آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 84

الموضوع: مع الروائي محمد جبريل

  1. #41
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    قصة قصيرة لمحمد جبريل
    ......................................

    إيقاعــــــــات

    خطرت الفكرة فى باله كالومضة . لم يكن ـ فى تلك اللحظة تحديداً ـ يفكر إلا فى اللقاءات التى تملأ أيامه الأربعة فى بيروت . محاضرتان ، وربما ثلاث ، فى اليوم الواحد ، وأحاديث فى وسائل الإعلام ، ولقاءات بمسئولين . لم يعد نفسه حتى لمجرد السير فى شارع الحمراء الذى يحب محاله ومقاهيه وصخب الحياة فيه ..
    ومضت الفكرة . استعادها . أزمع أن يخضعها للمحاولة . إذا جاوز الإخفاق ، فهو يستعيد الثقة الغائبة . وإذا لقيت المحاولة صدوداً فعليه أن يظل السر مقيداً داخل حجرته بالفندق ، القيد نفسه الذى خلفه فى حجرته بالشقة المطلة على نيل الزمالك ..
    قال الطبيب : التردد يؤدى إلى الحوادث . كان يقصد حوادث المرور ، لكنه لاحظ أن المعنى ينسحب على كل شئ ..
    تحسس ـ بعفوية ـ موضع العملية الجراحية فى صدره . كيف يواجه النظرات المشفقة ، أو المشمئزة ؟
    وبخ نفسه لأنه استدعى الفكرة ، وقلبها : يدعو المرأة إلى زيارته فى حجرته . يقضيان معاً وقتاً لم يستمتع بمثله من قبل ..
    خادمة الغرف ؟!.
    يفر من المشكلة الحقيقية ، فيثير مشكلات هو فى غنى عنها ..
    قضى موظف الاستقبال على تردده : هل يقدم نفسه باسمه الحقيقى ، أو يخترع اسماً يختفى وراءه ؟..
    طلب الموظف جواز السفر . تأمل البيانات ، وأودعه خانة مفتاح الحجرة :
    ـ سنعيده عند نزولك ..
    أضاف الموظف بلهجة مرحبة :
    ـ عدد الأيام ؟
    ـ ثلاثة أيام أو أربعة ..
    ثم وهو يتكلف ابتسامة :
    ـ مهمة عاجلة ..
    استشرفت نفسه حياة غير التى يحياها . غلبته الحيرة ، فهو لا يقدر أن يفعل شيئاً . ما يؤلمه أنه لا يقوى على البوح . السر فى داخله ، لا يكشف عنه . يقاوم الرغبة فى أن يتكلم مع أحد ، يفض عما بنفسه ، يحكى ، ويحكى ، لا يسكت حتى يهدأ . قيمة الصمت أنه يخفى ما نعانيه . لو أن الملامح أظهرت ما فى النفس ، ما قدم من القاهرة . العجز معه يصحبه إلى أى مكان يقصده . ليس فى جسده ، وإنما فى مواجهة الظروف التى تواجهه ..
    قالت فادية :
    ـ ماجد يستهلك نفسه فى إظهار الغضب ، لكنه لا يؤذى ..
    وعلت ضحكتها ، فاهتز صدرها :
    ـ ماجد كائن مسالم ..
    ينظر ـ فى استياء ـ إلى نظرتها المستخفة . تجيش مشاعره . يعلو صوته بما يمور فى داخله . يبدى رأيه ، ويعلن ما ينوى فعله . الابتسامة على شفتيها تزيد من إحساسه بالغضب . يغلبه ارتباك لا يفلح معه فى أن يقول شيئاً . يغمض عينيه . يروح فى عوالم يصعب عليه تبينها . خليط من المشاعر والذكريات والميل إلى الفضفضة . حتى المواقف التى لم تشغله فى وقتها ، ونسيها ، تستعيدها ذاكرته ، وتملأها ..
    أهمل النصيحة بأن يلغى سفره إلى بيروت ، أو يؤجله . تحدث على عبيد عن اتساع حرب الميليشيات ، والقتل على الهوية . داخله شعور لم يستطع تفسيره . كأنه التحدى ، أو الرغبة فى المغامرة . تأكيد ما يطمئن إليه فى نفسه ، ولا يراه فى أعين الآخرين . حتى ضابط الجوازات فى مجمع التحرير لم يوقع بالموافقة إلا بعد أن دفع إليه على عبيد ببطاقة التوصية ..
    أدار الولد النوبى الملامح مفتاح الحجرة ، ودفع جرار الشرفة الزجاجى . أطل من الطابق التاسع فى الفندق ذى الطوابق العشرة . فى أسفل طريق الكورنيش فى زاويته المطلة على صخرة الروشة ، كأنها ساقا عملاق فى قلب المياه ، وأكشاك الملابس والكاسيتات والطعام ، وعربات الفول والترمس والذرة متجاورة فوق الرصيف ، ويتقافز فى الزحام باعة الورد والفل والياسمين ، ومياه البحر تمتد إلى نهاية الأفق ، فوقها سماء صافية ، تتخللها سحب بيضاء ..
    تأمل وجهه فى مرآة الحمام ..
    التجاعيد دوائر أسفل العينين ، وحول الفم ، وتتباين مع شعره المصبوغ بالسواد ، والبشرة باهتة ، والوجنتان غائرتان ..
    استعاد الفكرة فى وقوفه أمام المصعد . حرص على أن يتجه بنظراته ـ فور خروجه من المصعد ـ إلى الناحية المقابلة لكاونتر الاستقبال . يفطن الموظف إلى مكانته ، فلا يهبه الفرصة كى يلقى أسئلة ، أو يعرض خدمات . هو واحد من نزلاء الفندق ، لا شأن له بأحد ، ولا شأن للآخرين به . لكن : كيف يجد ما يطلبه ؟ كيف تنشأ العلاقة ؟..
    لو أن موظف الاستقبال ، أو أى عامل فى الفندق ، فطن إلى ما أزمع فعله ، فستؤذيه الفضيحة بما لا يتصوره ..
    لحقه صوت عادل :
    ـ أريد نقوداً ..
    اتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
    ـ أنا أنفق على البيت كله وليس عليك وحدك ..
    ـ أردت أن تصبح أباً .. لذلك ثمنه ..
    ثم وهو يطرقع أصابعه :
    ـ أريد نقوداً ..
    هز رأسه دلالة الرفض ..
    قال عادل :
    ـ إذا لم أحصل على ما أريد .. لن أضمن تصرفى ..
    تفجرت فى داخله رغبة فى الشتم ، أو فى العراك :
    ـ افعل ما تشاء !
    وهو يزيح شهادات التقدير والأوسمة والميداليات عن الأرفف والجدران ، ويقذف بها من النافذة المطلة على بقايا بناية متهدمة :
    ـ هذا ما أفعله ..
    اكتفى بنظرة الذهول تملأ ملامحه . فكر فى أن يمنعه ، يصرخ فيه أو يدفعه أو يصفعه ، لكن العجز شل تفكيره وتصرفه . خشى تصرفاً لا يتوقعه . ماذا يفعل لو أن الولد رد إليه أذيته ؟!.. يصفعه ، فيرد عادل الصفعة بمثلها . ينتهى كل شئ . لا أبوة ، ولا بنوة ، ولا أسرة . لا أى شئ . يتمنى الموت ..
    قال لنبرة الإشفاق فى قول على عبيد :
    ـ أنت لا تعمل حساباً للمستقبل ..
    ـ معى ما يكفى المستقبل ..
    وتلكأت الكلمات :
    ـ يهمنى أن أنفق ما أملكه فى حياتى ..
    ثم وهو يصر على أضراسه :
    ـ لا أريد أن يرثنى ابنى فى مليم واحد ..
    ـ أعطاك الله العمر .. لكن الحرص على ألا يرثك عادل يثير التأمل ..
    ـ لماذا ؟
    يقلب الكلمات فى ذهنه ، فلا يجد إجابة محددة . يرفض لأنه يريد ذلك . ما معنى أن أعمل وأكسب ، ثم يرث أى أحد ما ضيعت العمر لتدبيره ؟. يجب أن يعلم عادل وفادية أنه قادر على اتخاذ القرار . أنا أرفض وأقبل وأمنع وأعطى . اتخذ قرارى بكل الثقة . أملى إرادتى . لا تشغلنى ردود الأفعال . ما أفعله هو حقى ..
    اعتذر عن المرافقة بأنه يريد السير فى شوارع الكويت بمفرده . سأل عن السوق . استعاد التسمية :
    ـ واجف ؟..
    ـ إنها مجرد سوق شعبية ..
    أهمل التحذير ، وسأل عن الطريق ..
    مضى من ساحة الصفا . الأسقف الشبيهة بالقيساريات دفعت معظم المحال إلى إضاءة الداخل . غالبية البضائع قديمة ، أو مستعملة . فى الوسط طاولات خشبية ، فوقها ملابس نسائية ومفروشات وسجاجيد . استعاد زحام وكالة البلح ..
    قال الرجل :
    ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
    ثم وهو يحدجه بنظرة تتوقع رد الفعل :
    ـ سأعد لك وصفة لا تخيب !
    غلبه الارتباك . أدرك أن الرجل خمن عكس ما يعانيه . قال :
    ـ أنا لا أشكو ضعفاً ..
    ابتسم الرجل بالحيرة :
    ـ ماذا تشكو إذن ؟
    كان يضايقه التقاط تلميحه بما يعانيه بمعنى لا يتغير . تقتصر الأحاديث على ما يضيف إلى حيويته . تقترن بالإيماءات والكلمات الملتفة بالغموض . ما يعانيه كائن فى داخله ، لا دخل له بمرض ، ولا يحتاج إلى شئ مما يشيرون عليه به . شئ لا يدرى مصدره ، وإن استقر فى داخله ، يثيره ، ويشقيه بالإحباط ، وبأنه غير قادر على التصرف ، وعاجز ..
    قال البائع فى شارع الحبيب بورقيبة :
    ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
    أضاف وهو يقدم له حبة صغيرة :
    ـ خذ هذه .. تجعل ما تعانيه من الماضى ..
    وضع الحبة بين شفتيه . تبعها بجرعة ماء . تصاعد ـ فى اللحظات التالية ـ ما لم يخطر له ببال : خيالات ومشاهد ونشوة تقربه من الغيبوبة . سرى ما يشبه الخدر فى أعصابه . أغمض عينيه فى استسلام . تصور ـ بتأثير النشوة ـ أن أنفه طال ، فكاد يسد الطريق . أبطأ من خطواته حتى لا يصطدم بالمارة أو العربات . داهمه التوجس ، فعوج أنفه بأصابعه ليحقق انتظام المرور . خطر له أن يصرخ ، ويغنى ، ويرقص ، ويجرى إلى حيث تذهب به قدماه ..
    عبر الطريق إلى الناحية المقابلة . استبدل البائع شرائط كثيرة حتى هز رأسه بالموافقة . الصوت الأنثوى يتغنى بالعلاقة منذ بداياتها . يتعمد المط والتلكؤ والبحة المتحشرجة والأنفاس اللاهثة . مالت الرءوس ، وتقاربت الأجساد ، وتعالت الهمسات الصاخبة ..
    قال البائع وهو يقلب الشريط على الوجه الآخر :
    ـ أثق أن هذا هو ما تريده ..
    ابتسم للتعبيرات والتعليقات التى علقت على الدكاكين المجاورة للكاتدرائية بشارع الحبيب بورقيبة . دفع ـ فى زيارته الأخيرة إلى تونس ـ أربعة دولارات لكى يكتب له البائع أمنية على بطاقة مزينة بالورود . أطال التفكير فيما يتمناه لها . طلب البائع أن يترك العبارة ، الأمنية . استقبلته بما اعتاد من الجفاء ، فلم يتذكر البطاقة إلا عندما فتشت فى جيوبه ، قبل أن يبعث البدلة إلى المغسلة ..
    نسى حتى ما قدم من أجله إلى بيروت وهو يجلس فى كازينو لبنان ينصت إلى المغنية الصغيرة ، الممتلئة ، تردد أغنية فيروز : باحبك يا لبنان . وثمة آلاف النقاط الضوئية تفترش مساحات السواد فوق الجبل . حرص على تناول ما يميز الطعام اللبنانى : الكبة والتبولة والفتوش والحمص بالطحينة واللحم بالجبن وورق العنب والمحاشى والمتبلات . حتى الحلويات ـ رغم الضغط والسكر ـ أكل البقلاوة والقطائف وعيش السراية والعثمانلية وزنود الست ..
    عانى كثرة الحواجز على مفارق الطرق . مدرعات ، وسيارات جيب ، وبزات عسكرية ذات ألوان متباينة . والميكروفونات يتعالى منها التعليمات والأوامر ، والشعارات مكتوبة بالبويات الملونة والطباشير ، تملأ الحوائط ، وأسفلت الطريق ، وأبواب الدكاكين المغلقة ، وسواتر البنايات المتهدمة ، والملصقات على الجدران ، ولافتات القماش تصل ما بين أعمدة النور فى تقاطعات الشوارع ، تؤيد وتستنكر وتحيى وتبايع وتبشر بالخلاص ، وصور الزعماء والقادة معلقة على النوافذ والمشربيات ، والأعلام التى تنتمى إلى تنظيمات يسمع عنها ، أو لا يعرفها . أذهله الدمار فى وسط بيروت : سوق الطويلة ، وباب إدريس ، وساحة البرج . البنايات المتهدمة ، وفجوات الصواريخ ، وثقوب الرصاص ..
    أشار سائق التاكسى إلى النافذة التى كان يقف وراءها وبيده بندقية يصعد بها إلى من يحدده التلسكوب . لم يعد القتل على الهوية ، ولا بعد إلقاء الأسئلة . من يجرى بسرعة ، أو يمشى ببطء ، أو يتلفت ، يصوب عليه دون أن يتلقى أمراً ، أو يعطى إنذاراً ..
    استعاد التسمية :
    ـ قبرص ؟
    أعاد فاروق معوض القول :
    ـ قربص .. وهى غير قبرص ..
    ثم بلهجة محرضة :
    ـ بها نبع ماء ساخن يتدفق من الصخر . لو أنك أكثرت من الغطس فيها فالنتيجة مؤكدة ..
    أشفق من الارتفاع الهائل الذي بلغته السيارة على الطريق الصاعدة . بدا الوادى فى أسفل مفروشاً بالخضرة ، تنتهي بالشريط الساحلي . الجبل الصاعد المتعرج نفسه ، ارتقته السيارة فى قريات ، وإن تسربل الجبل العمانى بالصخور والوحشة ، واختلطت ـ فى الوادى ـ مساحات الصخور والرمال وبقع الخضرة القليلة ..
    المياه تجرى ، ساخنة ، إلى الدائرة الحجرية المتصلة بالبحر . تبلغ مستوى الركبة . تظل السخونة على ارتفاعها إلى خارج الدائرة ، ,على عشرات الأمتار فى اختلاطها بموج البحر ..
    ـ من أين تأتى هذه العين ؟
    ـ من الصخور . البداية لا يعرفها أحد ، لكنها تنبثق من الصخور ..
    دلى قدميه فى مياه الدائرة الحجرية . لسعته السخونة فرفعها . تشجع عندما أبقت الفتاة قدمها فى الماء . دلى قدميه ، وتحمل الحرارة ..
    تنبه على صيحة أربكته . كان الشاب ذو الأفرول الكاكى يتفحصه بنظرة مرتابة :
    ـ ماذا تريد ؟
    أدرك أنه أكثر من التلفت فيما يثير التأمل والأسئلة . غالب إحساسه بالارتباك :
    ـ أنا أتنزه ..
    وهو يزغده بكعب البندقية فى جنبه :
    ـ تتنزه فى منطقة عسكرية ؟
    المناطق متشابهة : الحواجز والمتاريس واللافتات والشعارات والميلشيات العسكرية ..
    تعمد ألا يواجهه بعينيه . يخشى أن يلمح التخاذل فى نظرته :
    ـ لم أكن أعرف ..
    لم يعد قادراً على الفهم ، ولا الاستيعاب ، ولا التصرف . ثمة شئ ينقصه ، وإن لم يدركه على وجه التحديد . عانى ما يشبه شلل الإرادة . اختلطت الرؤى ، والخيالات ، والأصوات التى يغيب مصدرها ..
    أعاد الشاب دفعه بكعب البندقية . تأوه وسقط . واصل الشاب دفعه وهو يزحف . اعتمد على راحتيه وركبتيه ، حتى توقفت الضربات ، وانحسر ظل الشاب . زم شفتيه ، وإن ظل على تألمه ، وهو يرقب الشاب مبتعداً ، فى وقفته المنعزلة وسط الميدان الصغير ..
    كان ذهنه قد خلا من كل شئ .
    .................................................. ....
    (من مجموعة "إيقاعات" ـ تحت الطبع)


  2. #42
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الجماعية في الأداء

    بقلم: محمد جبريـــــــــل)
    .............................

