدون إلى الغرب :
أ . بولغَر – إ .م . ريمارك – أ . دوبلِن – ك. تْسوكمايَر .
5- لم نزل نحن هنا :
إ . كِستنَر – ك . فالنتين – و . بورشارت – هـ . فون دودرَرْ .
6- دولة الكتَّاب :
ي . ر . بِشَر ( كاتب النشيد الوطني لجمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة ، ووزير ثقافة سابق فيها -" المترجم " )
– هـ . فلاّدا – أ . تسفايغ - أ . زيغارز –
ب . بريشتْ ( بر يخت ) .
7 – الوحيدون :
ر . فالزر – ل. هولْ .
8 – الباحثون عن الخلاص ، المحرضون الدينيون :
هـ . هِسّه – هـ . هـ . يانّ .
9- رجال العجائب المحافظون :
غ . بِنْ – إ فون سالامون – إ . يونغَر .
10- بلد آخر :
أ . أندِرْشْ - هـ . بُلْ – ب . فايْس – و . كوبِّنْ .
11 – منطلقاً من هذه النقطة السوداء :
ب . تسيلانْ – ن . ساكسْ – إ . فريد - يو . جونسونْ – إ . باخْمانْ .
12 – نحن الآخرون :
ي . فاوزرْ – هـ . فيشته – أ . شميتْ – غ . ليدِشْ - غ . إلسنَرْ – م . هاوْس هوفَر - ك . كوسينبرغ .
13 – الكتابة بدلاً من القتال :
ب . فِسبَر – هـ . بورغَر - ر . د .برينْكمان - و . ونْدرا تشِك .
14 – آكلُ البشرَ :
إ . كانيتِّي .
15 – الملوك المقدسون الثلاثة ( في إشارة لولادة السيد المسيح ) :
غ . غْراس – هـ . م . إنْزينسبيرغر – ب . رومْكورب .
16 - نساء ست :
ر. هوخ – إ . كِؤونْ – م . فلايسَرْ – ل . رينزَرْ – إ . أيْخِنْغَر – م . كاشْنِـتزْ .
17 – شعراء العنف الشرقيون ( أي في ألمانيا الشرقية DDR-- سابقاً ) :
س. هرملِنْ – س. هايْم – هـ .كانت – ب . هاكْس – هـ . موللر .
18 – بلدٌ بعيدٌ – أدبٌ بعيدٌ :
و . بيرمان – ي . بلِنْـزدورف – إ . شْرِتْماتَر – أ . إنْدلَر – ف . فومان – ف . براون .
19 – لدينا مِزاجٌ سيّئٌ :
ب. هوشِِل – ي . بوبْروفسْكي – ج .د . بْرويْن – س . هاين – و . هلْبِغ – ي . بيكَر .
20 – قُدوات :
س . كيرْش – ب . رايْمان – ت . بْراش – م . مارون – ك . ولف .
21 – أدبٌ عالميٌّ من سويسرا :
ف.دورّينمات – م. فريش .
22 – الحبّ بين إرْنست وفريدريكه :
إ . يانْدْل – ف . مايْروكَر .
23 – غضبٌ في الجنوب :
هـ . أخْتَـرنْبوش – ف . كسافَر كروتْس – إ . يلِينيك – ت . بينرهارد .
24 – الطّرفة . العالم . الحقيقة .
شعراء في فرنكفورت ( المقصود على نهر الماين وليس نهر الأودَر ) :
و . غينازينو – إ . هِنشايْد – ر . غيرهارد .
25 – الكِبَر ( العظمة ) الحقيقيُّ يأتي من الخارج :
و . غ . سيبالد .
26 – من نهاية العالم :
ك . رانسْماير - ر . مناسّيه .
27 – شبّان الذهب ( الرائعون ) الثلاثة :
س . نادولْني – ب . سوسكِندْ – ب . شلِنك .
28 – سياسة ، توعية ، تنوير :
ر . هوخهوثْ – غ . فالرَف – م . فالسَر - ب . شتراوس – ب . هاندْكِه - ج . كلايْن .
29 – الجامعون والحافظون ، النّاقلون ، الموثِّـقون . ( لـ ) اليوميّ ، للتاريخيّ ، للغة . المتفرِّد ( اللامنتمي ) . للأنا :
و . كمبوفِسكي - غ . غوتِّلِه- ي . لوتِّمان – ي . شْرودَر – م . غولد – إ . و . هِنْدلَر .
