بوّابة السّلام السَّمائيّ
والمَعبَر إلى مَواطن التِّنين الذَّهبيّ
دراسة بقلم : د. شاكر مطلق

_ ( اطلبوا العلمَ ولو في الصين ) .
هذا الحديث الشريف الذي قيل منذ حوالي ألف وخمسمئة عام ، لا يزال ساري المفعول حتى اليوم .
فعلماء الصين امتازوا منذ القديم ، وحتى العصر الراهن باهتماماتهم العلمية وباكتشافاتهم المذهلة أيضاً .
لن نتحدث عن إنجازاتهم في علم الفلك مثلاً،الذي جعلهم منذ القديم يرصدوا ظهور"المذنب هِلي" وخسوفات الشمس وكسوفات القمر، وفي العام 1054 م رصْدَ انفجار نجمٍ عملاقٍ " سوبر نوفا " ، وجعلتهم يخترعون الورق ، الذي أسهم في تطوير الفكر البشري والأدبي بخاصة ، وفي نشره ، ولا عن اكتشاف البارود ، من خلال الألعاب النارية الجميلة ، الذي غدا وباءً على البشرية كما أدَّى لاحقاَ اكتشاف
( الديناميت ) على يد ( ألفريد نوبل ) النرويجي ، ولا عن تربية شرانق الحرير التي وصلت العالم الخارجيَّ وأذهلته ، وخلقت ما أسميه بـ ( ثقافة الحرير ) ، تلك المادة الطبيعية ، عجيبة الصفات ، التي هُرِّبت من الصين على يد راهبين مسيحيين ، في عصاتين مُفرغتين _ تحت طائلة عقوبة الإعدام _ إلى بيزنطة وإلى العالم القديم بعامة ، حيث غدت سورية وقتها ، أحد أهمّ مراكز الإمبراطورية لإنتاج الحرير ولا عن الاكتشافات العديدة الأخرى ، ولكن ماذا عن الأدب وعن الإبداع وعن التألق فيما يسمى اليوم
( بالعلوم الإنسانية ) ؟
هل يمكن لنا الآن أن نسأل ونقول : اطلبوا الأدب ولو في الصين ؟!
الجواب لن يكون سهلاً ، وسيكون إشكالياً أيضاً حسب قراءاتي الطويلة والمتعددة في أدب الصين وتاريخه واستناداً إلى مشاهدتي الشخصية من على جدار الصين ومن قصور ( المدينة المحرمة ) وساحة ( بوابة السلام السَّمائي ) التي تمتد أمامها ، إلى هذا العالم المغلق المثير للدّهَشِ وللعجَب .
الإنسان الصيني معروف ، منذ القِدم ، بكونه إنساناً واقعياً " برغماتيّاً " يُعنى بالأمور العملية وبالحياة اليومية ، الأمر الذي انعكس أيضاً على الأدب الصيني بشكل حاد حيث لم يكن عندهم في البدء ، أية أساطير ولا آلهة ولا أناشيد بطولية .
كتاب آي _ كنغ ( I _ King ) أي كتاب التحولات ، يُعتَبر الكتابَ الأقدمَ ، المحتوي على القوانين اللاَّهوتية والتصورات الدينية ، التي كان يتم عرضها بشكل فقير بالتَّصورات، ومتعلق أكثر بالنبوءات .
ووجدَ هذا الكتاب في العقود الأخيرة ، اهتماماً في الغرب ، لدى نخبة قليلةٍ وخبيرة من المهتمين بالفكر والأدب الصيني ، وذلك بسبب صعوبات فهمه .
من الكتب القديمة عندهم هناك كتابان هامان ، الأول منهما : كتاب شو _ كنغ ( Shu _ King ) وهو عرض تاريخي وجغرافي يحتوي على العادات والتقاليد والتعليمات المتعلقة بالأخلاق وبالعادات الحميدة الواجب اتباعها والسّعي وراءها .
من خلال هذه الكتب الهامة في تاريخ الفكر الصيني ، يتبدَّى لنا ، نوع الشعور الحياتي الحاسم لديهم والمتمثل في : القانون والموروث ، حيث الشكل والنمط المألوف يسيطر على كل مناحي الحياة ، وهذا ما يقود إلى الفراغ والتَّجمد والطريق المسدود الذي طال مختلف نواحي الحياة ، ومنها الشعر، وبخاصة الشعر الوجداني والغزلي الذي يشكل أساس الشعر الصيني بعامة ، والذي وصلنا منه على مدار القرون ، تيار ضخم من القصائد تُعدُّ بالآلاف .
في كتاب الشَّي _ كنغ ( Shi _ King ) نجد أكثرَ من ثلاثمئة قصيدةٍ تُعتَبر من أفضل قصائد الغزل القديمة في الصين.يُنسب هذا الكتاب كما الكتب الواردة أسماؤها أعلاه إلى الحكيم الشهير"كونغ_فو_تسي" (Kung_fu_tse ) المعروف عندنا ، تحت اسم " كونفوشيوس "_ 551 _ 479 ق.م _ والذي قام بهذه الاختيارات المعتَبرة بالمقارنة مع غيرها من الموروث الشعري أنموذجية ، وإن كانت لا تصل إلى القارئ في خارج الصين ، إلاَّ كأنموذجات مملّة لأنها برغم الاختلاف في موضوعاتها ، تتشابه كما تشبه الوردة الوردةَ الأخرى ، حيث يغلب عليها طابعُ اليوميَّ : الحب _ العائلة _ صيد السمك _ العمل _ الفصول ... إلخ وتبدو تارة مشاكِسة ، بطولية ، ثرثارة ، وبيتيّة ساذجة ... إلى آخر هذه الصفات . وتتّسم أناشيدُ الحب والطبيعة منها بخاصة بطابع الأناشيد الشعبية المهذّبة ، التي يرافقها أحياناً عبَقٌ رقيق ، لكنه ممزوج بتلاعبٍ لفظيٍّ وبتَكرار صوَري وبزخارف ( بلاغية ) قد تكون يومها مفهومة وربما مرغوبة من الناس أيضاً ، غير أنها لا تحمل لنا ، في هذا العصر بعد أكثر من ألفين وخمسمئة عام ، الشيء المدهشَ والمختَرقَ والمثيرَ للمشاعر ، مثل ذلك الذي نجده ، على سبيل المثال ، في شعر " الهايكو " و " التَّانكا " اليابانيين .( للمزيد حول الموضوع انظر ترجماتنا أدناه ) (1).
سأقدم الآنَ ترجمتي عن الألمانية لمثل قصائد ذلك الوقت ، وكان قد ترجمها عن الصينية مباشرة
" فيكتور فون شْتراوس " _ ( Viktor v. Strauss ) ونشرها في كتاب ( شعر من كل العالم ) (2)
تقول القصيدة :
يدُكِ ناولَتني البطِّيخَ
فليكنْ جزاؤكِ حجَرَ الياقوتِ
لن يكونَ هذا جزاءَكِ فحسبُ
لا ، جزاؤكِ الدِّائمُ سيكون حبِّي
* * *
يدُكِ ناولَتني الدُّراقَ
فليكنْ جزاؤكِ حجَرَ الماسِ
لن يكونَ هذا جزاءَكِ فحسبُ
