آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 84

الموضوع: مع الروائي محمد جبريل

  1. #61
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    المفتون

    بقلم: محمد جبريل
    ......................

    عبدالمنعم تليمة قيمة ثقافية كبيرة. بالإضافة الي كتاباته التي تضيف لحياتنا الثقافية. أو تثير فيها ما ينبغي اثارته من الآراء. فإني أجد في د.تليمة محدثاً بارعاً. يجيد تبسيط الملغز والصعب من القضايا. والاحاطة بموضوع العمل الذي يناقشه من خلال حصيلة معرفية وافية.
    تحدث د.تليمة في ندوة بنادي القصة عن المجموعة القصصية "نصف سرير ووسادة" للدكتورة سامية الساعاتي. لاحظ المزج الواضح بين فن القص والسيرة الذاتية. وأشار الي قلة السير الذاتية في أدبنا. حتي أنه عد ستة كتب فقط. أذكر منها السير الذاتية لسلامة موسي وطه حسين والحكيم وشكري عياد ولويس عوض.
    لا أدري لماذا قصر د.تليمة معني السيرة الذاتية علي الكتب الستة. ثمة سير ذاتية أخري صريحة إن جاز التعبير للطفي السيد وعبدالعزيز فهمي وأحمد أمين ووسيم خالد ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وأحمد عباس صالح وغيرهم ممن لا تسعفني بهم الذاكرة. ما يهمني تأكيده أن السيرة الذاتية بعد مهم في السرد العربي الحديث. ولعلي أسمح لنفسي بأن أشير الي كتابي "حكايات عن جزيرة فاروس".
    كتاب فؤاد قنديل الجديد "المفتون" إضافة ممتازة الي السيرة الذاتية في سردنا المعاصر. أذهلتني صراحة الكاتب المطلقة. ورفض نظرية قتل الأب التي يؤمن بها الكثير من مبدعي الجيل الحالي. فهو ينسب الفضل لكل من أفاده بنصيحة أو توجيه. أو ناقشه في أحد أعماله. وفي المقابل. فإن ملاحظاته السلبية أهملت الانحياز أو المجاملة. كتب ما حدث في طفولته ونشأته وعلاقاته بالآخرين. لم يكذب هذا هو الانطباع الذي أفلح في توصيله لي ولم يتجمل. استعاد ما جري بالفعل. وكتبه كما حفظته الذاكرة!
    الجوانب الحسية رغم أهميتها مشكلة تواجه غالبية كتاب السيرة الذاتية. فهم يتجاوزونها. أو يكتفون بالايماءة المضمرة. اقتحم فؤاد ما يعد لا أدري لم؟ محظوراً. لكنه لم يفتعل الاثارة. وتجنب العبارات التي قد تنزع عن السرد صفته الجمالية.
    السؤال الذي شغلني وأنا أطوي صفحات هذا الكتاب. المفيد والممتع في آن: هل كان فؤاد قنديل يكتب بكل هذه الصراحة عن فتاته التي لم يتزوجها. لو أنهما واصلا المشوار الي نهايته؟
    لكن هذه ملاحظة ثانوية
    .................................................. .
    *المساء ـ في 14/6/2008م.


  2. #62
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    قراءات في أدب محمد جبريل

    بقلم: نهال قاسم
    ...................

    أجمع المشاركون في الندوة التي أقيمت في مكتبة القاهرة الكبرى، وكانت تحت عنوان ( قراءات في أدب محمد جبريل ) على خصوصية تجربة جبريل الذي يعد أحد أبرز الكتاب الذين يتميزون بتفرد خاص في الإبداع القصصي والروائي، و دوره في تجديد الرواية التاريخية من خلال إدخال أقنعة، وعناصر جديدة تضمن استمرارها في نسيج الفن الإبداعي ، فضلا عن وفائه للإبداع القصصي الواقعي من خلال استلهام الواقع السكندري الذي ولد ونشأ فيه.
    تداعى الذاكرة !
    و قد قام د . هيثم الحاج علي – أستاذ النقد العربي ـ بإلقاء الضوء على بعض سمات الكتابة القصصية في إبداع "جبريل " من خلال مجموعته القصصية «ما لا نراه» التي تنطلق من الذاكرة و تدور حول السلطان ورؤية الشعب له، و الصراع على السلطة ، و التي تشكل المتوالية المترابطة المنفصلة في جانب ما ، باستخدام العوالم غير المرئية – الميتافيزيقية و البارافيزيقية – و التعبير عن كوامن النفس البشرية ، من خلال عدة مستويات سردية حاول التوفيق ما بينها على مدار تلك المجموعة : الأولى – مستوى الحلم سواء الرؤيا في المنام أو حلم اليقظة ، والذي تقوم النفس عن طريقه بالتعبير عن رغباتها المكبوتة ، و تطلعاتها ، ومخاوفها ، وفي هذه المجموعة نجد البطل يعمد إلى حلم اليقظة في محاولة للنفاذ إلى عمق الواقع الذي يعيشه ورؤية ما لا يراه، بينما يأتي الحلم في النوم لدى ( الجدة رقية ) كمحاولة لمواجهة الأزمة الشخصية التي تعانى منها ، و التنبؤ بمستقبلها عبر الحلم ، أما الرؤيا وهى العلم اليقيني الذي يستخدمه السارد كي يجعل منه وسيلة للنفاذ إلى أعماق المرئي من خلال قصة ( حقائق الجدار ) حيث تتشكل الصور على الجدار بعد نشوع الرطوبة فيه ، ووقوع أجزاء من الدهان ، لتخلق حياة أخرى موازية لحياة السارد أو البطل ، ويتماس هذين الخطان السرديان ، وتتداخل الحقيقة بالخيال ، و تنتهي القصة بمواجهة ما بين البطل وبين ذلك الذي جاء يستلبه جداره ، وإطلاق البطل الرصاص بمسدس متخيل في يده عليه ، كرمز لرفض البطل الوجود في هذا الواقع الزائف الذي لا يعبر عن الحقيقة التي وجدها عبر صور الجدار!
    المستوى السردي الثانى- في القصة هو الذاكرة التي يستخدمها السارد لاستكمال واقعه أو منظومته السردية من خلال شخصية ( الجدة رقية ) التي دأبت على الذهاب إلى شاطئ البحر في محاولة لتذكر الموقف الذي لم تتمكن فيه من إنقاذ ركاب المركب الذي أوشك على الغرق نتيجة احتباس صوتها ، و هو الأمر الذي ظل يؤرق ضميرها ، و الذي اضطرت معه إلى اللجوء إلى المشعوذين ، لاستلهام المعونة ، والمدد منهم ، ومحاولة التنبؤ بما سوف يحدث بعد موتها ، و إن كانت سوف تحاسب على ذلك الذنب الكبير!
    في قصة ( لماذا يتحدون ضدي ) يستخدم " جبريل " المستوى السردي الثالث - التاريخ ، عبر شجرة العائلة حيث قام أحد الأشخاص وفي غفلة من الحارس ، بإضافة اسمه على هامش أحد المصاحف إلى جوار أسمائهم، للاستيلاء على نصيب من الوقف المخصص لهذه العائلة !
    و في قصة (في حضرة الديوان) يستعين "جبريل" بالمستوى السردي الرابع - الموروثات الغيبية للتعبير عن حركة النفس البسيطة جدا في ظاهرها ، المعقدة جدا في باطنها ، و علاقاتها بتلك الموروثات المحيطة بها على المستوى الشعبي، وهو المنطلق الذي سار عليه "جبريل" في محاولة الارتكاز على أرض الواقع عبر استخدام البطل الحلم حتى يتمكن من مقابلة رئيس الديوان والأولياء الأربعة ، بعد أن فشل في مقابلتهم على المستوى الواقعي ، ليعرض عليهم شكواه التي لا نعرف محتواها تحديدا على مدار القصة .
    اغتيال !
    أما الناقد د. محمد زيدان ، فقد عرض لأحد كتبه الذي تناول فيه ( المنظور الحكائي في روايات محمد جبريل ) و الذي قام فيه بالتفريق ما بين نوعين : الأول – المنظورات السردية الخاصة بالحدث ، والمنظورات الحكائية والفعل الغائب ، مستشهدا برواية ( قاضى النهار) و التي استند فيها "جبريل" على فعل حكائى واحد كان غائبا طوال أحداث القصة، التي تبدأ بمجموعة من التقارير قام بوضعها مجموعة من أصدقاء "محمد قاضى البهار" الذي انصبت عليه كل تداعيات الرواية ، حيث وصلت هذه التقارير إلى أمن الدولة حول سيرة هذا الرجل، وكيف كان يعيش ، و يتعامل مع الآخرين ، ثم شعوره الدائم بأنه مطارد من قبل أشخاص لا يعرفهم، بل و لا يعرف سبب مطاردتهم له ، حتى تنتهي حياته بطريقة مأسوية غرقا في البحر دون أن يتمكن أحد من إنقاذه ، أو حتى التعرف عليه إلا من خلال ملابسه !
    كما رصد " د. محمد " الصور المختلفة التي رسمها " جبريل " عن الحياة العامة في مدينة الإسكندرية ، والواقع الجديد الذي دخل فيه المجتمع السكندري ، و التي حاول من خلالها أن يؤسس فلسفة معاصرة تتفاعل فيها الحكاية بشكل مؤثر مع الواقع المغرق في المحلية في الإسكندرية ، و شوارعها ، و عالم الصيادين ، واستخدام "جبريل" التقارير التي وضعها أصدقاء البطل باعتبار أن كل منها موجة من أمواج البحر كنوع من تحقيق الانسجام الدلالي ما بين الشكل و المعاني التي استخدمها"
    و في رواية ( قلعة الجبل ) التي استخدم فيها " جبريل " فعلا حكائيا واحدا ثابتا ، والذي يتمثل في مطاردة السلطان خليل لعائشة في قلعة الجبل ، رغبة منه في الحصول عليها بأي ثمن ، بينما تحاول هي مقاومته بكل ما أوتيت من قوة نفسية، ومادية ، و جعل كل الشخصيات ، والعناصر الحكائية ، و المشاهد المصورة ، تشتبك مع التراث بهذا الفعل الحكائي ، حتى إن " عائشة " كلما حاول أحد إغاثتها كان عقابه الموت الممنطق حكائيا سواء على يد السلطان أو أحد معاونيه!
    و في رواية ( نجم وحيد في الأفق ) استخدم " جبريل " الحركة الواحدة وكأنها قطعة موسيقية ما أن يبدأ العازف بعزفها دون توقف حتى ينتهي منها تماما ، وهكذا ما أن يبدأ روايته لا يتوقف عن الكتابة إلا مع انتهاء الأحداث التي يتداخل فيها الحلم مع الأسطورة ، و القدر بالجبر و الاختيار ، حيث تدور الأحداث حول شخص مريض يخرج في رحلة مع بعض البحارة بحثا عن علاجه في نجم يظهر في وقت و مكان محدد، وارتباط قدره به، و يستخدم "جبريل" ثلاثة أزمنة ، الزمن الحالي الذي يبدأ فيه الاستعداد للرحلة ، و زمن استرجاع الماضي مع بداية مرضه ، وصولا إلى ما سينتهي إليه مصيره ، و ذلك من خلال لغة و مشاهد حية ، و متدفقة تتشابه مع القصيدة الملحمية الشعرية الطويلة.
    المسكوت عنه!
    و يؤكد الناقد رمضان بسطاويسي على خصوصية تجربة " جبريل " الإبداعية التي تتعانق مع تجربته النقدية ، و الحضور القوى للجانب المعرفي الذي استطاع من خلاله أن يؤسس عليه معظم أعماله الإبداعية التي لا تخلو من الإشارات الثقافية، والتراث، والوافد الغربي بمكوناته، وتحدى الواقع، وقضاياه، وأحداثه، مشيرا إلى أن الكتابة عند "جبريل" تبدأ بعد انتهاء الحدث الرئيسي، مستعيدا مجموعة من الخبرات الحياتية، والذهنية التي يمكن أن تفيدنا ، لاستمرارها و لكن بأشكال مختلفة ، مشيدا برواية (رجال الظل) وما اتسمت به من جسارة، وجرأة في إثارة عددا من القضايا الحساسة ، و الهامة التي لم يسبق تناولها من قبل، وتدور أحداثها حول تجربة إمارة خليجية، وطبيعة السلطة فيها، كما يقدم لنا نموذج للمثقف الخليجي الموزع ما بين نوعين من الحياة قبل ظهور النفط وبعده، ودوره في التغيير والازدواجية التي يعيشها المثقف، ودور الثقافة الخليجية، وعلاقتها بالغرب بوصفه الملاذ، والمخرج من هذا الاضطراب الذي يعانى منه المثقف، وتنتهي الرواية بحالة من الموت كمحاولة للخلاص الفردي، و التحرر من سلطة الأمير "فضل" العاجز عن التغيير!
    و قد تناول د. عبد المنعم تليمة- أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة ، رواية ( زمان الوصل ) التي تدور أحداثها في العشرة أيام الأولى ، التي أمضاها بطل الرواية والشخصية المحورية فيها " هاشم السكندري " - الذي يتشابه مع جبريل من حيث النشأة - في الإسكندرية بعد غيبة استمرت 18عاماً ، نتيجة الظروف التاريخية ، و الاجتماعية ، التي استجدت على المجتمع المصري، ودفعت البطل إلى الهجرة المؤقتة عن موطنه إلى اليونان بحثا عن فرصة عمل أفضل، ثم زواجه من "كرستينا" اليونانية التي رفضت العودة معه ، و فضلت البقاء في موطنها، وقد جاء السرد الذاتي على لسان البطل الذي يحاول أن يصل زمن الماضي الجميل بالزمن الذي يحياه متطلعا إلى مستقبل أفضل ، مستخدما الجملة الاسمية القصيرة جدا، والحس اللغوي الذي ينزع إلى الجملة الفعلية، وافتقاد أدوات الربط، والوصل، والفصل، وهو الأمر الذي نجده في العديد من الكتابات الحديثة، نظرا إلى إننا لا نزال في طور الاستلهام، والتجديد، والتشكيل اللغوي في الرواية العربية، مشيدا "بجبريل" الذي اعتبره "تليمة" من أصحاب الأساليب الفنية الروائية المتميزة ، و نجاحه في احتلال مكانة رفيعة في أفقنا الروائي الراهن!
    زمن الماضي الجميل!
    الكاتبة د. زينب العسال – رئيس قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتى ـ أشارت إلى سكونية المكان وحركته في رواية ( مواسم الحنين) والنقلات الزمنية فيها، والإيقاع النغمي الذي يسير عليه السرد الروائي، حيث يتفحص السارد أحوال البشر وتحركاتهم مع ثبات المكان، وجغرافية حي بحري الذي شهد بعض التغييرات الاجتماعية الملموسة في حياة وسلوك البشر، كما قامت "د. زينب" بالدمج ما بين زمن الحكاية والمرتبط أساسا بحركة السرد ودور الشخصيات في تخليق هذا الزمن الإطار الذي يشيد النص الروائي الذي يقوم على الاسترجاع، محددا نقطة الانطلاق، ويقوم في الوقت نفسه بالإيهام بواقعية الأحداث مما يضفى الحيوية علي الشخصيات الروائية، وعبر العنوان الدال على الزمن وهو حنين البطل لما مضى من سنوات العمر المفقودة، مستعيدا مرحلة طفولته وشبابه في مدينته الإسكندرية، وحي بحري خاصة، والذي كثيرا ما صرح "جبريل" نفسه بحنينه الشديد إليها، مستعرضا ما مر بالوطن من انتكاسات، وهزائم، وانتصارات، وعادات البطل التي لم تتغير بعد عودته من الخارج واستقراره في الإسكندرية، ورفضه لنمط الحياة التي أصبح أسيرها، ويختتم "جبريل" روايته بالتساؤل عن جدوى حياة الإنسان الذي يمضى عمره ، وهو يعيد و يرتب وينظم ويجمل ويضيف ويحذف، ثم يترك كل هذا ويرحل!


