* نشأ للملك سلامة ذي فائشٍ ابن ٌ كأكمل ِ أبناءِ المقاول ِ(1)، وكان به مسرورًا يرشِّحُه لموضعِه ، فركبَ ذاتَ يومٍ فرسًا صعْـباً فـكـبا به فــوَقــَصَه (2)، فـجَـزَعَ عليه أبوه جزعًا شديدًا ، وامتنعَ مِنَ الطعامِ ، واحتجبَ عنِ الناسِ ، واجتمعتْ وفودُ العربِ ببابـِه ليعزوه ، فلامَه نـُـصَحاؤه في إفراطِ جزعِه ، فخرجَ إلى الناس . فقامَ خطباؤهم يُــؤَسُّوْنه (3) ، وكان في القوم المُلَـبب بنُ عوفٍ بنِ سلمةَ بنِ عمروٍ بنِ سلمةَ الجعفي ، وجعادةُ بنُ أفلحَ بنِ الحارثِ ، وهو جدُّ الجراحِ بنِ عبدِ اللهِ الحكمي ِّ صاحب خراسان . فقام الملبب ، فقال:
" أيها الملك ، إنّ الدنيا تجودُ لتسْـلـبَ، وتعطي لتأخذَ، وتجمعُ لتشتتَ، وتـُـحْـلــي لـتـُـمِــرَّ، وتزرعُ الأحزانَ في القلوبِ ، بما تفجأ به منْ استردادِ الموهوبِ ؛ وكلًّ مصيبةٍ تخطأتـْـكَ جَـلـَـلٌ (4)، ما لم تـُـدْن ِالأجلَ ، وتقطعِ الأملَ ؛ وإن حادثـًا ألمَّ بك ، فاستبدَّ (5) بأقلك ، وصفحَ عن أكثرِك لمِنْ أجلِّ النعمِ عليكَ . وقد تناهتْ إليك أنباءُ مَنْ رُزِيَ فصبرَ، وأصيبَ فاغتفرَ، إذ كان شَـوَىً(6) فيما يُرتقبُ ويُحذرُ؛ فاستشعرِ اليأسَ مما فاتَ إذ كانَ ارتجاعُه ممتنعاً ، ومرامُه مستصعبًـا ، فــلشىءٍ ما ضُرِبتِ الأُسى، وفزع أولو الألبابِ إلى حُسْنِ العَزاء ".
وقامَ جُعَادة ، فقالَ :
" أيها الملكُ ، لا تشعرْ قلبـَـك الجزعَ على ما فاتَ ، فيغفلَ ذهنـُـك عن الاستعدادِ لما يأتي ، وناضلْ عوارضَ الحُزنِ بالأنـَـفـَـةِ عنْ مُضَـاهَــاةِ (7) أفعالِ أهلِ وَهـْـي ِ العقولِ ، فإنّ العزاءَ لحُـزمَاءِ الرجالِ ، والجزعَ لربَّاتِ الحِـجَـال ، ولو كانَ الجزعُ يردّ فائتـًا، أو يحيي تالفاً، لكانَ فعلاً دنيئاً ، فكيف به وهو مجانبٌ لأخلاقِ ذوي الألبابِ ؟! فارغبْ بنفسِك - أيها الملكُ - عما يتهافتُ (8) فيه الأرذلون ، وصُنْ قدرَك عما يرتكبُه المخسوسون ، وكن على ثقةٍ أنّ طمعَـك فيما استبدتْ به الأيامُ ، ضِــلـّـة ٌ كأحلام ِ النيام ِ ".
* الأمالي لأبي علي 1/178
_________________________________
1- المقاول والأقيال : دون الملوك العظماء .
2- وَقـَـصَه : وقص عُــنُــقَــَـه : كسرها .
3- يؤسُّـونه : يعزونه ، وأصله أن يقال : لك أسوة ٌبفلانٍ وفلانٍ .
4- الجلل : الصغير ، والجلل : الكبير . وهو من الأضداد .
5- استبد : استبد به أي : جعله نصيبــَـه . والبدّة ( بالضم ) : النصيب .
6- الشوى : الهين اليسير .
7- المضاهاة : المشاكلة .
8- التهافت : التتابع .
المفضلات