لا ، جزاؤكِ الدَّائمُ سيكون حبِّي
* * *
ثم يتلو مقطعٌ آخرَ بنفس الكلمات ونفس الترتيب ، والاختلاف يكون في نوع الفاكهة فحسب ، حيث تصبح تارة ثمرةَ الخَوخ ، ويصبح الجزاءُ " حجرَ السَّفير الأزرق " ... الخ .
اللغةُ الصينيةُ وشكلُ الخطِ أيضاً تغريانِ الشاعرَ الصينيَّ القديمَ إلى اللعبِ والتَّلاعبِ بالإمكاناتِ الشكلانيةِ لرموزِ اللغةِ وإلى التَّمسك بالموروثِ الذي يُفضي إلى تلك الغنائيةِ الفارغةِ_كما رأينا في النص أعلاه _ .
إنّ ترجمة الشعر الصيني ستظلّ دوماً ، شأنها شأن ترجمة الشعر بعامة ، أمراً غير مكتملٍ وبخاصة هنا ، حيث تأخذُ مسألةُ توزيع رموز اللغة بأشكالها المتعددة جداً على الورق أو غيره أهميةً خاصةً مِن حيث علاقة تلك الرموزِ ببعضها ضمن إطار الشكل العام للقصيدة ، وهذا بالذات غير قابل للنقل أو الترجمة إلى لغاتٍ أخرى تعتمدُ الأبجديةَ في الكتابةِ .
هذه الحقيقةُ مثيرةٌ جداً _ بالنسبةِ لي _ حيثُ لاحظتها منذُ أكثرَ مِن ربعِ قرنٍ على الألواحِ الطينيةِ غريبةِ الشكلِ ( كبشٌ مِن الطينِ ) وعلى مخروطٍ مِن الزجاجِ _ ضمن مجموعتي الأثريةِ _ ، وكانت الرموزُ المسماريةُ تبدو عليها وكأنها موزَّعةً بطريقةٍ عشوائيةٍ ، غير أنَّ الأمر لم يكن كذلك بعدَ أنْ تكلَّمتُ وناقشتُ هذه النقطةِ مع بعض المختصِّين في اللغاتِ القديمةِ من علماءَ عربٍ وأجانبَ أيضاً ، لأنَّ قراءة النَّصِّ مِن جوانبَ مختلفةٍ أدت إلى دلالاتٍ مغايرةٍ لنفسِ النَّص .
أما الصعوبةُ الأخرى في قراءةِ الشعر الصيني القديم وفي ترجمته فهي تكمن في معرفة رموز اللغة القديمة ، التي يُطلَب من المثقَّف أنْ يعرف منها أكثر من أربعة آلاف رمز لغوي ( حرف ) ، وحتى يصلَ إلى مرحلة أعلى من الثقافة ، كالشعر مثلاً ، عليه أن يعرف أربعة آلاف رمز آخر لأن اللغة الصينية القديمة تحتوي على حوالي أربعين ألف رمز .
هناك مسألة هامة أخرى وهي أنَّ الأدب الصيني الكلاسيكي يستعمل كتابةً خاصةً به ولغةً خاصةً أيضاً بعيدةً كلّّ البعد عن الكلامِ المُتداوَل ، بشكل لا يسمح بالتعبير عنه بالكلام الشفهيِّ ، وكانت هذه اللغة القديمة ضروريةً لدخول الموظفين في خدمة الدولة ، وكان لِزاماً عليهم إثبات معرفتها بفحوصٍ خاصةٍ ، واقتصرت معرفةُ اللغةِ القديمةِ على الأغنياء ، الذين يستطيعون تَمويل دراسة وتعلُّم أبنائهم لها فترةً شاقةً وطويلةً ، وكان من الضّروري ( ترجمتها ) _ إنْ صحَّ التعبير _ مِن الكلمة الصينية المكتوبة إلى تلك المقروءةِ عند الناس العاديين حتى يتمكنوا مِن فَهمها ، كما ذكَر عالمُ اللغة الألماني" كارلْ أريندْ "_( Carl Arendt).
بالمناسبة لقد كَتبَ " شيمي ماو " _ الرفيق ماو _ ثلثي قصائده الـ ( 37 ) على هذه الطريقة المعقدة الكلاسيّة التي تَلتزم المقطعَ ( الشّكل ) الكلاسيكيِّ دون الالتزام بالنوعية الصوتية أو بالموضوع ، أما الثلث الأخير من قصائده فقد كتبها على طريقة قصيدة ( شي _ لو ) _ Chi _ Lu _ الغنائية ذات السطور الثمانيةِ التي تحتوي كلٌّ منها على سبعةِ أقدامٍ _ رموزٍ _ تلفظُ في الصينيةِ كمقطعٍ واحدٍ _ وهذا النمطُ يَتْبعُ نوع ( الشِّي _ Chih ) أي القصيدة الحقيقية ، وله قصائدَ كُتبتْ على أساليبَ قديمةٍ أخرى .
كما في قصيدةِ ( تسو ) كذلك نجدُ قصيدةَ ( شي ) مُقفَّاةً أيضاً ، غيرَ أنَّ أنظمتها المتعلقة بالإيقاعِ وبالنُّطقِ تتطلَّبُ جهداً عالياً ، وشَهِد علماءُ اللغةِ الغربيونَ لـ( ماو _ تسي _ تونغ ) بسيطرةٍ كافيةٍ على قواعدِ وأساليبِ كتابة هذا اللَّونِ الشعريِّ المعقَّد . ( للمزيد انظر دراستنا في الآداب الأجنبية _ دمشق _ العددان 43 _ 44 ربيع وصيف 1985 _ السنة الثانية عشر _ ص 201 _ 220 ) .
لقد تطوَّرت قصيدة ( تْسو _ Tzu ) في القرن الحادي عشر على يدِ بعضِ الشعراء من أمثال ( سو تونغ بو _ Su tung po ) وأدخِلتْ فيها موضوعات بطولية ، ولم تعد تقتصر على مواضيع الحب فقط ، وعلى الرُّغم من أنها لم تعد تُرافَقُ بالموسيقى ( الخارجية ) إلاَّ أنها لم تزل حافلةً بموسيقاها الذَّاتيةِ.
وهي تتألفُ من مقاطع طويلة وقصيرة أي من ( أبيات ) ثلاثية ورباعية وخماسية أو أكثرَ وهي ليست
( شعراً حراً ) وتستمدّ من هذا التَّباينِ العددي إيقاعَها الخاص . هذه القصيدةُ الغنائية الصعبةُ كانت تنظم وترتَّلُ على ألحانِ مقطوعات موسيقيةٍ جاهزةٍ ترافقها آلاتٌ وتَريَّةٌ ومزمارٌ في البّدءِ ، وتعتبرُ استناداً إلى رقتها وعذوبتها من روائع أدب الحب الصيني وتحتلُّ مكانةً مرموقةً في الأدب العالمي .
لم يكن مِن النادرِ أبداً في تاريخِ الصينِ القديم أنْ يكتبَ بعضُ الحكامِ والأباطرةِ والقادةِ الشعرَ ، غير أنَّ القلةَ القليلةَ كان يمكن لهم القولَ ، كما قالَ الإمبراطور ( بو شو إي ) _ Po Chu I _ عن نفسه : بأن شعره يروى على" أفواه الرّعيانِ وخادمي الخيولِ ويعلق على جدرانِ القصورِ والمعابد ومحطات البريدِ ".
في حوالي القرن الثاني الميلادي أحبَّ القيصر ( تساو ، تساو ) _ Tsao Tsao _ وأولادُه جميعاً الشعرَ وكتبوه أيضاً ، وأما القيصر ( تاي تسو )_ Tai Tsu _ الذي انتصر على غريمه القيصرَ( الشاعرَ ) ( لي يو ) _ Li Yu _ فقد قال عنه ساخراً : ( لو أضاعَ " لي يو " الوقتَ في إدراةِ الإمبراطورية ، بدلاً مِن إضاعته في الشعر ، فكيف كان ممكناً أن يصبحَ أسيري ؟! ) .