  3. #63
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الرواية والسينما

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    سألت نجيب محفوظ هل تكتب الرواية وعينك علي السينما؟
    قال وهو يرنو إلي النيل من نافذة مكتبه بقصر عائشة فهمي: لو أن ذلك كذلك ما كتبت "الشحاذ"!
    لم يكن نجيب محفوظ يتصور أن "الشحاذ" تصلح عملا سينمائيا. عبر عن الشخصيات والأحداث بفنية مضمرة. ولغة موحية. بعكس ما طالعناه في القاهرة الجديدة وخان الخليلي والثلاثية والسمان والخريف واللص والكلاب وغيرها.
    لكن الشحاذ تحولت ببراعة كاتب سيناريو يجيد أصول فنه إلى إضافة مهمة للسينما المصرية.
    لا صلة للرواية الجيدة بالسيناريو الجيد. والعكس صحيح. قد تتحول الرواية الجيدة إلى سيناريو رديء. وقد يحيل السيناريو الجيد قصة عادية إلى فيلم سينمائي جميل. وربما تتضافر الرواية الجيدة والسيناريو الجيد في تقديم عمل يذكره تاريخ السينما.
    لا اعني افتقاد الصلة بين الرواية السردية والسيناريو السينمائي. فالأفلام الكبيرة تدين بنجاحها لأعمال روائية وقصصية، أبدعها مؤلفوها دون أن يضعوا حسابا إلا للقيمة الفنية السردية. ثم وجدت السينما في الرواية أو القصة من القيمة الدرامية ما يتيح تماهيا دراميا مطلوبا بين القصة والسيناريو.
    ثمة من يجدون في الرواج الذي تحققه أفلام السينما. والعائد الذي تدره القصص المكتوبة دافعا لان يتجهوا بأعمالهم إلى مشاهد السينما بأكثر من أن تتجه إلى قارئ العمل الأدبي. فهم يذكروننا بمثل الغراب الذي أراد أن يقلد في سيره مشية الطاووس!
    لا بأس أن يفيد العمل الأدبي من تقنية السيناريو السينمائي: الفلاش باك. التقطيع. المزج. وغيرها وبديهي أن تعتمد السينما علي قصة. أو حكاية تكون محورا لأحداثها. فلا نبتلي بأفلام يدخل فنانوها وفنيوها الأستديوهات كما يحدث الآن ليصنعوا أي شيء بلا فكرة ولا رابط مجرد صور متتالية تعاني السذاجة والسخف!
    لكي تجاوز السينما المصرية مأزقا مستمرا. تعانيه منذ سنوات. فإنها لابد أن تنتج أفلاما في مستوي دعاء الكروان وبداية ونهاية وفي بيتنا رجل والبوسطجي والسقا مات والحرام واللص والكلاب والحفيد والطوق والإسورة وغيرها. وهي أفلام مأخوذة كما نعرف من أعمال أدبية وفي المقابل فان علي الروائيين وكتاب القصة أن يخلصوا للعمل الأدبي وحده. بعيدا عن مغريات السينما المادية والدعائية. وألا تكررت مأساة الغراب الذي لم يحسن مشيته الحقيقية. ولا أحسن التقليد!


  4. #64
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    لنقرأ أولاً

    بقلم: محمد جبريل
    ..................

    بعد أن صدر كتابا قاسم أمين تحرير المرأة والمرأة الجديدة. طرق شاب بيت قاسم أمين. وطلب أن يلتقي سيدة البيت.
    سأل قاسم أمين: هل تعرفها؟ أجاب الشاب: لا. لكنك دعوت في كتابيك لأن يلتقي الرجال والنساء.
    لم يخف قاسم أمين دهشته: هل قرأت الكتابين؟ قال الشاب ببساطة: لست كافراً فأقرأ كتباً ملحدة!
    تذكرت تلك الحكاية وأنا أتابع معركة الفضائيات بين الدكتور سيد القمني وعدد من منتقدي فوزه بجائزة الدولة التقديرية. واعتبر البعض هذا الفوز مزايدة من فاروق حسني وزير الثقافة علي أهم قيمنا. ليظفر بالمنصب الرفيع. وكانت حجة المنتقدين أن القمني يسيء في كتاباته إلي الإسلام. فهو لا يستحق التقدير!
    سأل المذيع شيخاً فاضلاً تصدي لآراء القمني: هل قرأت كتاباته؟ أجاب بالبساطة التي أجاب بها الشاب عن سؤال قاسم أمين: لن أقرأ كلاما ملحداً!
    الطريف - والغريب - أن الاجابة نفسها قالها ضيوف علي برنامج التليفزيون.. أدانوا كتابات القمني دون أن يحاولوا قراءتها. لأنها - كما قيل لهم - كتابات ملحدة!
    لا أتخذ موقف المناصر للقمني. بل ان زياراتي المتأملة لموقعه علي الانترنت تضعني في الضفة الاخري لاجتهاداته . ثمة ملاحظات لابد ان نناقش في ضوئها تلك الاجتهادات. فنلاحظ حيل التصيد والأسلوب الانتقائي لمسار الدعوة الإسلامية. وللتاريخ الإسلامي. سلسلة لا تنتهي - يشغله تأكيدها - من المظالم والمخالفة لأبسط حقوق الإنسان. فضلا عن التجني المعيب علي آل البيت والصحابة والخلفاء الراشدين "راجع - علي سبيل المثال - دراسته عن ثورة الزنج".
    من حق منتقدي القمني أن يناقشوا اجتهاداته. شريطة ان تصدر آراؤهم عن قراءة واعية لتلك الاجتهادات. لا يكتفون بالنقلية التي تعد من أخطر ما عانته الثقافة العربية في توالي عصورها. أنا أجد فلانا كاتبا متفوقا لا لأني وجدت في كتاباته ما يستحق هذه الصفة وإنما لأن هناك من قرن بها تلك الكتابات. في المقابل أجد فلاناً الآخر كاتبا رديئا لأن بعض الآراء وسمته بهذه الصفة!
    أن أناقش. وأبدي الرأي. لابد أن يسبق ذلك قراءة حقيقية. أقرأ للكاتب . دون أن أكتفي بالقراءة عنه. فلا نفاجأ - بعد عشرات السنين من واقعة الشاب الذي طرق باب قاسم أمين ليخلو إلي زوجه - بتكرار للموقف الذي أقل ما يوصف به أنه يخلو من الموضوعية.
    كما قلت. فإني أختلف مع اجتهادات القمني من خلال قراءاتي لكتاباته علي موقعه في الإنترنت. لكنني أرفض - في الوقت نفسه - محاسبة الآخرين. وإدانتهم. لمجرد المعلومة غير المثبتة. أو الشائعة. أو الوشاية!
    فلنقرأ أولاً!
    ...............................
    *المساء ـ في 1/8/2009م.


  5. #65
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الواقعية السحرية

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    الوجدان المصري والعربي بعامة يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية. مهما مالت موضوعياً إلي الخرافة. إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها. وممارسة سلوكيات حياتنا في ضوء ذلك الاعتبار. الإنسان العربي يمارس ما قد يبدو خرافة. دون أن يضعه في إطار معرفي محدد. بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب. هم الذين يعرفون معني الواقعية السحرية. بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل. أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقي عن مستوي إدراكنا. فلسنا نملك إلا أن نكتفي بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التي كتبتت في إطاره. فهو تحذير يشي للأسف بحرص علي الدونية في النظر إلي معطيات الآخر. حتي لو أفاض ذلك الآخر في التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربي. وبخاصة ألف ليلة وليلة.
    نحن لا نحاكي غرائبية الآخر ولا عجائبيته. ولا حتي واقعيته السحرية. لكننا نكتب عن الواقع الذي نحياه بكل ما ينطوي عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة. أوافق إيزابيل الليندي علي أن الغموض السحري ليس وسيلة أدبية. ليس ملحاً ولا بهاراً. لكنه جزء من الحياة نفسها. الواقع هو النبع الذي نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا. نقرأ الإبداع العالمي في إطلاقه. لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التي ننتمي إليها. ونحاول من خلال ذلك أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية. أو فلسفة الحياة. وهو المعني الذي أوردته كثيراً في العديد من مقالاتي. أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية علي سبيل المثال لمجرد الانطلاق في الخيال. لكنني أحرص علي تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية. سواء في اللحظة المعاشة. أم في أحداث تاريخية.
    بمعني آخر. فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتنا الموروثة والمكتسبة. ونتمثل ثقافات أخري نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة. ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعني الانكفاء علي الذات. ورفض التراث والموروث العالمي. أو حتي الانعزال عنهما. نحن كإنسانيين ننتمي إلي هذا العالم باختلاف ثقافاته. وتنوع حضاراته. ويجدر بنا أن نفيد من ذلك في اثراء تجاربنا الابداعية. بتعدد المنابع التي ننهل منها.
    في كل الأحوال. فإننا لا نتعمد جذب انبهار القاريء ولا ادهاشه. الفن هو البدء والمنتهي. والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو تشويه. لكنه يحاول أن يهبنا دلالة. ما يستحق عناء المبدع في الكتابة. وعناء القاريء في التلقي.
    ...........................................
    *المساء ـ في 10/5/2008م.


  6. #66
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر

    بقلم: محمد جبريل
    ....................

    قد تبدي توصيفا لمعني أو قضية فيها اختلاف ثم تجد ان توصيفا آخر لمحدثك ربما يكون أميل إلي الدقة إذا كنت مكابرا -لا قدر الله- فأنت تصر علي التوصيف الذي طرحته أما إذا كنت مجتهدا تشغلك الحقيقة في ذاتها فلعلك تقول ببساطة: هذا ما أردت قوله.
    أذكر أني وجدت في الواقعية السحرية تعبيرا متماهيا أو موازيا للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية.
    وجدت في الواقعية الصوفية معني أشد عمقا للإبداعات التي تستند إلي الموروث الشعبي بداية بالميتافيزيقا وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلي الصوفية.
    صديقي الدكتور شبل الكومي اقترح تسمية أخري هي الواقعية الروحية بدت لي تسمية أقرب بل هي -في قناعتي- صحيحة تماما.
    الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعي في الممارسات الصوفية وحدها في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم ما ينسب إلي السيد البدوي وأبي العباس والشافعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات وما ينسب إلي الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة وأشد تحديدا في الوقت نفسه.
    النظرة إلي الموت والموتي تكوين مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد.
    نحن نؤمن بالخلود وان الموت انتقال من حال إلي حال لذلك يأتي انشغالنا ببيت الآخرة مقابلا لإهمال بيت الدنيا تدلنا الحفائر والتنقيبات علي آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات. مصاطب المقابر. الأجساد المحنطة. الأوشابتي. إلخ لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا البيوت التي كان يعيش فيها قدامي المصريين.
    وبالطبع فإننا نؤمن ان الصلة بموتانا -أو صلتهم بنا- لا تنقطع إن لم نرهم رؤي العين فإنهم يزوروننا في الأحلام أو ما يشببها ويحرصون علي متابعة أحوالنا ويشعرون لتلك الأحوال بالقلق والخوف والفرح والحزن وهم في دار الحق بينما نحن في دار الباطل.
    باختصار فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلي الضفة الأخري أو تحاول ان تنتقل إليها إضافة إلي ذلك فإن ما تنبض به حكايات جداتنا من الغرائبية والعجائبية تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين انها تنطلق في الخيال إلي آفاق مطلقة أما الحكايات الأخري فإن آفاقها محدودة يتحرك في محدوديتها بينوكيو وسندريللا وذات الرداء الأحمر وغيرها.
    ذلك هو سر الافتتان العجيب بالتراث الشعبي العربي كما في ألف ليلة وليلة علي سبيل المثال ما يحرص أدباء أمريكا اللاتينية علي تأكيده في إشاراتهم إلي البدايات ان ألف ليلة وليلة كانت دليلهم إلي عالم الفن الجميل البساط السحري. البلورة المسحورة. طائر الرخ. جزيرة واق الواق. افتح يا سمسم. وغيرها من الصور التي تصدر عن مخيلة لا حدود لانطلاقاتها.
    ...................................
    *المساء ـ في 15/8/2009م.