    الجماعية فى الأداء شرط مهم لتحقيق النجاح فى أى عمل ينسب إلى الجماعة . بديهية يتناساها البعض لمجرد أن يكون هو وحده فى الصورة ، لمجرد أن يصبح نجماً ، يتحول زملاؤه من حوله إلى كومبارس أو ظلال .
    يتسلم لاعب الهجوم فى فريق كرة القدم كرته من لاعب خط الظهر ، أو من لاعب خط الوسط . هو ـ كما ترى ـ لم يلتقطها من السماء ، أو أنه وجدها ملقاة فى جانب الملعب .
    يتقدم اللاعب بالكرة فى اتجاه المرمى ، يلاحقه من فريقه لاعبان أو ثلاثة .
    حسب قواعد لعبة البلياردو ، فإن على اللاعب أن يمرر الكرة من موضعه فى الجانب إلى زميل يواجه المرمى الذى قد يكون خالياً ، لكنه يفضل ـ فى أنانية عقيمة ـ أن يشوط الكرة فى الدفاع المتكتل ناحيته ، أو فى حارس المرمى ، أو يشوطها خارج الملعب . ويواجه اللاعب نظرات زملائه المؤنبة باعتذار لا معنى له ، فقد ضيع على فريقه هدفاً ، ربما كفل له الفوز !
    فى اجتماعات هيئة ثقافية مسئولة ، طرح زميل اقتراحاً ، وافق عليه الأعضاء ، وقرروا تبنيه . لكن الزميل ما لبث أن سحب اقتراحه .
    سألته بينى وبينه : لماذا ؟.
    قال فى بساطة مذهلة : أخشى ألا ينسب الاقتراح لى !
    ظل الاقتراح مشروعاً مؤجلاً ، مع أنه ـ فيما أذكر ـ كان يمثل إضافة إلى حياتنا الثقافية ، لا لسبب إلا لأن مقدم الاقتراح رفض الجماعية ، وخشى أن يدخل معه فى الخط آخرون يشاركونه النجومية !. وللأسف فقد نسى الأعضاء اقتراح الزميل ـ أو تناسوه ـ فلم ير النور !
    العمل الجماعى يعنى أنه من صنع الجماعة ، هى التى تدرس وتخطط وتنفذ وتجنى الثمار ، أو تهب الثمار للمجتمع كله . إذا تصرف كل فرد فى حدود إحساسه بالفردية ، فإنه يمتنع عن وضع طوبة فى البناء الذى يسكنه الجميع ، أو يصنع ثقباً فى السفينة التى تقل الجميع !
    عشنا أمثلة رائعة ونبيلة فى المعنى الذى يضحى ليس بالفردية فحسب ، وإنما بالحياة من أجل أن تنتصر الجماعة ، أن ينتصر الوطن : الجندى الذى وضع جسده على الأسلاك الشائكة ، ليعبر زملاؤه من فوق جسده إلى معسكر العدو . لم يتوقع إشادة من أى نوع ، ولا على أى مستوى . كل ما شغله أن يجعل من جسده معبراً لزملائه نحو النصر .
    إذا تدخلت الفردية فى العمل الجماعى ، فإنها تسىء إلى الفرد ، وإلى الجماعة فى الوقت نفسه .
    وحتى أكون محدداً ، فإن الظاهرة السلبية موجودة فى معظم ـ إن لم يكن كل ـ هيئاتنا الثقافية ، سواء كانت أهلية النشاط ، أم تابعة للدولة . واٍسألوا لجان المجلس الأعلى للثقافة وأقسام الجامعات واتحاد الكتاب ونادى القصة ورابطة الأدب الحديث التى يذكرنى سكرتيرها العام صديقنا الشاعر محمد على عبد العال بإمام اليمن الأسبق عندما كان يحتفظ بمفاتيح مؤسسات اليمن السعيد فى جيبه ، والقائمة طويلة !


  3. #43
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    .................................................. ....

    (1) لحظـــــــة

    أعادت تأمل الشعرة البيضاء . لم تكن رأتها من قبل . تنظر إلى المرآة إذا وضعت المساحيق، أو مشطت شعرها ، أو وهى ترتدى الملابس. ربما تأملت وجهها، أو جسمها كله ، بلا مناسبة . هذه هي المرة الأولى التي تكتشف فيها الشعرة قافزة في الغابة السوداء خلف الأذن ..
    غالبت مشاعر متباينة، وإن غاب معناها الحقيقي. دارت بإصبعين كدوامة، حتى اطمأنت إلى اختفاء الشعرة تماماً. تأكدت من البسمة التي لم تكن تغادر شفتيها ..
    غادرت الشقة بخطوات بطيئة ..
    ثم بخطوات أسرع ..

    ***

    (2) ثــــــــأر

    أحاطت بساعديها الطفلين ، واستندت إلى الجدار ..
    قال فى لهجة مشفقة :
    ــ لا شأن لك ولا للطفلين بما حدث ..
    قالت فى خوفها :
    ــ لكنك قتلت أباهم ..
    ــ إنه ابن عمى أيضاً .. وقد نلت ثأري منه ..
    أضاف فى لهجته المشفقة :
    ــ لا شأن للطفلين .. سيأتون إلى بيتى ليكونوا فى رعايتى .. فأنا ابن عم أبيهم ..
    اتسعت عيناها بالخوف .. والدهشة ..

    ***

    (3) أصداء

    ألقى الرجل أوامره ..
    قال لنا :
    ــ لا تشغلوا أنفسكم .. فالقيادة مسئولة عن كل شئ !..
    كنت أعبث بالمقعد تحتى ، أكور الإسفنج ، وأقذف به إلى الأرض ..

    ***

    (4) محطـــــة

    صعدا فى المحطة نفسها . واحد من الباب الأمامى ، وواحد من الباب الخلفى . وقفا أمام المقعد الوحيد الخالى ..
    قال الأول :
    ـ من مواليد كم ؟
    قال الثانى :
    ـ 22
    قال الأول :
    ـ أنا من مواليد 21
    قال الأول :
    ـ أنا أكبر منك ..
    قال الثانى :
    ـ إذن من حقك أن تجلس ..
    وأخلى له الطريق .

    ***

    (5) الثورة

    حين وصل إلى نهاية الرواية ، كان مصير الفتاة يشغله تماماً . بدا الظلم أشد مما يستطيع احتماله ، كأنه الموت ، أو أقسى ..
    أغلق الكتاب بعنف ، ونزل إلى الطريق ..


  4. #44
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    نبوءة عراف مجنون

    شعر: د. حسين علي محمد
    ...............................

    إلى محمد جبريل..
    (في يوم مولدي التاسع والعشرين)

    -1-
    * قال العرَّافُ لزيْدٍ: تحملُ شمساً فوقَ الرَّأسِ وتُخرِجُ ذات صباحٍ من سرَّتِكَ النورَ، وتبسمُ، ساعتها سوف تُدحرِجُ في زَبَدِ "المتوسط" حُزنَ العُمْرْ.
    "بُرجُ الثورِ" يدورُ، وأنت تُضاجعُ حزنَكَ، تدخلُ في رحلاتِ الكشفِ الباهرةِ، وأنت تُغنِّي، ترقصُ في وَهَجِ الشمسِ، وتصنعُ منْ شعرِكَ أفراساً تركبُها في المعمعةِ، وتُطلقُها من مدن الحلمِ، وتصعدُ طبقاً عنْ طبقٍ، تجتازُ الوهمَ، فأنت الحرفُ الصاعدُ من خاصرةِ الريحِ، وأنت الجمرةُ في ليلِ الثلجِ، وأنت الفرسُ الأشهبُ في عرسِ النشوةِ، أنت النجمُ الواعِدُ ببزوغِ الفجرْ
    أنت النافخُ سرَّ الصحوةِ، هذا جسدُ البلدِ الميتِ يصحو مع دفقاتِ الريحِ، وهذا جسدُ العاشقُ ـ يا شيخي ـ .. يهفو للراياتِ الخضرْ
    خذني خلفكَ، أنقذني منْ يمِّ الصحفِ السوداءِ، ودعني أركبْ قاربَكَ القزحيَّ، وأضحكُ لليمِّ .. أُدحرجُ حزني في قاعِ البحرْ

    -2-
    سمعوا ما قالَ العرَّافْ
    ضحكوا والوجهُ الخائفُ يُلقي كرةَ الماءِ على الأعرافْ


    -3-
    *ألقَوْأ زيْداً فوقَ ترابِ مدينتِنا الصامتِ، أبصرتُ الخنجرَ في الظهرِ، وأبصرتُ الجسدَ الفارعَ مرميا في حاراتِ الخوفِ، وجيشُ ذبابٍ يلهو فوقَ الجسمِ، وعرّافُ مدينتنا يصرخُ:
    في الليل رسمتُكَ،
    في الأبواقِ نفختُكَ،
    رغم الهذرِ الحانقِ يصعدُ نجمُكَ يا لؤلؤةَ العصرْ
    *حدَّقتُ بعينيْكَ المبصرتينِ فأبصرتُ الأشجارَ تميلُ من الأثمارِ، وأبصرتُ النهرَ يفيضُ ويمنحُنا الخيْرَ، وأبصرتُ النسوةَ في زمنِ العقمِ يلِدْنَ رجالاً وبناتٍ ممشوقاتِ القدِّ نحيلاتِ الخصرْ
    *و"بهيةُ" تصحبُ ياسينَ وتمضي، والقلبُ يُشعُّ بنورِ الحبِّ على الأحياءِ، وتصطخبُ الأشياءُ ويضربُ دفُّ الفرحةِ، تنطلقُ زغاريدُ النسوةِ في الدور المنخفضةِ، والأطفالُ أراهمْ ينسلُّونَ من الدُّورِ ويجرونَ .. يجيئونَ، يقولونَ حكاياتٍ عنْ نجمٍ يبزُغُ، يمنحُهم دفءَ الوعدِ ووهَجَ الشعرْ
    -4-
    *"زيدٌ" مات صباحاً، والعرّافُ الثلقبُ كان يُغنِّي قبل سويعاتٍ: "في الليلِ المظلمُ يصعدُ نجمُكَ في أعلى عليينْ !"
    *.. ويدقُّ السورَ، ويُلقي للأفواهِ المشدوهةِ حباتِ الحنطةِ، وثمارَ البلحِ الأحمرِ، وحفاةُ الأرضِ يدقون الأرضَ، تدقُّ الأجراسُ، وتشتعلُ الأرضُ بنارِ الغضبِ وتسري في الأوردةِ دماءُ التكوينْ !

    ديرب نجم 5/5/1979


  5. #45
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    التماثيل المكسورة

    بقلم: محمد جبريل
    .........................

    لصديقي الناقد الراحل رجاء النقاش عبارة تقول: نحن نحب التماثيل المكسورة. الجملة في سياق الحديث عن الشخصيات التي تبلغ مكانة - تستحقها - فيصر البعض علي الاساءة إليها بملاحظات يراها هو وحده دون الآخرين وتسيء إلي ابداعات وانجازات اسهم بها مصريون حقيقيون.
    نحن نجد التعبير عن مصر المعاصرة في رموز تبدأ بحسن العطار والطهطاوي وتتواصل في عرابي والنديم وقاسم أمين وسعد زغلول وطلعت حرب وطه حسين والعقاد ومشرفة ومحمود سعيد ونجيب محفوظ وسيد درويش وجمال عبدالناصر ويوسف ادريس وجمال حمدان وأم كلثوم ومحمد رفعت وعبدالوهاب وعشرات غيرهم اضافوا إلي بلادنا فاستحقوا أن يكونوا تعبيرا عن مصر رموزا لها انهم التجسيد لتاريخنا المعاصر ولأن الرمز هنا بشر فلعله من الخطأ ان انشد فيه الكمال السوبرمان الذي يقتصر علي الفعل الايجابي ولايخطيء.
    لكي أوضح رأيي فثمة اتهام للطهطاوي بأنه كان ينتمي إلي الأرستقراطية المصرية بامتلاكه مساحات هائلة من الأراضي الزراعية مقابلاً لمؤلفاته التي تدعو إلي الاستنارة والتقدم وحرية المرأة وبالطبع فإن وضع الطهطاوي الاجتماعي لم يحل دون ان يضيف إلي فكرنا القومي والاجتماعي معالم ايجابية مهمة.
    أما صلة أحمد شوقي بقصر الخديو فهي لا تلغي أهميته كأهم شعراء عصره وأنه قد اضاف إلي الثقافة المصرية والعربية باختياره أميرا للشعراء العرب والأمثلة كثيرة.
    الرمز. المعلم. الرائد والموجه هو الذي تتسق كلماته وتصرفاته لكننا - في الوقت نفسه - لابد ان نقدر الضعف الانساني الذي قد يهبط بالخط البياني دون ان يخل بتصاعده النهائي نحن نعتبر المتنبي أهم الشعراء العرب رغم الاتهامات التي ملأت كتابا في مئات الصفحات عنوانه "الإبانة عن سرقات المتنبي"!
    ونحن نعجب بأعمال جان جينيه. نعزلها عن حياته الخاصة ولعلنا نذكر رد جينيه علي تشبيه سارتر له بالقديس بأنه ليس ذلك القديس إنما هو انسان محمل بالخطايا!
    يحقق الرمز مكانة ممتازة يستحقها لكن البعض يأبي إلا ان ينال من هذه المكانة بنقائص يخترعها خيال مريض ونأسف للإساءة - بلا سبب - إلي الرموز المهمة في حياتنا عدا الرغبة في رؤية التماثيل المكسورة!
    نتحدث عن قيمة مهمة في حياتنا نبدي تقديرنا لاسهاماته يطالعنا من يثني علي أحاديثنا لكنه يضيف كلمة "ولكن" ويتبعها بما يكسر التمثال ويجعل من معني "الرمز" أمنية مستحيلة!
    .................................................. ...........
    *المساء ـ في 22/11/2008م.