30 – ما بعد الشرق – قاهروا الحدود ( القصد جدار برلين وامتدادته ) :
إ . شولزِه – ث . بروسِّغ – ر . يرغْل – ك . لانغه-مولَّلر - د. غرونبايْن .

31 – قبل الهدوء :
ي . غرونْتَر – ب. شْتام – ت . مورا – ف . هوبِّه – م . بايَر - ي . هِرمان .
32 – القاصّون :
س . لِنـْـز – أُ . تِم – ي . أرجوني – هـ . كراوسَّر – ف . شولْز – د . كِلمان .
33- الكره والرّقص والحقيقة والحب :
ر . غوتْز – م . بلّلر – ث . مايْنكِه – ب . فون شتكْراد – بَـرِّه – م . لِيـنْـز - ف . زايْموغلو – و . شْواب – س . كراخْت.

- كلمة لاحقة .
- الكتَّاب وأعمالهم .
- كلمة شكر .

---------------------------



( مقدّمةُ الكتاب - سنوات الضوء )
( يقول مؤلف الكتاب الألمانيّ ) :
قبل حوالي العام ( إي في العام 2005 ) وجدتُ في مكتبةٍ لبـيع الكتب القديمة والمستعملة كتيِّباً صغيراً بعنوان " تاريخ الأدب الألماني في ساعة " . كتاب رائع . الشاعر الألماني " كلابوند - Klabund" كان قد كتبه في مطلع العشرينيات ( من القرن العشرين ) . على أقلّ من مئة صفحة يندفع ( الكاتب ) فيها خلال تاريخ الأدب الألماني في الألف عامٍ الأخيرة . بدءاً من الصلاة التي كتبها " أيْـنهارت " كاتب سيرة القيصر ، مروراً بـ " فيلاند – غوتِه – هاينه " ووصولاً إلى نفسه أخيراً ، هائجاً مادحاً وشاكراً نفسه من خلال عالَم الكتب الألمانية وكتّابها ، وهذا حقاً مفرحٌ حقيقة . " توماس مان " يُنهى ( أمرَه ) في سطرين ، " غوتِه " ينال سبع صفحات من المديح . اليوم ، يتم النُّصح - بكلمات منمّقةٍ – قراءة شعراء فترة نهاية القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين المنسِيّين تماماً ( الآن ) . إنه كتاب الإعجاب الذاتي لقارئ حقيقي ، الذي يكتشف علاقات يَنصح بها بإلحاحٍ ، يقسّم ، يطلقُ أحكاماً ويدين حسب ما يشاء . ليس ملتزماً بأي أستاذٍ – بروفيسور – ( أي بأية مرجعية أكاديمية ) ، ولا بمدرسة ولا بعلَم إلاَّ بذاته شخصياً فقط .
لماذا لا يوجد مثل هذا في زمننا ، سألت نفسي عندما قرأت كتاب " كلابوند " ؟ .
( تساءلت لماذا لا يوجد للأدب الألماني خلال الستين عاماً بعد الحرب على ما يبدو ، سوى بعض المحاكّات لحوامل فكرية أكاديمية ، وكتب متينة مسهَبة ( للغة ) الجرمانية ، أو أبحاث خاصة لكتّاب مفردين ، لجماعات مفردة ، لبعض العقود المفردة ( المعينة ) ؟ لماذا لا يوجد كتاب يلامس بوَله كل ( هذه ) السنوات دون أن يكون في الدرجة الأولى ( يمتلك ) التكامل المطلق ، العدالة كلها وفي منظوره الأحكام الشاملة المؤمنة ؟ . لماذا .