  7. #67
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر

    بقلم: محمد جبريل
    .....................


    إذا كان علي مبارك قد كتب خططه ليفيد منها قارئو العربية ودارسو المكان المصري بخاصة.. وإذا كان يوسف الجزايرلي قد وضع خططه للغرض نفسه. وإن قصر جهده علي المكان السكندري.. فإن حسن خليل لم يوضح الهدف من كتابة نوتته الصغيرة. تتضمن شوارع بحري وميادينه وأزقته. وأهم معالم الحي القديم. جمله القصيرة المركزة تشي بأنه قد كتب هذه النوتة ليزجي فراغ رحلة المعاش. أو ليفيد منها في مشروع أعده. وكان هو وحده أعلم بتفصيلاته. لكن الرجل فيما يبدو عدل عن مشروعه. فأهدي النوتة إلي صديقنا المشترك الشاعر الراحل عبدالله أبو رواش. وحين علم أبو رواش بمشروع روايتي "رباعية بحري" التي تعني بالحياة في الحي منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلي قيام ثورة يوليو. وجد في المعلومات التي تحويها النوتة الصغيرة ما قد يفيدني في تذكر أسماء الأماكن. علماً بأن صلتي بالإسكندرية اقتصرت منذ إقامتي في القاهرة علي الزيارات المتقاربة. أو المتباعدة.
    حسن خليل هو خليل الفحام في روايتي "أهل البحر". لم تتح لي الظروف لقاءه. لكنني حاولت التعبير عن إنجازه المهم. فجعلته بطلاً لأحدث ما كتبت.
    رفض الرجل أن تتحول رحلة المعاش إلي جسر انتظار. حاول أن يصنع شيئاً. يشغل به وقته. ويفيد منه الناس. بدأ رحلة في الزمان والمكان. عبر مساحة محددة ومحدودة. بدايتها ميدان المنشية ونهايتها سراي رأس التين. نبضها رفض الانتظار السخيف. والتغلب علي الملل والوحدة. والتعبير عن الشوق والحنين والمحبة. ومحاولة رسم لوحة بانورامية للزمان والمكان في بحري. تهب المثل لمن يريد أن يصنع شيئاً. حتي لو كان موظفاً بدأ رحلة المعاش.
    لا أعرف عن حسن خليل إلا أنه كان موظفاً صغيراً في محافظة الإسكندرية. ظني أنه حاول أن يشغل رحلة المعاش مثلما يفعل الكثيرون برعاية أبنائه وأحفاده. والتردد علي بيوت الله. والجلوس إلي أصدقاء العمر في المقهي القريب.. لكنه أضاف إلي ذلك سعياً لإنجاز مهم. كان هو الدافع لأن أكتب هذه الكلمات. أشير من خلالها إلي أن رحلة المعاش. أو حتي الشيخوخة. لا تعني اجترار الملل وتوقع النهاية. لكنها قد تكون بداية جديدة في حياتنا. نفرغ فيها لما صرفتنا عنه أيام الوظيفة.
    ولعلنا نجد المثل أدبياً. في أستاذنا نجيب محفوظ. الذي أضاف إلي المكتبة العربية منذ أحيل إلي المعاش كما متميزاً من الأعمال الإبداعية. يفوق ما صدر له قبل أن يبلغ الستين!
    وسع محفوظ من دائرة صداقاته وعلاقاته الإنسانية. وزاد من وقت حياته الأسرية. لكنه لم يهمل نشاطه الإبداعي. فكتب الكثير من الأعمال التي اتصلت بما سبقها. فشكلت في مجموعها مشهداً روائياً متكاملاً. بلغ غايته في أصداء السيرة الذاتية. وأحلام فترة النقاهة. هذان العملان اللذان يذكراني بمن يعصر الليمونة. وحين تقل قطراتها. فإنه يضعها حول سكين يعتصر القطرات المتبقية!
    ......................................
    *المساء ـ في 22/8/2009م.


  8. #68
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    إذا كنت قدألزمت نفسي- ذات صباح خريفي في مطالع الستينيات- ان أقرأ كل ما تصادفه يداي من أعمال ابداعية- روايات وقصص قصيرة علي وجه الخصوص- فان النتيجة التي أعانيها الآن هي ان الجديد في الابداع الروائي والقصصي- هذا ما يشغلني- وفي فنيات الابداع تحديداً. مطلب في غاية الصعوبة. ويحتاج إلي موهبة من حقها ان تنتسب إلي العبقريات. العادة في الندوات الأدبية ان يجامل آخر المتحدثين من سبقوه. فيشير- بتواضع غير حقيقي- إلي انه لم يعد لديه ما يضيفه.وان قرر- بينه وبين نفسه- ان يقذف بعصا موسي لتبتلع أفاعيل السحرة. ولأني لا أمتلك ما يهبني الثقة في تقديم "الاضافة" فإني أكتفي بالغيرة الفنية- هل هذا هو التعبير الأنسب؟ - وان أقرأ تلك الاضافات الجميلة في فنية القصة القصيرة والرواية.
    الإضافة لا تعني الالغاء. وإلا لألغينا أعمالا روائية وقصصية مهمة في تاريخ أدبنا المعاصر. في ضوء أعمال نجيب محفوظ علي سبيل المثال الاضافة التي أقصدها. هي التي يحاول التجريب تقديمها. لا اضافة بدون تجريب. أو ان التجريب المتفوق يقدم اضافة. لا يوجد مبدع حقيقي لم يحاول ان يقدم ابداعاً غير مسبوق في مقولته وفنيته قرأت لمحمد النويهي في أواخر الخمسينيات ان الأديب لا يمكن ان يكون عظيما الا اذا ابتكر شكلاً فنياً جديداً. وشق طريقاً غيرمعروف ولا مألوف. وأضاف النويهي انه مستعد لان يسامح أدباءنا علي كل ما يرتكبون في سعيهم نحو تحقيق هذه الصورة الملحة من خطأ وشطط. فهم يأملون ان ينتهوا من تلك التجارب إلي استكشاف سواء السبيل. وكانت قراءتي للنويهي مساوية من حيث التفاتي إلي ضرورة أن يضيف المبدع جديداً. لما قرأته لمحمد مندور عن ضرورة ان تكون للمبدع فلسفة حياة.
    الابداع هو اضافة شيء جديد إلي الوجود. لكن لابروبيير يذهب إلي القول: "كل شيء قد قيل. وقد أتينا بعد فوات الأوان. ويقول الكاتب الايرلندي أوفلارتي: "إن أشد ما يؤلم الكاتب هو معرفة ان كل ما يقدمه قد قيل من قبل". أصعب الأمور- أو أقصاها- ان تبدع عملاً يتصور انه غير مسبوق. ثم يبين توارد الخواطر- هذا هو التعبير الذي تفضله النصيحة المشفقة- عن الأعمال التي تلقي علي عملك- غير المسبوق- ظل التأثر. وقد بدأ اهتمام جابرييل جارثيا ماركيث بفن القصة. حين قرأ قصة "المسخ" لكافكا. قرأ في أولها هذه الجملة "عندما صحا جريجور سامسا ذات صباح. بعد أحلام مقلقة. وجد نفسه قد تحول إلي خنفساء" وأغلق جارثيا الكتاب فزعاً.وهو يهمس لنفسه: هل يمكن ان يحدث هذا؟ وكتب- في اليوم التالي- أول قصة له. وللكاتب الأمريكي اللاتيني الفريدو كاردينا بنيا قصة بعنوان "اثار النمل علي الرمل". يعتذر لقرائه - بداية- عن اخفاقه في العثور علي قصة جديدة لم يسبق ان قرأ مثلها. وعلي حد تعبيره. فان ألف ليلة وليلة مخزن لأكبر عدد من القصص الانسانية. لقد أصبح هذا الكتاب نبعاً ثرياً متعدد الروافد للعديد من القصص والحكايات التي تروي في كل أنحاء العالم. وجعل الكثير من الكتابات التالية لصدوره مجرد تقليد أو نقل غير مبدع. وتنقل الراوي/ الكاتب بين العديد من موضوعات الأحلام والحب. وحكايات الجنيات والعفاريت. وقصص الفزع والاشباح والأرواح الشريرة ثم توصل- أخيراً- إلي قصة وجد فيها تفرداً عن كل ما سبق تأليفه من قصص: "كان ذات مرة" وقرأ القصة علي متلقين كثر في أنحاء العالم. ثم أسلم عينيه لاغماضة الموت. وهو يبتسم في هناءة!
    ..................................
    *المساء ـ في 29/8/2009م.


  9. #69
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    المينا الشرقية

    بقلم: حسني سيد لبيب
    .........................