  6. #46
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    محمد جبريل.. وقضية الانتماء

    بقلم: مؤمن الهبّاء
    .........................

    إذا قصدت متعة السرد الروائي الفني فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت حبكة الإبداع القصصي وإبهاره فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت المتابعة النقدية النافذة فعليك بمحمد جبريل.. وإذا قصدت الدراسة البحثية الجادة فعليك - أيضا - بمحمد جبريل.
    إنه عالم متكامل. ومؤسسة شاملة. متعددة النوافذ. من أي زاوية نظرت حصلت علي مبتغاك.. متعة وثقافة وعلم.. ومن دواعي فخرنا. نحن أسرة المساء. أن هذا الفنان المبدع خرج من بيننا. وينتمي إلي قبيلتنا.
    رأيته أول مرة في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كان عائدا لتوه من رحلة عمل طويلة في عمان.. تناقشنا كثيرا. وتشاكسنا. اختلفنا واتفقنا. وحين أراد أن يحسم الجدل أهداني روايته الثانية. المبهرة. "إمام آخر الزمان". فالتهمتها في يوم. أو بعض يوم. ومن يومها لم أفقد أبدا إيماني بموهبته. واحترامي لقلمه ودأبه وجديته.
    وكلما أوغل في الكتابة وأوغلت في قراءته زاد إيماني به واحترامي له.
    ولا أستطيع أن أنكر انحيازي لأدب محمد جبريل. خاصة ما يتعلق منه بتوظيف التراث مثل "إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبي الطيب المتنبي" و"قلعة الجبل" و"رباعية بحري" و"ما ذكر من أخبار عن الحاكم بأمر الله". فهذه الأعمال تجد في نفسي هوى. ربما لأنها توقظ الماضي. وتبعث فيه الروح. فيتحول بروح الفنان إلي مستقبل. وفي ذلك وصل لحلقات أدبنا وحياتنا. ولقاء بين الأصالة والمعاصرة. وهذا - في زعمي - هو الطريق الصحيح لتطوير أدبنا. بل لتطوير حياتنا كلها.
    التطوير لن يأتي من الخارج .. ولن يهبط علينا من السماء وإنما هو عملية مستمرة. متواصلة أطرافها. يرتبط فيها الماضي بالحاضر والمستقبل. ونحن نعيشها ونتفاعل فيها.
    ودراسات محمد جبريل لا تنفصل عن إبداعه.. هي في الحقيقة إبداع آخر. بطعم آخر. تدهشك فيها قدرته الهائلة علي الصبر. ودقته في التحري والاستيفاء. ناهيك عن سعة الاطلاع. والاستنتاج المنطقي. تلحظ ذلك في سفره الرائع "مصر في قصص كتابها المعاصرين" و"مصر المكان" و"قراءة في شخصيات مصرية" و"مصر من يريدها بسوء".
    لعلك لاحظت - مثلي - أن مصر تتردد كثيرا في كتابات جبريل. مثلما تتردد في رواياته. من خلال الإسكندرية مسقط رأسه وعشقه الدائم. وأيضا من خلال الموروث الشعبي الذي يتناثر كحبات اللؤلؤ في 18 رواية و90 قصة قصيرة قدمها للمكتبة العربية حتي الآن.
    إنه متيم بهذا الوطن. مسكون ببحره ونيله وطينه. بأحيائه الشعبية وحاراته وأزقته. بجوامعه وأضرحته وموالد الأولياء والكنائس والزوايا. وليالي رمضان والتواشيح والأعياد والأسواق. بعبق البخور والمجاذيب والدجالين والشحاذين.. هو يكتب عن ذلك كله ليكشف لنا عن حقيقتنا. عن مواطن الضعف ومواطن القوة في شخصيتنا. التي عاش عمره مهموما بها.
    وكم كان رائعا أن تتذكر الهيئة العامة للكتاب بإشراف د. ناصر الأنصاري كتاب "مصر في قصص كتابها المعاصرين" لمحمد جبريل لتعيد إصدار الجزء الأول منه هذا العام في سلسلة "مكتبة الأسرة" التي تحظي برعاية السيدة الفاضلة سوزان مبارك. فتتيحه بسعر ميسر للقاعدة العريضة من القراء الذين يتابعون هذه السلسلة. ويعتبرونها نافذتهم علي الثقافة الحقيقية والجادة.
    والكتاب عبارة عن دراسة ضخمة. لكنها ممتعة. وقد نشرت لأول مرة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ونال عنها محمد جبريل جائزة الدولة التشجيعية في النقد. وفيها يتناول العديد من الأعمال القصصية والروائية لرواد السرد العربي أمثال طه حسين والعقاد ويحيي حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني. بالإضافة إلي رفاق دربه من كتاب الستينيات. فيرصد تناولهم للمجتمع المصري بكافة تقلباته عبر تاريخه الحديث من زاوية إبداعية بحتة. تدعمها رؤية اجتماعية وسياسية مدققة.
    يقع الكتاب في مجلدين. ومجموع صفحاته 1370 صفحة. وهو بذلك ينتمي إلي الأعمال الموسوعية الخالدة. ممتدة المفعول. فقد حاول جبريل أن يقدم لنا تاريخ مصر من خلال مضامين الروايات والقصص. باعتبار أن الأدباء هم ضمير أمتهم. ونبض حركتها التاريخية في مواجهة الأحداث.
    بقيت همسة للمثقف الواعي د. ناصر الأنصاري أناشده فيها بسرعة إصدار الجزء الثاني من هذه الدراسة القيمة. التي أظنها أول محاولة في تاريخنا لتأصيل علم الاجتماع الأدبي. وأول تجربة جادة لتعميق الانتماء لدي الأجيال المثقفة بالعلم والأدب. وليس بالأغاني السطحية والهتافات الزاعقة.
    ..............................
    *المساء ـ في 15/12/2008م.


  7. #47
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    مبدعون نقاد

    بقلم: محمد جبريل
    .........................

    حدثني الصديق الدكتور عبدالمجيد زراقط رئيس قسم الأدب العربي بالجامعة اللبنانية عن المؤتمر الذي تعد له الجامعة بعنوان "مبدعون نقاد". وهو عن المبدعين الذين يحاولون الكتابة النقدية. وبالطبع فإن العكس صحيح. بمعني أن العديد من النقاد حاولوا الكتابة الإبداعية: لويس عوض. وأحمد شمس الدين الحجاجي. وماهر شفيق فريد وصلاح الدين بوجاه وغالي شكري. وحسين علي محمد ومحمد قطب وجمال التلاوي وصبري حافظ وحامد أبوأحمد. وسمير عبدالسلام. وصبري قنديل وأمجد ريان وغيرهم.
    رأيي أن المبدع لابد أن يماهي الناقد في اكتمال العملية الإبداعية. فهو -فور أن يضع نقطة الختام لعمل ما. قصة أو رواية أو مسرحية أو أية كتابة إبداعية- يلجأ إلي الناقد في داخله. يفيد من ثقافته وخبراته وفهمه لخصائص العمل الفني. يضيف. ويحذف. ويبدل. ويحور. بما يمتلكه الناقد من قدرات جمالية وعلمية وموضوعية. خطوة تالية لما تمليه عفوية الإبداع.
    أعرف أصدقاء يعيدون كتابة العمل الإبداعي مرات. ربما تبلغ العشر. في كل إعادة يقرأ الكاتب بعيني الناقد. لا ينقل الكلمات كما هي. لكنه يجري ما تحتاج إليه من "رتوش" -هذا هو التعبير الذي يحضرني- بهدف إثراء جماليات العمل الإبداعي.
    وكان همنجواي بترك -آخر الليل- ما كتبه علي الآلة الكاتبة "لم يكن الكمبيوتر قد ظهر في حياة الأدباء بعد" ويعود إلي قراءته في الصباح. ليست الفقرات الأخيرة وحدها. وإنما كل ما كتبه منذ الحرف الأول. والكلمة الأولي. والجملة الأولي. يطمئن إلي خلو السرد من أية نتوءات أو فجوات.
    وأكد بلزاك أنه كان يعيد قراءة العمل بعد أن يتمه. ربما صادف في اليوم الثالث زيادة حرف واو العطف. ثم يعيده عقب الأيام الثلاثة التالية. قول لا يخلو من مبالغة. وإن كان المعني ضرورة المراجعة والتقويم والغربلة. والحرص علي جماليات العمل في ترامي آفاقه.
    الأمثلة كثيرة. لكن السؤال الذي أتصور أنه سيفرض نفسه علي جلسات المؤتمر المرتقب: ما مدي إفادة الناقد من دراسته للعملية الإبداعية. مقابلاً لإفادة المبدع من فهمه لنظريات النقد.
    حصلت علي جائزة الدولة في النقد. وكتب عبدالعال الحمامصي عن الروائي الذي فاز بجائزة النقد. لكنني أعتبر المجال الحقيقي للكاتب هو ما تطمئن إليه موهبته. قد يتطرق إلي مجالات أخري. وربما أجاد التعبير فيها. لكنه يظل حريصاً علي السير في اتجاه تأكيد المعني الذي أهلته له موهبته وقدراته.
    لعلي أشير إلي صلاح عبدالصبور: كتب القصيدة المفردة والمسرحية الشعرية. والترجمة والسيرة الذاتية وغيرها من مجالات الأدب. لكن المسرحية الشعرية هي الملمح الذي يبين عن نفسه دوماً. فهي الإبداع الذي اختار له عبدالصبور الأولوية في مشروعه الأدبي.
    ...........................................
    *المساء ـ في 7/3/2009م.


  8. #48
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    العمل الإبداعي وقوانينه

    بقلم: محمد جبريل
    ........................

    العمل الإبداعي يضع قوانينه. فلا تأتي بالضرورة من خارجه. لا تقحم عليه. أو تنبو عن سياقه. وعلي حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبي الذي جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانونا وضعه هو. بل قانونا اكتشفه لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية.. إلخ من خلال التراث الهائل لكل منها. يظل لها مواصفاتها الخاصة. شكلها الفني الخاص. ولعلي أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه: هذا نص!.. إني أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة نثرية أو شعرية. حتي أتبين مدي اقترابها. أو ابتعادها. عن هذا الجنس الأدبي أو ذاك. لا أغفل إمكانية توقعي للعمل المتميز. العبقري. الذي قد يفاجئني بجنس ابداعي لم يكن موجودا من قبل لكن هذا العمل لابد ان يحمل قوانين أخري خاصة ومغايرة.
    تقييم العمل الفني. التمييز بين الفن واللافن. الجيد والردئ. لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصي لكنه لابد ان يخضع لمواضعات. لمواصفات. توجد في العمل الفني. أو تغيب عنه. بمعني انه لابد للمبدع ان يكون علي اتصال بتراث العالم- وليس تراث لغته فقط- من الابداع وان يكون علي صلة بتراث العالم النقدي بالاضافة إلي اتصاله بالثقافة العالمية في اطلاقها.
    طبيعي ان العمل الفني يحتاج إلي تلقائية مساوية للتي يريد الفنان ان تكون عليها صورة عمله. بحيث يحدث تأثيرا وجدانيا. هو المطلوب- ابتداء- ليسهل علي القارئ متابعة العمل والتفاعل معه والتأثر به. وإحداث الهزة- أو التغيير- في وجهة نظره للحياة من حوله. بداية لحظة الكتابة عندي في الإمساك بتلابيب اللحظة. أبدأ الجملة الأولي. السطر الأول. الفقرة الأولي. فأجاوز العالم الذي تصورته ودخلت عالماً آخر هو عالم العمل الابداعي: أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنات تتخلق من داخل العمل تفرض نفسها عليه. لا شأن لها بتصوراتي المسبقة. في تقديري أنه إذا أراد الفنان لروايته ان تكون فنا حقيقيا فإن عليه ان يوجه تأثيرها إلي مزاج القارئ بإضفاء صورة الحياة الحقيقية علي الأحداث. تلك هي الوسيلة التي تحرص الفنون الأخري- مثل الموسيقي والتصوير- ان توجه لها تأثيرها أما الإسراف في "الصنعة" وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب. والإلحاح علي صورة العمل الفني بزوائد الظلال والتفاصيل فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً تنعم فيه بالموت من قبل ان تري الحياة. أستعير من هنري جيمس تأكيده بأن الرواية شيء واحد متماسك كطبيعة الكائنات الحية وبقدر تماسك أجزائها واتصال كل جزء - عضوياً - بالأجزاء الأخري تحصل الرواية علي ما يريده لها الفنان من حياة وبديهي ان الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ أو لحفظها في الأدراج ذلك لأن العمل الفني هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه وهذا المجتمع- بالطبع- لا يتشكل من ثقافة واحدة أو درجات متساوية من الوعي. أو ذوق فني عام موحد. المجتمع- أي مجتمع- يتكون من أفراد لكل منهم حصيلته المعرفية ووعيه وانتماؤه الفكري والطبقي بحيث يصبح من السذاجة تصور ان فنانا ما يصل إليهم جميعا في محاولاته لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو ان يكون مخلصا في التعامل مع فنه ومع نفسه لتجد محاولاته جمهورها الذي قد تضيق قاعدته أو تتسع لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذي يخاطبه الفنان في محاولاته.
    الرواية الجديدة ليست مودة تختفي بقدوم مودة أخري. إنها نظرية واضحة. متكاملة الأبعاد قد تطور نفسها. وقد تستغني عن بعض المقومات. وتضيف مقومات أخري. لكن المقومات الأساسية تظل في صلة الرواية العضوية بالفنون الأخري. والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون.
    ...........................
    *المساء ـ في 3/1/2009م.


  9. #49
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    ندوة عن كتاب «مصر في قصص كتابها المُعاصرين»
    .................................................. .............

    تنظم ندوة مساء الثلاثاء القادم (16/6/2009م) فى مبنى هيئة الكتاب بالقاهرة عن كتاب " مصر فى قصص كتابها المعاصرين" للروائي الكبير محمد جبريل ، يتحدث فيها د . شبل الكومى ، د . صلاح قنصوة ، د . صلاح الراوى ، محمد قطب ، مهندس أحمد شعبان ...وغيرهم.