لم أجد ( لذلك ) بأفضل النوايا ( لديّ ) سبباً ، لهذا عمدت إلى أن أحاول ذلك بنفسي . من الطبيعي أنه أصبح كتاباً مغايراً تماماً ( لما فكّرت به ) . من المضحك لو شئت أن أقيس نفسي مع " كلابوند " . من المضحك أن أقلد شيئاً ، كان وما زال مـتفرداً .بمقارنة مع كتابه ذي الطلقات السريعة يبدو ( كتابي ) طويلاً مسهباً ، مع أنه لا يضم إلاّ فترة من الزمن ضئيلة إذا ما نظر المرء إلى كامل تاريخ الأدب الألماني. ومع ذلك فهو يحتوي على مرحلة مشوقة بخاصة ومثيرة ، زمن يمتاز بالـتعددية في ألمانيا ، بشرقها وغربها ، في النمسا وسويسرا حيث
( يوجد ) أساليب كتابة مختلفة ( ومتناقضة ) وحيث يوجد – إلى جانب بعضهم بعضاً المشاريع الكتابية والحياتية المثيرة كما لا يوجد إلاّ قليلاً في المراحل السابقة ( لمرحلة ما بعد الحرب هذه ) . كتابة ضد الرقابة على طريق الحقل المر ، كتابة كإعادة اكتشاف ، كفعل سياسي ، كتحرير ذاتيٍّ في الصراع والجنون والحظ . ( كتابة من أجل ) الحياة .
كيف يرتبط ذلك ببعضه بعضاً ؟ لقد أثار اهتمامي ( ذلك ) دوماً . الحياة والكتابة . من أين يأتي أحدهما ؟ كيف تتكون الكتب وبالتالي كيف تتكون الكتب الجيدة وبالتالي الضرورية ؟ وفي أية علاقات ذاتية ، سياسية ، واجتماعية ( تتكون ) أي كفاح سبق هذا ؟ أي إنسان هذا الذي يكتب ( مثل ) هذا الكتاب ؟ .
وهكذا نشأ كتاب ( يوثق لـ ) تاريخ أدب اللغة الألمانية في الستين عاماً الأخيرة ( من خلال ) وصفه لصور ذاتية فردية في الحياة وفي مشاهد العمل ، التي آمل أن تعطي في النهاية صورة متماسكة . من أصعب ( الأمور ) كان اختيار المؤلفين . تاريخ الأدب ( هو ) مشروع غير قابل للاكتمال أبداً . كلَّ من تكلمت معه خلال مرحلة نشوء ( هذا الكتاب ) تقريباً أورد لي ( أسماء )بعض المؤلفين الذين يهمونه كثيراً ، والذي كان يفرح بصورة خاصة ( لكي يرى ) وصفه ( في الكتاب ) وأعترف أنني غالباً ( ما كنت أجيب ) : " آهٍ ، إنني أخشى ألا يكون له ذكر فيه " . " إنها مختارات . إني أراها صائبة ولا لأحد ( الحق ) في التأثير عليها . لقد كان حظاً كبيراً أن دار النشر ( كيبن هويَر و فيتشْ - Kiepenheuer and Witsch ) لم تتدخل إبان زمن تشكل الكتاب بالتأثير على ( الأسماء ) المختارة . إن هذا هو شرط لـ ( كتابة ) تاريخ أدبي ، وكل ما عداه هو بدهيٌّ ( وإن كان هذا ) بالنسبة لدار نشر ( تعمل مع ) العديد من المؤلفين الألمان بالتأكيد يعتبر أمراً ليس من السهل احتماله .
لكن هكذا ( وبهذا الشكل ) كان من الممكن لهذا الكتاب بشكله الحالي أمامنا أن يكون . ( إنها ) قصة مثيرة الاهتمام لمرحلة من أغنى مراحل الأدب الألماني .
==========

أين كنت في الثامن من أيار ؟ (*)

(*) ( تاريخ استسلام ألمانيا ، غير المشروط ، للحلفاء في الحرب الكونية الثانية ) .

- 1 -
أين كانت الشخصيات الأساس ( الهامة ) للأدب الألماني بعد الحرب ، عندما ابتدأت ( هذه الفترة ) ؟ أين كان الكتّاب الألمان في أيار 1945 ؟ أين كان ( الكتّاب ) القدماء ، الذين كانوا في المَهجر ، و ( أولئك ) الذين بقوا ( في ألمانيا ) ؟ أين ( الكتّاب ) الشباب ؟ ( الكتّاب ) الجُدُد الذين لم يكونوا قد أصبحوا ، بعد ، كتّاباً ، الذين لم يعرفوا ، بعد ، بأنهم سيكتبون ( مستقبلاً ) كتباً هامة ؟ أين كانوا في ساعة الصفر ؟
( هل كانوا ) يكتبون ؟ يكافحون ؟ ينتظرون ؟
" غونْـتَرْغراس – Guenter Grass " يكافح . إنه في السابعة عشر من عمره ، يؤمن " بالنصر النهائي " – Endsieg – ( أحد شعارات النازية في الحرب الثانية ) ( من ) حوله يموت آخرُ الرفاق . ( لا يُخامر ) غراس ، الشك ، ولو للحظة واحدة . بعد الة الحرب ،عندما يُريه الأمريكانُ ( المنتصرون ) مع غيره من أسرى الحرب معتقَل ( داخاوْ - Dachau ) ، يقول أحد الأسرى وهو بنّاءٌ ( : ) كل شيءٍ طازج البناء ( هنا ) وكأنه انتهى في الأسابيع الأخيرة – ( هذا القول ) يبدو مقنعاً . غراس ، على كل حال ، لا يؤمن بقصة المعتقل هذه .