    حين بدأ محمد جبريل كتابة روايته ( المينا الشرقية )(1) ، أحب أن يضمنها شيئا من واقعه كأديب ـ وهي سمة بارزة في معظم كتاباته ـ فشاء أن يجعل من الندوات واللقاءات الأدبية موضوعا لروايته، وجعل من مقهى المينا الشرقية مقرا لها، مما جعل الكاتب أقرب إلى عالمه وهو ينسج خيوط الرواية ويرسم شخصياتها. وإن انتقل بالندوة ـ في روايته ـ إلى مكان آخر غير القاهرة ، إلى المكان الذي عاش فيه طفولته وصباه ، إلى المكان الذي أحبه وعشقه وشده الحنين إليه ، حتى أنك إذا سألت عنه وجدته قد سافر بجناح الشوق إليه ، إلى المكان الذي كتب عنه العديد من الروايات ، إلى الإسكندرية ، وبالتحديد منطقة ( بحري ) .. والمقهى في المكان نفسه .. وهذه الواقعية الممزوجة بالحنين إلى المكان خلقت جوا يأنس إليه الكاتب فيأنس معه قارئه ، لما فيها من مصداقية القول وجيشان الأحاسيس . واستتبع ذلك صياغة لغوية متفردة . وقد ضمن الرواية شخصيات من الواقع ومن الخيال،في مزج دقيق لا يواتي إلا الفنان ذا الطبيعة المرهفة ، والريشة المبدعة في رسم الشخصية المتوائمة مع النسيج الروائي .. الذي يستوحي أحداثه ويستلهمها من بيئة شعبية اتتمى إليها فكتب عنها ما يشكل (رحلة إلى العالم القديم ) (2)، وهي رحلة ذات طبيعة خاصة، لما فيها من حنين إلى الماضي و( حلاوة زمان ) (3) .
    والرواية إضاءة لأحوال الأدباء ، سواء في معاناتهم فيما يكتبون ، أو ما يعانيه البعض منهم من أجل الحصول على عمل . ولم يبدُ على أيٍّ من رواد الندوة مظهرا من مظاهر الغنى ، فهم إلى الطبقة الفقيرة ينتمون .
    و ( البطل المطارد ) الذي ركز عليه الدكتور حسين علي محمد في دراسته القيمة عن أدب محمد جبريل(4) ، ما زال مطاردا ـ أيضا ـ في ( المينا الشرقية ) . فالبطل إما مطارد من السلطة دون ذنب جناه، أ و مطارد من الأب أو الأم، كما في روايات : ( الأسوار )، و ( الصهبة )، و ( قاضي البهار ينزل البحر.وفي رواية ( النظر إلى أسفل ) نجد شاكر المغربي مطاردا من أزمته النفسية، يستمرئ لعبة الاستمناء التي تعني عدم المشاركة في الحياة، وكأنه يشير إلى الرأسمالية المصرية الجديدة بعد الانفتاح، التي تنمي ثرواتها دون اهتمام بإنماء مجتمعها وتطويره.. وفي رواية ( الخليج ) نجد البطل مطاردا من الحياة جميعها، من الأسرة بمطالبها، ومن رئيس التحرير في صحيفته، ومن الكويت التي احتلتها العراق، ومن جنود الحدود في السعودية.. وقد نجح الدكتور حسين علي محمد في إلقاء الضوء على هذا الجانب المهم في إبداعات جبريل، ناهيك عن قضية الحرية، التي تشغل بال كاتبنا ويعتبرها قضيته الأولى. وهو لا يصرح بها، لكنه في الشخوص التي رسمها، وفي تناوله لقضايا التعذيب وقهر الفكر، إنما يشي بذلك إلى المطلب الحيوي للإنسان، حريته التي لا تقل أهمية عن توفير الملبس والمأكل والمأوى.. من هذه الزاوية، نقرأ رواية ( المينا الشرقية )، ونصب أعيننا حكاية البطل المطارد، وأهمية الحرية للإنسان.. وقبل الاسترسال في الحديث عن ( المينا الشرقية ) نلاحظ أن معظم أبطال رواياته انطوائيون أو انعزاليون، أو قل إن علاقاتهم الاجتماعية محدودة. وبطل ( المينا الشرقية ) أديب، ومن ثم فالعزلة ديدنه حتى يتمكن من القراءة والكتابة، وقد دلل جبريل على ذلك بمقولة أرنست هيمنجواي : " كلما ازداد الكاتب انغماسا في عمله، بعد عن أصدقائه، وأصبح وحيدا ".. وما قاله جابرييل جارثيا ماركيز عن الكتابة، التي هي في تقديره أكثر المهن عزلة في العالم، فلا أحد بإمكانه مساعدة الكاتب في كتابة ما يكتب ( 5 ) . فالراوي هنا هو الأديب عادل مهدي يترأس ندوة أدبية، وهو المسئول عن إدارتها وما يثار فيها من آراء . فنتعايش معه.. ذلك الكاتب الذي دق حسّه وتحول انتباهه إلى شخص ما يظن أنه يراقب تصرفاتهم ، واتجهت به الظنون إلى كل شخص ينطوي على نفسه ، أو ينزوي في ركن ، أو يواظب على حضور الندوات . ويجدّ في البحث عنه ، حتى أن الراوي صار عينا حساسة ، تبحث في كل الاتجاهات عن العين الأخرى المراقبة ‍‍.. وتدل تصرفات عادل مهدي على فقدان الثقة بين الكاتب والدولة ، أو هي أزمة متبادلة بينهما ، بمقدار ضيق مساحة الحرية التي تمكّن الكاتب من أداء رسالته .
    والراوي أو رئيس الندوة ، لم يُبدِ تعاطفا مع رأي أو إبداع ، مكتفيا بعرض وجهات النظر ، وتقديم الأدباء .. وقلما نجد كاتبا اهتم بكتابة رواية عن هموم الأدباء وأحوالهم . لذا تميزت ( المينا الشرقية ) في موضوعها ، بل إنها كسرت أيضا الحاجز المصطنع بما قدمته عن حياة الأدباء .
    إن تضييق الخناق على أعمال الندوة ، من قبل رجال المباحث ، أثّر بالسلب على عملية الإبداع ذاتها . فالمطاردة والشك ينغصان عيشة الكاتب ، ويجعلانه في مواجهة أحد أمرين : إما ألا يحفل بمن يراقب ، ويصر على الجهر بما يراه من رأي ، وإما يتحفظ فيما يقول ويكتب ، إيثارا للسلامة .. ويبدو لنا الراوي متخوفا من العين الراصدة ، لكن الكاتب لم يطلعنا على آراء الراوي التي يخاف من الجهر بها ، وإن أطلعنا على آراء رواد الندوة . وبات الخوف من المطاردة أسلوب حياة تعكر مزاج الكاتب وتوقعه في اضطراب ، سواء جهر بقول أو التزم الصمت .. فالمراقبة قاعدة أساسية سواء شكلت الندوة خطرا ما أو لم تشكل، فالمراقبة أمر لازم ، أو هي نظام اتبع مع أي تجمع ، فيندس من يراقب دون أن يشعر به أحد . في ضوء هذا ، أدار الكاتب أحداث الرواية ، حول العين الجاسوسة التي لا يعرفها أحد ، ولا تكشف عن نفسها , فبدأ الراوي يشك في كل عين ويرتاب من كل قول.
    وها هو رجل لا يخفي أن عمله حضور الندوات والتجمعات ليراقب ما يقال فيها ..وتشكك من مسئول بمكتب الجريدة التي يعمل بها محررا ، بسبب قراءته لكل شيء يرد إلى المكتب ، حتى الرسائل التي تخص موظفي المكتب كان يطلع عليها (6) . وبعد خروج محمد الأبيض من المعتقل ، زاره في بيته ، فحذره من أن يراقب بسبب هذه الزيارة ! (7) . وتحدث عادل مهدي عن بسيوني الذي أعطاه أوراقا جرى فيها بالشطب والإزالة ، فقرأ إسمه ضمن أسماء المترددين على الندوة . وأفهمه رأفت الجارم أنه عين على الندوة ، فاعتقد الراوي أنه هو الذي يراقب الندوة وأعضاءها ! (8). وتطرق شك عادل مهدي إلى محمد الأبيض ، وإلى آخرين ..
    وضرب الكاتب مثلا بأحد الممالئين للسلطة، المنافقين لها بذلك الكاتب الذي يحث الحكومة على الإسراع في الخصخصة، بينما كان الكاتب نفسه يتحدث في عهد عبد الناصر عن حتمية الحل الاشتراكي ‍‍1
    الحديث عن الرجل الذي يراقبه حديث متكرر ، وتتجمع عنده بؤرة الحدث الرئيسي للرواية ، أو أنه العمود الفقري للبنية الروائية .. من ذلك حديثه في الفصل الثامن عن رجل لمحه في المرآة ، كان يجلس على طاولة ويتظاهر بقراءة جريدة . وقد ظن ـ ذات مرة ـ أن محسن سالم هو الذي يراقب الندوة ، لكنه بعد ما اقترب منه ، عدل عن اتهامه له .. وقد ظن أن صاحب مخزن يراقبه ، لكنه أهمل هذا الظن ، وتشكك في الضابط مجدي الأسيوطي (9) .
    تنطبع صورة عادل مهدي في الذهن لرجل خائف متوجس ، الخوف يلازمه كظله ، إنه خائف من شيء يتوقع حدوثه ، وإن كان لا يدري التفاصيل . وعاش بهذه الشخصية من بداية الرواية حتى نهايتها . وتركزت الرواية عند هذه البؤرة . وهكذا كان عادل مهدي في كل ظنونه ، ما إن يرمي ظلال الشك في شخص ، حتى تتلاشى ويتولد الشك في آخر , ولما اقترح فض الندوة ليستريح من المراقبة ، حذره محمد الأبيض ، حيث يمكن الظن بأنه انتقل بنشاطه إلى تنظيم سري . ونصحه باستمرار الندوة مع عدم الخوض في مواضيع سياسية . ومادام لا ينتمي إلى تنظيم ما ، فإنهم لا يقتربون منه ‍‍‍‍.
    وثمة لقطات سريعة موحية ، حين يبتعد الراوي عن عالمه المأزوم ، ومثال ذلك ، حين انتابه أرق حرمه من النوم ، فتطلع إلى العالم الخارجي ، فلم يجد إلا الصمت والهدوء .. ووقعت عيناه على " عجوز وحيدة ، التف جسمها ببالطو من التيل الباهت اللون . جلست على المقعد الحجري ، قبالة الكورنيش ، تطعم ثلاث قطط فتات خبز مغموسا في اللبن " .. وهي لقطة حانية ، توحي بحنان رومانسي نفتقده في الواقع ‍.. ولقطة ثانية من هذا العالم الخارجي ، حين عبرت عربة زرقاء مغلقة ، وبداخلها تتردد أصوات الرجال بالهتاف : إسلامية .. إسلامية .. في إشارة واضحة للواقع المأزوم الذي عاشته البلاد في الثمانينيات (10).
    وتنتهي الرواية بالأزمة ، المتمثلة في موت عيد جزيري ، وهي أزمة نفسية أصابت عادل مهدي ألما من مصير الإنسان ، وتضاءل ـ أمام قدر الموت ـ خوفه وقلقه من المراقبة والمطاردة , وفي هذا يقول : " ما الحياة ؟ وما الموت ؟ وما معنى أن ينتهي المر في لحظة ، يتلاشى ، كأنه لم يكن . تغيب الأحلام والرغبات والأشواق والتطلعات ؟ لماذا القراءة والكتابة والندوة والمناقشات والمراقبة والخوف ، ما دامت الملامح الثابتة ماثلة في مدى الأفق ؟ لماذا نولد إن كان العدم حتمية النهاية ؟ " (11). ثم لقي مصيره الذي كان يطارده، فقد أخبرته أمه أن ثلاثة رجال سألوا عنه ، ثم " ذهبوا إلى سيارة سوداء بلا أرقام في ناصية الشارع ، وجلسوا داخلها " (12) .. فنـزل إليهم مسلما نفسه إلى مصيره المحتوم ‍‍.‍. وتنتهي الرواية بهذه الصورة الرمزية ، ولا أدري هل قصدها الكاتب ، أم جاء الرمز عفو الخاطر؟ فالرمز يستشفه القاريء في المزج بين الاعتقال ، أو الخوف منه ، مع الموت .. الأجل .. لم يعد يحفل بالمراقبة أو يخاف منها ، إنه وصل إلى نقطة النهاية .. وترمز السيارة السوداء إلى المصير المحتوم ، وأن السيارة بلا أرقام ، لأن الإنسان يجهل ساعة أجله . أما الرجال الثلاثة الذين كانوا ينتظرونه ، فإشارة إلى القضاء والقدر ‍. واختلط معنى الموت بالاعتقال ، والخوف من المراقبة يتوازى مع خوف الإنسان من الموت . والمراقبة قد تعني هنا أن الإنسان مسئول عن كل تصرف وسلوك ، وسيحاسب على كل أفعاله . هنا ، تأخذ المراقبة معنى أكثر شمولا من اقتصارها على البعد السياسي فحسب. وبهذا ترتقي الرواية وتتثبت معانيها ومراميها في النفوس ، أكثر ثراء وغنى ، وأبعد غورا وعمقا ، من غير شرح أو طنطنة أو إسهاب ، وتلك عظمة الفن ...
    وحين طالعتُ ( رباعية بحري ) ، جال تساؤل في خاطري عن أهمية ازدحام الرواية بالشخصيات ، ثم ترددت في الإجابة على أساس أن الرباعية البالغ عدد صفحاتها 1084 صفحة تحتمل هذا . وأن ما يبدون شخصيات ثانوية ، قد تجيء أدوارهم في فصول تالية ، ما دامت هذه الشخصيات تحقق في مجموعها ترابط أحداث الرواية ، وتلاحمها وتفاعلها ، يؤثرون في الواقع بقدر ما يتأثرون به ، ويكونون بؤرة الحدث بوسيلة أو بأخرى .. ولما أنهيت الرباعية وجدت شخصيات غفل الكاتب عن دورها ، فبدت هامشية وثانوية .. وخاصة عندما تثار مناقشات فيما بينها ـ غالبا في المقهى ـ وحين تتصدر النقاش ، نظن أن لها أدوارا رئيسية أو أن لها دورا في تفعيل الحدث ، إلا أن دور بعضها يظل محدودا ، أقحمها الكاتب بقصد إثراء المناقشة حول قضية أو موضوع سياسي ، فكانوا أشبه بـ ( كومبارس ) الأفلام السينمائية .. وها هي رواية ( المينا الشرقية ) تزدحم بالشخصيات كأختها ( رباعية بحري )، والقضية التي تعنيني هنا، هو مدى ما حققه الكاتب من ( لذة النص ) على حد قول رولان بارت، أو فلنقل مدى ما حققه النص الروائي من متعة للقارئ.
    وقد أجاد الكاتب رسم الشخصيات النسائية أسامة صابر وسنية عبد المحسن وإيناس عبود .. وكثرة الشخصيات يقتصر على عالم الذكور ، أما الإناث فلهنّ أدوار محددة مرسومة بإتقان .
    وشخصيات ( المينا الشرقية ) تبدو مراوغة ، مثل شخصيات ( رباعية بحري ) ، ما إن يتعايش القاريء مع إحدى الشخصيات ، وقبل أن نصل إلى حد التعايش معها ، أو الإشباع ، حتى يسحب الكاتب البساط من تحت أقدامنا ، وينقلنا قسرا إلى شخصية أخرى ، ويفعل الشيء نفسه مع الشخصية الثانية ، حيث ينقلنا إلى الثالثة ، وقد يرجع إلى حديث سبق أن قطعه عن إحدى الشخصيات ، فتنفتح مغاليق العمل بالتدريج ، ويتم التعرف على معالمه وأحداثه وشخصياته . وهو بهذه الطريقة ينقل قارئه بآلة تصوير سينمائية تلتقط مقاطع ، أو تصور مشاهد من هذا العالم الروائي ، وقد تلتقط الآلة المصورة لقطات عشوائية ، تشبه إلى حد ما عشوائية حياتنا وعبثية مشاهدها التراجيدية .
    على أن كثرة الشخصيات ليست سلبية، إذا نظرنا إليها من منظور العالم الحي الذي نعيشه ، وتشابك العلاقات وتداخلها ، بما يكون شبكة متلاحمة يصعب تبين بدايات ونهايات خطوطها وخيوطها .. وما دام الكاتب يقترب من هذا العالم الحي ـ أو الواقع ـ الذي نعيشه ، انعقدت الصلة بينه وبين المتلقي . وحلا لهذه الإشكالية ، إشكالية كثرة الشخصيات وكونها تشكل ـ في الوقت نفسه ـ نسيج العالم الموار ، فيما قد يعدّ ضرورة فنية أمينة عن هذا العالم ، يتعايش معها القاريء ، فإن مزيدا من الغوص في أعماق هذه الشخصيات ، ومزيدا من التعريف بها ، يكون ضروريا لاقتراب القاريء أكثر من النص الروائي ، وتعايشه واندماجه بطريقة يسيرة هينة، تجعل القراءة أكثر متعة وأقل عناء .
    إلا أن الكاتب حقق مزجا بين شخصيات واقعية وشخصيات الرواية التي هي من ابتداعه ، وإن كانت الشخصيات المبتدعة تلتحم بالواقع ، وإن غيّر الأسماء وبدّل الأحداث .. وفي هذا ، اقتطع جزءا من قصيدة لحسين علي محمد وأنطقها على لسان يحيى عباس (13). كما أشار إلى ثلاث شخصيات أخرى من الواقع : الأولى للشاعر السكندري أحمد فضل شبلول ، حيث عرض نموذجا من شعره عن الإسكندرية ، عشقه وهواه ، كأن الكاتب يشي بأنه ليس الوحيد المتيم بعشقها .. أما الشخصية الثانية فهي الشيخ المحلاوي الذي حرض الناس على التظاهر ضد العدوان على المصلين في الحرم الإبراهيمي (14) .. والشخصية الثالثة لبيرم التونسي حين استشهد نادر البقال بما قاله بيرم متفاخرا بالمكان الذي نشأ وتربّى فيه : " وانا اللي جيت م السيالة .. فيها العيال والرجالة .. شجعان ولكن بهباله .. يا ننتصر .. يأكلناها .. " (15) .. والملاحظ أن ( السيالة ) ربما صادفت هوى في نفس الكاتب، حيث ذكر في الفصل الأخير من رواية ( إمام آخر الزمان ) أن المهدي المنتظر اغتيل على رصيف مقهى السيالة، طبقا لما تؤكده معظم الروايات. وهذا التعاطف والحنين إلى مكان معين أمر طبيعي للكاتب، سواء قصد ذلك أو جاء عفوا، مثلما قرأنا لفريد محمد معوض في دراسته عن ( رباعية بحري ) حبه لشخصية إبراهيم سيف النصر، لكونه من قريته ( سامول ). إنه تعاطف فطري وجنين إلى المكان الذي عشنا فيه، وخاصة فترة الصبا والشباب. وذلك علاوة على ذكره لشخصيات سياسية في معرض سرده للأحداث عن الواقع السياسي ، وهي عادته في معظم رواياته ، مزج الواقع الروائي بالواقع السياسي المتزامن مع الأحداث . علاوة على ما ذكره عن أعلام الصوفية في الثغر في الرباعية وفي غيرها من الروايات .
    وينقلنا قلم الكاتب اللماح في سطور وجيزة إلى ثقافة العصر من خلال الكتب المعروضة لدي باعة الكتب القديمة .. " كتب بأحجام متباينة ، وملونة ، عن عذاب القبر ، وحساب الملكين ، وهول يوم القيامة ، والسحر ، والتنجيم ، والفلك ، والأبراج ، والتصرف السليم في ليلة الزفاف ، وأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، وكيف تقرأ الإنجليزية في أربع وعشرين ساعة " (16).. وهي ثقافة تضم الشتات والأضداد . يختلط فيها الجيد بالتافه ، والثمين بالغث. وتجمع بين الدين والسحر والفن وتعلم اللغات والغيبيات . لكنها ثقافة تفتقر إلى التعريف بالهوية والانتماء للوطن ، تفتقر إلى التاريخ ، ذاكرة الأمة في استيعاب دروس الماضي لبناء لبنات المستقبل .
    ........................................
    الهوامش :
    ======
    1. محمد جبريل : المينا الشرقية ـ رواية ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة 2000
    2. جاءت العبارة ( رحلة إلى العالم القديم ) عنوانا لقصة للكاتب حسني سيد لبيب نشرها في مجلة (الأديب) اللبنانية.
    3. اسم مسرحية لرشاد رشدي
    4. د. حسين علي محمد : البطل المطارد في روايات محمد جبريل ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999
    5. مقال محمد جبريل ( ماذا يريد الكاتب ؟ ) ـ مجلة ( الفيصل ) ـ عدد 233 ـ مارس / أبريل 1996م ـ ص 77
    6. المصدر السابق ـ الفصل الثالث عشر
    7. المصدر السابق ـ الفصل التاسع عشر
    8. المصدر السابق ـ الفصل العشرون ( الأخير )
    9. المصدر السابق ـ الفصل الثاني عشر
    10. المصدر السابق ـ الفصل الثالث
    11. المصدر السابق ـ ص 106
    12. المصدر السابق ـ ص 107
    13. المصدر السابق ـ الفصل الأول
    14. المصدر السابق ـ الفصل التاسع
    15. المصدر السابق ـ الفصل الرابع عشر
    16. المصدر السابق ـ ص 101