  10. #50
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الزحام

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    في قصة "الزحام" التي أعتبرها من أجمل ابداعات القصة العربية القصيرة حدد يوسف الشاروني مشكلة الزحام كواحدة من أهم المشكلات التي يواجهها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
    الزحام الذي يعانيه العالم الآن أثبت ان مالتوس لم يكن مخطئاً في التحذير من الزيادة السكانية التي يعد الزحام أخطر مشكلاتها.
    الكثافة السكانية. إذا أحسنا التعامل معها. فإنها تتحول إلي رصيد إيجابي. وليس العكس. أما إذا اكتفينا بالنظر إليها باعتبارها مجرد أزمة. مشكلة. فإنها تضيف إلي السلبيات التي يفرزها الزحام علي مستوي العالم.
    من ذكريات طفولتي. هذا السؤال الذي وجهه لي صديق يكبرني بسنوات: لو أن أباك أعطي لك ولأخيك تفاحتين. ماذا ستفعلان؟
    قلت: يحصل كل منا علي تفاحته.
    قال: فإذا منح التفاحتين لسبعة إخوة.
    أضاف للدهشة في ملامحي: ستنشب معركة.
    زادت الأعداد مقابلاً لثبات "المنحة". ففرض العراك نفسه. وإن أخرج الزحام لسانه في خلفية الصورة!
    وأشار صديق إلي الأوتوبيس القادم. وإلي الشبان الذين يسبقون باللكز تدافع الركاب: سيسبقوننا. وسنكرههم!
    والحق أن زحام المواصلات يعني أمراضاً اجتماعية خطيرة. أقلها النشل. وأقساها الكراهية والعنف والتحرش الجنسي. ولا يخلو من دلالة تخصيص عربة للحريم في بعض وسائل المواصلات العامة.
    والخناقات ظاهرة يومية أمام الأفران: التدافع يولد شرارة الشتائم. تتلوها نيران الخناقات التي تفضي كما تنشر الصحف إلي القتل!
    وأدركنا متأخراً ان أعداد التلاميذ في كل فصل بمدارسنا تشكل خطراً علي صحة التلاميذ. وعلي الصحة العامة! فالفصل الذي يختنق بما يبلغ أحياناً مائة تلميذ هو أنسب الأماكن لانتشار الأمراض الوبائية. مجرد عطسة. أو لمسة. أو نفثة. تعني تصدير عشرات الأبناء إلي مستشفي الحميات!
    زحام يوسف الشاروني نذير بالقادم من أيامنا. ولأننا نعتبر الأدب مجرد تسلية. فقد أهملنا النذير المتسربل برداء الفن. نسينا أو تناسينا إيماءات ابداعية في كتابات جول فيرن وجورج أورويل وغيرهما. ثم ثبتت صحة تلك الإيماءات وجدواها. وانها كانت تشير إلي جوانب في مستقبل العالم.. لكن إشارة الشاروني المعلنة لأن صاحبها للأسف أديب عربي واجهت إهمالاً. باعتبار نسبتها إلي الحدوتة!
    هانحن ندرك أن الزحام لم تكن استعراضاً متفلسفاً. إنما هي مؤشر لأقسي الأمراض التي يعانيها مجتمعنا.
    الحل الذي أقدمت عليه دول تفوقنا في عدد السكان. يتمثل في تغليب الانتاج علي الاستهلاك.
    حل بسيط. وإيجابي. كما تري.
    .....................................
    *المساء ـ في 19/9/2009م.


  11. #51
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    في ساحة الإنشاد

    قصة قصيرة، بقلم‏:‏ محمد جبريل
    .....................................

    لم يصدق الشيخ جابر أبو عبية أن سيد العقبي يرفض أداء كل ما تعلمه منه‏,‏ يصر أن يقرأ مدائح لايدري من وضعها له‏,‏ ولا إلي من يتجه بها‏,‏ هي الكلمات نفسها عن الله والمصير والرغبة في الفرار من العقاب ودخول الجنة‏.‏ يرددها المنشدون والمداحون والمولوية والصييتة في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ لكنها تختلف في أداء العقبي بنقل المعني‏,‏ يتأمل الناس تعبيراته‏,‏ يجتذبهم صوت العقبي المحمل بالعذوبة‏,‏ ينفذ إلي الأعماق‏,‏ يصعد بالنفوس إلي آفاق علوية‏.‏
    أول رؤيتنا لسيد العقبي حين ردد وراء الشيخ جابر أبو عبية منشد الطريقة الشاذلية‏,‏ علا صوته بين الذاكرين‏,‏ يردد ما يقولون من المدائح والأشعار وبردة البوصيري‏,‏ لم يلفت اهتمامنا‏,‏ وإن اجتذبنا في صوته بحة‏,‏ لا تخلو من أنوثة‏.‏
    تعرفنا إلي ملامحه الظاهرة‏,‏ عند ظهوره في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ يردد ما حفظه عن الشيخ أبو عبية من المدائح في النبي وآل بيته‏,‏ وفي التنبيه إلي أحوال الدنيا وأحداث الأيام‏.‏
    تكررت مشاركاته في الحضرات المرتبة للطريقة الشاذلية‏,‏ موضعها السرادق الملاصق لجامع المرسي من ناحية السيالة‏.‏
    قيل إنه عمل صبيا للأسطي سعيد قطا نجار السواقي بعزبة خورشيد‏,‏ وتحدثت روايات عن إفادته من فترة عمله في قهوة المعلم البابلي المطلة علي الأنفوشي‏,‏ وأكدت روايات أنه مجهول النسب‏,‏ ما كتبه في شهادة ميلاده يختلف عن اسمي الوالد والجد مما سربه إلي السفلية في الرواية والحكي‏,‏ وقيل إنه طال اشتغاله ببيع البضائع الصغيرة‏:‏ ساعات يد‏,‏ وميداليات ونظارات شمسية‏,‏ وسبح‏,‏ وأمشاط‏,‏ ومقصات‏,‏ وسكاكين‏,‏ وأقلام رصاص‏,‏ وأقلام حبر‏,‏ وكوتشينة‏,‏ وميداليات‏,‏ وألعاب للأطفال‏,‏ وعطور‏,‏ وأدوات تجميل‏,‏ يحملها في حقيبة مفتوحة‏,‏ علي صدره وساعده‏,‏ يتنقل بين المقاهي والدكاكين والميادين والشوارع المزدحمة‏,‏ وقال الشيخ حجازي رضوان قارئ التلاوة في جامعة البوصيري إنه التقي بالعقبي ـ للمرة الأولي ـ في مقابل العامود‏,‏ تسابقا للحصول علي الأقراص والكعك والفطائر والمنين‏,‏ رحمة ونورا علي الموتي‏.‏ تكررت لقاءاتهما في المقابر‏,‏ قبل أن يطالعه العقبي مساعدا للشيخ أبو عبية في إنشاده‏.‏
    روي أنه سمع إنشادا لم يسبق له التعرف إلي صاحبه ـ في سرادق بمولد سيدي نصر الدين‏,‏ اجتذبه الصوت‏,‏ والكلمات‏,‏ وطريقة الأداء‏,‏ لا إيقاعات إلا صوت الشيخ والمستفتح‏,‏ وتصفيق الأيدي‏.‏ يبدأ الشيخ إنشاده خفيضا‏,‏ هامسا‏,‏ يعلو ويعلو حتي يبلغ الذروة‏.‏
    أزمع أن يعد نفسه لهذا العمل‏.‏ أخذ العهد في الطريقة الشاذلية علي يد الشيخ مكرم رسلان إمام الطريقة‏,‏ تبعه بقراءة دلائل الخيرات‏,‏ وكتب التوسل للذات العلية‏,‏ وقصائد المديح‏,‏ والتغزل بالنبي‏,‏ والتوسل بخير البرية‏,‏ وطلب شفاعته‏,‏ وشفاعة آل البيت‏,‏ والصحابة‏,‏ والأولياء‏,‏ حفظ قصائد للمسلوب والمنيلاوي وأبو العلا محمد والبنا وسلامة حجازي وصبح وعلي محمود‏.‏
    أخذ عن الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ تصرفاته‏,‏ حركاته وسكناته‏.‏ تدريب علي طريقة الإلقاء‏,‏ متي يضع يديه تحت ذقنه‏,‏ متي يلصقهما بالأذنين‏,‏ متي يعلو صوته ويهبط‏,‏ كيف يفيد من آخر قراراته‏,‏ يلجأ إلي التعبير بالإيماءات والإشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه المصاحبة للأداء‏,‏ يتغني بالصبابة والوجد والشوق إلي الوصال‏,‏ وإن أخذ العقبي علي الشيخ ـ بينه وبين نفسه ـ أنه ينشد ما يوضع في فمه‏,‏ لا يتأمل الكلمات‏,‏ ولا يتدبر معانيها‏,‏ لا يشغله حتي نوعيات المستمعين‏,‏ وتأثيرها‏,‏ وهل يحسنون الفهم‏,‏ أو أنهم يكتفون بسماع ألحان تمتدح الرسول‏.‏
    عهد إليه الشيخ ـ في البداية ـ بدور المجاوبة الغنائية‏,‏ أقرب إلي المبلغ في صلاة الجماعة‏.‏
    طالت رفقته للشيخ حتي شال عنه كل ما يرويه‏,‏ يعيد ما يستمع إليه‏,‏ يلجأ إلي الارتجال والتأليف والتوليف والصنعة‏,‏ ينظم الأبيات لحظة نطقها‏,‏ يستغني عن الحفظ إلا في المعاني‏,‏ يضيف ما يمليه خياله وموهبته‏.‏ ربما علا صوته بما لم يكن له أصل‏,‏ ولا استند إلي وقائع حقيقية‏.‏
    حين طلب منه الشيخ أن ينشد معه جزءا من الأداء‏,‏ حاول أن يبدع بما يقارب أداء الشيخ‏,‏ أو يفوقه‏,‏ يتأمل انعكاس أدائه في أعين الناس‏,‏ يفرق بين مريدي الشيخ وبين من قدموا للاستماع‏.‏
    هؤلاء هم الجمهور الذي يبحث عنه‏,‏ وعليه إعداده حين ينشد ـ منفردا ـ في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏.‏
    يستجيب للأصوات الرافضة‏,‏ والمعترضة‏,‏ والتي تعلو بالملاحظات‏.‏ يوقف النغمة‏,‏ يستبدل بها نغمة‏,‏ ونغمات‏,‏ أخري‏,‏ يتأمل صداها في أعين الناس‏,‏ وإيقاع تصفيقهم‏,‏ يتبين ـ بنظرة متفحصة ـ استجابات الناس‏,‏ ما بين طالب للإعادة أو الاستزادة‏,‏ ورافض‏,‏ يظل علي النغمة التي اختارها لإنشاده‏,‏ أو يبدلها‏,‏ يسند خده الي يده‏,‏ يغمض عينيه‏,‏ يعلو صوته بآخر طبقاته‏.‏
    قبل ان يقتصر علي نفسه‏,‏ كان قد أنشد في كل الموالد‏,‏ ليس في بحري وحده‏,‏ وإنما في الاسكندرية والمدن الأخري‏,‏ موالد الشاذلي والدسوقي وأبو حجاج الاقصري‏,‏ والمولد الأحمدي‏,‏ وموالد الطاهرين من آل البيت‏:‏ السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة وزين العابدين وفاطمة النبوية والسيدة عائشة‏.‏
    ردد قصائد أبو عبية في البداية‏,‏ ثم تحول الي قصائد‏,‏ ضفر أبياتها من قصائد مختلفة‏,‏ مزج بين اسلوب الشيخ في الآداء‏,‏ وبين أساليب تعرف إليها في إنصاته لشيوخ آخرين‏.‏ لم يتردد في الحذف والإضافة والتوشية‏,‏ وإن لم ينسب النبع الي نفسه‏,‏ ما فعله انه استوحي‏,‏ وألف‏,‏ ولحن‏,‏ اداؤه يكفل له توالي الموجات في بحر الإنشاد‏.‏
    لم يقصر ما يقول علي ما أخذه من الشيخ‏,‏ ومن المشايخ الآخرين‏,‏ عني بزيادة حصيلته من النصوص‏,‏ بما يشمل كل الأغراض‏,‏ وما يتفق مع أذواق الناس‏,‏ وما يريدون سماعه‏.‏
    اختار ما لم يسبق إنشاده في الموالد والليالي وحضرات الساحة‏,‏ تنقل بين المقامات‏,‏ زاوج بينها وزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي والنغم الشعبي‏,‏ أدخل الالات الموسيقية حتي ما لم يستخدمه الشيخ أبو عبية‏,‏ الكمان والناس والقانون والاكورديون‏,‏ قدم من التوحيد‏,‏ والمديح‏,‏ والتوسل‏,‏ والأوراد‏,‏ والأحزاب‏,‏ ما لم نكن قرأناه ولا استمعنا اليه من قبل‏,‏ وأنشد قصص الكرامات‏,‏ وقصائد ابن الفارض وابن عربي‏,‏ ترافقه آلات الطرب من الناي والربابة والعيدان والدف والطنابير‏.‏
    امتد إنشاده إلي المدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والأذكار والتخمير والقصائد والأدوار‏,‏ ورواية معجزات النبي والرسل ومناقب الأولياء‏,‏ أنشد للجيلي والجيلاني وابن عربي والحلاج والغوث وابن الفارض وعلي محمود‏.‏
    فن الإنشاد له أصوله‏,‏ وقواعده‏,‏ وقوالبه‏,‏ وإيقاعاته‏,‏ حفظ ما لم يكن يعرفه بقية المنشدين‏:‏ المدد‏,‏ التوسلات‏,‏ الأغنيات الشعبية‏.‏
    حتي ما لم يعبر عن العقيدة الدينية‏,‏ حتي الأدوار المحملة بالايحاءات والإرشادات الجنسية‏.‏ يحرض من في ساحة الحضرة أن يرددوا الإنشاد وراءه‏,‏ يتحولوا إلي سنيدة ومذهبجية‏.‏
    ربما التقط الناي أو المزمار من الطاولة الصغيرة أمامه‏,‏ يصل الأداء الصوتي بفقرات موسيقية‏,‏ فرشة تسبق الإنشاد‏.‏ ادخل علي الألحان ايقاعات غائبة المصدر‏,‏ ليست الايقاعات التي اعتدنا سماعها‏.‏ غير في النصوص كلمة‏,‏ وكلمات‏,‏ ثم حذف‏,‏ وأضاف‏,‏ وبدل‏.‏ يعتمد علي البديهة‏,‏ والقدرة علي الارتجال‏,‏ يضمن إنشاده أسماء رءوس العائلات في القري والأحياء التي تستقبله‏,‏ ينوع في الألحان والإيقاعات والأداء الصوتي‏,‏ يخضع ما ينشده للمعاني التي يريد توصيلها‏.‏ يمد الحروف‏,‏ يطيلها‏,‏ يقصرها‏,‏ ينغم الأبيات‏,‏ يحسن الوقفات‏,‏ والسكنات‏,‏ والترقيق والتفخيم‏.‏ قد يهمل العديد من الأبيات لنبوها عن سياق المعني‏,‏ ربما نوع بين نص وغيره من النصوص‏,‏ ليبلغ هدفه‏.‏
    حرص أن يوضح في النصوص ما يبدو غامضا‏,‏ أو يقدم المعاني التي يشغله توصيلها‏,‏ هي غير موجودة في النصوص‏,‏ أو متوارية‏.‏ يوائم بين أذواق الناس‏,‏ يختار لكل جماعة ما يروقها‏:‏ الحب الإلهي والنبوة ومديح الرسول وآل البيت‏,‏ التغني بمناقب أولياء الله‏,‏ ومكاشفاتهم‏,‏ وحوادثهم‏,‏ وخوارق أفعالهم‏,‏ التوسلات ونداءات النصفة والمدد‏,‏ فراق الأحباب والحنين إلي موطن الميلاد والطفولة والنشأة‏.‏
    لم يعد يجد حرجا في الإنشاد‏,‏ في حضور الشيخ أبو عبية‏.‏
    طريقة الرجل مذهبه‏,‏ ولم يشر العقبي إلي طريقته‏,‏ فغاب المذهب الذي كان يؤمن بتعاليمه‏,‏ وما يدعو إليه‏.‏
    جعل لنفسه مجموعة‏,‏ يحيطون به‏,‏ يرافقونه إلي الأماكن التي ينشد فيها‏,‏ الساحات والقاعات الواسعة والسرادقات‏,‏ يرددون ما ينشده‏,‏ تعلو أصواتهم بعبارات الاستحسان والثناء‏,‏ تصفق أيديهم بالإيقاع المصاحب للكلمات‏,‏ الدور نفسه الذي طال قيامه به في صحبة الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ حتي اذن الله فاستقل بنفسه‏.‏
    حاول أن يضمن إنشاده آراء وانتقادات وما ينفع الناس‏,‏ يستشهد بسيرة الرسول‏,‏ وسير الأنبياء‏,‏ وقصص آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين‏,‏ تمازجها الكناية والتورية والإضمار‏.‏
    لم يتحدث عن تأليف طريقة صوفية‏,‏ وإن زاد عدد المعجبين بصوته‏,‏ فصاروا كالمريدين في حضرات شيوخ الطرق‏,‏ حفلت الساحات بمواكبهم‏,‏ انتشروا في الشوارع الرئيسية والجانبية‏.‏ حتي الساحة الحجرية أمام قلعة قايتباي‏,‏ صنعوا فيها حلقة‏,‏ نشروا الزينات والبيارق والرايات الملونة‏,‏ وتعالت أصواتهم بما حفظوه من الكلمات التي نحسن فهم معانيها‏.‏
    جاوز بقصائده جلسات الخواص وحلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق‏,‏ إلي الموالد والسرادقات التي يفد إليها آلاف العوام واللقاءات المفتوحة‏.‏
    أرخي العذبة من العمامة الهائلة المستقرة فوق رأسه‏,‏ أهمل شعره‏,‏ فلم يقصه حتي انسدل علي كتفيه‏,‏ يضفي علي هيئته مهابة بالنظرات النافذة‏,‏ واللحية التي أحسن تهذيبها‏,‏ والجلبات الصوف‏,‏ والشال الملتمع حول عنقه‏.‏
    جعل العقبي من بيت ذي طابقين‏,‏ يطل علي ناحية خليج الأنفوشي‏,‏ سكنا له‏,‏ يعكف فيه علي العبادة والمراجعة وحفظ الجديد من الإنشاد‏,‏ فلا يداخل نفوس الناس بالمتكرر‏,‏ وما يبعث الأمل‏,‏ يستقبل محبي صوته‏,‏ لا شأن له بوعظ ولا إرشاد‏.‏ ظل علي حاله منشدا‏,‏ يؤدي المدائح والأدوار والأغنيات‏.‏
    لجأ إلي الوسائط التي لم يستخدمها جابر أبوعبية‏,‏ ولا أي من المنشدين الآخرين كشريط الكاسيت والأسطوانة الرقمية‏,‏ أضاف إلي إنشاده ما حفظه من الشيخ أبو عبية‏,‏ وإن لم ينسبه إلي نفسه‏,‏ لم ينزع نفسه عن الطريقة الشاذلية التي مثل أبو عبية حلقة في سلسلة منشديها‏,‏ كل الإنشاد يصدر عن العقبي‏,‏ وله حسن الجزاء والمثوبة‏.‏
    طال صمت الشيخ دون أن تبدو في تصرفاته نية الرفض‏.‏
    روي أنه دعا أفراد فرقته لتدبر ما جري‏:‏
    ــ إذا ظل الناس علي سماعهم للعقبي‏,‏ فستكون النتيجة خراب بيوتنا‏!‏
    توزع أفراد الفرقة‏,‏ ومن يتبعونهم‏,‏ في القري والأحياء والأسواق والخلاء وداخل الميناء وعلي الشاطئ‏,‏ حتي ورش القزق دخلوها‏,‏ ودخلوا البيوت والسرادقات والموالد‏,‏ زاروا الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة‏,‏ ترددوا علي الساحات والمقاهي وحلقة السمك‏,‏ همسوا بالملاحظات والتحذيرات والتوقعات والخوف من ضياع البركة‏.‏
    عرف الناس أن رفض أبوعبية زيارة العقبي في بيته لأنه أساء إلي الإنشاد‏,‏ وشوش أفكار الجماعة‏,‏ أضاف‏,‏ وحذف‏,‏ وبدل‏,‏ بما خرج بالكلمات عن الطريقة الشاذلية‏,‏ وعن أصول المهنة‏,‏ واجتث جذورها‏.‏
    شاغل أفراد الفرق ومن يقودونهم‏,‏ أن يقبل الناس علي الصلاة في مواعيدها‏,‏ يسبقونها ويلحقونها بركعات السنة‏,‏ وبالنوافل‏,‏ يجلسون في حلقات الوعظ والإرشاد الديني‏,‏ وقعدات الصوفية‏,‏ وقراءة القرآن وتجويده‏,‏ ينتظمون في حلقات الذكر‏.‏ ثم يمضون إلي سرادقات منشدي الشاذلية‏,‏ وقصائدهم‏,‏ وحكاياتهم‏.‏
    ترك جماعة أبو عبية للناس أمر الخلاص من المعاناة‏,‏ أن يتخلصوا من العقبي بطريقتهم‏,‏ اعتبار ما كان كأنه لم يكن‏,‏ وإعادة الأمر إلي صورته الأولي‏.‏
    ينشد الشيخ جابر أبوعبية مدائحه المتفردة في سرادقات بحري‏,‏ ظله مساجد الحي وشفاعات أولياء الحي ومددهم‏,‏ تطلعه إلي الذات الإلهية بالتوسل والرجاء‏,‏ صورة الانشاد الديني كما اعتادها الناس‏.‏
    .................................................. ..
    *الأهرام ـ في 18/9/2009م