" كريستا وولف – Christa Wolf " - ذات السادسة عشر – واثقة حتى النهاية بأن المسألة الألمانية ( الحرب ) لم تُخسَر بعد . وعندما تُصادفُ ، في أواخر ( مرحلة ) هروبها من " لاندسْبِرغ " نحو " شْــفيرين " ، أحدى المسرّحين من معتقلٍ ( ما ) وتسأله عن سبب دخوله إليه ، فيجيب : " أنا شيوعيٌّ " فتقول ( له ) : " ولكن هذا السّبب وحده لا يُدخلُ المرءَ المعتقلَ " .
" فالْتَر كيمبوفسْكي – Walter Kempowsk " ، الذي سيجمَع لاحقاً – بهَوسٍ – كلَّ أثر مكتوب عن زمن النّازية ليضعه في كتب ضخمة ، كان الشبابُ الهتلريّ " H.J. " قد قام بحلق شعره بسبب سلبيّته ( و معارضته للنظام ) . في كانون الثاني ( 1945 ) دُعي للالتحاق بوحدة ( نقل ) المراسلات ( في الجيش ) ، ولكن عندما تقرّر تجنيده في نيسان لصالح ( فِرق ) الـ " سْ . سْ – S.S. " ( وهي قوة مخيفة وقاسية من أمن الدولة ) استطاع التّملّصَ من ذلك . في نهاية الحرب كاد أن يُقـتَل من قبل جنديّ روسيٍّ في معمل للمياه المعدنية في ( مدينة ) " روسْتوك " لأنه لم يستطع أن يعثر له ( في المعمل ) على مشروب كحولي قويٍّ ( Schnaps ) .
المقاوِم الصغير يسمى " بيتَر رومكورْف - peter Ruemkorf " إنه في الخامسة عشر ، عند انتهاء الحرب ، يكتب ، بشكل خفي ، في صحيفة التلاميذ ( المدرسية ) قصائد ضد المدير الموالي للنازية ، وهو عضو في تنظيم أولاد ( تلاميذ ) سريٍّ ( يسمى ) بـ " جماعة ستيبير " ويسرق من معدّات الـ"سْ. أ- S.A. " ( أحد تنظيمات الجيش النازي المخيفة ) ما أمكن ، وعندما يأتي الإنكليز إلى هامبورغ ، يُحيّهم ( بنشر ) شرشف نوم أبيض من النافذة . وبما أن المحررين ( الإنكليز ) لا يوجد لديهم على قوائم المقاومين اسم " رومكورْف " الصغير ، فهو ينظر بشكٍّ إلى أصحاب السلطة الجدد .
" ألفرِد أنْدِرشْ - Alfred Andersch" ، أحد أهم كتّاب السنوات الأولى لما بعد الحرب ، يجلس منذ كتابته رسالة الدكتوراة في حزيران 1944 في معسكر اعتقالٍ لأسرى الحرب على نهر " الميسيـــسبّي " ( في الجزء الأمريكي منه ) مع السّلاحف المائية وطيور البجع تحت الأشجار ، يعمل على إخراج الصفحات الأدبية في مجلة أسرى الحرب الألمان ( المسماة ) " النّداء " ، التي خرجت من هيئة تحريرها ( لاحقاً ) في ألمانيا جماعة الـ " 47 " ( الأدبية ) . لكنه في البدء كان يعمل تحت ( إدارة ) :
" إيريش كِسْتـنَرْ – Erich Kaestner " ( الأديب ذائع الصيت ) في الجريدة المؤسسة حديثاً " الجريدة الجديدة " ، مع أن " كِسْـتْنَر " كان يعلم بأن محرِّرَه الشاب يعمل ، بشكل موازٍ ، على مشروعه ( الأدبي ) الخاص .