هذا القيصرُ المهزومُ عسكرياً وسياسياً ، المنتصرُ شعراً هو الذي أوصلَ قصيدة ( تسو ) الكلاسيَّةِ المذكورةِ أعلاه إلى الازدهار والانتشارِ ، ويذكّرني هذا بالبناء الخاص لقصيدة ( الهايكو ) اليابانية وقصيدة ( التَّانكا ) وبالقيصر ( ميجي ) الذي يُعتبَر مِن كبارِ شعرائها ، إلى جانب شعراء ( الهايْكو ) العظام من أمثال ( بوزون ) _ باشو _ عيسى _ شيكي _ وغيرهم ، وما يزال هذا النمطُ الشعريُّ يَلقى ، حتى اليوم في اليابان ، الرعايةَ والاهتمامَ في بِلاطِ القيصرِ وفي أوساطِ المثقَّفينَ ، الأمر الذي لمَسْته شخصياً هناك ، ولم أجدهُ إبَّان زيارتي للصين الشَّعبيةِ ، عند بعضِ مَن تحدثتُ إليهم مِن المثقفينَ في جامعة " بايْجين " _ بكّين _ ، وربما يعود ذلك إلى الصعوبة القصوى في معرفة رموزِ اللغةِ الصينيةِ القديمةِ .
العادات والقانونُ ، الأخلاقُ والآدابُ ، التعليماتُ الناظمةُ في علاقاتِ التَّعايشِ بين الناسِ ، لعبتْ دوراً هاماً في حياةِ الصِّينيين ، فلا عجبَ إذن أنْ تحتلَّ الحِكَم والأمثالُ مكانةً هامةً في آدابهم الكلاسية ِ ، ويُعتبرُ الحكيمُ _ الفيلسوفُ ( كونغ _ فو _ تسي ) _ Kung _ Fu _ Tsi _ ( كونفوشيوس ) من أهمِ مَن كتبَ في هذا المجال ، الأمر الذي رفعه تدريجياً عند الشعب الصيني بخاصةٍ إلى مرتبةِ القديسينَ العاليةِ ، حيث أصبحت آراؤهُ وتعليماته موضعَ تدريسٍ وبحثٍ حتى في الجامعاتِ ، لأنه صارَ معلّماً عالمياً .
إلى جانب كتاب ( تشون _ تْسينْ ) _ Tshun _ Tsin_ أي كتاب ( الربيع _ الخريف ) وكتاب
( تسو _ تشوان ) _ Tso Tsohuan _ نجد أهمَّ أفكاره الرئيسةَ في كتابه ( لون _ يُوِي ) _ Lun _ Yue _
أي كتاب ( المحاورات ) الذي يعتبر من أهم كتبه وأعماله الفكرية ،الذي نذر نفسه فيها من أجل تربية الإنسان لأنْ يصبحَ ويكونَ إنساناً حقاً . إنه المعلّم اليومي الذي تنهَلُ الجماهيرُ من حكَمِه وتعليماته الموجّهة دوماً والمتوجّهةِ نحو نواميس الحياة المُعاشَة اليومية وضروراتها فقط ، على الرّغم من أنّه لا يُعير الحياةَ ، بحدّ ذاتها ، كبيرَ اهتمامه ، ناهيكَ عمّا يسمّى بالحياة الأخرى ، لأن جوهرَ فلسفته هو :" هنا ، والآن " .
هذه المقولة ( الفلسفة ) تذكرني بشاعر ألماني هرمٍ ، قرأت وترجمتُ له العديد مِن مجموعاته الشعرية التي صدرت ضمن سلسلة آفاق ثقافية ( رقم 29 – 10 – 2005 ) تحت عنوان ( كل شيء الآن )، عن وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية ، ويدعى " فيرنَرْ شْبرِنْغَرْ " _ Werner Springer _ وهو عالم في اللآَّهوت والفلسفةِ وبخاصةٍ فهو خبيرٌ في " التَّأمُلاتِ " ، زار الهند وسكن المغارةَ لعدةِ سنواتٍ ، وتأثَّرَ ، حسب رأيي ، كثيراً بالمعلم الكبير " كونفوشيوس " في كتاباته الشعرية ، واسعة الانتشارِ التي طُبعت منها ملايين النسخ ، حيث يبدو التأثير " الكونفوشيسيُّ " واضحاً تماماً عنده ، وبخاصةٍ في مجموعته الشعرية المسماة " كل شيء ( الآن ) كل شيء " ، التي نجدُ فيها روحَ الكونفوشيسيَّة والتَّأملاتِ في الكون والإنسان واضحةً متوهجةً .
لقد غدت تعليمات " كونغ _ فو _ تسي " ، على مدار القرون ، إرثاً للبشرية جمعاء يُدرَّسُ حتى في الجامعاتِ ، شعارُها ( تعليماتنا مخلصةٌ لذاتها ، طيبةٌ متسامحة مع الآخرين : فيها تجدُ كلَّ شيء ) .
على الرغم مِن أهمية " كونفوشيوس " البالغةِ لدى الشعب الصيني وغيره مِن الأمم ، فإنَّ " لاو _ تسي " _ Lao _ Tse _ ، معاصر كونفوشيوس الشابْ يومَئذٍ ، ربما يعتبر بالنسبة للعالم الخارجيِّ أكثر أهميةً منه . إنه صوفي يرتبط به مفهومُ " التَّاويَّةِ " ( الطَّاويَّة ) _ Tao _ وهو مبدأٌ في الحياةِ والتفكير وليس ديناً بمعنى الكلمةِ . كتبَ عن التَّاويَّةِ المرحوم الأديب ( الهادي العلوي ) كتاباً هاماً _ للمزيد انظر في الأسفل(3) ، كما أنني قمت ، مِن خلال مجموعة الكتب التي نشرتُها عن أدب الصين واليابان ، بالبحث في هذا الموضوع أيضاً .
إنَّ " لاو _ تسي " متصوِّفٌ وحيدٌ غارقٌ في البحثِ عن أسرارِ الحياةِ ، لا نعرفُ الكثيرَ عن حياته وإن كنا نعرف الكثيرَ عن أعمالهِ ، ولعلَّ مِن أهمها كتاب " الدرب الصحيح " _ تاو _ تي _ كنغ _ الذي وصل حدُّ الإعجاب به في الغرب مِن قِبل البعض إلى أن جعلوه رديفاً أو بديلاً عن الإنجيل . تعليماتُ مذهب التَّاويَّةِ الصُّوفية ، والتَّاويَّة هي ( أمُّ كل الكينوناتِ ) والجذر الأول للسماوي والأرضيِّ ، تحتفي بمفهومَ " العَوْدُ الأبديُّ " ، كما سمَّاه الفيلسوف الألماني " فريدريشْ نيتشهِ " _ Fr . Nietze _ لاحقاً ، الذي يشكلُ فيها جوهرَ الموضوعِ ، والذي جذب إليه العديدَ مِن العقولِ الباحثةِ عن الحقيقةِ ومعنى الوجود . بهذا يعتبر " لاو _ تسي " بحقٍّ أحدَ العظماءِ الأقلاَّء المنتمينَ إلى البشريةِ جمعاءَ .
مادمنا في سياقِ الحديث عن الأدب الصيني فلا بأس أن نشيرَ _ سريعاً – إلى الرواية وإلى الدراما.