  10. #70
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    النقد والإبداع

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    إذا كان تولستوي يذهب الي ضرورة ان يتقمص الاديب شخصين. هما الكاتب ذاته والناقد. فإني أفضل ان يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الابداعية.
    القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة. فالنقد الحقيقي. المطلوب. هو مايمارسه الأديب علي فنه. وما يرتفع بمستوي أديب عن سواه.. بالإ ضافة إلي الموهبة- هو ارتفاع حسه النقدي. المبدع الذي يفتقر الي ملكة النقد والرأي للروائية الانجليزية اليزابيث بوين لا وجود له . بل إن مهنته كروائي لاتتحمل مثل هذا النقص. طبيعي ان الفنان لا يرضي تماما عن نفسه. ولا عن عالمه. لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التي تنطلق فيها جياد ابداعاته.
    مع ذلك. فأن يكون الفنان صاحب عمل ما. فذلك لايعني أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهما للعمل من الفنان نفسه. أكثر استنباطا لمعانيه ودلالاته. استمعت في البرنامج الثقافي الاذاعي الي حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور. بدأ نعمان في تلخيص مسرحيته عيلة الدوغري.. قاطعه مندور بعد لحظات في بساطة: أخشي أنك لن تحسن تلخيص عملك. أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التي فهمتها. ولخص مندور المسرحية. واذكر أنه كان أكثر قدرة علي تسليط الضوء علي مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان.
    وكان أبوالطيب المتنبي يحيل السائلين عن شعره الي شارح ديوانه وناقد شعره. أبي الفتح عثمان بن جني. ويقول: عليك بابن جني فإنه اعرف بشعري مني.
    تقول بيرل باك: "لكي تكون كاتبا جيدا. فعليك ان تكد. بمعني أن تنهض في الصباح. وتبدأ في الكتابة مبكرا. والذهن صاف ورائق. فضلا عن أن تبدأ الكتابة حتي لو لم يكن الذهن رائقا وصافيا.
    عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هي ضرورية للعامل. وربما اكثر. لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب علي العمل. وليس هناك من يساعده في أداء عمله. إنه رئيس نفسه. وهذا الرئيس هو عامل في الوقت نفسه.
    وتقديري أنه علي الفنان ألا يرجئ عمل اليوم الي الغد. بحجة أنه مشغول. فالوقت لن يكون في حوزته ذات يوم بصورة مطلقة. وعلي الرغم من حرصي علي عادة الكتابة اليومية. فإني أتذكر دوما قول روبرت هنري "ان كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة" وأثق ان هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة ابداعه ولعلي اتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا: لا تكتب وانت تحت تأثير الانفعال.. اتركه يزول. استدعه مرة أخري.
    علي الفنان ان اعتبر الابداع قضية حياة أن يحاول الافادة من كل مايسمح به الوقت. حتي لو كان مجرد دقائق قليلة. أنا أطمئن الي ماكتبته في تلك الاوقات العابرة إن جاز التعبير أوقات مابين عملين. أوقات الانشغال في عمل لايتصل بالابداع. وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوي. أجري بالقلم علي الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن. وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد اهملت الحاحه منذ فترة طويلة.
    .....................................
    *المساء ـ في 5/9/2009م.


  11. #71
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    عن قصص السادات طه

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    إذا لم تكن جماعة الرواد الأدبية بدمياط هي أولي الجماعات الأدبية في أقاليم مصر. فإنها من أولي تلك الجماعات. يضيف إلي تميزها إسهامات مهمة في الساحة الثقافية المصرية. ظلت دمياط. وبالتحديد فترة تولي محمد عبد المنعم مسئولية الإشراف علي أنشطة قصر الثقافة. وتولي الدكتور جويلي منصب المحافظ. مثلا للمدينة المبدعة التي تمتد تأثيراتها إلي خارج الحدود. وتستقطب في الوقت نفسه كل الأصوات المبدعة والناقدة.
    السادات طه. صاحب المجموعة القصصية "الممر" حلقة في سلسلة مبدعي دمياط الذين جعلوا من الإبداع الفني مرادفا لإبداعهم في العديد من الحرف والصناعات.
    لعل أول ما يجب التأكيد عليه في هذه المجموعة. هو فهم الكاتب الواعي لخصائص القصة القصيرة. قراءات الكاتب واضحة في الإبداعات القصصية والروائية. علي المستويين العربي والعالمي. قراءاته واضحة كذلك في الاتجاهات الفنية المعاصرة. والحديثة. ثم في تلمسه تجارب شخصية. وتجارب للغير. ومتابعته لأحوال البيئة والعالم. وتلمسه الهم الإنساني بعامة.. ذلك كله يبين بصورة لافتة في قصص المجموعة.
    يجيد الفنان تصوير المجموعات. وهي في غالبيتها تنتمي إلي الطبقة الوسطي الصغيرة. أو إلي الطبقات الدنيا. والمشكلات الاجتماعية واضحة. وان افلح الفنان في مجاوزة الجهارة والمباشرة. فالقصص تعتمد الإيحاء والإيماء والدلالة المضمرة.
    وثمة قدرة لافتة علي التأمل والتقاط ما يغزله في نسيج إبداعه "اذكرك برجة القطار للبيت. يجد فيها الراوي ما يشعره انه يعيش بين الناس". وهو يرصد التفصيلات بكلمات قليلة. تنبو عن الترهل والاستطراد المنساق لغواية السرد. وربما الثرثرة الكلامية التي لا تستدعيها ضرورة. ولا تؤطرها حدود.
    والجنس بعد مهم في قصص المجموعة. قد يتسم بالطرافة. وقد يكشف قسوة المعاناة. لكنه يبين عن الاحتياج الإنساني في كل الأحوال.
    العلاقة دائما بين امرأة ورجل. ربما دخل حياتهما رجل ثالث. نستعيد قصص البدوي والسحار وعبد الحليم عبدالله. تتسم قصص السادات طه بالملامح الإنسانية التي ترفض الالحاح علي قضايا جنسية أو اجتماعية. وترفض الانتصار لجنس علي آخر تعبيرا عن تجربة شخصية. أو نظرة مسبقة. بينما يطالعنا شك الراوي في روايات عبد الحليم عبدالله. والمرأة ناقصة العقل والدين في إبداع السحار. وانعكاس نظرة البدوي إلي المرأة في انها المحرض علي الفعل ليدفع الرجل ربما حياته ثمنا لما يفعله.
    أما الحوار. فلنتفق علي ان له دوره الدرامي الذي يضيف إلي السرد القصصي. وقد تخلص الحوار في قصص هذه المجموعة من العيب الذي يسم الكثير من إبداعاتنا القصصية. وهو الإطالة إلي حد رفض التصور تصور القارئ ان ينتسب ما يقرؤه إلي الحوار بأي معني. يغيظني من ينطق احدي شخصياته ببيان مطول. يتناسي ان الحوار هو بين اثنين أو اكثر. قد يتكلم شخص ما بمفرده. وينصت الآخرون في حال الشرح والتوضيح. أما في حالة الحوار. فأنا آخذ وأعطي. تمتد مساحة الاسئلة والتعقيبات والملاحظات. بما يصنع درامية الحوار. ويسمها بمغايرة عن فنية السرد.
    ..........................................
    *المساء ـ في 10/10/2009م.


  12. #72
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    في ساحة الإنشاد

    قصة قصيرة، بقلم‏:‏ محمد جبريل
    .....................................