" كِسْتَـنر " نفسه ، الذي بقي في ألمانيا إبّان العهد النازي ، والذي كانت كتبُه ممنوعةً ، ( وبرغم ذلك ) كان يكتب للسينما ، كان وقت نهاية الحرب ، على الطريق في ( منطقة ) " تِسْلَر تال " برفقة ستين من صناع الأفلام ، بحجة التصوير ، مع أن الجميع يعرف بأن ذلك لن يعمل ( ينجح ) بوجود الحرب ومع ألمانيا هذه ، وهم لم يكلّفوا أنفسهم حتى عناء وضع فلم في آلة التصوير .
أيضاً الصامت الكبير لأدب ما بعد الحرب " فولنغانغ كوبّن – W Koeppen " كان يعمل بالفلم ، بمقاومة أقل مما حاول فيما بعد أن يوهم به ( الناس ) . لقد كان عضواً في " NSDAP " ( الحزب النازي ) وأمضى الشهور الأخيرة من الحرب في نادي فندق جميل في " فيلدافينغ " حيث انسحب البوهيميون من مونيخ إلى هناك ، وشعارهم " فلنتمتّع بالحرب . السلام سيكون مريعاً ". بعد نهاية الحرب بقليل يأتي"كلاوس مان " ( أحد الأخوة الأدباء الثلاثة المشاهير ) ( إلى هناك ) ليكسب المحرر الشاب " كوبِّن " للعمل في جريدة جديدة ، ولم يلتقيا .
" كلاوس مان – Klaus Mann " يندفع مع الجيش الأمريكي خلال أوروبا المهزومة دون راحة للتنفس – لا أحد من المهاجرين كان يقاوم النظام النازي بعزيمة أشد منه . الآن يندفع ، كمراسلٍ حربيّ ، دوماً إلى الأمام وإلى الأمام . يُجري مقابلة ( صحفية ) مع أسير الحرب " هِرْمان غورينغ – H.Goering "( وهو الفيلد ماريشال ، قائد السلاح الجوي وأحد أهم شخصيات النظام النازي )،
( وكذلك ) مع المؤلف ( الموسيقي ) الذي كان مَحطّ الإعجاب يوماً " ريشارد شتراوس – R.Strauss " يزور ، يوم نهاية الحرب ، بـيت الأهل المدمر في مونيخ ، حيث كان يُجري فيه على ما يبدو في الأعوام الأخيرة للحرب تطبيق برنامج " ولادة الحياة " ( أحد برامج هوَس النازية في بحثها عن نقاء العرق الجرماني – الآري ) ، وقام بالبحث عن ألمان جيدين ( يصلحون ) للآن ، لفترة ما بعد( الحرب ) . لا كاتب يربط بين نهاية الحرب والآمال الكبيرة . لا أحد سيخيبُ ظنه بمرارة من بلد ما بعد الحرب من عالم ما بعد الحرب .
مثل هذا لا يمكن له أن يحدث لوالده ، الذي كاد يبلغ السبعين ، والذي كان على ( ابنه ) كلاوس ، أن يحاول بصعوبة إقناعه بقطيعة النظام الألماني الرسمي . ( كلاوس ) الجالس تحت شمس " كاليفورنيا " ( في المهجر الأمريكي ) يكتب في مذكراته :
" هناك ما يقارب المليون ألماني الذين يجب اقـتلاعهم " . خطابه عن المعتقلات –KZ يبثه المذياع الأمريكي بتاريخ 8/5/1945 ( يوم الاستسلام ونهاية الحرب ) ، وبعد يومين يُنشرُ ( الخطابُ ) في الصحافة الألمانية . يوم ( واحد فقط ) بعد نهاية الحرب يكتب في يومياته بعد استقبال ( شامبانيا ) لدى ( عائلة ) " فيرفيلس " : " الخطة شراء شاطئ خاص صغير للعمل والراحة في الصيف " في الثاني من تموز ( 1945 ) ، وعلى طريقة " توماس مان " ، غير القابلة للتقليد ، قيل : " أخبار عن حالة جوع خطرة منتَظرة في ألمانيا " . " كوكتيل "