  12. #52
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    اللغة في القصة القصيرة

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    قرأت في الفترة الأخيرة عشرات القصص القصيرة. ضمن مسابقات للعديد من هيئاتنا الثقافية.
    إذا أهملنا المحاولات الساذجة والفجة التي يحرص أصحابها علي الاشتراك في كل المسابقات. دون إدراك حقيقي لضعف مواهبهم ـ إن وجدت أصلا ـ ولخصائص فن القصة، تصوروا اكتمال الموهبة. فلم يحاولوا القراءة ..
    إذا أهملنا تلك المحاولات، فإن الكثير مما قرأته يبين عن مواهب لافتة؛ استكملت مقوماتها بالقراءة والتلمذة واكتساب الخبرات، والسعي إلي الصوت الخاص. قد يفيد من أصوات الآخرين، من الأساتذة في الأدبين العربي والعالمي، لكنه يحرص أن يحقق الخصوصية والتمايز.
    القضية التي شغلتني ـ فأنا أخصص لها هذه المساحة ـ هي النظرة الغريبة إلي اللغة. حتى الذين قدموا معطيات جميلة. حفلت محاولاتهم بأخطاء في النحو والإملاء. ظني أن تلميذ المرحلة الإلزامية يبرأ منها قبل نهاية المرحلة!
    سألت مدفوعا بالإشفاق عن التشوه الذي حاق بعمل فني جميل، لأن صاحبه أهمل سلامة اللغة. تحول الإشفاق إلي غضب عندما برر كتبة تلك المحاولات أخطاءهم. يرون اللغة جسراً، أداة توصيل، والقيمة الحقيقية في مضمون العمل، وفي فنيته!
    اللغة شيء آخر، يرفض هذا المعنى، إنها جزء في صميم الإبداع السردي. جمالياتها بعدٌ مهم، يصعب قبول الإبداع بدونه. إنها جزء من جماليات العمل. تلتحم به. وتضيف إليه.
    من الصعب تصور بنية معمارية تخلو من الأرضية والأعمدة والأسقف. قد لا يكون التعبير دقيقاً، لكن المعنى الذي أريد التعبير عنه أن اللغة مما لا يستغني عنه العمل الإبداعي السردي. لا أتصور طبيبا لا يعرف أدوات مهنته. ولا مهندسا يستغني عن المسطرة والمثلث والبرجل، ولا محاسباًً يغيب عنه فهم الرياضيات. إلخ.
    أذكر أن أستاذنا الراحل عبد القادر القط كان يطوي القصة التي يقرأها، ويقذف بها في سلة المهملات. إن طالعه خطأ لغوي. كان رأيه أن من يخطئ في لغته لابد أن يخطئ في كتابته جميعا. إنه يشيد بناية علي غير دعامات حقيقية!
    القصص التي أتيح لي قراءتها ـ ضمن مسابقات أدبية ـ وللمسابقات تقديراتها التي تمتد من الواحد إلي العشرة. أو من العشرة إلي المائة.. فالمحكم بتشديد الكاف لا يزكي للنشر. لكنه يرصد الدرجات التي تعبر عن رؤيته لمفردات العمل، بما فيها اللغة، يضيف درجة أو اثنتين لسلامة اللغة، ويحذف للعكس.
    هذا ما فعلته!
    هامش:
    تقول سينكلير دومنتيه: الكتابة عن الأشياء المادية قد لا تكون مختلفة عن تلك الكتابة الجارية وفق الاعتبارات الأدبية. فإن أكتب رواية يعني أنني أكتب تاريخ العالم المحتمل وجوده، وإني أوجد من العالم كتابة جارية، كتابة تركض وتتعثر. فالكتابة مثلها مثل الحديث عن حياة شخص ما. لهذا السبب لا وجود لكلمة واجب بالنسبة لي. كما أنه ليس هناك وجود لها بالنسبة للكاتب بعامة. هناك الكتابة فقط التي تدفع الرجل والمرأة لإعطاء الرأي آراء حقيقية.
    ..........................
    *المساء ـ في 13/6/2009م.


  13. #53
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    يهود الدونمة

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    آدم يحيي جدعان. يهودي يحمل الجنسية الأمريكية. وجده يعيش في إسرائيل. اعتنق الإسلام كما يقول في 1990. ورحل إلي باكستان. حيث انضم إلي تنظيمات القاعدة. يقول عن سيرته الشخصية إن فيها عبرة "فأنا أنحدر من أصل يهودي. فجدي لأبي صهيوني غاصب للأرض. وهو عضو بارز في المنظمة الصهيونية سيئة الصيت. وقد شجعني علي زيارة إسرائيل. وبخاصة تل أبيب حيث يعيش أقاربنا. وأهداني كتابا لنتنياهو بعنوان "مكان بين الأمم" وفي الكتاب مغالطات وافتراءات وأباطيل وتعليل باطل باغتصاب أرض المسلمين الفلسطينيين". وكلمات أخري كثيرة تحمل المناصرة للحق العربي. مقابلا لرفض الاغتصاب والاستيطان.
    قد أكون مخطئا. لكن آدم يحيي جدعان. أو عزام أمريكا. والذي يحتل الترتيب الأول في قائمة الإف بي آي. يذكرني بيهود الدونمة. هؤلاء الذين سقطت دولة الخلافة العثمانية بمؤامراتهم.
    لقد ادعوا الإسلام. وإن ظلوا علي ديانتهم اليهودية. وعملوا من خلال الديانة المعلنة. والديانة المستترة الحقيقية علي إسقاط دولة الخلافة.
    علي الرغم من حصار الغرب لدولة الخلافة. واعتبارها بتوالي المؤامرات والحروب رجلا مريضا يوشك علي الاحتضار. فإن موقف الأستانة المبدئي ظل رافضا لاستيطان اليهود أرض فلسطين. وعهد يهود الدونمة إلي أنفسهم مسئولية تقويض الدولة من الداخل. حتي تحقق لهم ما أرادوا. وتغيرت النظرة التركية إلي الاستيطان اليهودي. فضلا عن أن تركيا لم تعد تملك قرار السماح بهجرة اليهود إلي فلسطين.
    تذهلني عمليات القاعدة في العديد من البلدان العربية والإسلامية الصومال آخر المحطات معظم الضحايا بسطاء يلقون الشهادة في البيوت والأسواق والمدارس وأماكن التجمعات البشرية.
    إذا كان المقصود محاربة الاستعمار والتدخل الأجنبي في البلدان العربية والإسلامية. فلماذا لا يتجه العداء وعمليات المقاومة ضد القوات المحتلة؟ لماذا يقتصر التدمير والقتل أو يكاد علي من تعلن بيانات القاعدة ليل نهار أن عملياتها تستهدف انتزاع حقهم في الحياة الآمنة؟
    كل يوم تطالعنا وسائل الإعلام بأعمال غير مفهومة. ولا مبررة. تستهدف مواطني هذا البلد العربي والمسلم أو ذاك. بينما الخسائر التي تصيب قوات المحتل مبعثها في الأغلب نيران صديقة!
    أخشي أن حكاية يهود الدونمة تتكرر من جديد. في امتداد عالمنا العربي والإسلامي. يبين ذلك في مجرد تأمل بانورامية الصورة.
    .......................................
    *المساء ـ في 27/6/2009م.


  14. #54
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    جوائز الدولة

    بقلم: محمد جبريل
    ......................