الروايةُ الصينيَّةُ :
لم تَخرج الروايةُ الصينيةُ مِن إطارها القوميِّ إلاَّ في حالاتٍ نادرةٍ ، فهي تعكسُ خصوصيةَ حياةِ الشعبِ الصيني وما تتميزُ به من عاداتٍ وتقاليد قد لا تُفهم في الخارج تماماً ، حيث تبقى غريبة لدى القارئ غير الصيني الذي يجد أمامه حدوداً للفكريِّ فيها أيضاً .
من الروايات الهامة في الغرب اعتُبرتْ رواية " يو _ كياو _ لي " _ Yue _ Kiao _ li_ التي تتحدث عن حب شاعر إلى فتاتين ، وكذلك رواية " القلب الحجري والحجر الكريم " _ الترجمة بتصرف _ ورواية الأديب " كنغ _ بنغ _ ميه " _ King _ Ping _ Meh _ المسماة ( هْسي ونساؤه الستة ) _ رواية غرامية _ وهي من الروايات الصينية القديمة القليلة التي وجدت لها انتشاراً نسبياً في الغرب وتوجد منها نسخة ألمانية في مكتبتي صادرة عن دار نشر الجزيرة ( Insel ) في مدينة لايبزغ عام 1973 وهي مزينة برسوم صينية بطبعة خشبية من العام 1695 وتقع في نحو 864 صفحة من القطع المتوسط . أما قراءتها فبدت لي مسهبة ومملة في كثير من المواضع .
الدراما الصينية :
لا تشذ الدراما الصينية بالنسبة لاستقبالها خارج الصين عن الرواية ، حيث بقيت غريبة على المتلقي، وهي غالباً ما تحتوي على مشاهد مشخصة من الروايات ومن " التمثيل الصامت " وعلى كمٍ من المشاهد الطريفة ، تتخللها بعض الرقصات والمشاهد والعناصر الأوبرالية الأصل . من خلال فولتير " Voltaire " ومسرحيته المسماة " L' orphelin de la chine" من العام 1754 استطاعت المسرحية صينية الأصل المسماة " يتيم عائلة تشاو " ( Tschao ) أن تجد النجاح على مسارح الغرب ، وهي تتحدث عن الوفاء وعن تضحية الأب بابنه لإنقاذ الصديق ، كما قام الشاعر الألماني ( كلابوند ) _ Klabund_ بإيصال المسرحية الصينية المسماة : ( Hoei _ Lan _ Ki ) للمؤلف ( Li _ Hing _ Tao ) إلى الشهرة وهي معروفة عندنا أيضاً من خلال مسرح ( برتولد بريشت ) ( B.Brecht ) – أوبرا القروش العشر – التي تتحدث عن صراع اثنتين من الأمهات حول انتماء طفل إلى كل منهما وعن القضاء بالأمر .
=============================================
الهوامش :