( خليط مشروب كحولي) على الطراز القديم ، ( العبارة مكتوبة بالإنكليزية ) . سَكَرْ . غذاء ، متوسط ( الجودة ) كما هو الحال دوماً مع " إيريكا " و ( زوجها ) " أويْغين " . موسيقى وثرثرة، جعة " . لا أحد لاحقاً ، عندما سيتم الكلام علناً في ألمانيا عن مقاعد ( اللوجه - المقاعد المفضلة في مقصورات المسرح ) التي احتلها المهاجرون ( الكتَّاب الراجعون إلى ألمانيا ) ، سيردُّ بإهانة ( على هذا القول ) مثل " توماس مان – Th.Mann "
" هِرْمان هيسَّه – Hermann Hesse " الذي يصغره ( توماس مان ) بعامين ، ستكون لديه ، وهو جالس في " مونتاغنولا – سويسرا " أيضاً هموم باذخة . الصيف حار وجاف هناك في الأعلى في " تيسّين " –يؤرقه مصير أقربائه الذين اضطروا للفرار من " إستلاند " ( إحدى مقاطعات البلطيق ) . في أيار 1945 يأتي إلى " مونتاغنولا " رسام صديق ليرسم لوحة شخصية للشاعر العجوز في جلسات عدة ." هيسّهْ " " يكنَّ مشاعر تعاطف مع المدعوين بـ " المهاجرون في الداخل " . هؤلاء الممتَحنون بالمعاناة ، حسب " هيسّهْ " ، معرّضين لأنهم بخلاف البولونيين والروس وحتى اليهود ، كأفراد وبكل هدوء لأنْ يُضيَّق عليهم وليس لديهم شراكة ، رفاق قَدَرٍ ، شعباً أو انتماءً ( يلجؤون إليه ) . وجهة نظر خاصة ( لهذا ) الحكيم البوذي ( المقيم ) في سويسرا ، كان من الممكن لـ " غوتْفريد بن – Gottfried Benn " ( الشاعر الطبيب )أن يستمع إليها برغبة . الشاعر الألماني الكبير الذي حيّته النّازية بحرارة عام 1933 ( يوم استلام هتلر الحكم ) ، والذي كان يكب سخريته عن المهاجرين ( من الأدباء ) ، يستعدّ ( الآن ) بهدوء ومنذ زمن طويل لأخذ موقعه في زمن ما بعد الحرب . رأي المهاجرين يجب ، على كل حال ، ألاّ يكون له أهمية في ألمانيا ما بعد الحرب : " لا أهمية إن أتوا ، وما يفكرون به ( ولا ) بما يصدرون أحكاماً عنه " .
ولكن لا أحد أقلّ اكتراثاً ( بالمستقبل ) مما هو عليه الحال عند الجندي " إيرنْست يونغر – Ernst .Juenger " إنه ينسحب بعد الاستسلام ( الألماني ) ، وعندما عثر عليه أحد جنود الأمريكان ( من وحدات المارينز – G.I ) ( مختبئاً ) في إسطبل في ( بلدة )" كيرستهوف " مهدداً إياه بمسدسه ، ( ينسحب ) شاعراً بالإهانة إلى مكتبه يقرأ الإنجيل ( فيها ) ، في كتاب مذكراته يستعرض ( فترة ) الحكم النازي ، ويجب القول أن لا أحد ( أكثر منه ) مبكراً ومبسّطاً وصَف الشر ، كما فعله المؤلف في ( كتابه ) " رعودٌ فولاذية " – 1920 - . ملاحظاته المكتوبة حول " الشعبيّة المختَرِقة " ( ، ) هايْنرش هِمْلَر ( أحد قادة النازية ) والهلع المُمنهَج ، والإرهاب اللطيف ، تعتبر من أفضل ما كتب في هذه الأيام ( يومئذ ) : " التّقدم المجرّد . يمكن لجلادنا أن يظهر خوف الكوّة التالية . اليوم يكتبُ لنا رسالة مسجّلة ، وفي الغد حكماً بالإعدام . اليوم يثقبُ لنا بطاقة السّفر وفي الغد مؤخّرةَ الرأس . كلاهما ينجزه بنفس الدقة المفرطة ( للإحساس بالواجب الوظيفي ) ، وبنفس الشعور بالمسؤولية " . للسنوات القادمة سيُمنع " إ. يونْـغَر " من النشر في ألمانيا .