    ذات يوم. كنت نائبا لرئيس اتحاد الكتاب. ورشحني زميل عزيز من أعضاء المجلس لنيل جائزة الدولة التقديرية. أردفت عدم قبولي الفكرة بأن من يتولون الترشيح لجائزة ما. يجب أن يحافظوا علي حيدة الجائزة وموضوعيتها. بعدم الترشح لها. أو بالاعتذار عن قبولها. وأذكر أني استصدرت من مجلس الإدارة في تلك الجلسة قرارا. حظي بالاجماع. وثبت في المحضر. بأن يمتنع الترشيح للجوائز عن أعضاء المجلس.
    وإذا كان المجلس التالي قد بدل القرار. وزكي ترشيح أعضائه لجوائز الدولة. فإن موقفي ظل معلنا من هذه الجوائز. بحيث لا أخشي اتهاما بغياب الموضوعية.
    مع تهنئتي للفائزين بجوائز الدولة. فإن الظاهرة الواضحة أن غالبيتهم ينتسبون إلي عضوية المجلس الأعلي للثقافة. بداية من لجنته العليا. وانتهاء بلجانه المتخصصة. وما أعرفه أن مثقفي مصر مبدعيها ومفكريها لا يقتصرون علي السادة أعضاء لجان المجلس. ولو أردت أن أضرب مثلا. فستطول القائمة.
    ذلك هو التقليد الذي تلتزم به لجان الجوائز الحقيقية والمحترمة: نوبل والجونكور واتحاد الناشرين والعويس والفيصل وغيرها. لجان التحكيم تعتذر عن مجرد فكرة الفوز بالجائزة. أو ترشيح أعضائها. بل ان لجان جائزة نوبل لم تلجأ إلي نجيب محفوظ كي يزكي من يراهم جديرين بالجائزة. إلا بعد أن نال الجائزة فعلا. زال الغرض. فصارت الموضوعية متاحة.
    قامت الدنيا ولم تقعد حين نال أحمد عبد المعطي حجازي جائزة الشعر. قيل إنه استغل رئاسته للجنة الشعر. فأعطي نفسه الجائزة. ما القول في منح الجوائز لاعضاء المجلس الذي يعد الترشيح للجوائز. ومنحها. من صميم عمله؟!.
    أتصور لو أن ذلك المنطق الغريب طبق في الجوائز الحقيقية الكبري. ما حصل العرب ممثلين في نجيب محفوظ علي جائزة نوبل. وما حصل هؤلاء الذين زكوا أنفسهم في المجلس الأعلي للثقافة علي جوائز عربية ودولية مهمة.
    لا انتقص من قدر الفائزين. فجميعهم رموز مهمة في حياتنا الثقافية. ويستحقون ما حصلوا عليه من جوائز. وأكثر. إنما أقصد المبدأ. المعني. الآلية. أن يسير كل شيء وفق قواعد واضحة وثابتة. فلا يتحول الحكم إلي لاعب. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه دوما: ما الأسباب التي استند إليها منح الجائزة لهذا الكاتب. وحجبها عن كاتب آخر. قد تكون اسهاماته الإبداعية والفكرية وليس اقترابه من السلطة. أو علاقاته العامة هي المحرض علي منح الجائزة.
    إن مجرد تولي مسئولية القراءة والموازنة والتحليل ودراسة مدي التأثير. ومحاولة التوصل إلي الأجدر بالجائزة.. ذلك كله تعبير عن مكانة المسئول وهي مكانة متفوقة بكل المقاييس فإذا أراد أن يحصل علي جائزة ما. فليس أيسر من أن يتنازل عن مسئولية التحكيم.
    الموضوعية شاحبة. أو أنها غائبة. ولو اننا لم نفطن. ونراجع أنفسنا. فسيضاف إلي الأذهان معني جديد يردف ما قرأناه عن الغول والعنقاء والخل الوفي.
    وليرحمنا الله!
    ...................................
    *المساء ـ في 4/7/2009م.


  15. #55
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    لماذا توقف برنامج "أمسية ثقافية" لفاروق شوشة؟

    بقلم: محمــــــــــــــد جبريــــــــــل
    ........................................

    لا شك أن برنامج "لغتنا الجميلة" الذي يقدمه الشاعر الكبير فاروق شوشة هو أحد المعالم المهمة في إذاعة القاهرة لا أذكر بدايته فهي تعود إلي سنوات بعيدة وإذا كانت صفية المهندس تتحدث في مقدمة البرنامج -باسم البحر- عن الدر الكامن الذي يعني الغواص باستخراجه من الأعماق. فإن غوص فاروق شوشة أتاح لنا التعرف إلي ما نعرفه وما لا نعرفه من قسمات اللغة. بداية من المفردة وحتي الجملة ذات الدلالة. مرورا بالخصائص البلاغية للغتنا الجميلة.
    وقد مثل برنامج "أمسية ثقافية" الذي قدمته القناة الثانية بالتليفزيون علي مدي سنوات إضافة مهمة من فاروق شوشة إلي برنامجه الإذاعي فقد استضاف رموزا فكرية وثقافية عنوا بمناقشة الإبداعات والقضايا التي تعكس في مراياها جماليات اللغة.
    بالطبع فإن إعادة القناة الثقافية تقديم حلقات سابقة من برنامج أمسية ثقافية "يعني جدية الاجتهادات التي يناقشها البرنامج. وتجددها. بحيث لا نملك إلا التعجب من إيقاف هذا البرنامج في قناته الأصلية وكما تري فلم تعد القناة الثانية تقدم برامج جديدة ولا قديمة. وإنما اختفت الأمسيات الثقافية منها تماما!
    قيل إن المسئولين عن القناة أخروا موعد تقديم البرنامج إلي ما بعد الثانية صباحا مما اضطر فاروق شوشة إلي طلب إيقافه وعبر الطلب -فيما يبدو- عن هوي المسئولين في القناة فأوقفوا البرنامج بالفعل.
    حياتنا متكاملة. أو هكذا يجب أن تكون. الاهتمام ببعد ما يجب ألا يصرفنا عن بقية الأبعاد. والمواد الإعلامية ينبغي ألا تقتصر علي الكرة والأغنيات وأفلام الحب. وقضايا السياسة أحيانا. الثقافة الأدبية. ثقافة الكلمة. قيمة من الخطأ -أيا تكن الأسباب- أن نهملها.
    مواد القناة الثانية تمتد بامتداد ساعات الليل والنهار وظني أنه لن يشوه قسماتها برنامج يستهدف تعميق الحس الجمالي في نفوس المشاهدين وبتعبير آخر فإن ساعة من الثقافة الرفيعة ضمن أربع وعشرين ساعة من البرامج الأخري لن يسيء إلي صورة التليفزيون بل إن وجودها يضيف إلي مواد التليفزيون ويؤكد التنوع المطلوب لاكتمال الخدمات الإعلامية.
    أخشي أن المسئولين عن القناة يقيسون الأمور من زاوية ميولهم الشخصية ما يحبون وما يكرهون ما يفهمون وما لا يشغلون أنفسهم بمحاولة فهمه فيبحثون من وجهة نظرهم- عما يمتع المشاهد وإهمال ما قد يفيده وهو خطأ إعلامي معيب أثق أن وزير الإعلام أنس الفقي -الذي يجد في العمل الثقافي ضرورة يصعب إغفالها- لن يسمح باستمراره.
    أمسية ثقافية.. برنامج يجب علي التليفزيون المصري أن يعتز بتقديمه!
    ......................................
    *المساء ـ في 16/6/2007م.


  16. #56
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    لست أذكر القائل: ان علي الكاتب مهمتين: الأولي أن يقول شيئا. والثانية ان يروي شيئا. لكنه قول صحيح تماما.
    رغم احترامي لقول بيكيت "ليس لدي شيء أقوله. فأنا الوحيد الذي يستطيع ان يقول الي أي حد انني ليس لدي شئ اقوله. او مضطر لان اقوله.. فإن المقولة/ الدلالة واضحة في اعمال بيكيت. قد تتعدد التفسيرات. والتعرف الي مايحمله العمل من دلالات مضمونية. لكنها موجودة "اذكرك يتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية في كتابي نجيب محفوظ صداقة جيلين.
    في رسالة من تولستوي الي مواطنه الروائي الروس ليونيد اندرييف. يشير الي انه علي الكاتب إلا يكتب الا اذا استحوذت عليه الفكرة التي يود التعبير عنها بأحسن مافي طاقته. والا يفكر حينئذ في شئ آخر غير اجادة التعبير. فلا ينظر الي ماتضفي عليه الكتابة من شهرة أو مال وكتب تشيخوف في احدي رسائله: "دعني اذكرك بأن الكتاب الخالدين. أو في الاقل ذوي الموهبة. الذين يهزون نفوسنا. لديهم سمة مشتركة بالغة الاهمية. هي أنهم يتجهون الي شئ.. وانهم يدعونك اليه ايضا. وإنك تحس. لابعقلك وانما بكيانك كله. ان لديهم هدفا بعضهم لديه اهداف مباشرة كالقضاء علي الاقطاع وتحرير البلاد. وكالسياسة او الجمال. او مجرد الفودكا واخرون لديهم اهداف بعيدة كالله. وكالحياة بعد الموت. وكسعادة البشرية وهكذا وان افضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هي. ولكن علي الرغم من ان كلا منهم يستغرقه هدف واحد. فإنك تحس في اعمالهم. لامجرد الحياة كما هي. بل تحس الحياة كما ينبغي ان تكون. وان هذا ليأسرك.
    للعمل الادبي استقلاليته. لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذي كتبه. من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه. افترض ان العمل كتب نفسه. او هذا في الاقل ما اتحمس له لكنني لا اتصور ان يصدر العمل عن فراغ حتي الثمرة المعينة هي في الاساس بذرة معينة وضعت في تربة معينة ومناخ معين.. والا فما سر زراعة محصول بذاته في بلد ما ولايمكن زراعته في بلدان اخري؟!
    واذا كان رأي بوشكين ان الفنان الحقيقي يهب نفسه كلها للفن فإني أجد ان القضايا التي يناقشها الفن ويطرحها وليس الفن كغاية ترفيه. هي ماينبغي علي الفنان ان يخلص لها ولعلي اذكر قول بيرك باك الفنان اليوم لم يعد يكفيه ان يملك اداة رائعة من الصنعة المكتملة بل لابد ان يكون لديه شئ جدير بهذه الاداة يعبر عنه بل ان دعاة الفن للفن يشيرون الي انه علي الكاتب ان يتحدث عن شئ من الاشياء وقد ابدي سارتر اسفه علي لامبالاة بلزاك تجاه احداث عصره. وعلي عدم الفهم. وعلي الخوف ايضا الذي ابداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونه. فضلا عن انه اعتبر فلوبير والاخوين جونكور مسئولين عن القمع الذي اعقب حكومة الكوميونة. لانهما لم يكتبا حرفا واحدا.
    المسألة في تقدير بريخت ليست مجرد تفسير العالم. بل تغييره. وعلي حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هي ان يحول كل ماهو معزول ومحكوم عليه بالموت. الي حياة لا نهائية. ان يحول ماهو مجرد مصادفة الي ماهو متفق عليه مع القانون العام "ان رسالة الكاتب نبوية".
    ...........................
    *المساء ـ في 18/7/2009م.


  17. #57
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر
    محو الهويـــــــــــــــــــــة

    بقلم: محمد جبريل
    ....................

    عندما تبدل دولة محتلة أسماء المدن والقري في الأراضي التي تحتلها. ضمن مخطط للقضاء علي هويتها القومية. فهذه جريمة. أما أن تبدل دولة مستقلة بإدارة أبنائها. ويمسك القلم عن تعبير آخر بأسماء معالمها: البنايات والفنادق والحدائق والمحال التجارية وغيرها. أسماء أجنبية. فإن الوصف الذي ينتسب إليه هذا التصرف. يبدأ بالمهزلة. وينتهي بالمأساة!
    ظني أن هذا هو الفارق بين ماتحاوله إسرائيل في فلسطين. وبين مانحرص عليه في بلادنا.
    أعلنت اسرائيل عن خطة لاستبدال الأسماء العبرية بالأسماء العربية في مدن وقري فلسطين. وهي تسمية لاتقتصر علي مجرد كتابة الاسم العربي بالعبرية. وإنما باستبدال الاسم جميعا. فالقدس تصبح اورشاليم. والقدس والضفة الغربية يهوذا والسامرة إلخ.
    من حقنا كعرب أن نرفض هذا التصرف. وندينه. باعتباره محاولة لمحو الهوية الفلسطينية "بالمناسبة. فأنا أصر علي تسمية الشرق العربي. أو الوطن العربي. تسمية صحيحة في مواجهة تسمية الشرق الأوسط" لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن المحاولات المستخفة والسخيفة من بعض المحسوبين علينا. لمحو الهوية القومية من خلال استبدال اللغات الاجنبية بلغتنا العربية. والقول باللغات مقصود. فلم تعد الانجليزية وحدها ما يطالعنا علي لافتات المحال والبنايات. ففي مدن السواحل مسميات اخري بالروسية والالمانية والايطالية وغيرها. الهدف المعلن هو اجتذاب السياح من مواطني البلاد التي تتكلم تلك اللغات. لكن النتيجة التي لانفطن اليها هي انعكاس ذلك التصرف سلبا علي هويتنا القومية.
    لم تعد الحرب ضد اللغة العربية خافية .. ذلك في الأقل ما أعلنه قادة الكيان الصهيوني عن نجاحهم في تحويل لغتهم الميتة "كانت لغة ميتة بالفعل قبل أن تنشأ الدولة. بل إن معظم مسئوليها فضلا عن المواطنين العاديين لم يكونوا يعرفون حرفا واحدا منها" الي لغة حية. مقابلا لمحاولاتهم المستمرة باضعاف العربية. وتحويلها علي المدي البعيد. أو القريب. الي لغة ميتة!
    إذا كان من حقنا ان ندين إسرائيل علي محاولاتها إضفاء الصبغة الصهيونية علي أراض عربية محتلة. فإن من واجبنا أن ندين التصرفات اللامسئولة التي تصدر من الداخل في اساءة متعمدة لهويتنا القومية. لمجرد الابهار وادعاء ماليس حقيقيا. ومن واجبنا ان نتجه بالادانة نفسها الي مسئولي الادارة المحلية. فالقانون يهبهم الحق. ويلزمهم. باقتصار الاسماء علي اللغة العربية. وتقديم المخالفين الي المحاكمة.
    أخشي أن يكون الصمت عن تلك التصرفات المجرمة. مبعثه الحرص علي مكاسب شخصية. ولو علي حساب هويتنا القومية!
    هامش : سأل الخليفة العباسي أحد مواليه عن نسبه من العرب. فأجاب الموالي : إن كانت العربية لسانا. فقد نطقنا بها. وإن كانت دينا فقد دخلنا فيه.
    ...................................
    *المساء ـ في 25/7/2009م.