    لم يصدق الشيخ جابر أبو عبية أن سيد العقبي يرفض أداء كل ما تعلمه منه‏,‏ يصر أن يقرأ مدائح لايدري من وضعها له‏,‏ ولا إلي من يتجه بها‏,‏ هي الكلمات نفسها عن الله والمصير والرغبة في الفرار من العقاب ودخول الجنة‏.‏ يرددها المنشدون والمداحون والمولوية والصييتة في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ لكنها تختلف في أداء العقبي بنقل المعني‏,‏ يتأمل الناس تعبيراته‏,‏ يجتذبهم صوت العقبي المحمل بالعذوبة‏,‏ ينفذ إلي الأعماق‏,‏ يصعد بالنفوس إلي آفاق علوية‏.‏
    أول رؤيتنا لسيد العقبي حين ردد وراء الشيخ جابر أبو عبية منشد الطريقة الشاذلية‏,‏ علا صوته بين الذاكرين‏,‏ يردد ما يقولون من المدائح والأشعار وبردة البوصيري‏,‏ لم يلفت اهتمامنا‏,‏ وإن اجتذبنا في صوته بحة‏,‏ لا تخلو من أنوثة‏.‏
    تعرفنا إلي ملامحه الظاهرة‏,‏ عند ظهوره في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏,‏ يردد ما حفظه عن الشيخ أبو عبية من المدائح في النبي وآل بيته‏,‏ وفي التنبيه إلي أحوال الدنيا وأحداث الأيام‏.‏
    تكررت مشاركاته في الحضرات المرتبة للطريقة الشاذلية‏,‏ موضعها السرادق الملاصق لجامع المرسي من ناحية السيالة‏.‏
    قيل إنه عمل صبيا للأسطي سعيد قطا نجار السواقي بعزبة خورشيد‏,‏ وتحدثت روايات عن إفادته من فترة عمله في قهوة المعلم البابلي المطلة علي الأنفوشي‏,‏ وأكدت روايات أنه مجهول النسب‏,‏ ما كتبه في شهادة ميلاده يختلف عن اسمي الوالد والجد مما سربه إلي السفلية في الرواية والحكي‏,‏ وقيل إنه طال اشتغاله ببيع البضائع الصغيرة‏:‏ ساعات يد‏,‏ وميداليات ونظارات شمسية‏,‏ وسبح‏,‏ وأمشاط‏,‏ ومقصات‏,‏ وسكاكين‏,‏ وأقلام رصاص‏,‏ وأقلام حبر‏,‏ وكوتشينة‏,‏ وميداليات‏,‏ وألعاب للأطفال‏,‏ وعطور‏,‏ وأدوات تجميل‏,‏ يحملها في حقيبة مفتوحة‏,‏ علي صدره وساعده‏,‏ يتنقل بين المقاهي والدكاكين والميادين والشوارع المزدحمة‏,‏ وقال الشيخ حجازي رضوان قارئ التلاوة في جامعة البوصيري إنه التقي بالعقبي ـ للمرة الأولي ـ في مقابل العامود‏,‏ تسابقا للحصول علي الأقراص والكعك والفطائر والمنين‏,‏ رحمة ونورا علي الموتي‏.‏ تكررت لقاءاتهما في المقابر‏,‏ قبل أن يطالعه العقبي مساعدا للشيخ أبو عبية في إنشاده‏.‏
    روي أنه سمع إنشادا لم يسبق له التعرف إلي صاحبه ـ في سرادق بمولد سيدي نصر الدين‏,‏ اجتذبه الصوت‏,‏ والكلمات‏,‏ وطريقة الأداء‏,‏ لا إيقاعات إلا صوت الشيخ والمستفتح‏,‏ وتصفيق الأيدي‏.‏ يبدأ الشيخ إنشاده خفيضا‏,‏ هامسا‏,‏ يعلو ويعلو حتي يبلغ الذروة‏.‏
    أزمع أن يعد نفسه لهذا العمل‏.‏ أخذ العهد في الطريقة الشاذلية علي يد الشيخ مكرم رسلان إمام الطريقة‏,‏ تبعه بقراءة دلائل الخيرات‏,‏ وكتب التوسل للذات العلية‏,‏ وقصائد المديح‏,‏ والتغزل بالنبي‏,‏ والتوسل بخير البرية‏,‏ وطلب شفاعته‏,‏ وشفاعة آل البيت‏,‏ والصحابة‏,‏ والأولياء‏,‏ حفظ قصائد للمسلوب والمنيلاوي وأبو العلا محمد والبنا وسلامة حجازي وصبح وعلي محمود‏.‏
    أخذ عن الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ تصرفاته‏,‏ حركاته وسكناته‏.‏ تدريب علي طريقة الإلقاء‏,‏ متي يضع يديه تحت ذقنه‏,‏ متي يلصقهما بالأذنين‏,‏ متي يعلو صوته ويهبط‏,‏ كيف يفيد من آخر قراراته‏,‏ يلجأ إلي التعبير بالإيماءات والإشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه المصاحبة للأداء‏,‏ يتغني بالصبابة والوجد والشوق إلي الوصال‏,‏ وإن أخذ العقبي علي الشيخ ـ بينه وبين نفسه ـ أنه ينشد ما يوضع في فمه‏,‏ لا يتأمل الكلمات‏,‏ ولا يتدبر معانيها‏,‏ لا يشغله حتي نوعيات المستمعين‏,‏ وتأثيرها‏,‏ وهل يحسنون الفهم‏,‏ أو أنهم يكتفون بسماع ألحان تمتدح الرسول‏.‏
    عهد إليه الشيخ ـ في البداية ـ بدور المجاوبة الغنائية‏,‏ أقرب إلي المبلغ في صلاة الجماعة‏.‏
    طالت رفقته للشيخ حتي شال عنه كل ما يرويه‏,‏ يعيد ما يستمع إليه‏,‏ يلجأ إلي الارتجال والتأليف والتوليف والصنعة‏,‏ ينظم الأبيات لحظة نطقها‏,‏ يستغني عن الحفظ إلا في المعاني‏,‏ يضيف ما يمليه خياله وموهبته‏.‏ ربما علا صوته بما لم يكن له أصل‏,‏ ولا استند إلي وقائع حقيقية‏.‏
    حين طلب منه الشيخ أن ينشد معه جزءا من الأداء‏,‏ حاول أن يبدع بما يقارب أداء الشيخ‏,‏ أو يفوقه‏,‏ يتأمل انعكاس أدائه في أعين الناس‏,‏ يفرق بين مريدي الشيخ وبين من قدموا للاستماع‏.‏
    هؤلاء هم الجمهور الذي يبحث عنه‏,‏ وعليه إعداده حين ينشد ـ منفردا ـ في الموالد والليالي وساحات الحضرة‏.‏
    يستجيب للأصوات الرافضة‏,‏ والمعترضة‏,‏ والتي تعلو بالملاحظات‏.‏ يوقف النغمة‏,‏ يستبدل بها نغمة‏,‏ ونغمات‏,‏ أخري‏,‏ يتأمل صداها في أعين الناس‏,‏ وإيقاع تصفيقهم‏,‏ يتبين ـ بنظرة متفحصة ـ استجابات الناس‏,‏ ما بين طالب للإعادة أو الاستزادة‏,‏ ورافض‏,‏ يظل علي النغمة التي اختارها لإنشاده‏,‏ أو يبدلها‏,‏ يسند خده الي يده‏,‏ يغمض عينيه‏,‏ يعلو صوته بآخر طبقاته‏.‏
    قبل ان يقتصر علي نفسه‏,‏ كان قد أنشد في كل الموالد‏,‏ ليس في بحري وحده‏,‏ وإنما في الاسكندرية والمدن الأخري‏,‏ موالد الشاذلي والدسوقي وأبو حجاج الاقصري‏,‏ والمولد الأحمدي‏,‏ وموالد الطاهرين من آل البيت‏:‏ السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة وزين العابدين وفاطمة النبوية والسيدة عائشة‏.‏
    ردد قصائد أبو عبية في البداية‏,‏ ثم تحول الي قصائد‏,‏ ضفر أبياتها من قصائد مختلفة‏,‏ مزج بين اسلوب الشيخ في الآداء‏,‏ وبين أساليب تعرف إليها في إنصاته لشيوخ آخرين‏.‏ لم يتردد في الحذف والإضافة والتوشية‏,‏ وإن لم ينسب النبع الي نفسه‏,‏ ما فعله انه استوحي‏,‏ وألف‏,‏ ولحن‏,‏ اداؤه يكفل له توالي الموجات في بحر الإنشاد‏.‏
    لم يقصر ما يقول علي ما أخذه من الشيخ‏,‏ ومن المشايخ الآخرين‏,‏ عني بزيادة حصيلته من النصوص‏,‏ بما يشمل كل الأغراض‏,‏ وما يتفق مع أذواق الناس‏,‏ وما يريدون سماعه‏.‏
    اختار ما لم يسبق إنشاده في الموالد والليالي وحضرات الساحة‏,‏ تنقل بين المقامات‏,‏ زاوج بينها وزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي والنغم الشعبي‏,‏ أدخل الالات الموسيقية حتي ما لم يستخدمه الشيخ أبو عبية‏,‏ الكمان والناس والقانون والاكورديون‏,‏ قدم من التوحيد‏,‏ والمديح‏,‏ والتوسل‏,‏ والأوراد‏,‏ والأحزاب‏,‏ ما لم نكن قرأناه ولا استمعنا اليه من قبل‏,‏ وأنشد قصص الكرامات‏,‏ وقصائد ابن الفارض وابن عربي‏,‏ ترافقه آلات الطرب من الناي والربابة والعيدان والدف والطنابير‏.‏
    امتد إنشاده إلي المدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والأذكار والتخمير والقصائد والأدوار‏,‏ ورواية معجزات النبي والرسل ومناقب الأولياء‏,‏ أنشد للجيلي والجيلاني وابن عربي والحلاج والغوث وابن الفارض وعلي محمود‏.‏
    فن الإنشاد له أصوله‏,‏ وقواعده‏,‏ وقوالبه‏,‏ وإيقاعاته‏,‏ حفظ ما لم يكن يعرفه بقية المنشدين‏:‏ المدد‏,‏ التوسلات‏,‏ الأغنيات الشعبية‏.‏
    حتي ما لم يعبر عن العقيدة الدينية‏,‏ حتي الأدوار المحملة بالايحاءات والإرشادات الجنسية‏.‏ يحرض من في ساحة الحضرة أن يرددوا الإنشاد وراءه‏,‏ يتحولوا إلي سنيدة ومذهبجية‏.‏
    ربما التقط الناي أو المزمار من الطاولة الصغيرة أمامه‏,‏ يصل الأداء الصوتي بفقرات موسيقية‏,‏ فرشة تسبق الإنشاد‏.‏ ادخل علي الألحان ايقاعات غائبة المصدر‏,‏ ليست الايقاعات التي اعتدنا سماعها‏.‏ غير في النصوص كلمة‏,‏ وكلمات‏,‏ ثم حذف‏,‏ وأضاف‏,‏ وبدل‏.‏ يعتمد علي البديهة‏,‏ والقدرة علي الارتجال‏,‏ يضمن إنشاده أسماء رءوس العائلات في القري والأحياء التي تستقبله‏,‏ ينوع في الألحان والإيقاعات والأداء الصوتي‏,‏ يخضع ما ينشده للمعاني التي يريد توصيلها‏.‏ يمد الحروف‏,‏ يطيلها‏,‏ يقصرها‏,‏ ينغم الأبيات‏,‏ يحسن الوقفات‏,‏ والسكنات‏,‏ والترقيق والتفخيم‏.‏ قد يهمل العديد من الأبيات لنبوها عن سياق المعني‏,‏ ربما نوع بين نص وغيره من النصوص‏,‏ ليبلغ هدفه‏.‏
    حرص أن يوضح في النصوص ما يبدو غامضا‏,‏ أو يقدم المعاني التي يشغله توصيلها‏,‏ هي غير موجودة في النصوص‏,‏ أو متوارية‏.‏ يوائم بين أذواق الناس‏,‏ يختار لكل جماعة ما يروقها‏:‏ الحب الإلهي والنبوة ومديح الرسول وآل البيت‏,‏ التغني بمناقب أولياء الله‏,‏ ومكاشفاتهم‏,‏ وحوادثهم‏,‏ وخوارق أفعالهم‏,‏ التوسلات ونداءات النصفة والمدد‏,‏ فراق الأحباب والحنين إلي موطن الميلاد والطفولة والنشأة‏.‏
    لم يعد يجد حرجا في الإنشاد‏,‏ في حضور الشيخ أبو عبية‏.‏
    طريقة الرجل مذهبه‏,‏ ولم يشر العقبي إلي طريقته‏,‏ فغاب المذهب الذي كان يؤمن بتعاليمه‏,‏ وما يدعو إليه‏.‏
    جعل لنفسه مجموعة‏,‏ يحيطون به‏,‏ يرافقونه إلي الأماكن التي ينشد فيها‏,‏ الساحات والقاعات الواسعة والسرادقات‏,‏ يرددون ما ينشده‏,‏ تعلو أصواتهم بعبارات الاستحسان والثناء‏,‏ تصفق أيديهم بالإيقاع المصاحب للكلمات‏,‏ الدور نفسه الذي طال قيامه به في صحبة الشيخ جابر أبو عبية‏,‏ حتي اذن الله فاستقل بنفسه‏.‏
    حاول أن يضمن إنشاده آراء وانتقادات وما ينفع الناس‏,‏ يستشهد بسيرة الرسول‏,‏ وسير الأنبياء‏,‏ وقصص آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين‏,‏ تمازجها الكناية والتورية والإضمار‏.‏
    لم يتحدث عن تأليف طريقة صوفية‏,‏ وإن زاد عدد المعجبين بصوته‏,‏ فصاروا كالمريدين في حضرات شيوخ الطرق‏,‏ حفلت الساحات بمواكبهم‏,‏ انتشروا في الشوارع الرئيسية والجانبية‏.‏ حتي الساحة الحجرية أمام قلعة قايتباي‏,‏ صنعوا فيها حلقة‏,‏ نشروا الزينات والبيارق والرايات الملونة‏,‏ وتعالت أصواتهم بما حفظوه من الكلمات التي نحسن فهم معانيها‏.‏
    جاوز بقصائده جلسات الخواص وحلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق‏,‏ إلي الموالد والسرادقات التي يفد إليها آلاف العوام واللقاءات المفتوحة‏.‏
    أرخي العذبة من العمامة الهائلة المستقرة فوق رأسه‏,‏ أهمل شعره‏,‏ فلم يقصه حتي انسدل علي كتفيه‏,‏ يضفي علي هيئته مهابة بالنظرات النافذة‏,‏ واللحية التي أحسن تهذيبها‏,‏ والجلبات الصوف‏,‏ والشال الملتمع حول عنقه‏.‏
    جعل العقبي من بيت ذي طابقين‏,‏ يطل علي ناحية خليج الأنفوشي‏,‏ سكنا له‏,‏ يعكف فيه علي العبادة والمراجعة وحفظ الجديد من الإنشاد‏,‏ فلا يداخل نفوس الناس بالمتكرر‏,‏ وما يبعث الأمل‏,‏ يستقبل محبي صوته‏,‏ لا شأن له بوعظ ولا إرشاد‏.‏ ظل علي حاله منشدا‏,‏ يؤدي المدائح والأدوار والأغنيات‏.‏
    لجأ إلي الوسائط التي لم يستخدمها جابر أبوعبية‏,‏ ولا أي من المنشدين الآخرين كشريط الكاسيت والأسطوانة الرقمية‏,‏ أضاف إلي إنشاده ما حفظه من الشيخ أبو عبية‏,‏ وإن لم ينسبه إلي نفسه‏,‏ لم ينزع نفسه عن الطريقة الشاذلية التي مثل أبو عبية حلقة في سلسلة منشديها‏,‏ كل الإنشاد يصدر عن العقبي‏,‏ وله حسن الجزاء والمثوبة‏.‏
    طال صمت الشيخ دون أن تبدو في تصرفاته نية الرفض‏.‏
    روي أنه دعا أفراد فرقته لتدبر ما جري‏:‏
    ــ إذا ظل الناس علي سماعهم للعقبي‏,‏ فستكون النتيجة خراب بيوتنا‏!‏
    توزع أفراد الفرقة‏,‏ ومن يتبعونهم‏,‏ في القري والأحياء والأسواق والخلاء وداخل الميناء وعلي الشاطئ‏,‏ حتي ورش القزق دخلوها‏,‏ ودخلوا البيوت والسرادقات والموالد‏,‏ زاروا الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة‏,‏ ترددوا علي الساحات والمقاهي وحلقة السمك‏,‏ همسوا بالملاحظات والتحذيرات والتوقعات والخوف من ضياع البركة‏.‏
    عرف الناس أن رفض أبوعبية زيارة العقبي في بيته لأنه أساء إلي الإنشاد‏,‏ وشوش أفكار الجماعة‏,‏ أضاف‏,‏ وحذف‏,‏ وبدل‏,‏ بما خرج بالكلمات عن الطريقة الشاذلية‏,‏ وعن أصول المهنة‏,‏ واجتث جذورها‏.‏
    شاغل أفراد الفرق ومن يقودونهم‏,‏ أن يقبل الناس علي الصلاة في مواعيدها‏,‏ يسبقونها ويلحقونها بركعات السنة‏,‏ وبالنوافل‏,‏ يجلسون في حلقات الوعظ والإرشاد الديني‏,‏ وقعدات الصوفية‏,‏ وقراءة القرآن وتجويده‏,‏ ينتظمون في حلقات الذكر‏.‏ ثم يمضون إلي سرادقات منشدي الشاذلية‏,‏ وقصائدهم‏,‏ وحكاياتهم‏.‏
    ترك جماعة أبو عبية للناس أمر الخلاص من المعاناة‏,‏ أن يتخلصوا من العقبي بطريقتهم‏,‏ اعتبار ما كان كأنه لم يكن‏,‏ وإعادة الأمر إلي صورته الأولي‏.‏
    ينشد الشيخ جابر أبوعبية مدائحه المتفردة في سرادقات بحري‏,‏ ظله مساجد الحي وشفاعات أولياء الحي ومددهم‏,‏ تطلعه إلي الذات الإلهية بالتوسل والرجاء‏,‏ صورة الانشاد الديني كما اعتادها الناس‏.‏
    .................................................. ..
    *الأهرام ـ في 18/9/2009م