" ما تعنيه حياة يهودي خلال سنوات الحرب ، لا داعي لأن أبيِّنه " ( هكذا ) يكتب الشاعر اليهودي ، الذي يسمي نفسه الآن " باول سيلان – Paul Celan " باختصارٍ وسخرية بعد أربع سنوات ( من انتهاء الحرب ) . ما بين ( 1941 – 1944 ) قضى " سيلان " الذي كان اسمه " أنْشيل – Anshel " خدمةً في مجموعة العمل الإجباري برومانيا . كان أهله قد قتلوا عام 1942 في معسكر ( الاعتقال ) ميخالوفكا في شرق ( مدينة ) البوغ . أصدقاء " سيلان " الذين رُحِّلوا مع أهلهم إلى هناك ، عادوا مع ذويهم . " سيلان " استطاع التّملص من الترحيل ( القَسري ) – Deportatian - . لقد لامَ نفسه طوال حياته لعدم مرافقته لأهله وعدم تمكّنه من دفع الموت عنهم . في مطلع عام 1945 يغادر مدينة " تشير نوفيس " ويهرب إلى " بوخارست " حيث يعمل كمحرر ( أدبي ) ومترجم . إبان ذلك يكتب ( Todesfuge ) ، القصيدة التي يصوغ فيها بلغة لا مثيل لها ، أهوالَ ذاك الزمان .
صفاراتُ الإنذار تدوّي ثلاث مرات في الجريدة ، في " سانتو دومِنغو " ( تقع في البحر الكاريبي ) . هذا يعني : أنباءٌ عالميةٌ ذات أهمية قصوى . المذياعُ ( الخاص ) بـ " هيلده دومين – Hilde Domin " معطّل ، لهذا تهر ع إلى الشارع ، لأقرب هاتف ، حتى تستفسر عما حدث . متشرد دومينكانيّ على طرف الشارع يقول لها : " أخبار رائعة ، سينيورا ، رائعة . لقد انتهت الحرب . في هذا المَهجر الفردوْسيّ ، الرجل الدومينكانيُّ الذي أحضر لها خبر نهاية الحرب ، يريد فوراً برفقة رئيسه ، وهو فرنسيٌّ صاحب صالة عرض سينمائي ، السفر إلى باريس .
" هـ.. دومين " تتذكر لاحقاً : " لقد كان هو إذن ، الخبرَ المنتَظر بشوق طويل . لا أشعر بشيء ... كيف ستسير الأمورُ عندما يكون المرتَقَبُ ( بشوق ) هنا والتّوتر يطلِقنا ( ؟ ) . ستمر تسع سنوات قبل أن تعود الشاعرة اليهودية مع زوجها إلى أوروبا .
أما " أرنوشميت – A.Schmidt " التي تطوّع للتو للذهاب إلى الجبهة ، حتى ينال بعدها إجازة لزيارة البلد ، فهو يجلس الآن في معسكر أسرى الحرب الإنكليزي ، يكتب قصصاً عن الساحرات والأشباح الأساسين ، الذين يفركون أيديهم ، ثم ( يكتب ) جملة مذهلة متفائلة بالحياة " أريد أن أعدو كالمشعَل خلال المدن ( صارخاً ) : عيشوا إذن ، عيشوا إذن . "هذه العبارة يستعملها لاحقاً في ( كتابه ) " مساء مع حِرْف ذهبي " – 1975 - ، وهناك يستعملها ( موظفاً إياها ) في الخاتمة بطريقته المتفائلة بالحسّ المقروء ، هاتفاً : " اقرأ إذن ، اقرأ إذن " .
النمساوي " هَيْميتو فون دودَرَرْ – H.von oderer " عضو في الحزب النّازي ، الذي سيكتب أكبر روايات اللغة الألمانية بعد الحرب تضخماً ، والذي يعمل حالياً على كتابه ( الرواية ) الأكثر تضخماً من كل ما عداها ، وهي" الأشباح " ( الأرواح الشريرة ) – 1956 - يجلس الآن في معسكر أسرى الحرب في النّرويج ، يقرأ ط" الرحلة الإيطالية " لـ " غوتِه " ( شاعر ألمانيا العظيم وولفغانغ يوهان فون غوتِه – بالتاء المخففة ) وينفي بساطة كل الأعوام الأخيرة ( قائلاً ) : " الدولة الألمانية بين 1933 – 1945 ) لم تكن موجودة أبداً ، لقد عرفت ذلك دوماً ، وهل يمكن أن أنسى ذلك الآن ؟ " .