( 1) - فصول السنة اليابانية (شعر) – دراسة و ترجمة د. شاكر مطلق – اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1990
( 2 ) -لا تبح بسرك للريح (شعر وحكم) من الصين واليابان – دراسة و ترجمة د. شاكر مطلق – دار الذاكرة
1991
( 3 )-على شاطئ الأيام البعيدة (شعر ياباني)– دراسة و ترجمة د. شاكر مطلق – دار الذاكرة 1995
( 4 )-درب الكشف: شعر(زن) من الصين واليابان – دراسة و ترجمة د. شاكر مطلق – دار الذاكرة 1999
( 5 ) - الشاعر الصيني القديم (لي- تاي- باي) – دراسة و ترجمة د. شاكر مطلق – دار الذاكرة 1999
(6 )- ( التَّاو _ نصوص مِن الفلسفة الصينية القديمة ) ترجمها المرحوم " هادي العلوي " وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1981 عن ( دار ابن رشد ) في بيروت .
(7 )-( شعر من كل العالم ) _ طبعة الثقافة الكلاسيكية : دليل الأدب الجديد . صدر الكتاب عام 1996 عن دار نشر ألمانية تدعى ( Seehamer ) .

سأقدم الآن أنموذجاً شعرياً متألقاً من تاريخ الأدب الصيني القديم من خلال مقدمة عن الشاعر :( لي _ تاي _ باي ) كتبها الصديق ( وانغ قوي فا ) كمقدمة لكتاب أصدرته عن هذا الشاعر وأعرض بعضاً من قصائده الرائعة التي ترجمتها له عن الألمانية .





الشاعر الصيني القديم :
[CENTER]" لي – تاي – باي "
بقلم :
"وانْغْ قُويْ فَا "
" المستشار الثقافي ( السابق ) للسفارة الصينية بدمشق "[/CENTER]

يُعتبر الشّاعرُ لي باي ( 762/1/7 ) م . أعظم شاعر رومانسي بعد الشاعر تشيوي يوان (340 – 278 ق. م. ) في تاريخ الأدب الصيني .
انتسب الشاعر لي باي إلى الأسرة الملكية ، ولكن بسبب انهيار المملكة وسقوط العائلة الحاكمة هرب أبوه إلى المنطقة الغربية – منطقة شينجيانغ في آسيا الوسطى اليوم – حيث عاش متخفِّياً وكاتماً لاسمه الحقيقي ، وباشر أعمال التجارة حتى أصبح تاجراً غنياً ، وعندها ولد الشاعر " لي باي " في المنطقة الغربية المذكورة ، وعندما بلغ الخامسة من عمره انتقل مع عائلته إلى جيانغيوى بمملكة شو (مقاطعة سيتشوان اليوم) وقضى هناك أيام طفولته وشبابه،ونظراً لأنّ أمه رأت في حلمها عند ولادته نجمة الزُّهرة تدخل في حِضنها، فقد أطلق عليه أبوه اِسم باي ولُقّبَ "تاي – باي" ( يقصد الصّينيون القدامى بـ " تايباي " النجم الذهبي الذي يظهر في غرب السماء عند الغروب أي الزّهرة أو فينوس .
بدأ الشاعرُ " لي باي " القراءةَ وهو في الخامسة من عمره ، وكان يحفظ كل ما طالعه من محتويات كتب المدارس الفكرية المختلفة والكتب المقدسة البوذية والطَّاوّية . وأسرع في استيعاب نظم الشعر وكتابة المقالات . وفي نفس الوقت أتقنَ عزف القانون والغناء والرقص ،حتى صار شخصاً يمتاز بمواهب متعدّدة وفنون متنّوعة بسبب اجتهاده في الدراسة منذ طفولته . كوّنَ الشاعرُ " لي باي " لنفسه طموحاً عظيماً وإرادةٍ قوّيةً وروحاً نزيهاً وخلقاً كريماً منذ طفولته: فهو إمّا أن يكون من رجال ركيزة الدولة ويصعد إلى مكانةٍ بارزةٍ ، وإمّا أن يعيش طوال حياته كالناس العاديين . لم يشترك ، ولو مرة ، في امتحان اختيار الموظفين ، ورفض كل ترشيح له ليكون موظفاً صغيراً ، وكان يشّبه نفسَه بالسياسي " شيه أَنْ " في " أسرة جين " وكان " شيه أنْ " سياسياً مشهوراً في أسرة " جين " الشرقية ، ترك وظيفته وعاش معزولاً عن الناس في " دونغشان " بتشيجيانغ ، وعندما تعرّضت أسرة " جين " الشرقية لخطورة شديدة دعاه الحاكم ليكون موظفاً كبيراً فأنقذ أسرة " جين " الشرقية من الوضع الخطير الذي كان يحيط بها
قام الشاعر لي باي ، بعد السنة الخامسة والعشرين من عمره ، بثلاث رحلات ، واشتغل مرّتين بالأعمال السياسية فجمع بذلك تجاربه الكثيرة في الحياة ونضج إبداعه في نظم الشعر مع مرور الأيام . كان شغفه في التَّرحال تصاحبه لذّةُ شرب الخمر ، فكلما قابل أصدقائه الحميمين أو شاهد مناظر الجبال الساحرة والأزهار الجميلة شرب الخمر حتى الارتواء ، وحفزت نشوةُ الخمر حماسَته في نظم الشعر، فبعد شربه ثلاثة أقداح من الخمرة تدفقت من فمه أبيات جميلة مثل مياه الينابيع. وعلى سبيل المثال ، كتب " باي " قصيدة ذائعة الصيت في برج هوانغ خه ( الكراكي الأصفر ) في ووتشانغ عند وداع صديقه الحميم الشاعر " منغ هاو ران " .