  13. #73
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    من المحرر:
    المكتبات الخاصة

    بقلم: محمد جبريل
    ....................

    السؤال الذي كان يشغلني - عندما كنت أتردد. بصورة يومية. أعوام الستينيات - علي سور الأزبكية. بحثا عن مصادر ومراجع لكتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين": لمن يهدي أصحاب المكتبات الخاصة مكتباتهم؟
    باعث السؤال ما كنت أعثر عليه من كتب مهمة مهداة من مؤلفين ذوي مكانة لقراء يحظون بمكانة مماثلة. كيف انتقلت الكتب من نظام أرفف المكتبات الخاصة. إلي فوضي مكتبات الأزبكية.. والثمن - في الأغلب - من خمسة قروش إلي جنيه. باعتبار الوقت الذي أتحدث عنه!
    أفردت للشاعر الراحل عبدالله أبورواش فصلاً في روايتي "أهل البحر". أشرت فيه إلي المصير المؤلم الذي آلت إليه مكتبته - وكانت مكتبة هائلة. أنفق عليها معظم دخله - فقد باعتها ابنته لباعة الروبابكيا.
    تبينت - فيما بعد - أن روايتي لم تكن صحيحة. قال لي الصديق الناقد محمد رضوان إن الابنة حملت كل الكتب - بعد أيام العزاء الثلاثة - وأتاحتها لمن يريد في شارع الزواوي. حيث كان يقيم أبورواش. اعتبرت المكتبة مجرد زبالة. لا تحتاج إلي أن تقذف بها في الطريق!
    الأمر نفسه واجهته مكتبة الصديق الأديب الكبير الراحل محمد صدقي. ألغي وحيده كل ما يتصل بحياة أبيه الأدبية. الكتب والأوراق. حتي مذكراته الشخصية التي تمني أن تنشر بعد رحيله. تكفل الابن الغالي بتبديدها!
    وإذا كان المثل يقول إن الكتاب الذي يهدي لا يقرأ. فإني أتصور أن الكتاب الذي يهدي يباع في الأزبكية. وبخاصة لأن في مكتبتي الآن كتباً كثيرة من مكتبات خاصة علي أصحابها بنسبتها إليهم. سواء بالخط العادي المنمق. أوبكليشيه يتناثر في صفحات الكتب تأكيداً للملكية. وعرفت من باعة السوق أن هذه المكتبات بعض الميراث الذي تخلص منه الورثة ببيعه لسوق الأزبكية!
    أذكر أن ورثة عدد من كبار مثقفينا حاولوا أن يجنبوا مكتباتهم مصير التلاشي. فأهدوها إلي مكتبات عامة في جامعات أو مؤسسات ثقافية. ذلك ما فعلته - علي سبيل المثال - أرملة الراحل العظيم محمد عبدالله عنان. أهم من أرخ للأندلس. تبرعت بمكتبته النادرة لإحدي كلياتنا. وضعت الكتب في 18 صندوقا. وفي أثناء عملية النقل من بيت عنان إلي الكلية. نقص عدد الصناديق إلي أقل من عشرة!
    المساحة تضيق عن أمثلة أخري. كثيرة.. لكن السؤال يظل قائماً: كيف يطمئن أصحاب المكتبات الخاصة إلي مصير مكتباتهم؟ هل يقذف بها الورثة إلي الطريق. أو يهدونها لجهات. يتصور القائمون عليها أنها أصبحت ملكية خاصة لهم؟!
    هامش:
    سئل أو. هنري وهو يجلس في مطعم: من أين تستمد أفكار إبداعك؟
    قال: من كل مكان. أنت دائماً تحصل علي فكرة قصة "وحرك قائمة الطعام في يده" هذه القائمة: تستطيع أن تستنطق حروفها الخرساء فكرة قصة!
    ......................................
    *المساء ـ في 31/10/2009م.


  14. #74
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    كتب مهداة.. للبيع!

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    طالعنا الصديق الشاعر شعبان يوسف في قناة دريم بقضية مثيرة حول الكتب المهداة إلي كبار الأدباء والنقاد.. ووجدت طريقها إلي باعة الكتب القديمة.
    كلام شعبان يوسف يحمل اتهاماً للأدباء الذين أهديت إليهم. أنهم تنازلوا عنها - بمقابل طبعاً - لباعة الأزبكية. بدلاً من أن يحتفظوا بها في مكتباتهم.
    ظني أن طرافة القضية هي التي أملت علي شعبان يوسف كلماته. فهو يشرف علي ندوة حققت مكانة متفوقة بين ندواتنا الأدبية. وطبيعي أن يهدي إليه صاحب كل مؤلف يريد مناقشته. نسخة مما كتب. فضلاً عن النقاد الذين يرشحهم لمناقشته. طبيعي أيضاً أن تزيد الكتب التي يحصل عليها شعبان يوسف. فيضيق بها بيته. بحيث لابد أنه فكر في وسيلة لتخزينها. أو التخلص منها.. بعد قراءتها بالطبع.
    هذه المشكلة عاني الكثيرون نتائجها السلبية. وبخاصة هؤلاء الذين يحصلون علي الكثير مما تصدره المطابع. لمناقشته. أو للتنويه عنه في أقل تقدير. الأرفف المتجاورة تتحول إلي تلال. تجعل الحياة في الشقة متعذرة. فتصبح مثل السفينة التي ينبغي التخلص من بعض ما بها لتواصل الإبحار.
    صديقي الدكتور عبدالمنعم تليمة أراد أن يفيد تلاميذه من الكتب المهداة. قرأها وضاق بها المكان. فصفها قرب باب الشقة ليأخذ منها الأصدقاء ما يلبي احتياجاتهم المعرفية. وللأسف تعددت شكاوي الأصدقاء من أن الكتب انتقلت إلي سوق الأزبكية.
    فضلت شخصياً أن أهدي بعض ما في مكتبتي إلي أصدقاء من الأدباء الشباب. قرأتها فلا بأس من أن يقرأها الآخرون. وفي مكتبتي الكثير من الكتب حصلت عليها من لويس عوض ويحيي حقي ونجيب محفوظ. تنازلوا عنها بطيب خاطر كي أفيد منها. لم يتصوروا أني سأبيعها! لكن المفاجأة أن العديد من أصدقائي وجدوا ما أهديته من كتب عند باعة الكتب القديمة. عابوا تصرفي. وخاصمتني الشاعرة المبدعة نجاة علي لأني أهديت أول دواوينها إلي من لم تذكر اسمه. أملت عليه نفسه الشريرة قوله: إن فلاناً أعطاني هذا الديوان لتفاهته!
    نظرتي إلي نجاة علي. وإلي إبداعها - في المقابل من ذلك المعني السخيف. لكن الشخص - الذي لا أعرفه - أراد أن يعبر عما في نفسه من الشر. فلفق كلاماً أو من بنقيضه تماماً!.
    نجاة علي زميلة في ندوة المساء منذ بداياتها. وقدمت - من خلالها - عشرات المعطيات الجميلة. وهو ما وجد امتداداته في دواوينها التي تضعها في المقدمة بين شاعرات جيلها.
    لمجاوزة هذا التصرف الإجرامي - هل لديك تسمية أخري؟ - فأنا أحرص الآن علي تمزيق صفحة الإهداء من كل كتاب أهداه لي صاحبه. أقرأه. وأحاول تعميم فائدته. فأهديه إلي صديق. بصرف النظر عن ثقتي في هذا الصديق من عدمه. ألم يحدثنا المثل عن أولاد الحرام الذين لم يتركوا شيئاً لأولاد الحلال؟!
    يا صديقي شعبان يوسف. ما يعانيه الكتاب علي أيدي بعض السخفاء. لا يغيب عنك. لكن طرافة القضية استهوتك - فيما يبدو - فكانت هذه الفضيحة بجلاجل التي أساءت - بحسن نية - إلي رموز مهمة في حياتنا الثقافية. ذكرتهم بالاسم وكان الشكر هو ما يجب أن ترفعه إلي مقامهم السامي.
    ......................................
    *المساء ـ في 3/4/2010م.


