نواصل تحليلنا لموضوع الإستشراق، شاكرين لكل الزملاء تشجيعهم، وخاصة الأخ الكريم ياسين بلعباس.
الإستشراق وقضايا العقيدة الإسلامية:
شكل ظهور الإسلام كدين سماوي ثورة كبرى، حوّلت العرب الجاهلين، من مجتمع قبلي متناحر إلى أمة موحدة، ذات عقيدة لها بعد عالمي، أقيمت على أساسها دولة إسلامية عظيمة غيرت مجرى التاريخ الإنساني. إذ استطاعت وفي مدة قياسية، أن تنتصر على حضارات، وأمم قوية كانت تسيطر على العالم آنذاك.
وسرعان ما تبلورت حضارة عربية إسلامية، تستمد جذورها من عقيدتها، وتشرّع قوانينها من دينها. فكان للإسلام كل الفضل في تأسيس حضارة العرب والمسلمين، وتميزهم كأمة لها خصوصياتها الحضارية والثقافية.
أدرك المسلمون أن المصدر التشريعي الأساسي هو القرآن الكريم ثم السنة النبوية، وبذلك قطع المسلمون صلتهم بالجاهلية، واستمروا أقوياء أعزاء، ما استمسكوا بهذين الأصلين، واستمرت عظمة المسلمين قرونا طويلة، حتى انحرفوا عن مبادئهم الأساسية في التشريع، فانهارت دولتهم وضعفت قوتهم، ووهنت مقاومتهم فطمع فيهم غيرهم، وسيطرت عليهم دول الغرب الاستعمارية.
ورغم حالة الضعف التي كان يعانيها المسلمون فقد ثاروا وكافحوا الاستعمار والغزو الأجنبي، وأدرك الغرب خطورة تعاليم الإسلام، على وجوده، والتي كانت تحث المسلمين على الجهاد.
ولذلك كان من الطبيعي أن يتجه الغرب إلى محاولة القضاء على التشريع الإسلامي، والتشكيك في تعاليم الإسلام والطعن في صلاحياته للقضاء على روح المقاومة والجهاد، وإخضاع الشعوب الإسلامية، وإلغاء ارتباطها بالإسلام وتشريعاته ليستطيع التحكم فيها.
وبناءا على ما سبق إثباته سابقا، فقد حدث الاحتكاك المبكر بين الإسلام والغرب، واعتبر هذا الأخير حضارة الإسلام أخطر أعدائه، وخاصة مع انتشار الإسلام وثقافته في كل أنحاء العالم.
ولما كانت مصادر الإسلام متمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي، فقد تناول الغزو الفكري بكل أدواته هذه المصادر، بالتشكيك والثلب والطعن، رغبة في ضرب الأمة الإسلامية في جوهرها.
ونظرا إلى ارتباط العقيدة بالشريعة في الإسلام ووحدة مصدرهما، رأيت من المناسب أن أقسم مجال العقيدة الذي تناوله الإستشراق إلى ثلاثة أسس هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وأخيرا التاريخ الإسلامي (باعتباره مجال النشاط السياسي والثقافي للمجتمع الإسلامي.)
1) القرآن الكريم:
أعتبر القرآن الكريم عند المسلمين المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية، وكلام الله الموحى به إلى النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، وهو محفوظ بنص القرآن من التحريف والتغيير وهو صالح لكل زمان ومكان.
ونظرا إلى هذه المعطيات كان الاهتمام الكبير من طرف الغرب وأدواته الغازية بالقرآن الكريم، وذلك لاعتبارات كثيرة نذكر منها:
أولا: التشكيك في حقيقة القرآن ذاته، لأن تحطيم المسلمين وغزوهم في نظرهم لا يتم إلا من خلال تحطيم عقيدتهم وحضارتهم.
ثانيا: القرآن هو المصدر الأول لفهم الإسلام عقيدة وشريعة.
ثالثا: التعرف على طبيعة الإسلام ، وموقعه من الشرائع الأخرى.
رابعا: حاجة التبشير والاستشراق لفهم القرآن، وذلك لإيجاد وسائل الرد عليه.
ومما سبق ذكره من اعتبارات تناول المبشرون والمستشرقون ـ وبوسائلهم المختلفة ـ القرآن الكريم بالتشكيك والنقد وإطلاق الشبهات حوله وخاصة ما يتعلق: بمصدر القرآن الذي يعتبره المسلمون كلام الله لفظا ومعنى، أما المبشرون والمستشرقون فيعتبرون القرآن من تأليف الرسول، وهو من عنده أو أخذه من الرهبان المسيحيين أو الكهان اليهود، أو خليط من المسيحية واليهودية ويتلخّص موقفهم في أن: » القرآن من عند محمد ، وهو زعيم ديني ومؤلف القرآن. «
وقد قال كثير من كبار المستشرقين بهذه الشبهة، مما كان له تأثير كبير على غيرهم من غير المستشرقين، وعملوا على إظهار هذا الموقف المجحف كما لو كان حقيقة علمية.
يقول (هاماتون جيب H.Gibb) (1895،1971) عن القرآن الكريم: » إنه مجموعة الخطب الواردة على لسان محمد خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، وهي تشكل في حد ذاتها تعاليم دينية وأخلاقية مختصرة وحججا ضد خصومه...كان النبي محمد يعتقد أن جميع هذه الآيات أوحيت إليه، ولا تشكل في حد ذاتها فكرته الواعية. «
أما بعضهم قد دفعهم تشابه القصص القرآني مع ما جاء في التوراة والإنجيل إلى إرجاع القرآن إلى مصادر مسيحية ويهودية ، حيث يقول بهذه الشبهة على سبيل المثال (اغناز جولدزهيرIgnaz Gol zhir )(1850،1921): »فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية، عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية ... فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا. «
وإذا كانت شبهات المستشرقين استطاعت التأثير في الأوساط الغربية ، وذلك بتشكيل رأي عام غربي لا يعترف بالإسلام، ولا يعرفه بشكل موضوعي، فإن تلك الشبهات لم تؤثر على المسلمين نظرا إلى تمسكهم بعقيدتهم.
وبسبب ما سبق حاول بعض المستشرقين اعتماد طرق جديدة لاختراق العقيدة، وذلك بالبحث في القرآن ذاته، والقول بتناقضه، وغير ذلك من الشبهات.