غادر صديقي برج هوانغ خه
متّجهاً نحو الغرب
نزل إلى يانغتشو في آذار
أيام تفتح الأزهار
ابتعد مركبُه الشراعي
حتى اختفى ، ببطء ، في نهاية الأفق
ولمْ يُرَ إلاّ نهرُ اليانغتسي
يسيلُ من السّماء .
في عام 742 ميلادي تلقّى الشاعرُ " لي باي "، وكان في رحلة بتشجيانغ ، دعوةَ استقبالٍ من قبل الإمبراطور " لي لونغ جي " من أسرة " تانغ " . قال الإمبراطور له إبّان استقباله : لقد عرفنا اسمك ولم يكن لك وظيفة رسمية في البلاط ، فمن البدَهيَّ أنك رجل مهذب متأدب فدعاه إلى وجبة الطعام وبرَّدَ له الحساء بيده عند الأكل . كان " لي باي " يرى أن هذه المعاملة الحسنة من الإمبراطور تجلب له فرصةً سانحةً لتحقيق طموحاته لإدارة المملكة . ولكن الإمبراطور لم يُنعِم عليه بمنصبٍ ولم يمنحه سلطةً حقيقّيةً وعُيِّن عضواً في الأكاديمية الإمبراطورية يُناطُ به نَظمُ الشّعر .
كانت مدينة تشانغان في عهد أسرة تانغ مركزاً ثقافياً في شرق العالم ، يتجمع فيها الكثير من أرباب القلم والعلم ، وفيها تعرَّف الشاعرُ " لي باي " الشاعرين الكبيرين " دوفو " و " خه تشي تشانغ " وغيرهما من الشعراء المشهورين . أطلقَ الناسُ آنذاك على الشاعرين " دوفو " و " خه تشي تشانغ " وغيرهما من أصدقائهما السَتة لقبَ (ثمانية أرباب الشعر في الخمر) . أما الشاعرُ " دوفو " فوصفَ " لي باي " بأنه يُنشِدُ مائة قصيدة بعد أن يشرب أقداحاً من الخمر ، وينام تجار الخمر في أسواق تشانغان . ولا يلبي ندائه ابن السماء الإمبراطور الصاعد إلى النصر ، فأطلق على نفسه لقب ربّ (ملاك) الشعر في الخمر .
كان الشاعرُ " لي باي " متغطرساً وشجاعاً ومستقيماً . فَلَمْ يتلقَّ الاهتمام والثقة من الإمبراطور في السياسة. ولمّا رأى احتكار رجال البلاط وأقربائهم في سلطاتهم ومصالحهم الشخصية، اضطر الشاعر " لي باي " الذي يرفض التزلّف والتملُّق إلى الاستقالة من وظيفته وترك تشانغان منشداً وضاحكاً بصوت عال .
بعد أن انتهى الشاعرُ " لي باي " من الأعمال السياسية لمدة ثلاثة سنوات ، بدأ رحلَته ومدّتها عشر سنوات وخلال هذه الفترة ، نظم قصائد كثيرة يضم مضمونها نقد المجتمع المظلم بالإضافة إلى وصف الجبال الخَلاّبة والأنهار الجميلة ولذّته في شرب الخمر وإبداء سخطهِ لعدم إيجاد الفرصة لإظهار مواهبه . وبرهن كل ذلك على أنّ الشاعرَ قد أدركَ وقائع المجتمع بصورة أعمق .
عند وقوع حادثةَ تمرُّد آن لوشان وشي سي مينغ – أزمة سياسية في أسرة تانغ – كان الشاعرُ " لي باي " في الخامسة والخمسين من عمره . وعلى الرغم من أنه قد استوعب آنذاك أساليب التعامل ( التّودُّدُ والتَّجافي السائدان في المجتمع ) ، ووصفَ ، في بعض قصائده ، السياسةَ بأنها طريقٌ غير مستقيم وطريق خطير ولكن كان لديه روحٌ وطنيٌّ حماسيٌّ في صميم القلب دعاه إلى النّكران الذاتي فألقى بنفسه في قمع الفتنة واشتغل بالأعمال السياسية مرة ثانية . ولكن النتيجة هذه المَّرة تقشعَرتْ لها الأبدانُ بسبب تنافس السلطات داخل البلاط . وعلى الرغم أنه أُعِفيَ من تهمة القتل فقد نُفِيَ إلى يه لانغ – قرب مدينة تشيو نيبي بمقاطعة قويتشو اليوم ، وعندما أعفاه الإمبراطور سوتسونغ مع المجرمين داخل البلاط بمناسبة تنصيب ولي العهد الجديد ، كان الشاعرُ " لي باي " قد بلغ الستينَ . وعندما تَلقّى الإعفاء عاد أدراجَه إلى المجرى الأسفل من نهر اليانغستي لبدءِ رحلته الثالثة .
لم تبلغ رحلة الشاعر الأخيرة إلاّ ثلاث سنوات ازدادت فيها تجاربه الشخصية في الحياة أكثر ، فحَقدَ من صميم قلبه على أساليب الدوائر الرسمية حقداً أشد ورغب في ألفة الناس العاديين ، وبرهنت على ذلك قصيدة ( هدية إلى وانغ لون ) :
ركبتُ أنا لي باي
قارباً استعداداً للرّحيل
فجأةً سمعتُ أغنيةً تتعالى من ضفّة النّهر
ومهما بلغ عمقُ بركة الدّراق
لأكثر من ألف ذراع
فهو لا يضاهي مشاعر السيد وانغ لون العميقة
إبّان وَداعي

وكان " وانغ لون " فلاحاً في مقاطعة هوبي وكتب الشاعرُ عن الشعور العميق بينهما بصورة مخلصة باستخدام المجاز الرائع .
توفي الشاعرُ " لي باي " في عام 762 الميلادي فقيراً ومريضاً في دانغتو ( محافظة دانغتو. بمقاطعة آنهوى اليوم ) ويقال أنه يجذّف القاربَ بعد السَّكَر ، على نهر اليانغستي في الليل الذي كان القمرُ يعلق فيه على السماء ، وعندما شاهد صورة القمر المنعكسة الصافية الوضاءة تثبُ إلى سطح الماء ألقى بنفسه في النهر للقبض على القمر . إنّ هذه الحكاية لمْ تكُنْ حقيقيةً ولكنّها تصِفُ مِزاجَ الشاعر : إنّه الشاعرُ الذي سعى طوال حياته وراء مَثلٍ نزيهٍ صافٍ مثل القمر الصافي الوضّاء . ولكن في العصر الإقطاعي المستبد لا يمكن للشاعر أن يحقّق طموحه أبداً فلم يبقَ له إلا مَثل القمر في الماء والزُّهرة في المرآة .
كان زمن حكم أسرة تانغ يُعتبر عصراً ذهبيّاً لتطوّر الشعر الصيني وكان الشاعران " دوفو " و " لي باي " ذروة الشعراء وكان من أكبر ميزات الشاعر " لي باي " في فن الشعر الخيال الخصيب مثل أمواج البحر وسحب السماء تتغير وتتلاطم . وكان الشاعر " لي باي " قد تعرّضَ لشتى أنواع الكبح ( لم يتلقّ الرعاية والاهتمام من قِبَل الإمبراطور ) وهو على قيد الحياة ، ولكن الشعب أثنى عليه ثناءً عالياً بعد موته . ويستحق الشاعرُ " لي باي " أنَ يَدخلَ صفوف الأدباء المرموقين في العالم كشاعرٍ عظيمٍ .
يسّرنا كثيراً أن يترجم الدكتور شاكر مطلق عضو اتحاد كتاب العرب في الجمهورية العربية السورية والشاعر الموهوب المعاصر تسع عشرة قصيدة من شعر " باي لي " إلى اللغة العربية ،وقبل دفعها للطباعة أرسلها إليّ للمطالعة وطلب مني أن اكتب لها مقدمةً . في الحقيقة لا أقدر على تحمّل هذه المهمة فلم أكتب إلاّ موجزاً عن سيرة الشاعر " لي باي " وأحلل أحوال إبداع قصائده تحليلاً سطحياً من حيث العصر الذي عاش فيه وذلك لمساعدة القراء العرب على قراءة ومعرفة قصائد الشاعر " لي باي " بصورة جيدة .
إنّ قصائد الشاعرين " دوفو " و " لي باي " لقِيتْ ترحيباً حاراً متن القراء الصينيين وتمتعتْ بشهرةٍ عظيمةٍ حيث أنّ معظم الصينيين يعرف أعمالها البديعة ، وما من أحد لا يفتخر بحفظ عددٍ من قصائدهما . ولكن أشعار أسرة تانغ صعبة الفهم بسبب أساليبها القديمة وعروضها المُحكَم وبخاصةٍ عند ترجمتها إلى اللغات الأجنبية حيث يغدو الأمر أكثرَ صعوبةً وحيث نادراً ما يتمّ الإبقاءُ على معنى الشعر الأصلي في الترّجمة.
وبعد قراءتي لأعمال الدكتور شاكر مطلق شعرت أنّه قد بذل أقصى جهوده في الترجمة ويجب أن أقول أن مستوى ترجمته جّيدٌ جدّاً وكلماته دقيقة ومعناه مطابق للشعر الأصلي . ولذا أعبرّ عن الشكر من صميم قلبي لجهوده ، واثقاً بأن جهوده تسهّل على القراء العرب زيادة فهم أشعار الصين الكلاسيكية .
وتعتبر سورية مهداً للحضارة الإنسانية وليس هذا فحسب بل هي قصر الشعر العربي أيضاً ، حيث يظهر الشعراء الموهوبون فيها جيلاً بعد جيل، وأتمنى أن تُترجمَ دواوين الشعر السورية القديمة والمعاصرة الممتازة إلى اللغة الصينية لتقديمها إلى القراء الصينيين في يوم آجلٍ وعاجلٍ .
كُتِبتْ يوم 12 / 7 / عام 1998 م . دمشق -سورية


* ملاحظـة : كما في كلّ ترجماتي ، وبخاصةٍ الشّعرية منها للأدب الألماني أو الياباني أو الصِّينيّ ، فإنني أضعُ ضمن قوسين ( ) الكلمات التي لابدّ من إضافتها للنّص ، لضروراتٍ فنيّةٍ أو جماليّةٍ أو لفهم النّص بشكلٍ أفضل .
(المترجم)




مختارات من شعر ( لي تاي باي )


(جلسةُ) شرابٍ تحت نور القمر

وحيداً ، أشرب بين الورود العابقاتِ
مع إبريقٍ مليءٍ بالنّبيذِ
رفعتُ كأسيَ لأرجو البدرَ
أن يكونَ ضيفيَ الأسمى هذه الليلةَ
عندها رأيتُ ظلّي
وكثالثٍ ، قمتُ بدعوته ، (هذا) الوفيَّ الأزليَّ .

** ** **

القمرُ لا يعرف شيئاً عن النّبيذ وأفراحه
وظِلّي يتبعني ، كالأعمى ، إلى الأفراحِ والأتراحِ
ومع ذلك ، فأنا أشربُ ، برغبةٍ ، مع الاثنين
ولا يجب للمَرْءِ أن يهدرَ أيَّ يومٍ ربيعيٍّ
فالربيع وقتُ السّنةِ (الخاص) بالأفراحِ .

** ** **
وبينما أرفعُ صوتيَ ، عالياً ، بالغناءِ
يتمايل القمرُ ، عالياً ، في بحر النجوم البعيدِ
وبينما أطفو ، الآنَ ، راقصاً في الحلُمِ
يطفو ظلّي ، راقصاً ، من حولي .

** ** **
عندما كنّا بايعيٍ صافٍ ، كنّا نعرف المُزاحَ
ولكن السَّكَرَ هو الذي فرّق بيننا .
أحبُّكم أيّها الأصدقاءُ ، بدون قلوبٍ !
الوَداع ، إذن سنلتقي قريباً
على نجمةٍ ما في قُبّةِ السَّديم .
=================

كُتِبَتْ في البعيد

عندما كنتِ ما تزالين هناك ، أزهر العالمُ .
الآنَ ، أحدّقُ في سريري : باردٌ ، وحيدٌ وفارغٌ .
بكمْ من الرعايةِ،حافظت على ملاءاتِ الحريرِ(تلك)
التي لَمْ أستعملها منذ رحيلكِ
(والتي) لَمْ تزل تتنفس عبيرَ جسدكِ
لثلاثِ سنواتٍ طوالٍ ، عبَرتْ .
عطركِ باقٍ للأبد (أيّتها) المرأةُ الجميلة !
ولكنّكِ لا تعودين إلى هنا .
شاحباً يقطر النّدى على الطحالب الخضراءِ .
حلُمي ، يدفع أمامه ، كريح الخريف
الأوراقَ اليابسةَ الصفراءَ ،
في الغبارْ .

===================

نشيدٌ للشَّراب

أوَلَمْ ترَوْا التيّارَ الأصفرَ
يتدحرجُ من أطراف السماءِ
ويستمرُّ ، مسرعاً ، بدون عودةٍ
لينصبَّ في البحر ؟!
** ** **
فليتمتّع الإنسانُ بحياتهِ !
قريباً ستكون من دون طعمٍ
فلا ترفعوا ، أبداً ، كأسَ (الشّراب) الذهبيِّ
فارغاً صوب القمر !
** ** **
لماذا - إذن - أعطتنا السماءُ العطايا ؟
لسعادتنا
حفنةُ الذّهب التي بذّرناها (في الشّرابِ)
سوف تعود
** ** **

اذبحوا - إذن - الثّورَ ، واشووا الخروفَ
ودعونا نَكُنْ مرحينَ !
من يرغبُ في الشراب معنا ، فليصبَّ في فمه
ثلاثمئةَ قَدَحاً من النّبيذ !

** ** **

أيها المعلّم " تْسِنْ " !
أنتَ – يا صديقي - " دان تشيو " !
اليومَ ، ستهزّون أقداحَكم بَحيْرةٍ
أنصتوا ! سأغني لكُم نشيداً :


ما قيمةُ أشياء الحياة النّفيسة ؟!
ما قيمة(احتفالات)العزف والقرع (وأكل) الطّيبات؟!
أريد أن أشربَ إلى الأبد
وأكونَ مخموراً ، لا أصحو أبداً .

** ** **
وحيدين في القبرِ ، يستريح الناسُ الأكثرُ حكمةً
المجدُ القديمُ قد تلاشى من زمانٍ
ولكنّ السُّكارى المرحينَ،يتذكّرهم الناسُ
حتى اليوم وأسماؤهم تبقى محفوظةً .

** ** **

سنفعلُ كما فعل أميرُ (الشّعر)"تْسِنْ"،ذات يومٍ
لقد عرف كيف يعيش حقاً
حتى اليوم، ترنُّ بوضوحٍ ضِحْكتهُ في الآذانِ
لأنّ النّبيذَ ، كان يجري كالتيار ، في مآدب الأميرِ

** ** **
ماذا يقول مُضيفيَ الغالي -إذن-؟ المالُ قليلٌ ؟
هيّا ! خذوا كلَّ هذا ، كلَّ ما أملك !
حصانيَ الجميل ، والفروَ الثمينَ
أرسلوا (ليَ) الخادمَ ! هاأنتَ أيّها الغلام !
اِمضِ سريعاً ، وحوّلْ كلَّ هذا الرُّكام إلى نبيذٍ !
أريد أن أُبرّدَ الألمَ المشتعل في الصّدرِ
دعونا (الآنَ) نبتلعْ ، بجرعةٍ عظيمةٍ
العذابَ القديمَ ، المُتجدّدَ أبداً !