  15. #75
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الدين .. والشخصية المصرية

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    الثابت - تاريخياً - أن الشعور القومي لمصر أي الشعور بالانتماء الوثيق إلي هذا الوطن ذي المقومات المعروفة المحددة بكل أبعاد هذا الانتماء ظل ممتزجاً امتزاجاً قوياً بالشعور الديني أي بالانتماء إلي دار الإسلام الواسعة بكل ما يفرضه هذا الانتماء من التزامات وهو انتماء بمعني المواطنة دون أن يفرق بين مسلم وقبطي عاني المصريون حكم العثمانيين علي امتداد أربعة قرون ولم يخرجوا عليهم بثورات جماعية لا لتقاعس ولا لغياب إرادة المقاومة وإنما لأن مصر كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفي المقابل فقد تلاحقت ثورات المصريين - لاعتبارات معلنة! - ضد الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الانجليزي.
    أنت تجد الدين في كل مكان في الأذان الذي يصلك - في مواعيد الصلوات الخمس - في أي مكان تصادف وجودك فيه مدينة أو قرية أو حتي الصحراء في الآيات القرآنية والتعبيرات المأخوذة من الكتاب المقدس والدعوات الملصقة في وسائل المواصلات بدءاً بالسيارة الملاكي وانتهاء بالعربة الكارو في المصحف الذي يتصدر واجهات المحال والمكاتب والسيارات الأمر نفسه بالنسبة لصور العذراء وفي بدء الحديث أو الكتابة أو المشوار باسم الله الرحمن الرحيم.
    ولجوء الإنسان المصري إلي الله بالقسم وبالدعاء وبالاتكال علي الله والإيمان بالغيب وبالأمل في حل ما يطرأ علي حياته من مشكلات.. هذا اللجوء يعكس عجز الإنسان المصري عن مواجهة ما لا قبل له بمواجهته فهو يرجع إلي الله كل تلك المشكلات هو العليم الخبير ومالك القدرة علي تحقيق النصفة.
    واللافت أن الكثير من الأمثال ذات مصدر ديني مثل: اسع يا عبد وأنا أسعي معاك ملك منظمة سيدة اللي يجيبه ربنا كويس. كلنا ولاد آدم وحوا. الخيرة فيما اختاره الله. دع الملك للمالك. ربنا بيرزق الدودة في الحجر. ربنا خلق الدنيا في سبع تيام. ربنا عرفوه بالعقل. ربنا يطعمه خيرهم ويكفيه شرهم. شفاعة النبي تبلع الذنوب. الشكوي لغير الله مذلة. شربة الميه للعطشان تتحسب بقيراط في الجنة. الشيطان شاطر. عين المؤمن تشرف قبة السلطان.
    مع ذلك فإن السماحة في مقدمة السمات الأصلية التي تميز الشخصية المصرية وهي سمة حضارية تستمد مقوماتها من الديانات التي اعتنقها الشعب المصري في امتداد تاريخه وأذكر أنه كان من بين جيراننا في شارع إسماعيل صبري بحي بحري بالاسكندرية: أسر قبطية. وأسرة يهودية وكان الصغار يلعبون في الشارع الخلفي أمام جامع سيدي علي تمراز. لا تشغلنا ديانة أي منا وإن كان المسلمون يترددون علي الجامع لأداء الصلاة أو لاستخدام دورة المياه أحياناً أما الأقباط فكانوا يتحدثون إلينا عن زيارات القساوسة إلي بيوتهم والصلاة التي تقيمها الكنيسة المرقسية صباح كل أحد.
    يتصل بظاهرة الاستغراق الديني ظاهرة أخري مناقضة هي ظاهرة الانفصام الديني التي تعد في مقدمة سلبيات الشخصية بذلك الانفصام ما تنسحب عليه التسمية في أمور حياتنا نحن نرفع الشعارات ونمارس نقيضها نتحدث عن النظام ونتصرف في فوضي وعن العدالة ونمارس التفرقة وعن رفض الفساد والشللية والمحسوبيات ونغض الطرف عن ذلك كله ربما مسايرة لمقولة جحا الشهيرة عن العيب الذي لا يشغله مادام بعيداً عن بيته!
    من المهم أن نمارس ما نؤمن به. ما نعلنه. وندعو الأخرين إلي ضرورة تطبيقه.
    ..................................
    *المساء ـ في 20/3/2010م.


  16. #76
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الواقــع .. والخيال (1 ـ 2)

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    " الخيال .. ياله من شئ عجيب "
    بركن فى رواية " الطريق الملكى " لمالرو
    " إن أعظم مايمتلكه الإنسان هو الخيال "
    بورخس

    تعد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة ، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكى وغيرهم ، وما تزال تجد اهتماماً لافتاً عند النقاد المعاصرين ..
    يجيب جيورجى جاتشيف على السؤال : ما الفن ؟ أهو تفكير فنى ، أو معرفة ، أم هو نشاط وإنتاج ؟.. يجيب بالقول : " إن جوهر المسألة كلها يكمن فى أن الفن يحوى فى ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنسانى فى وقت واحد ، ولكن من البديهى أن الفن ـ فى مختلف مراحل تطوره ، وفى شتى أنواعه وأجناسه ـ يعطى المقام الأول لجانبه التربوى التغييرى تارة ، ولجانبه المعرفى الانعكاسى تارة أخرى " .. الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يروا أنفسهم فى الآخرين ، والآخرين فى أنفسهم ( ت . نوفل نيوف ) . ويقول أرنولد كيتل : " إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة " ، أو أنه " خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة " ( ت . لطيفة عاشور )
    مع أن الفن ـ على حد تعبير جاتشيف ـ لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع ، فإن القارئ ـ فى العمل الإبداعى ـ يتوقع صورة للحياة ، أن يكون العمل مطابقاً للواقع ، والمبدع ـ فى المقابل ـ مطالب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع . وكما يقول الأسبانى ثونثو نيغى فلكى تكون روائياً ، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيل " . ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه . واللافت أن جائزة بلانتيا الأسبانية تعنى بالجانب الخيالى فى الإبداع ..
    إن الصدق الفنى لا يعنى النقل من الواقع ، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوه ، ليهبنا فى النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة . الإبداع يهبنا الواقع ، لكنه ـ بقدر تميزه ـ يشعرنا أن ما قرأناه هو الواقع . وبتعبير آخر ، فإن الإبداع يضاهى الواقع ، وإن لم يكن هو الواقع . عناصر الخيال ليست ـ بالتأكيد ـ عناصر الواقع ، وعالم الفن ـ مهما يسرف فى استلهام الواقع ـ ينتمى ـ فى الدرجة الأولى ـ إلى الخيال . ثمة فارق بين الحقيقى فى الحياة ، والحقيقى فى الأدب . الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره ، بقدر ما تنقل اختيارها ، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التى تجسد العمل الإبداعى وتثريه وتضيف عليه ، واقعها الخاص بها . الواقع الحياتى تصنعه الأقدار ، أو المصادفة . أما الواقع الفنى فهو ينتقى ويختار ما يتطلبه العمل الإبداعى ، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبررة ، أو حذف غير مبرر . العمل الأدبى ليس هو الواقع ، ليس تقليداً ولا محاكاة للواقع ، وإنما هو إعادة صياغة للواقع ، وبتعبير أشد تحديداً هو خلق واقع جديد . أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن " الواقعية لا تعنى أن يحاكى أثر أدبى ما ، الواقعى ، بل تعنى أن يصيّره " ( ت : محمد برادة وآخرين ) . الفنان الفنان هو الذى يستطيع تحويل الأشياء العادية ، الأحداث اليومية التافهة ، المشاهد التى نعبرها ، الثرثرات الحياتية البسيطة .. الفنان الفنان هو الذى يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعاً حقيقياً . الفنان الفنان هو الذى يعتمد على موهبته ، وليس على المادة التى يطوعّها لعمله الإبداعى ، هو الذى يحيل الواقعة التافهة عملاً ينبض بالحيوية والفنية العالية . الفنان الفنان هو الذى يلتقط أية مادة ـ مهما تكن تافهة ـ فيحيلها إبداعاً يستحق القراءة ..
    مع ذلك ، فإنى أرفض أن يعتمد الفنان على موهبته ليغطى مادة تافهة . وكما يقول جوجول " كلما كان الشئ عاديا ، تطلّب من الكاتب موهبة أكبر ليستخرج منه غير العادى . أما باتوه Batteux [ 1713 ـ 1780 ] فهو يذهب إلى أن ما يجب محاكاته ليس حقيقة ما هو موجود ، بل حقيقة ما يمكن أن يوجد . أذكر أيضاً قول موريس باريس إن الفن هو " أن تنصت إلى ذاتك ، وأن تعبر بالتصوير ، أو القلم ، أو الموسيقا ، عما يضوع فى أعماقك . أما القديم والجديد فلا أدرى ماذا يعنيان " ..
    ***
    قيمة الخيال أنه حر . يحلق ، ويهبط ، ويسير ، ويقيم العلاقات ، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر ، ويتحدى المستحيل . إن حركته بلا آفاق ، بلا سدود من أى نوع . ما يبدو مناقضاً للواقع هو فى الخيال غير ذلك . هو واقع يتقبله المتلقى ، ويتفاعل معه ، ويحاوره ، ويستكنه منه الدلالات . بل إن التكنولوجيا ـ مهما تتقدم معطياتها ـ لن تجعل من كل خيال حقيقة ، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث . معنى ذلك ـ كما يقول الأسبانى كونكيرو ـ أن العالم سيوصد أمام صوت الخيال ، مما يفقده إلهامه ، فيظل جاهلاً بسحر الأشياء . حتى أينشتاين يؤكد فى كلمات حاسمة إن الخيال أهم من العلم .
    ظللت أحلم ـ وأتمنى ـ أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدى وأمى ، ولا زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها فى مجلة " الإسلام " التى كانت تضمها مكتبة أبى ، وأغنية أم كلثوم عن النيل ، من شعر شوقى وموسيقا السنباطى . كان الخيال يذهب بى إلى جزر بعيدة ، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة . العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التى تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التى تغلفها الضبابية . ولازلت أذكر حكايات جدى وأمى عن الرجل الذى " حمل " فى سمانة رجله ، والست ستنا اللى قصرها أعلى من قصرنا ، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذى يعانى داء عضالاً ، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالى الصور الثابتة .. ثم أطلقت العنان للخيال فى إمام آخر الزمان وما تلاها من إبداعات وظفت التراث ..
    ***
    كان يقين أينشتين أن الخيال أهم من العلم ، ومن قبله قال فيكتور هوجو إن الخيال هو العبقرية . ويعتبر إنريكى أندرسون إمبرت الأدب " أحد أنماط الخيال الإبداعى " ( ت . على إبراهيم منوفى ) . وثمة من يعتبر الرواية " قصة خيالية ، نثرية ، ذات اتساع معين " . بل إن الأدب هو الخيال فى تقدير البعض ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية 9 ) . وكما يقول المفكر الأسبانى خوسيه أورتيجا جاسيت Jose OrtegaYgasset : " إننا مهما بذلنا من جهد مضن فى معرفة الواقع بشكل موضوعى . لم نفعل شيئاً إلاّ أننا تخيلناه " . ويقول ألفونسو رييس Alfonso Reyes : " الأمر هو خيال لغوى يعبر عنه خيال عقلى ، خيال فى خيال : ذلك هو الأدب " . لكن الأعمال التى أستلهمها من الخيال يصعب إلا أن أضمّنها وقائع من سيرتى الذاتية ، ومن خبرات الآخرين ، ومن العصر الذى أحياه . العالم الإبداعى ـ قصة أو رواية أو أجناس أدبية أخرى ـ فيه الكثير من الخيال ، والكثير من الواقع أيضاً . يصعب أن يكون العمل الإبداعى خيالاً مطلقاً ، ويصعب كذلك أن يكون واقعاً مطلقاً . قد يتغلب الخيال ، أو يكتفى الفنان برصد الواقع . لكن الخيال يتدخل بصورة وبأخرى ، ربما لاعتبارات الفن فى ذاتها . ولعلى أضيف أن النظر إلى السيرة الذاتية باعتبارها كذلك ، لا يخلو من مثالية ، فالخيال قد يكون واضحاً ، أو مستتراً ، لكنه هناك ، وهو موجود فى كل الأحوال . وعلى حد تعبير همنجواى فإنه من الطبيعى أن يكون أفضل الكتاب كذابين ، جزء كبير من حرفتهم أن يكذبوا ، أن يخترعوا . إنه كثيراً ما يكذبون دون وعى ، ثم ـ فيما بعد ـ يتذكرون كذبهم بندم شديد . لكن الخطأ ـ فى تقديرى ـ فى تصور أن الخطأ هو الزيف ، أو الاختلاق ، أو انعدام الحقيقة ..
    العمل الأدبى عمل محاكاة بالمعنى الموسع . إنه يحاكى فعلاً ، وأيضاً يحاكى موقعاً متخيلاً . عالم الخيال الأدبى ـ كما يقول إنريكى أندرسون ـ هو العالم الوحيد الذى يمكن أن نقول عن الراوى فيه إنه قادر على معرفة كل شئ " ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 80 ) . ويقول هنرى جيمس : " إن بيت العمل الخيالى ليس له نافذة واحدة ، بل مليون نافذة ، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة " ( ت . حامد أبو احمد ) . يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
    واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
    يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
    الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
    إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
    بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
    الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
    إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
    أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
    الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .
    (يتبع)


  17. #77
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الواقــع .. والخيال (2 ـ 2)

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
    للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .

    ***
    كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
    وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
    الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
    الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
    أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..

    ***
    يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
    ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
    المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
    أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .
    2002م.
    ...........................................
    من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.


  18. #78
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الواقعية السحرية

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    الواقعية السحرية ؟
    سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
    ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
    يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
    وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .
    ***
    كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
    حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
    أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
    أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
    الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
    والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .
    ***
    أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
    ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
    أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
    وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
    عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
    زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
    شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
    وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
    ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
    هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
    نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
    وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
    نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
    وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
    نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
    أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
    كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
    لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
    الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
    أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
    نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
    بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
    فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .
    2003م
    .................................................. ........
    من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.


  19. #79
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الفن .. هل هو للتسلية ؟ (1 ـ 2)

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    " كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "
    أودين
    منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
    العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
    من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
    ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
    يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
    ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
    ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
    ***
    أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
    لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
    العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
    إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
    تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..
    ***
    ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..
    (يتبع)


  20. #80
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: مع الروائي محمد جبريل

    الفن .. هل هو للتسلية ؟ (2 ـ 2)

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
    والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
    وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .
    ***
    فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
    نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
    يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .
    ***
    إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
    وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
    إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
    انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
    الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..
    ***
    إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
    الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
    الهلال ـ 1992م.
    .............................
    *من كتاب «للشمس سبعة ألوان» للروائي محمد جبريل.


+ الرد على الموضوع
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •