[overline] [size=3] [size=3] الراحلة..


إذن وبعد عناء كبير ، هاأنت تعود صعدا إلى قمة النكهة، حيث تلقي الشمس بأشعتها ذهبا متسللة بتؤدة إلى كل قاع، بين أغصان الزيتون وعبر المنحدرات الجبلية المتربة، ذات الضيق والعناء، وحيث الغدران الواسعة التي تسر خوالجك دائما، والصباح البهي البارد ، والأسماك وفيرة العدد التي تتكاثر كلما ابتعدت في الوادي وشارفت غدرانه العظيمة، المنزوية في البعيد، بنية اللون حاذقة، حذرة ماهرة أنيقة وهي تقفز، أو تسبح في سكينة ودلال، غريبة أحيانا بفوضاها وطقوس الرقص..
الغدران زرقاء تُغري، وحواشيها الظليلة تُلامس قدميك الحافيتين، هي.. هيا أقفز يا رابح . لن تمضي إلا لحظات ويألف عري لحمك الماء البارد ، ستدثرك الرعشة ويغمرك الدفء حالما تغطس ، هيا لا تخف.
ولكنك ضللت ماض في عنادك ولم تقفز، منتظرا منها مزيد الرجاء ، وقد أوقعتها أخيرا فيما يشبه الاستجداء .
ليلى في صباحات طفولتها هالة من جمال متكبر، زادها روعة سحرها الغامض ، وأنوثتها النهمة ذات الشرود والبداوة الظريفة. لم تترجاك ، ولم تستجدي أكثر، وبحرص البدوية المملوءة بالخشية قذفتك من دبر متعمدة إسقاطك في الماء، وبعنفوان المحب الخائف وَلِجَتْ ماء الغدير البارد ، ولوج الأنثى وارفة الدلال تاركة للريح مهمة نشر أشرعة الشوق للماء؟ وزحف الشعر الأسود الغزير فوق ماء الغدير، خلف جسد ليلى الرشيق ، ملامسا شطوط التموجات الصغيرة للماء، التي تُحدثها حركة الأصابع الدقيقة كلما تقدمت في سباحتها نحو الزرقة الداكنة لوسط الغدير، ذات القعر المغيب في ظلام الأعماق؟
ماذا يمكنك أن تفعل غير مباغتاتها من تحت الماء والإمساك بلحظة سعادتكما ، فالوحدة مؤلمة وفرص اللقاء ليست بالوفرة التي يتخيلها الناس،حيث تبرُج المدن وعري الحياة، لم تكن تعرف ولكنك تعلم جيدا ما سيتهدم لو أنت أخطأت الوتر العازف ، وأربكت إحساسها بكيانها الخاص ، المستقل .. في صمتٍ غُصت في الماء مُستغلا انشغالها بجمع خصلات شعرها التي أربكت بصرها، من تحت الماء فتحت عيناك ونظرت نحو الأعلى ، لم تر شيئا عاديا، فالمنظر كان بياضا يسيل ، كان جسدها بضا يتدفق خجلاً ، ولم يكن بوسعك من شيء تفعله ، غير إمساكك بيدها الطرية الساقطة لتوها في الماء ، لتصعد ورأسك تخبط يُمنة ويُسرة ، ولسانك يردد. امسكتك يا ليلى، امسكتك..
تداعت طفلتك لنداء النجدة ومالت عليك في سهو وشعرها يُغطي أجزائك الطافية فوق الماء في مشهد حنان مسرف ما لبث أن خفُت ، وكان الصباح في الوادي باردا ، ولا شمسا غمرته أشعتها بعد. لست وحدك في الوادي.. كانت إلى جانبك وشعرها المتداعي ، الغدير والعصافير الصادحة غير بعيد، وخرير الماء موسيقى مألوفة ، نادرة تُرددها الأرجاء وأجراف الوادي البارد السحيق..
تلك مفارقة أخرى حين انتهيت وحيدا إلى قفار الضجر والهواجس ، لا رفيق يُزيل عنك غُبن اليتم المتفشي في الصدر، وامتلاء لحظاتك بالألم . لا أحد رفقك ويرافقك عبر الرحلة الطويلة المضنية غير مسفات الغربة ، كنت وحيدا تُصارع أهوال المد والجزر ، والآن وحيدا وجهتكَ سداً، والمبتغى مهر التفاحة الجبلية اللون والرائحة. لا أحد أوصلك إلى بر النجاة وأنت تُصارع الممر المزروع بالعثرات، بالأشواك والأشواق، عانيت وحيدا وكافحت وحيدا، وهاأنت أخيرا تصل وحيدا، لتجلس عبوسا قمطريرا على هضبة هذا المساء الشاحب ، حيث الشفق يُحدق في المجهول كأنه الدائرة الهشة ، والجبل شفرة مدماة تضطجع طولا ، والسواد يلُف ما تحت القمم العالية..

وحيدا ويحك وصدى الليل حفيفا تُحسه يسري ، مثل الدم يتدفق في عروقك شدا الأزهار المتعانقة على ضفاف الوادي ، في غموض يصلك همسها ، وفي صمت مطبق تستنشق عِطر عسلها المصفى ، في حين يرسم المغيب حزنه شفقا يتدلى.
الماء البارد العذب له طعم الأبدية، ورائحة النقاء في جريانه وانسيابه بين شقين . كلها أمورا تُذهلك ، والبياض الذي ما بين تفجر الماء ومصب الشلال إنه الجدوى بالنسبة إليك ، هو موقفك الثابت من الحياة، حتى وإن ظللت شامخا في معاناتك كالطود العظيم فالإصرار يسكُنك كهذي الذكرى المولعة بالإغراء، ويحك؟؟ سال لعابك لذكراها وأنت وحيدا، وحيدا يا حسرتك. يا شجر الزان السامق، يا زرقة الماء ، يا أرض التفاح الجبلي أحبيه كما اشتهاها واكتفى؟؟ فلا شيء يبتغيه الآن غير المجيء إلى أرضها البكر ، حيث شهد ميلاد أول حب وآخر تجربة اشتهاء. تائها في غربة شائكة وحزن غريب.

اختلس النظر يمنة ويسرة، مر في ذاكرته شريط العمر الدامي البليل، و عبر ثُقب في غيابات السهو الذي يسكنه ولِج شقاءه المزمن . وأقفل عائدا إلى أيام الذل وملح الخديعة المعفر وخبز الآثام؟؟ !
ولأن الطاقة على استعاب حاضره والآتي .لا تفي بكل هذه الأثقال، بعدما أغلقت في وجهه الظروف كل منافذ النجاة ، هاهو يبدو كمن يحاول الغرق انتحارا في رواكد ماضيه ؟ ! ولكن الإنسان داخله لم يمت غرقا وتشبث بالهامش، حيث كان الصخب يقذف بأحلام الشعب نحو عنف الأحداث،
شعب الأحلام مر من هنا ، من على هذه الربوة ، وهو اقتفى أثره ، حمل معوله وبدأ الزرع ، زرع الحلم فهاج أحلاما، بالمقابل كانت الغوغاء مجتمعة ، وكان الدم الذي ساح وتدفق غزيرا في كل مكان؟ ! وهو ظل كما هو دائما يخاف الدم خشية أن يستمر المشهد وتألفه الأحلام؟؟
طيب.. لقد عانى وحيدا وكافح وحيدا وظل يثابر، فهل تراه يغير مشهد الدم ويلقى ليلا ه ، هل ترحمه المقبرة حين لن يعود في حاجة لا اتباع خيط دم مراق !!
الماء لا زال ينساب عبر الشق الطويل والحشائش تلٌف الشطوط المعروضة للتبصر. التحدي الممكن يستعطف سهيته لا اختزال البوح برحابة صدر، تناما الحب شطئانا من الألم وهو طول هذا الزمن يغيب ، ومن الناس من يقول أنه هرب طمعا في البقاء وتلك قصة أخرى سترويها ليالي السهاد، إنما غيابه كان البحث عن أرض التفاح الجبلي، هي التي وحدها لا تتغير.. أقصد أرض المهد الأول التي يجلس على تربتها الآن؟

الصواعد والنوازل لا تزال طبيعية بداخله تماما كما هي داخل ((الكهوف العجيبة)) حيث قضى صيفه متأملا توازنه المستمر ، مثلما الدهشة استمرارا لا متناهيا على وجوه أطفال الشمس الذين حضروا لأول مرة عرس الماء، فتشبثوا بمشاكسة البحر؟ !
أنحدر الماء عبر الشق الطويل الضيق وانصب تحت علو الصخر محدثا لبعض الألم الموسيقي الغريب، لحن ظل يفتقده لسنين، هو لا يقول ، لا يرن ولا يٌعزف إلا هنا على هذا الارتفاع الشاهق اللذيذ !!

الله.. أزهار الوادي أسفل غابة الفلين تعانقت وهذا الشذا الأسطورة يغمره فيحيله إلى أثنى عشر سنة خلت ويحطه داخلها ليعش لحظة ماض اندثر؟ !
الماء في الوادي تردد صدى خريره ترسبات كلسية أحدثها الزمن ، فجر الأرض فأحدث الأخاديد والشعاب . وهذه بقايا التربة والصخور تردد صدى دفقان الماء وانصبابه بين الصخور الملساء، ناصعة البياض ، الرمادية والبنية الغارزة أوتادها في لحم التربة السخية المعطاء؟ !
من أمامه يمر الماء هادئا سلسا في تواصله عبر الشق الضيق والطويل ، الشمس خجلى أشعنها الصباحية وهي تنسل وئيدة وتحط رويدا على أشياء الريف الذي صار يملكه. سرب حمام يطير ويغيب في الفضاء الرحب ، كل شيء حيث هو، يمارس الحياة حرا إلاه ، تكبله الذكريات . المدينة السراب وزقاق الحيارى الطويل وما يحدث في هذا الضباب.. الماء يتواصل في عزم أكيد، عيناه صاحيتان حالمتان، دفئ ذلك الصباح الربيعي أخرج كبته فعمه بعض الهدوء وهاهي الشمس بدأت في قهر رطوبة الليل وبرد الغبش ..الله يبتليه لأنه يمارس طقوس الإنسان الذي يحب ولا يعرف طريقا للغدر، وهو يعاقب نفسه ، يقهرها بالصبر؟؟ !
الإنسان وهو والصبر، ثالوث يحد من أفق رغباته ، وتجاويف تلك الصخور البنية تذب في عروقه أحاسيسها قف؟؟؟ ماذا تسميه العشيرة لو هو كلمها عن إحساس الصخر وتفاصيل أشياء ذلك الريف الجميل. !!
الشق يمتد في الطول ويتعرج ليلتف حول الهضبة الصغيرة ، تماما كأفعى الأساطير القديمة، الهضبة تُشكلها الأحجار الهشة وتُغطيها أشجار الرمان والعليق وفاكهة التين الشوكي، تتعدد خلفه الزقزقات من وراء الهضبة لعصافير وجدت نفسها أخيرا طليقة ، لتكتشف سعادتها فجأة فأخذت في الغناء ، فرحة شرهة ترقُُص مشاكسة الماء حينا، وأحيانا ممارسة للعبة الحب، فهي سَكْرَى، مكسرةً للعادي ، مستحمة بماء الساقية الزلال الذي يمر أمامه عبر شق طويل ومتعرج ؟

عم الدفء وهاهي الذاكرة تحفل أكثر بأشيائه التي تعذب الذات وتعصر القلب، عيناها العسليتان ، النوم وهو يحورهما كحلا وود ؟؟
آ ه ليلى يا فاكهة الخوخ الجبلي ، يامرأة ضيعته أعاصيرها؟؟
الماء يتواصل وحواشي الساقية تنز بالحنين وحمرة الحناء، الماء يغري تماما كالحياة، كليلى أرض التفاح ، نبع الشهد وشدا عسل النحل الجبلي الحر..إنها البهاء حين يفقسه الماء، كهذا اليقين كانت ، تصدح حنينا مثل عصافير الماء ، تفتح.. تطوى .. تتمدد مثل هذا العشب الطري الأخضر الكث؟؟
الساقية لا تجف والغياب يطول..
مهلا لا تبالغ في الفرح إنها مجرد صور لماض جميل وأنت ..
إنك في الخط الأخير الفاصل بينك والاستواء الأبدي قاعا صفصفا وداخلك يقر ، أن وجودك داخل هشاشة الزمن الأخير ليس مجرد خطأ .. زمن الخطيئة ليس لك .. ولكنه للدم للرذيلة للعار ، فاهرب أو اصنع زمنا آخر لا يقطع الرؤوس ، لا يبقر البطون ، لا يغتصب الطفولة والخبز؟؟ !
أنت وقلبك اللحم وللعشيرة طيش الوهن، فاهرب الآن فالزقاق كله ذكراها، ذكرى روحها التي فضت داخلك ألما يستعر؟
أرهبوها طفلتك ((يا رابح )) فرحلت وهذي لحظة خسوفها تعتصر ألمك فتحيلك أكثر على الماء المنحدر كالعناقيد الشتائية الباردة !!
نوار السوسن السابح تحمله التموجات الصغيرة للماء، تذهب به بعيدا ، تكوره أحيانا وأحيانا تلثمه بحنو، أنت بإنسانيتك تعرج في سماء الدهشة ، ومعك تحمل مملكة من جراح الإنسان الذي يعي؟؟
الألم يطغى على كيانك ، تصغي إلى الماء ،إلى خفقان السعادة واضحة على أجنحة السنونو وهي تكسر الماء بالماء ..
تدفق تحنانك إلى عناب الربوة ماثلة أمامك في كبرياء، تشعب الاشتهاء في صدرك وأنت تضيع في موج أنفاسها، النبض والشوق يتواتران فيزدحم بمقلتيك أكثر غبش الاتحاد ! ؟
الراحلة أبدا لن تعود ، لن تهمس لك ، لن تناديك بتحبب ، ولكن الماء يتواصل، يصنع الرعشة الجلاء ويوقظ الحياة في هذي الوهاد..
رابح ..
رابح..
قم يا ولدي إنها ماتت ..
في تثاقل تقوم ، تتبع الشيخ المسن ، خطاكما ثقيلة ومتعبة، بجسدكما تلجان المقبرة وقد شيدتها آلاف الشواهد كل شاهد يروي حكاية.. بعد اجتيازكما للسياج الموحي بالموت تصعدان الهوينا.. في وسط المقبرة وعلى بعد عمر من لقائك الثاني بها ، حلقة مشتتة ، أصناف وأشكال لعدة ألوان بشرية شتى ، كلها تغرز أنظارها في الشق الممدود في إجلال.. لا شك وأنهم كلهم الآن قد تناسوا مؤقتا أحقاد الحياة وأضحوا مقتنعين بالمصير الواحد لجميع خلق الله؟؟ !
تربة حمراء فاضت لتوها رائحتها تكتم الأنفاس تسيج الشق الممدد فاتحا وسطه لاحتضان الجسد الغريب.. (( أفسحوا يفسح الله لكم )) مسكين رابح.. وصل النعش وسيغيبون الجثة في فتحة القبر المتلهف.. يتقدم الرجال أربعة حاملين النعش الأبيض .. ود لو يرى وجهها لآخر مرة ولكن !!
الرأس لقد أخذوها إلى حيث لا أحد يدري.. صوت حازم يسكت عواطفه الباكية(( الرجاء الإسراع في ردم القبر ، هناك جسدان آخران؟؟ !
تمت.. جيجل 1998 أعيد صياغتها سنة 2008 للقاص محمود عيشونة
















[/
size][/size[/overline]]