================

شراب مسائيٌّ مع ناسكٍ في الجبال "

أفرغنا ، بطريقةٍ مزهرةٍ
الكثيرَ من أقداح النّبيذِ
واحداً آخرَ ، وآخرَ دوماً
عندها قلت : يا صديقي !
اذهب الآن إلى البيت !
إنّني ثملٌ وسأستلقي (لأنام)
وإذا بقِيَتْ ، بعدها ، رغبةٌ عندكَ في الغدِ
فتعالَ إليَّ ! حاملاً العود .

==================

جبالُ " شُو "

آهٍ ! ( أوّاهٍ ! يا ويلتاه ! )
خطِرةٌ أنتِ
يا جبال " شو" الشاهقات
صعودكِ أكثرُ مشقّةً
من تسلُّق السّماء
بعيدةٌ ، كالضّباب ، تلكَ الأزمانُ
حيث خلقَ " يو - فو " و " تسان - تسونغ "
إمبراطورية " شو "
منفصلةً عن الصين
لخمسين ألف عام .
من جهة جبل " تاي - باي "
ومن ارتفاع يُسبّب الدُّوار
ربّما يمكن للطيور أن تَعبرَ
قمّةَ " أو - مي " حادّة الارتفاع .

عندما وعدَ - ذات يومٍ -
ملكُ " تشِين " ملكَ " شو "
(بإهدائه) حسناواتٍ خمساً
أرسلَ (ملكُ شو ) لملاقاتهنّ ولحمايتهنّ
خمسةَ أبطالٍ .
عندها (عند اللقاء)
انطلقتْ أفعى عملاقة
(لتختبي) بين الشُّقوق
بسرعة أمسكَ الأبطال بذيلها
وشدّوه ، بقوةٍ عظيمةٍ ،
حتى انهارَ الجبلُ ، ودَفنَ الجميع .
منذئذٍ يمكن الصعود إلى القمّة
على درجٍ قُدَّ في الصخور
وعلى أوتادٍ وعوارض (تمتدّ)
كالجسر المُقنطَر
فوق الأعماق الفاغرة .
حتى عربةُ الشمس
التي يقودها " هسي - هو "
ويجرّها تنّيناتُ ستٌّ
تجفُل راجعةً ، أمام مرأى
تلك الشجيرات النامية في (شقوق) الصخور
عاليةً كالسماء
وفي الأسفل ، قيعانُ الوديان
فيها تتلوى الجداولُ
مُزبدةً غضباً ، صاخبةً
متناثرةً على الصخور الحادّة .

جناحا " الكراكيّ" تتعبان من الطيران .
القرودُ - متمّسكةً بمخالبها ، في الجدران
- الخشنة ِ ،شديدةِ الانحدار -
تفقد قواها .
كمْ (هو) شديدٌ (هذا) العُلوّ !
التفافُ الدّرب الجبليِّ
إلى قمّة " تشينغ - ني " :
تسع مرّاتٍ مئة خطوةٍ
وينعطف الدربُ إلى الوراءِ
النجومُ ، لقربها ، تكاد تمْسَكُ
الأنفاسُ تتعـثّرُ
وحده الزّفيرُ يخرج نفسَه ، بمشَقّةٍ ،
من الصّدر المُضيّقِ .
لماذا - إذن - تجذبكُم العودة ُ نحو الغرب
إلى دروبٍ شديدة الصعودِ
غير قابلةٍ للتّسلُّق ، خطرةٍ ؟

(هناك) حيث الطيور تشكو ا
- في غصون مُتشعّبةٍ ، متجعّدة ٍ، عاريةٍ -
وتحوم ، متعبةً من الطيران
فوق الأشجار العِجافِ
باحثةً عن أقرانها ؟
وعندما ينادي ، في العتمة ، " طائرُ الليل "
تبدو الجدرانُ الصخريّةُ موحِشةً
في ضوء القمر البارد .

يا جبال " شو " !
صعودكِ أكثرُ مشقَّةً
كلُّ من يسمع بكِ ، بأهوالكِ ، وأخطاركِ
- يا جبال " شو " ! -
ينزاح الدّمُ من خدّيهِ
( وتشحُبُ وجنتاه ) .
ذُراكِ تندفع بقوّةٍ
عالياً بأسنانها الحادّةِ
نحو السماء ، التي لا تبعُدُ عنها
أكثر من ذراع .
من الشّقوق (الصخريّة) والتّصدُّعاتِ
تتعلق ، معوجَّةً وملتصقةً
الشّجيراتُ فوق المُنحدر .
هكذا أنتِ – يا جبال " شو " ! .
خدّاعةٌ ، خطرةٌ
ولكنْ أعلِميني !
لماذا يتجرّأُ الجوّالُ
على سلوك الطريق إليكِ
قادماً من البعيد ؟

بين الجبال السَّيفيّة ( الشّاهقةِ)
- التي تطعنُ (ذراها) ،كالنِّصال الصّخريةِ ،
حادّةً ودقيقةً ، في السّماءِ -
ينثني الدّربُ الضيّقُ .
محاربٌ واحدٌ
يدافع بشجاعةٍ ، عن هذا المعبر
(و) عشرة آلاف (من الأعداء) سيُصَدّون .
ولهذا سوف نكون ضائعين
لو لمْ تبقَ الحراسةُ هنا
بين أيدينا .
اِحترسْ ، في جبال " شو " نهاراً ،
من النَّمِر !
احذرْ الأفاعي !
التي تطلُب ، في اللّيل ، الطَّريدةَ
تلكُ الوحوش - جنس الأفاعي -
التي أخَذتْ تحدُّ أنـيابَها
مُتشهّـيةً الدماءَ ، كمصّاصي الدّماء !
الأمواتُ ، ممزَّقونَ ، مَنْهوشونَ
من وحوش الجبال .

ربّما كانت " دشين - تشينغ "
- المدينةُ ( النّاعمةُ) مثل " البروكار " -
رائعةً
(ولكن) من الأفضل (لكَ)
أنْ تبقى في بيتكَ .
لأنّ جبال " شو "
صعودها أشقّ من تسلُّق السّماء .
أُديرُ نظري نحو الغرب
- نحو " شو " -
وأَتنهّدُ فقط . . .
==========================
حمص _ سورية _ بغطاسية _ هـ 2222655 (031 ) د. شاكر مطلق
E-Mail mutlak@scs-net.org