  18. #58
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر
    توظيف التراث

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    لما تكونت المدرسة الحديثة في عام 1917. وافرادها شباب الادباء آنذاك: أحمد خيري سعيد وحسين فوزي ومحمود عزي ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وغيرهم.. كان أول مادعت اليه. رفض التراث العربي كمصدر للالهام. واعتبار النموذج الاوروبي هو المثل الذي يجب ان يتجه اليه الادباء حين يبدعون اعمالهم.
    وقد يبدو غريبا ان تلك الدعوة رفعت شعارا هو: "فلتحيا الاصالة. فليحيا الابداع. فليحيا التجديد والاصلاح".. فالقسمان الاخيران من الشعار مفهومان ومطلوبان في كل حين أما القسم الأول وهو التأكيد علي إحياء الاصالة فإنه يبدو غريبا. وغير مفهوم. في ظل المناداة برفض التراث العربي. وان كان مما يغفر لذلك الشعار انه ظهر في وقت لم تكن الشخصية المصرية قد تعرفت الي هويتها الحقيقية بعد.. فقد كانت موزعة بين عشرات التيارات والاجتهادات. مابين اسلامية وفرعونية وبحر اوسطية وشرقية وعربية وغيرها. فهي لم تسفر عن ملامحها العربية الواضحة الا في الاربعينيات من هذا القرن.
    ومع ان يوسف ادريس لم يستلهم التراث في قصصه القصيرة. فإنه كان تعبيرا فعليا عن الاصالة. بمعني ان اعماله كانت قصصا مصرية خالصة. دون اللجوء الي التقليد. وربما الاقتباس من الاعمال الادبية الاوروبية.. وهو ماكان يفعله كتاب الفترة. بدءا بمحمود كامل. مرورا بالبدوي وجوهر والورداني وغراب وعبدالقدوس وغيرهم.. ولعله من هنا جاء قول ادريس. انه اعتبر مهمته الاولي خلق ادب مصري حقيقي. بدلا من التقليد الباهت للادب الاوروبي المتأنق الذي افترش الساحة الادبية المصرية في اواخر الاربعينيات.
    والحق انه اذا كانت دعوة المدرسة الحديثة في الاتجاه الي المثل الاوروبي. بهدف تدمير الفاسد والرجعي واقامة المفيد والضروري فإن الرفض المطلق للتراث العربي. قد عكس تأثيراته السلبية القاسية فيما بعد. من حيث التبعية للاتجاهات الاوروبية. وفقدان الشخصية الفنية المتميزة. بل والنظر الي اعمالنا مهما تفوقت باعتبارها الادني بالقياس الي الاعمال الفنية في الغرب.
    ثمة رأي انه ليس للرواية العربية تراث. وعلي كل كاتب روائي عربي ان يختار لنفسه وسيلة للتعبير. دون ان يأنس الي من يرشده في ذلك. ولابد والحال كذلك من ان يعتور عمله النقص. ويشوبه الخطأ لذلك فإن الدعوة الي الارتباط بالتراث. الي احيائه وتحقيق التواصل معه في اعمالنا الفنية المعاصرة. هي دعوة صحيحة وايجابية. لأنها تمثل خطوة مؤكدة في سبيل استرداد الذات. واعادة اكتشافها فالاديب المصري ليس مجرد مقلد للأعمال الادبية الغربية مع بدهية الافادة المحسوبة من فنياتها. واذكرك في المقابل. بإفادة الادب الغربي من فنيات الف ليلة وليلة لكنه يجد ارهاصات أعماله. وبداياته الفعلية. في تراث العرب. وفي تراث المصريين القدامي كذلك.. ومن هنا تأتي اعادة النظر في التراث الادبي المصري والعربي. حتي ذلك التراث الذي تصورناه خاليا من الفنون الادبية المعاصرة. كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة. اما المحاولات التي شغلت بالتأكيد علي وجود تلك الاجناس في ادبنا القديم. فإننا يجب ان نوليها ماتستحقه بالفعل من اهتمام وتقدير.
    وبالتأكيد. فإن استلهام التراث هو اعادة اكتشاف للطاقات الفاعلة فيه. العودة الي التراث لاتعني الانكفاء علي الماضي. ولا اعتباره النموذج الامثل الذي يصلح لكل زمان ومكان. لكنها تعني تمثل هذا التراث. الاعتزاز به كثقافة قومية اصيلة. بهدف الانطلاق الي المستقبل.
    .....................................
    *المساء ـ في 11/7/2009م.


  19. #59
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    محمد جبريل.. ومعنى الحرية

    بقلم: زينب العسال
    .....................

