الشعر … المستقبل
بين إشكالية التَّعريف ومصير الكينونة
د.شاكر مطلـق
تبدأُ الإشكالية هذه ، بالنسبة إلي ، من العنوان أو معه .
فإذا حاولنا تعريف الشعر ، من خلال ما قدَّمه الأدباء والباحثون والنقاد ، قديماً وحديثاً ، فإننا سنعثر ، هنا وهناك ، على أجزاء من الحقيقة ، ولكن الحقيقة ، ككل ، ستتمنَّع عن أن تفصح لنا عن كينونتها وتُسقطَ نِقابها لنعرفها شكلاً محدداً أو قناعاً ثابتاً يمكن لنا استيعابه ورؤيته بالعين .
غير أن الأمر ليس كذلك ، بل ولن يكون كذلك ، طالما أننا ، من خلال حواسنا الخمس ومن خلال اللُّغة ، نحاول أن نقترب وأن نحاور المطلق .
يقول نقشٌ شعريٌّ قديم على أحد تماثيل " بوذا " من عام 746 م ما معناه :
إذا كان المطلق دون شكلٍ
فكيف لنا أن نراه ؟
إذا كان المبدأُ دون كلماتٍ
فكيف لنا أن نَقرأه ؟
نحن مرغمون ، إذن ، على التعامل مع هذا المطلق ، مع هذا الكل الشعري ، من خلال الكلمات ومن خلال الخيال والرؤيا ، التي ترسم لنا شكلاً مت نظنَّه الأصل ، الحقيقة ، وكلُّ يراه من جانب واحد ، تماماً كطلبة الفن التشكيلي الذين يرسمون إناءً من الزُّهور ، كلٌّ من منظوره الخاص ، ويلونه بما تمليه عليه عاطفته ومشاعره وحدسه .
ولعلَّ اقتراح الناقد والفيلسوف الألماني " مارتن هايدِغَرْ " لعل اقتراح " هايدغر " محاولة تعريف الشعر عن طريق نفي صفات معينة عنه ، وربما يقربنا قليلاً من الحقيقة ، كأن نقول :
أ _ ليس الشعر صيرورة نفسية تنتج القصائد .
ب _ ليس الشعر تعبيراً ألسُنيَّاً عن معيوش نفسي .
إنما الشعر والقصيدة هما كل ذلك ،إلاَّ أن هذا يخلو بأساسه من الماهيَّة ، فأين تكمن ماهية الشعر ؟
" هايدغر " يبحث في الأصل اللَّغوي اللاتيني _ اليوناني عن منشأ فعل (شعَرنَ ) فيجدها في فعل أظهَر أي جعل الشيء مرئيَّاً ، أي أن الشاعر الذي يتلقى البرق الإلهي _وأرغب أن أقول البرق الكوني _ يتوسَّله في الكلام ثم يدخله في لغة شعبه .
من هنا نجد أن الشاعر الألماني " هولدَرْلينْ " يعبِّر عن ذلك ، قبل دراسة " هايدغر " ويقول : ( فكرة الذي يدوم هو ما ينشئه الشعراء . )
لماذا ؟ لأن الكينونة المنشَأة في الشعر هي القادرة على احتضان الوجود الكلي … وبالتالي فإن الشعر هو الواقع وهو الحقيقة ، لأن ما يسمى بالواقع يزول مع الزمن الفيزيائي بينما تلك المشاعر والعلاقات والتساؤلات الكونية ، هي التي تخلد ، في الفن بعامة ، وفي الشعر بخاصة .
هذا ما نجده عند الفيلسوف الألماني " نيتشه " في نظريَّته حول ( العود الأبدي ) _ تلك الفكرة التي أخذها عنه " هايدغر " وهي أن بعض الإمكانيات التي يحققها " الدَّازاين " _ أي الوجود المطلق _ تميل من ذاتها إلى التكرار وكأنما التكرار هو الخلق ثانية وكأنما قيمة الفعل هي في تكراره …
( وقد عظَّم " نيتشه " الفن _ بعامة _ لأنه يجعل ما ليس كائناً ، يندرج في الكينونة ويسمو بنا إلى أبعد من أنفسنا وصولاً إلى الإنسان الأسمى … )
هذا الإنسان الأعلى " سوبر مينش _ سوبرمان " وهو الذي طمحت إلى خلقه النازية من العرق الآري _ الجرماني .
إنَّ " إرادة الاقتدار هي الماهية المكونة للكائن ، بينما " العَوْد الأبدي " هو القيمة التي تكثِّف الحياة وتجعلها تتخطى ذاتها وهو الكيفية ، كيفية كينونة الكائن في كلِّيته "
هنا يتجاوز " نيتشه " الفكر اليوناني في مسألة الكينونة حيث :
_ الكينونة تكون ( بار مفيديس )
_ الكينونة تصير ( هيراقليطس )
بينما " نيتشه " يقول :
_ الكائن كينونة وصيرورة ، صيرورة تعود دائماً ، إنه يخلق ويهدم ، إنه إرادةُ اقتدارٍ أبدي وتجاوز قِيَمي .
بينما " هايدغر " يقول :
- الإنسان يوجد ، وغيره من الكائنات يكون … وبصفته كائناً مفكراً فهو منفتح على الكينونة … وإنَّ قدرة الكينونة على التَّجلي بحاجة إلى الإنسان ، والعكس بالعكس .
هذا الكائن ، وهو في وضع المتسائل عن الكينونة أي ( الوجود المطلق ) ، هو ما أسماه (بالدَّازاين ) ، الذي تكمن ماهيَّته في وجوده ، في الطرق المختلفة التي يوجد فيها ، فهو بإمكانه أن يكون ذاتَه يكون أو غيره .
وفي الكلمة يكون مصير الكينونة في العالم الحي للإنسان …
والكلمة هنا هي الإبداع الخلاَّق في اللغة ، الذي يجعلنا نتخطَّى " الزمن الفيزيائي " إلى "الزمن الوجودي "
في كتابه " طرقات الغابة " يعرض " هايدِغَر " نظريَّته الجماليَّة التي يصل فيها إلى أن
( الفن صيرورة الحقيقة وجذوتُها … وأن الحقيقة والفن يتماهيان بالشعري العميق . وبما أن كل فن يقوم على حدوث الحقيقة بشكل ما ، فإن كل فن هو شعبي … والشعري هو المرجع الأول للفنون كلها ، وأعمق منها جميعاً ) .
ويرى " أنَّ اللُّغة أصلاً هي شعر أولي إذ سعت إلى كشف الكائن بما هو كائن ، فضلاً عن كون الكلام بطبيعته وسيلة لإدراك الكائن ككائن ، عبر إدراك الكينونة ضمناً ، وهذا ما يتحقق في اللُّغة _ القصيدة _ بامتياز " إلاَّ إن الشعري يبقى أكثر عمقاً وبعداً من مفهوم القصيدة المحدد بمجاله الدَّلالي الضَّيق . إنَّه محور يستقطب الفنون كلها بما فيها القصيدة … ويصل إلى أن ماهيَّة الفن هي الشعري ، وأنَّ ماهية الشعر هي تأسيس الحقيقة . وهذا التأسيس مثلَّث المعنى : كموهبةٍ وكبدءٍ وكجذرٍ . ومن خلال دراسة لشعر " هولَدْرلين " يصل
إلى ( الذي يدوم هو ما ينشئه الشعراءْ ) .
ولا بأس هنا من عودةٍ سريعةٍ ومبسطةٍ لتاريخ الإنسان والفكر ، حيث توجد بعض الخلافات بين ما يعرضه " هايدغر " وما أزعُمَ أنه أقرب إلى الطبيعة البشرية ، بعد أن وصلت مرحلة " الإنسان العاقل " و" الكائن الأسمى " ودخلتْ مدارات ما يسمى بالمدنيَّة و "الحضارة " .
الفنون كلَّها قد تحتوي على كمٍّ ما من الشعري وليس بالضرورة من الحقيقة ، وهي ، عدا الشعري ، قد تكون الرَّد الفيزيولوجي و البيولوجي على مظاهر الطبيعة ، بدون الدخول في مرحلة التساؤلات العميقة أي مرحلة ما أسماه " هايدغر " ( الاستهلال ) وهو ( مركز انطلاق وتقليع وليس مرحلة البداية ، التي تشكل مركز تدفُّق وانطلاق فعلي لا تظهر إلاَّ في الحادثة ، ولا يتحقق حضورها الكامل إلاَّ في النهاية ) الوصول أو الحلول _ كما في الشعر والرقص والغناء وحتى الرسم على سقوف وجدران كهوف الإنسان القديم ، تدخل ، حسب ما أرى ، في مرحلة " الاستهلال " تلك _ وبظهور اللغة وبخاصة الكتابة قبل أكثر من خمسة آلاف عام … أي بدخول الإنسان التاريخ ونشوء الحضارات والمدينة الدولة ، انطلق الإنسان فكريَّاً ، من بداءاته نحو محاورة المطلق … وكان الشعر بتساؤلاته الدائمة القديمة الجديدة ، ومنذ " كلكامش " وحتى اليوم ، قائماً دون أن يطرأ على هذه التساؤلات الوجودية الكثير من التبدُّل ، لأنها مسائل تتعلق " بالدَّازاين " البشري المشارك في إنشاء الكينونة واحتضان الوجود الكلِّي وتخليده ، من خلال تجميد اللَّحظة على اللَّوح المكتوب وتخطي الزمن الفيزيائي إلى زمان اللاَّزمان _ إن صحَّ التعبير _ ، حيث نتعرَّف ذاتنا ونغدوا شاهداً على الكينونة ، من خلال اللُّغة وتدخل عالم المخاطر المحفوف بالتَّجلي أو الانهيار والسقوط .
يقول الشاعر " أنسي الحاج " _ المستقبل / لندن العدد 30 _2 /95 _ " الإنسان بالشعر خصوصاً يطارد المطلق ، ويوسِّع دوائر أحلامه " .
أمَّا فيما يتعلَّق بالمستقبل … فإذا أردنا وبشكل سريع أيضاً ، أن نلامس الموضوع ، بعيداً عن الزَّمن الفيزيائي : حيث الماضي والحاضر والمستقبل ، فإنه يمكنني أن أقول أن المبدع ، والشاعر على وجه الخصوص ، الذي يعي أبديَّة اللحظة وفناءَها الدَّائم يصل إلى أن المستقبل غير موجود بَعْدُ ، والماضي قد ولى ، وأما الحاضر الذي يقول عنه " هايدغر " :
" الحاضر هو اللَّحظة التي أرى فيها وجودي من البدء حتى الموت "
حتَّى هذا الحاضر ، هو ، في رأيي ، غير موجود في الوعي الفيزيولوجي للكائن البشري بمعياره الفيزيائي الدقيق ، لأنه في لحظة الوعي بوجوده واستيعاب كينونته يكون قد صار من الماضي .
ربَّما ثمَّة عبثيَّة ما في هذا الفهم ولكن هذا ما أراه وأطرحه أيضاً لنقاش محتّمَل . وأختمُ بقولٍ للفيلسوف الألماني ( هيجل ) يقول :
" الشعر هو لغةٌ كونيَّة ينزِع إلى أن يكون "
فالشعر _ إذن _ لعبة تلعب على قدر اللاَّعب ، لعبة الجدليَّة المحيِّرةِ المفاجئةِ ما بين الارتباط والانعتاق ، ارتباط الشعر بلغته الأم ، وانعتاقهِ من حدودها نحو كل إنسان ، في أي لغةٍ ، وربَّما نحو ما هو أبعد من الإنسان … ما هو غير بشري .
__________________________
حمص _ سورية د . شاكر مطلق
E.-Mail:mutlak@scs-net.org
المفضلات