المخبر " هاينرش بولْ – Heinrich Boell " يجول في البلد بوثائق مزورة ، يختبئ عند عائلته في قرية صغيرة على ( نهر ) الرّاين ، لكنه يضطرّ ، في نهاية نيسان ( 1945 ) مرة أخرى إلى القتال ، ويقع عندها " أخيراً " – ( حسب قوله ) – في معسكر اعتقال أسرى حرب أمريكي . ابنه الأول " كريستوف " يولد في حزيران ( لكنه ) لم يصل ( من العمر ) إلى الشهور الثلاثة .
هانس هنّي يان – Hans Henny Jahn " يشعر بنفسه فجأة في عزلته في " بورن هولم " منجذباً قسراً إلى ( الدخول ) في أحداث العالم " عندما ظهر عند منزلي – ذات صباح – جنودٌ روسٌ ومناضلون دينيماركيون ، أدركت بأنني لم أكن إنساناً ، لست شاعراً ، لست مناضلاً من أجل الحرية في المشاعر والإرادة ، وإنما ألماني خاسر " .
الصغير " بيتَر هاندكه – Peter Handke " ، الذي سيمحو لاحقاً المجموعة ( الأدبية ) 47 بجرة قلم ، يسافر مع أمه ، سيئة الحظ ، من ( مدينة ) كارتِن – ( في النمسا ) – نحو برلين ، لعائلة والده – لم يكونوا يرغبون بهما عندهم ، ولهذا يتابعان سفرهما ، ويعودان فور انتهاء الحرب – أبوه يعيش ، خلال هذا ، مع امرأة أخرى . ولكنهم يجدون حلاً . إنهم يتابعون سفرهم ، كعائلة صغيرة نحو برلين – بانكو. " بيتر " سيبلغ في كانون الأول الثالثة من العمر .
" توماس بيرنهارد – Thomas Bernhard " بلغ الرابعة عشر : وهو مؤلف الغضب العالمي وسوء الحظ الكبير في السنوات القادمة ، يعيش حياة مريعة في مدرسة داخلية يديرها الحزب النازي في " سالبورغ " ( النمسا ) أربعة من أصدقائه انتحروا ( هناك ) . أما هو فيمضي النهار مع أفكار الانتحار ويعزف في غرفة الأحذية الصغيرة ، على الكمان ، حتى أنه لم يسمع صفارات الإنذار من ( ارتفاع الصوت ) العزف وأفكار الانتحار . لاحقاً تحضره الأم ( من هناك ) إلى الريف ، لتعيده ( من جديد ) بعد الحرب مباشرة إلى المدرسة الداخلية . هنا تمّ استبدال ( أسلوب التعليم ) النازي بآخر كاثوليكي لا يقل عنه قسوة واحتقاراً للإنسان . لم يغيّر نفسه . ( ولكن ) بقي الهلع وانعدام الأمل .
في مِصَحّ الأمراض العصبية السويسري " هيريساو " يجلس ، منذ أعوام عديدة ، الشاعر سابقاً السويسري " روبرت فالسَرْ – Robert Walser "، يجول متنزهاً ، ولم يعد يكتب الشعر . حتى عام 1933 كتب على قصاصات صغيرة روايات كاملة ، ( أعمال ) درامية ، عدداً لا يحصى من القصص ، التي سيتمكن المرء بعد موته بفترة طويلة في السبعينيات ( من القرن العشرين ) من فك رموزها . ولكن الآن 1945 لم يعد يكتب شيئاً . إنه راضٍ يقول للأطباء في المحضر الاستشاري الطبي السنوي . ( يُسأَل ) إن كان يرغب في كتابة شيء ما ، فهو هناك ، في العالم الخارجي كاتب مشهور . لا ذلك ( المشهور ) ليس هو . لا جدوى من كل رواياته ، يرد بتكرار . إنه يقرأ المجلات الموجودة ( في المِصحّ ) . يذهب للتنزه . لا يريد أن يلحظ شيئاً عن الحرب هناك في الخارج ، عن نهايتها ، عن الكتابة هناك في الخارج والبَدء من جديد . هناك في ألمانيا ، في العالم . وبهذا ( ومن هنا ) نبدأُ الكتابة .
============================================

Dr.med.Shaker MUTLAK
E.-MAIL:mutlak@scs-net.org