    فى شهادته المنشورة فى مجلة فصول يقول محمد جبريل: "أنا مبدع مهموم سياسيا.. إنها سدى اهتماماتى الشخصية والإبداعية فى الوقت نفسه."
    جبريل المهموم سياسيا والمعنى بتحقيق الحرية السياسية التى هى حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة.. يوسع من مفهوم الحرية، فالأهم عنده من الكتابة عن الحرية.. هو "أن أكتب فى حرية، وأن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى..
    هذا الهم السياسى يبين عن نفسه فى غالبية كتابات جبريل الإبداعية منذ كتابه الأول "الملاك" والذى نشره ولم يتجاوز سن الكاتب آنذاك خمسة عشر عاما بعبارة.. "أشياء ثلاثة كرست حياتى للدفاع عنها: الحق والخير والحرية.. وأرى أن التمتع بالحرية كفيل بأن يحقق الخير والحق.. هل يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته إلا إذا كان حرا!.. وهل يمكن للإنسان أن يتمتع بالحرية إذا لم يتمتع بها الآخرون؟! إن مبدأ الحرية يلازمه بالضرورة علاقة الفرد الإنسان بالسلطة أيا كانت هذه السلطة.. سواء أكانت سلطة الحاكم أو سلطة الجماعة/المجتمع أو السلطة الأبوية.. البعض لا يرى وجود تعريف محدد للسلطة فإعطاء مفهوم للسلطة سيكون الأمر أكثر سلطوية.. فالسلطة متعددة الوجوه خافية وظاهرة.. من الممكن أن تكون سلطة مركبة.. متعددة.. ومتغيرة الوجوه.. "يمكن أن تعرف نفسها بكونها ذات أسماء عديدة، وتوجد فى كل الأمكنة والخطابات من الأسرة إلى الدولة، من التابو إلى الليبيدو، من العلم إلى الإيديولوجيا، من المستشفى إلى السجن، من العقل إلى الجنون، ومن المدرسة إلى الكنيسة.(1)
    السلطة إجمالا قائمة فى كل خطاب نقوم به حتى ولو كان يصدر من موقع خارج السلطة وهى لها آلياتها المتعددة.
    كان الحديث عن السلطة فى عصور ماضية لا يتم إلا عن طريق الرمز.. فيكون الخطاب على لسان الطير أو الحيوان أو يلجأ الكاتب إلى استخدام البلاغة. إن السلطة هنا تتعلق بالسياسة، لا تتعلق بمن يحكم بقدر تعلقها بكيف يحكم؟ (2)0
    هذا المفهوم تشير إليه روايات "الأسوار" و"إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبى الطيب المتنبى" و"قاضى البهار ينزل البحر" و"الصهبة" و"قلعة الجبل" و"الخليج" و"المينا الشرقية".
    من الخطأ البالغ أن نقول إن العلاقة بين المصرى والسلطة سارت دائما فى خط واحد ثابت.. القهر من جانب السلطة والخنوع المطلق من جانب المصرى.. فقد حدثت على مدار التاريخ عدة ثورات شعبية فى مواجهة السلطة الغاشمة..
    أعلن الإمام فى "إمام آخر الزمان" أن الإمامة منصب إلهى كالنبوة، فالأئمة عليهم نفس مسئوليات الأنبياء، وإن كان لا يوحى إليهم.. محمد جبريل يرصد بذكاء فكر الإمام الطاغية، فهو يصادر كل صوت سيعلو بالرفض لسياسته بأن هذه السياسة هى إلهام من عند الله فلا يحق للمسلم رفضه أو حتى مناقشته!.. تطلع الشعب إلى ظهور الإمام الحق "المهدى المنتظر" فكان أول ما فعله هو القضاء على المباذل "أغلقت دور السينما والملاهى الليلية أبوابها.. اقتصرت مواد الإذاعة والتليفزيون على البرامج الدينية والجادة وتلاوات القرآن الكريم.. أوقفت البنوك معاملاتها بالفائدة، ألغيت المدارس المختلطة، شجع على إنشاء الأسبلة والكتاتيب والمساجد.. خصص للعده يومين كل أسبوع فى مجلس عام.." هكذا كانت البداية وهى فى الغالب هكذا.. فإذا أمعنا النظر وجدنا أن بذور السلطة والتفرد بالحكم بادية لكل لبيب.. فهو الذي يقرر بالإغلاق وتحويل مسار البرامج.. التوجه للدعاية الدينية للنظام.. أى اصطباغ النظام بصيغة دينية واضحة. إعادة نظام قديم للتعليم أمام غلق المدارس المختلطة إيذانا بأن على المرأة أن تختفى ويتراجع دورها فى صنع المجتمع، ومن ثم لم نفاجأ بأنه يعيد النساء إلى بيوتهن وإلزامهن بالتزيى بالزى الإسلامى.. وفى خطوة أخرى للتفرد بالسلطة وإحكام قبضة النظام على مقاليد الأمور "اتخذ رجال أمن الإمام أماكنهم بين المصلين، فلا يصلون ولا يغادرون المسجد إلا وهو يغلق أبوابه.." فقد صار الوطن سجنا كبيرا للجميع. سلطة كهذه نجدها تهمل شئون الناس وأمور حياتهم.. يتفاقم الوضع على قسوة الحاكم الذى يهدد شعبه بالتنكيل والقتل لكل من يفكر فى المقاومة.. ورغم ذلك ترددت الألسنة وتساءل الناس: لماذا لا نقاوم؟!
    يدين محمد جبريل أصحاب الرأى الذين يكتفون بالمناقشة ومتابعة أفعال الإمام بالاستهجان والاستنكار.. ولكن لا يتحول الموقف إلى فعل إيجابى ممثلا فى الثورة.. فهم ينتظرون أن يأتى إمام جديد بالحل.. ثم ترجع ريما لعادتها القديمة.. فيعم الفساد والمظالم.
    ظهرت فكرة جماعية القيادة التى طالب بها صفوة العلماء والفقهاء المفكرين.. لم تحظ بقبول..
    -أية جماعية وأية قيادة؟ النبوة ليست بالشورى.. فلماذا نطلب ذلك فى الإمامة، لقد أعطونى طاعتهم حين أعطونى إيمانهم بى.
    انتقل الإمام من خلوته إلى قهوة السيالة.. مكانا شعبيا يلتقى فيه بعامة الناس.. لا يتحدث عن الدين والآخرة –فقط- بل يتحدث عن حياة الناس ومعاشهم.
    ولكن هذا الرجل الذى أمل الناس فى إمامته يقتل ذات يوم.. ليظل السؤال قائما. هل لابد من الفرد الذى يقود الجماعة؟! ولماذا لا يحكم الناس أنفسهم؟!
    يظل الشعب يعانى وتبدأ الثورة بالهمس.. ثم تعلو النبرة، ليعلو صوت الثورة هادرا فى كافة العواصم العربية والإسلامية، لقد دفع الحفناوى حياته ثمنا لتحرك الناس نحو حريتهم، كان موته هو المحرك الأول لتأخذ الجماعة المبادرة وتتحرك لاختيار من يقودها بينهم.
    فى رواية قلعة الجبل تأخذ الجماعة دورها فى الوقوف ضد بطش وقهر السلطان خليل الحاج أحمد.. فالسلطان الذى اختلف النص فى الحديث عنه.. وتعددت الأصوات، وإن ظل الكاتب متعاطفا مع عائشة القفاص، متحدثا عن قضيتها بنوع من التعاطف الذى جمع أهل حدرة الحنة والمناطق المحيطة بها لتقف فى ثورة عارمة أمام بطش السلطان.. ما الحكاية إذن؟
    -تعجب السلطان من امرأة مصرية من عامة الشعب.. يشرد زوجها أو يتخلص منه ومن والدها وخالها وكل من يتعاطف مع عائشة.. تبدو المسألة أنها خلافات بين الرواة فيما ذكروه فى شأن السلطان وحكايته مع عائشة.
    "فاعلم أن السلطان خليل بن الحاج أحمد كان متدينا وعالما وفاضلا، عنى برفع التهارج، ورد الثوابت، وقمع المظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وكان له فى عقاب المفسدين اختراعات مهلكات وإن استمد أحكامه من مصادر التشريع الإسلامى..
    هل يختلف السلطان خليل عن أى إمام ورع صالح.. غير أن حقيقة الأمر تضعنا أمام صورة أخرى رسمها الكاتب لهذا الرجل.. فقهره لم يعلن عنه مباشرة.. فقد استخدم سلطته فى اجتذاب عائشة للصعود إلى القلعة.. ثم التأثير على زوجها خالد عمار.. ووالدها.. فشلت المحاولة.. فكان البطش.. والتخلص من الخصوم بتلفيق التهم.. والتفنن فى العقاب الرادع!
    لم يقف الأمر عند أهل عائشة بل امتد إلى كل شخص حاول أن يقف بجوارها أو لجأت إليه.. بدأ القمع بأناس عاديين واتجه إلى رموز فى السلطة ذاتها.. الخليفة لفقت له تهمة الخيانة، تحدث السلطان عن رسائل بعث بها الخليفة إلى أمراء البلاد يدعوهم فيها إلى مخالفة السلطان.. ثم تخلص من زوجته الأولى.. خرج الناس فى الأسواق والشوارع والعطوف ومضوا إلى قلعة الجبل، تجمعوا حول القلعة يدعون ويطالبون بعودة عائشة ونزولها من القلعة..
    استجاب السلطان لثورة الشعب، عادت عائشة إلى منزلها فى حدرة الحنة، وفتح التجار حوانيتهم، وفتحت أبواب جامع الأزهر.. سكنت الفتنة..
    إن المهادنة هى الطريق الذى سلكه السلطان خليل أمام ثورة الشعب.. لقد أوهم الرعية بأنه يستجيب لطلبهم.. تقرب إليهم.. خرج إليهم حيث كانوا.. يسأل عن أحوالهم ومعاشهم.. يتفقد المساجد ودور العلم ويتأمل بعناية تسوية الشوارع ونظافتها.
    أختلف مع د.ماهر شفيق فريد فيما وصل إليه من أن هناك صوتين متجاورين فى رسم شخصية السلطان.. وقد أدى هذا إلى التباس القارئ.. والحقيقة أن القارئ مع مضيه فى قراءة الرواية سوف يكتشف بل يرسم صورة صادقة للسلطان خليل، وهى الصورة التى أرادها محمد جبريل وبث ملامحها، وهى صورة الحاكم الطاغية، فما صوت الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا تأكيدا على تلك الملامح التى رسمها جبريل لهذا الحاكم الطاغية. فيقول الراوى "أشفقت على سيرته من تشويه الموتورين لها، ومؤاخذتهم المعيبة عليها، وإلباسها ثوب الفجاجة.. فبدا الكذب حقيقة" فسيرة الرجل بداية مليئة بالمظالم والأخطاء، وما كان على الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا أن ينفى هذه الصورة. إن وظيفته تشير إلى وظيفة وسائل الإعلام التى تقوم بتجميل صور الحكام الطغاة.. فتقدمهم فى صورة مخالفة لما يعرفه الناس عنهم.
    يصف إريك نبتلى الكاتب –أى كاتب- بأنه "متسائل، منشق، خارجى،متحرر، صانع للمشكلات فى حرب على زمنه، مأخوذ بذلك دائما، يقف إلى جانب الأفضل فى عصره، مساعدا إياه على فهم ذاته.
    ويقول جبريل: "إن لى موقفا –أتصوره واضحا- من القضايا الإنسانية والاجتماعية، وهذا الموقف يبين ن نفسه فى أكثر من عمل قصصى وروائى، ثمة وشيجة تربط روايتى "الأسوار" مثلا بقضية التحقيق برواية "قاضى البهار ينزل البحر"، ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته فى أكثر من عمل."
    يحمل إبداع محمد جبريل ملامح المفكر القلق الذى يبحث دوما عن كل ما هو حقيقى وإنسانى فى هذا العالم، وهذه التيمة التى تفرض نفسها فرضا، فالأدب مهما اختلف النقاد فى تعريفه، هو إفراز فنى للأفكار التى تعتمل داخل أحشاء المجتمع المعاصر"! (3)
    فى روايته "الأسوار".. يفتدى البطل الملقب بالأستاذ هؤلاء المعتقلين والذين نسيتهم السلطة، أو تناستهم التعبير الأدق. فالأسوار من بعيد –مدينة أسطورية.. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجى، أبراج الحراسة من الأركان الأربعة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس، تشمل كل شئ: الأفلام، والأوراق والصحف والراديو والمناقشات. فهى بقعة فى جزيرة رملية يحدها.. الأفق.. لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية.
    الأستاذ هو رجل انغمس بالتطورات السياسية فى بلده.. وهو يتمتع بذات مناضلة تحيا واقع الجماعة وتخلص لقضاياها.. أحبه الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية فمنهم الوفدى والسعدى والإخوانى والشيوعى، والنشال والقواد وطالب الثأر والقاتل وبائع المخدرات".(4)
    فى المعتقل ثمة مواجهة مباشرة للسلطة وآليات قهرها يتعرض لها كل المعتقلين.. قامت الثورة وأسفرت عن إرسال تلغرافين للحكومة لم يرض الأستاذ ولا الجماعة بتحسن الأوضاع، فالحرية لا تتجزأ (5)
    شعرت إدارة المعتقل/ السلطة بأن هناك عقلا مدبراً يقود المعتقلين، عملت على التخلص منه، جندت العملاء من ذوى النفوس الضعيفة.. وجدوا فى حلمى عزت ضالتهم المنشودة، هددوه بافتضاح أمره.. نقل حلمى عزت الفكرة إلى الجماعة "بدت الفكرة اقتراحا مجنونا فى بادئ الأمر، لكن الليل البارد والأسوار والصحراء التى لا يحدها الأفق ولدغات العقارب والعذاب والغربة والحراس والوحشة والشوق والملل، ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون –فى أقل من يوم- حلا مقبولا".(6)
    إن القائد هنا هو واحد من الجماعة.. قدم نفسه فداء لأفكاره ومعتقداته، إنه يعلم بالمؤامرة منذ البداية، فقد دبر أمر الأوراق التى طويت على اسم واحد هو اسمه.. كان على الأستاذ منذ البداية أن يبث الوعى فى نفوس المعتقلين بأهمية الثورة.. والإعلان عن رفض واقعهم المهين داخل المعتقل.. ضحى الأستاذ بنفسه فى سبيل تحقيق مبادئه بالدفاع عن المظلومين حتى لو كانوا من القتلة والقوادين وتجار المخدرات.
    إن المواجهة مع السلطة كانت شرسة وعنيدة دفع ثمنها المعتقلون، فإحرق الأستاذ المحرك الفعلى لهم فى مناهضة الظلم والقهر، وكان دافعا لهم لمواصلة النضال ورفضهم الاستسلام لإدارة المعتقل.. سمع صوتهم لأول مرة فكان انتصارهم وهزيمة السلطة أمام عزمهم.. إن الإشارات الدالة التى بثها محمد جبريل فى نسيج روايته وعلى لسان أبطاله، وعبر اقتباسات متعددة تؤكد على قيمة الفداء والتضحية وهى صلب علاقة المثقف بجماعته ومجتمعه.. "ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11/50).
    كانت العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة يشوبها –دائما- التوتر، بدأت السلطة تعى مع العقد الثالث من القرن العشرين دور المثقف فى المجتمع، يكفى أن نشير إلى ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة للحريات مثل قوانين المطبوعات، التشريعات المقيدة لحقوق الاجتماع والتجمهر والتظاهر، بل وتقييد التقاضى أحيانا واستحداث أنواع من القضاء الاستثنائى، بالإضافة إلى اللجوء –بصفة شبه مستمرة- إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية".(7)
    إذا كان الحال هكذا مع المثقف، هل ينتمى محمد إبراهيم مصطفى العطار إلى "قافلة المثقفين الذين عانوا من صلف السلطة، أمثال: على عبد الرازق وبيرم التونسى وسيد قطب وشهدى عطية.. ومجموعة المثقفين التى تم اعتقالها فى خريف1980.. بالطبع لا.. "فقاضى البهار" إنسان بسيط يعمل فى إدارة التخليص الجمركى لا يتعاطى السياسة وليس له أى نشاطات سياسية من أى نوع!.. فلماذا تطارده السلطة؟ وتوجه إليه التهم وحين تفشل فى إثبات تلك التهم تدس عليه "بقلوظة" الراقصة لتلفق له التهم وتراقب جيرانه وأصدقاءه وتسأل عن جميع من يحيطون به فى هجمة شرسة لتبحث عما يشينه ويدينه".(8)
    تتكدس التقارير ونتائج الملاحقات، وتقوم أجهزة الشرطة بمطاردة كل من له صلة بقاضى البهار سواء فى الماضى أم الحاضر، فهل وجدت السلطة فى صمت أو لنقل تجاهل الإنسان المصرى العادى حيال آليات قهرها وملاحقتها للفرد فى صور شتى من العنف والاضطهاد نوعا من المقاومة؟ هل انتهت السلطة من ملاحقة كل من له نشاط سياسى وقهره بزجه داخل السجون والمعتقلات فلم تجد أمامها إلا الإنسان البسيط المهموم بلقمة عيشه تكيل له كل الاتهامات وتوقع به فى حبائلها..
    كان لقاضى البهار سمعة طيبة بين جيرانه وأهله، هل حنق أجهزة الأمن ضده جاء من حرصه على اقتناء الكتب السياسية والدينية والتاريخية، فقد تحسبت أن يقوم بدور ما.. أليس فى نظرها مثقفاً؟!
    الحقيقة أن سيرة محمد قاضى البهار لا تشى بالمرة بوجود ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين السلطة التى بطشت به وبأسرته ومعارفه وجيرانه.. تحولت حياة قاضى البهار بسبب ملاحقة أجهزة الأمن له إلى جحيم لا يطاق!
    تنتهى الرواية بلغز اختفاء قاضى البهار.. لا يعنى الاختفاء الموت.. هل اختفاء محمد قاضى البهار يساوى اختفاء الإمام المنتظر إلى حين ظهوره؟ هل كان اختفاء قاضى البهار احتجاجا على كل هذا العنت ممثلا فى المطاردات وإدانة أجهزة الأمن للأبرياء أو المعارضين لها؟
    إذا كان قاضى البهار لم يشعر بالدهشة لما يعانيه من مضايقات أجهزة الأمن له ولكل المقربين إليه.. فإن عادل مهدى يفاجأ باعتراف مساعد فى مباحث أمن الدولة أنه راقب الندوة لمدة ثلاث سنوات.. هذا ما حدث الضبط فى رواية "المينا الشرقية" التى تتناول خفايا الحياة الثقافية عبر الحديث عن ندوة أدبية يعانى من يتردد عليها من مشكلات متعددة، حيث تتشابك العلاقات وتتعقد فيما بينهم وبين أفراد المجتمع.
    كان السؤال الهاجس الذى ظل يردده عادل مهدى.. ما دخل الندوة بالمباحث؟ وماذا فيها لتراقب؟ عانى عادل مهدى من الإحساس بالخوف، ظل يبحث عن هوية هذا المجهول الذى ظل سنوات ينقل التقارير عما يدور فى الندوة، وهل كانت التقارير صادقة، أم أضاف إليها.. من هذا "الشبح الذى ظل يرصد الكلمات والأفعال والإيماءات، لقد زرع الشك داخل نفس الرجل، فشرع فى تمزيق أوراقه وصوره.. وأجندة التليفونات!
    لم تبطش السلطة/المباحث بالندوة، وإن ظل الهاجس قائما، من يكون المدسوس عليها؟
    -إن ما قاله الرجل عمل روتينى.. فهذه مهمة المباحث أنها تراقب الكلمة والنص، فعلاقة السلطة بالكلام وثيقة جدا، ولذلك كانت السلطة تسعى دوما إلى حماية الكلمة بشتى الطرق، وفرض السكوت إما بالقمع المادى الذى يكشف عن عجز هذا الخطاب على التلاؤم مع النص.. ومن ثم تأتى المراقبة والعرقلة والمصادرة، والحبس وترديد مفهومات مضادة لخطاب النص تقوم بعملية التشويش والتضليل!(9)
    هل كان ما تعرض له محمد الأبيض من معاناة سببا فى تعاونه مع أجهزة الأمن؟
    -"تقدم الرجلان، ثنيا ذراعيه وراء ظهره، وسدد الثالث الواقف أمامه لكمات متوالية فى بطنه.. علق قدميه فى حبل مبروم متدل من السقف ورأسه فى أسفل.. توالت الضربات على القدمين المعلقتين. لم يشعر محمد الأبيض باليأس ولم يعن بتلك الممارسات وألوان التعذيب كى يعترف على جريمة لم يرتكبها..
    -أعترف محمد الأبيض لعادل بأن القراءة وراء عدم شعوره باليأس حتى عندما منعوه من القراءة.. "كنت أستعيد ما أحفظه من قصائد وكنت أغنى أحيانا"!
    ظل محمد الأبيض مطاردا.. يشعر بهذه المطاردة.. فكل تصرف مرصود.. هل يرصد تحركات كل من يعرفه.. هل كان محمد الأبيض الشخص الذى جاءوا بسببه إلى الندوة؟
    اعترف محمد الأبيض أن الحادثة القديمة تشكل جثة هامدة يجرها.. "عاد محمد الأبيض إلى المينا الشرقية، والندوة والعمل والبيت، لكنه لم يعد إلى الحياة، حياته"!(10)
    تظل للسلطة هيمنتها على حياة من اصطدم بها.. وعانى من آلياتها المتفننة فى الاستجواب والتحقيق والتعذيب.. فالإنسان قبل الملاحقة ومواجهة السلطة وقهرها يختلف حتى بعد مواجهتها.. يظل هناك شئ ما انكسر فى نفس هذا الإنسان الذى يحاول جاهدا لملمة شتات نفسه وخاصة إذا كان بريئا لا يعرف ما ارتكب من تهم أو جرائم.. لكن السلطة أبدا لا تعترف بخطئها وعجزها.. تظل تلاحقه إلى أن يعترف بما تريد له أن يعترف به.
    فى نهاية رواية "المينا الشرقية" يوصى عادل مهدى أمه بنفسها.. ثم ينزل إلى هؤلاء الذين سألوا عنه منذ ساعتين! عادل هو واحد ممن تعرضوا لاضطهاد السلطة أيا كانت هذه السلطة، فهو يقف بجوار الأستاذ وبكر رضوان فى "الأسوار" ومحمد الأبيض فى "المينا الشرقية" وعائشة القفاص وخالد عمار زوجها فى "قلعة الجبل"، وقاضى البهار فى "قاضى البهار ينزل البحر".
    ......................................
    هوامش:
    1- راجع بارت
    2- راجع عمر أوكان.. مدخل لدراسة النص والسلطة.. الناشر أفريقيا الشرق
    3- د.نبيل راغب، مصر فى قصص كتابها المعاصرين، كتاب أصوات معاصرة، العدد24 إعداد د.حسين على محمد
    4- رواية الأسوار
    5- من حديث إذاعى أجرى مع الكاتب 15/1/1974
    6- رواية الأسوار
    7- راجع على فهمى، المصرى والسلطة، مجلة فكر فبراير 1985
    8- د.حسين على محمد، صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل، دار الوفاء1999
    9- راجع جولد شيلفر، نحو سيمياء الخطاب السلطوى، ترجمة مصطفى كمال، العدد الخامس، السنة الثانية، دار البيضاء 1987
    10- رواية المينا الشرقية.
    ....................................
    *عن مجلة "أمواج".


  20. #60
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    "البحر أمامها".. جديد "محمد جبريل"
    ............................................

    "البحر أمامها" أحدث رواية للكاتب المبدع محمد جبريل صدرت عن "دار الهلال" وأهداها إلي جدته "أنيسة".. وبهذه الرواية يستكمل محمد جبريل منظومته الروائية عن اسكندرية والبحر بمفرداتهما الخالدة: الكورنيش وزنقة الستات وسوق السمك والفنار.. وبحري واولياء الله الصالحين.. الخ
    تتحدث الرواية عن "نجاة" التي فقدت زوجها وتواجه الحياة بلا تجارب ثم تصطدم بعقوق ابنتها وجشع زوجها الذي يريد الاستيلاء علي شقتها لكنها تصمم علي الدفاع عن وطنها "شقتها" وذكرياتها "هويتها" وتستمد القوة شيئاً فشيئاَ وتعلن المواجهة.. حتي تفاجأ بها في النهاية ممسكة بالسلاح "النشابة" كي تدافع عن حقها.
    وكما عودنا جبريل في صياغاته الفنية المحكمة جاءت "البحر امامها" لتحمل معاني ودلالات إنسانية كبري تربط بين الحاضر والماضي والذكري والواقع والحقوق والوفاء والقوة والضعف.
    يقول د.ماهر شفيق فريد -هذه علي ايجازها- رواية أجيال يأخذ كل جيل منها برقاب سابقه ويمهد للاحقه وكأنما هي أمواج البحر المتعاقبة التي تطل علي "نجاة" من نافذة شقتها وصنعة الروائي هنا محكمة رهيفة وكأنما ينسج قطعة من المخرم بأنامل صناع بارعة ثمة قصد كامل في التعبير دون زوائد أو فضول وتوازن في رصد المشهد الخارجي والعالم الداخلي للشخوص وحنان إنساني غامر يحيط به الروائي بطلته التي عرفت الوحدة بعد صحبة والوحشة بعد أنس ونذر الشيخوخة بعد فتاء.
    ...........................................
    *المساء ـ في 2/11/2009م.


+ الرد على الموضوع
صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •