Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 25

الموضوع: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :
    :
    :
    ك
    :

    الرجاء التزام الوقار


    حكاية طويلة بقلم: فاطمة بنت السراة




    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



    مدخل
    ــــــــــ

    - ماذا تعني كلمة شيخ؟
    - وقار.
    - وماذا يعني الوقار؟
    - شيخ جليل.
    - إذاً,
    الرجاء التزام الوقار.

    فاطمه

    التعديل الأخير تم بواسطة فاطمه بنت السراة ; 11/08/2008 الساعة 04:52 PM
    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أرفض بعنادٍ – عجوز – المقولة التي تصبّنا – نحن الشيوخ – في قالب واحد من الطباع .. مقولة جائرة , وواضعها بالتأكيد شاب ظالم, أو باحثة ساذجة..
    وأتفق معكم في اتهامكم لنا جميعا, بتصلّب الشـرايين, ثقل السمع, ضعف البصر, بطء الحركة وثقل الجسم, الثرثرة .. لكن في الطباع لا, وألف لا .. ولكم أن تسمعوا حكايتي وتحكمون.

    توفت زوجتي منذ أشهر طويلة , وبفقدها ذهب النصير, والصاحب, والرفيق, ومذيع النشـرة المحليّة التي كانت تسليتي أوقات العصر, والقلب المُحب الذي عاملني كرجل في شبابي ونزقي, وعاملني كطفل في كبري وضعفي, وحتى غـدوت عند هـذا العمر .. كل هذا المزيج كان زوجتي رحمها الله .. ذهبت بمرض هذه الأيام الذي غدا تقليعة جديدة كتقليعات الموضة .. سرطان في المعدة لم يمهلها طويلا, تفشّى سريعا فذهبت معه, وذهب بعدها كل شيء .. .. التفاف الأبناء والبنات حولي, وأحفادي الأشقياء, مواساتهم الثقيلة لي لم ترحني, بل العكس زادوا الهمّ وأوصدوه بأقفال في القلب, فهذه تشبهها في صوتها, وتلك في نشاطها, وابني البكر في لون عينيها, وتلك الحفيدة في عذوبة صوتها, وذاك الصغير أقرب الأحفاد الى قلبها .. أيـن أذهب من هذا الجحيم الحنون؟

    كدت أطردهم من البيت لمّا طال جلوسهم عندي, لكن بدء الدراسة حال بيني وبين إبداء رغبتي تلك, فعادوا من حيث أتوا, حتى قسم ابني الأكبر في أن يجلس معي هو وزوجته السمينة, وابنه الذي سمّاه باسمي, لم يشفع عندي, بل العكس جعلني أرد عليه بقسم أكبر ( والله الذي لا إله إلا هو, لن تفعل ) .. وألححت وهدرت حتى رضخ..
    وبقي البيت خاويا بعدها .. وبذهاب الأبناء ذهبت العصبية والنرفزة والعناد مع صغارهم وكبارهم على السواء ( يا ولد اجلس, يا بنت اتركي, يا أبي الخضار أنفع لك من الرز, أنزل يدك من على الزجاج يا ولد, لا تكثر من السـكر يا أبي ) ذهبوا بنصائحهم, وشقاوة قرودهم الصغيرة تلك .. أحبهم ساعة في اليوم, ساعتان, لكن أربع وعشرين ساعة, صعب, صعب جدا..

    لمّا ذهبوا شعرت بفداحة من فقدت .. زوجتي الحبيبة العطوف, أم خمسة من الأبناء والبنات .. في كل ركن, وكل مقعد رأيتها .. في كل أرجاء المطبخ, مملكتها بلا منازع, كانت هناك بعلبها الزجاجية والفضية المليئة بأصناف التوابل والبهارات, بتنسيقها البديع لفناجين الشاي الثمينة المذهبة الحواف, والمطلة بأناقة من خلف الأرفف الزجاجية .. في الشرفة الصغيرة ذات المقعدين والأرجوحة العتيقة .. في غرفة النوم .. حتى حتى حتى وهي واقفة أمـام باب الشـقة مقتنصة أحـد المـارة من – العين السحرية – عادتها القديمة, عليها رحمة الله..

    المهم بعد تفكير مفاجئ وسريع مني, التقطت حقيبتي الجلدية من حجرة الخزين .. نصف ساعة كاملة وأنا أبحث أين وضعَتهَا تلك الحبيبة المنظمة, وقبلها بأشهر كنت أجتهد في البحث عـن منديل أو جورب, أو حتى عود كبريت … لـم تترك لي شـيئا أفعله, وبالتالي أجربه وأعرف مكانه, عليها وعلينا رحمة الله..

    فتحت الحقيبة ببطء وأقحمت فيها كل ما وصلت إليه يداي, ملابس, غيارات, حذاءان وشبشب, جوارب صوفية خشنة, وأخرى في نعومة الحرير, أقراص اللبان – اللامي – غير مهذبة الشكل والتي أدمنتها شابا وكهلا, غير سجادة صلاتي, ومسبحة عتيقة من خشب الصندل لازالت تفوح برائحتها المميزة, ثم مصحفي الكبير وعوينات القراءة, ومبلغا طيباً من المال..

    بالمال الوفير سأستأجر لي حجرة جميلة هادئة في أحد الفنادق, ربما لمدة شهر واحـد .. شهر كامل .. سأتملص فيه من واجباتي الاجتماعية لأهرب بعيدا الى هذا المكان..

    الفصل شتاء, ولا أحد يرتاد فنادق الخمس نجوم سوى رجال مهمين فقط .. أي لازحام, ولا شباب سخيف تافه, يحتسي القهوة في البهو العري , متشدقا بما نثرته صحف ذلك اليوم من دُررّ, وفي نفس الوقت زارعا نظراته الفضولية هنا وهناك..
    ولا أطفـال ضوضاءهم الرهيبة تملأ الفضاء الأنيق المحمّل بالثريات العملاقة, طالبين أشياء كثيرة من ذويهم في وقت واحـد (مسبح , حذاء عجل, ساندويتش, آيـس كريم, فشار) والأبـاء يلبّـون فـي جـذل أمانـي فـلذات الأكباد, و( الندل ) يتعبون..

    الحمد للـه, وجدت بغيتي سريعا, ونظرة مستغربة لقطها – راداري الحي دوماً – من عين الموظف ذي المروحة على العنق, وأكتاف عريضة جعلته مع المروحة الحمراء كطائرة - هليوكوبتر- ملونة صغيرة..

    - نعم. لمدة شهر, وأسكن في جدة! أي في نفس البلد, وربما بعد حجرتي بكذا شارع فقط.
    ( أنا حُر .. عندك مانع؟ ) .. عناد الشيخوخة يجعلني لا أتذكر سوى هذه المفردات العنيـفة نوعـا ما لأُخاطب بها الناس..

    تركت الحقيبة في حجرتي بعد أن اطمأننت على رضائي بها, وخرجت الى الشارع .. عادة غريبة تتملكني كلما دخلت مكانـا غير بيتي الحبيب, حتى وان كان بنقودي .. أضع أغراضي القليلة ثم أنفلت الى الشارع, وبعدها أعود أو لا أعود .. لا يهم, الأهـم أنني أستطيع الخروج سريعا ومتى أريد..

    لمّا عدت بعد ثلاث ساعات من المشي المتواصل والتأمل, والتفكير, وجدت حقيبتي كما هي لم تمس, أخذتها بسكون, وأفرغتها بمنتهى السكون..

    في السابق, كلما عدت من الشارع أجد زوجتي قد أفرغت الحقيبة وأقصتها بعيدا عن عيني لأني أحب ذلك .. لا أطيق أبدا أن أرى حقيبة سفر فارغة! كيف تكون حقيبة سفر, وكيف تكون فارغة!! .. منطق قديم يحكمني فأقتنع به..
    ما علينا .. دعونا من أمر الحقيبة, وذِكْر الزوجة التي لم تعد تشـاركك ما تبقى من عمرك ولا تستطيع أن تقاسمك مكان جميل كهذا..

    أقمت بحجرتي اياماً ثلاثة كخُلد عجوز, الفارق فقط: "هو تحت الأرض, وأنا فوقها" .. بعدها لملمت حاجياتي التي ظننتها كثيرة والتي ضاعت في بحر الحجرة, وفي نيتي العودة مـن حـيث أتيت.

    كلام كثير دار مع – الهليوكوبتر – الأنيق على سحب المقدّم الذي دفعته, وهو تقريبا ما يعادل نصف إقامتي المحددة سابقا .. أقنعني بعدها – بابتسامة ودود – بأن أقيم مع مستأجر آخر .. وبنفس الأدب فهمت أن لا دفع هنا ولا يحزنون, والحسابات أغلقت و.. و..

    المهم هو بشري, يحكي معي, يسمع صوت أنفاسي في الليل, وأسمع شخيره..
    - عجوز . أكبر منك في السن, لكن روحه المعنوية جدا عاليه.
    كأنه كتم ضحكه وهـو ينطق الجملة الأخيرة .. ما علينا .. وهكذا عدت الى نفس الفندق ( الذي لم أُغادره بعد ) بإرادتي, الذي تغير فقط.. أنها حجرة مشتركة..

    - أكبر منك قليلا - المتحذلق - .. لنرى هذا العجوز الأكبر مني قليلا, ذا الروح العالية .. تمتمت بها وأنا أغذ الخطى خلف فتى آخر أنيق يحمل أمتعتي.

    الحقيقة كانت الحجرة – لوكس – واسعة, مريحة, سريران متجاوران , خزانتان, ومصباحان وكل شيء فيها اثنان اثنان .. يذكرك ربما للمرة المليون بأن تأخذ حذرك .. تنفسك , تجشؤك, طريقة أكلك, عاداتك العشوائية .. حاول أن تنسى كل هذا لمدة شهر واحد فقط..

    وأخيرا رأيته .. عجوز فعلي, قصير القامة, سبعيني العمر, عصبي, نحيل ذو كبرياء .. والعجيب أنه أنيق, أنيق جدا, الحقيقة أريـد أن أقـف قليلا عند هـذا الوصف لأقـول فقـط بأنـه – إذا جاز لي التعبير– بشع, بشع, بشع الأناقة.

    أنت تذكر ثياب – السِلكْ – الصفراء الشفافة, والفانلة - الشبَك -, والغترة البيضاء ذات التموجات الزرقاء الخفيفة من جرّاء طلب استعمال – النيلة – والتي لم تعد مرغوبة هذه الأيام .. والسجائر اللف , والتبغ المضغوط في العلبة الفضية القديمة ذات النقوش الدقيقة .. حتى النشوق حمله معه, وعطاس كثير يتحفني به قبل النشوق, وعطسة يتيمة بعده, يهز بعدها رأسـه في عنف ونشوة .. أظنها العادة أجاركم الله .. وسـعال شـديد قبل التدخين, وسـعال أشد بعده .. ..
    كل هـذا رأيته في رفيق حجرتي أثناء اللقـاء الأول.

    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :

    رحّب بي الرجل بصدق, وهو يُمسد شاربه الرفيع الملتصق بفن حقيقي مابين فتحتي أنفه وشفته العليا .. خـط رفيع بالكاد ترى الشـعيرات صرعى عليه .. صدمني الصوت الرنّان المرتجف مع الوجه الأمرد .. لا أدري لماذا أعتقدت دائما أن الكهول لابد وأن يكـون لهم عارضٌ جميلٌ يزيدهم وقـارا, وشارب - معقول – محفوف يزيدهم بهاء أظنهما أبي وجدي رحمهما الله .. ثم خاتم ياقوتي عظيم الحجم زيّن بنصره الأيمن..

    الحقيقة أن كلمة ( زيّن ) مبالغ فيها, والحقيقة الواضحة للعين المجردة أن الفصّ قد أكل الإصبع كله, بالكاد يُرى آخر الظفر ..

    لا حظ نظرتي الى الخاتم فسعل بحبور مجلياً صوته :
    - خاتم جميل ها؟
    - نعم . قلتها مجاملا
    ( هااااا, هااااااا ) .. نفخ بها مرتان على فصّ الخاتم المتوهج اللون ثم لمّعهُ في كم الثوب الأصفر ذي ( الكَبَكْ ) الذهب, رافعه الى الأعلى حتى بان كل الظفر:
    - خاتم جدّي الثالث لأبي عليه رحمة الله .. أهدانيه ساعة مولدي .. فرحته بالحفيد الذكَرْ البكْر لأبي .. تعرف هذه الأمور عندنا .. وبالطبع حُفظ في علبة من المخمل الأحمر الى أن بلغت مبلغ الرجال, ومن يومها وأنا أرتديه..
    تطلع الى السقف بعظمة:
    يقال أنه كان خاتم لمهراجا قديم, وقيل أيضا أنه كان مُلك لـ ( سيف بن ذي يَزَنْ ) ارتداه في حروبه كلها, ثم تناقلته الأيدي الى أن وصل الى بنصر جدي الثالث عليه رحمة الله..

    في الحقيقة أنا أؤيد الاحتمالين – قالها وهو يحك رأسه - ما يدريك لعل "ابن ذي يزن" قد فكّر بالذهاب الى الهند, أرض العجائب والغرائب ومطمع الغرب اللعين في كل وقت .. تعرف. كان غنيّاً جداً فوقع في قبضة جماعة من لصوص الهنود سلبوا ما معه, وبالطبع كان الخاتم ضمن ما سلبوه, ثم باعه أحد اللصوص أو حتى أهداه الى المهراجا تقرّباً منه .. تعرف. تحدث هذه الأمور .. أو أنّ المهراجا الهندي هو الذي ذهب الى أرض "ابن ذي يزن" وأهداه له بنفسه دون سرقة ولصوص .. جائز.
    عموما أنا أرجّح الاحتمال الأول لأنه أقرب الى المنطق..

    لفّ سيجارته الأولى بكثير عناية, ثم سأل بإلحاح:
    لكن ما الذي حَدَا بـ "سيف" الى أن يترك أرض آبائه وأجداده في دمشق و
    - في اليمن . - قلتها بخيبة موجعة –
    - دمشق, اليمن, جده .. كلها مُدن .. لن تفرق معنا.
    - !!!
    - ما الذي حَدَا به الى هذا, ولا طائرات في ذلك الوقت, ولا حتى مواصلات بسرعة معقولة, وهو الملِك الذي لا يصح أن يغيب طويلا عن مُلكه!

    طبعاً لا تجاوب ولا جواب, إلا أنه من النوع الذي لا ييأس, نظر الي بشفافية متخذًا هيئة فيلسوف رقيق:
    يا أخي؛ التاريخ هذا عجيب .. كله باطش ومبطوش, قاتل ومقتول, فاعل ومفعول, داهش ومدهوش...
    أمام استفهامي الصامت للكلمتين الأخيرتين أجاب:
    تدهشك غرابة الأحداث في التاريخ, بالطبع قرأتْ لابن هشام, هيرودوت, ابن بطوطة .. طوال قراءتك لأحداثه وأنت في دهشة عظيمة.
    هزّ رأسه في ثقة:
    التاريخ أنياب وأظافر, هو كذلك, كما سمّاه "منصور أنيس" في أحد كتبه.
    أستدركتُ بسرعة:
    - أنيس منصور.
    - منصور أنيس, أنيس منصور, كلها أسماء كما تعلم. – ثم كمن بُوغت –
    - غريبة! تقراْ؟
    - !!!
    - شكلك … لا يوحي بذلـ…, آسفـ ..
    أغمضت عيني في تعاسة من هذا الجار:
    - ابني يقرأ له, يقول نادراً ما يأتي بشيء مفيد.
    - إذاً حدسي صحيح .. شكلك لا …
    " حسبي الله ونعم الوكيل". كان موظف الاستقبال ماثلا في خيالي حينما تحسّبتْ..

    سعل الرجل ثلاثا في الصمت الذي بدا منّي بعد حديثه عن التاريخ والخاتم, ثم سألني بجفاء:
    - الاسم الكريم؟
    لمحت بوضوح لمعة الذهب الأصفر في الفم المتصابي .. .. قال بعد تعارف – غير تقليدي – دام ربع الساعة:
    - بما أننا سنغدو صديقـ .. جارين .. يُسرني في كلمات قليلة موجزة أن ألخص لك هذا الكيان الذي أمامك, والذي يحمل اسم " محمد حسن " أو " سُنسُنْ " كما كانت تناديني به المرحومة أمي ..
    سكت بعدها لثوان, رافعا يديه الى أعلى, ثم مسح بها وجهه .. بالتأكيد قرأ فاتحة الكتاب على روح أمه كما يفعل البعض..

    - مَنْ أنـا؟
    اعتدل في جلسته مفكراً, ثم عادّاً صفاته العظيمة على الأصابع, بادئها بالطبع بإصبعه الصغير ذا الفص الياقوتي:
    رومانسي, عاطفي, حَالِمْ وشفّاف, وفي نفس الوقت شجاع, حازم, جريء, مقدام..
    لا تستغرب من الجمع بين هذه وتلك … ( بالطبع لم أستغرب, ولم يبد على وجهي أي تعبير اللهم عدا خيبة الأمل من الرجل والمكان الذي سأعيش فيه قرابة شهر ) ..
    أكمل بتواضع العلماء وسماحة أنفسهم:
    انه الإنسان هكذا, تجده مجموعة تناقضات كيف؟ لِمَ؟ العالِمْ الله..
    تعرف. يزعجني الإنسان الذي يُكثر من كلمة ( أنا ) .. زفر بها بقوة طارداً الاتهام عن نفسه..
    - ! ! !
    - ماذا قلت؟
    هززت رأسي نافياً فأكمل:
    أعني ذلك الانسان الذي يُعدّد محاسن نفسه وأفعالها ( أنا كذا , أنا فعلت ) يا أخي اعمل خيرا والقه في البحر, وستجد الأجر والثواب من الله قبل العباد .. .. تصدق؟ في يوم من الأيام أنقذت نفساً كادت أن تُهلك .. طفلا كان, وأنت تعلم الأطفال أحباب الله, ألقى البريء بنفسه في البحر مع أشقائه الكبار زاعماً أنه ذلك السبّاح الماهر, فما كان منّي وقتها حين سمعت استغاثة أشقائه إلاّ أن ألقي بنفسي خلفه, ناسيا قياس قدرتي ذلك الوقت, ناسيا ترددي الطبيعي, ناسيا خامة بذلتي الثمينة, ناسيا أنني مرتديا ساعة بثمن خرافي, ناسيا خاتم ابن " ذي يزن" الذي في بنصري.. ناسيا كل شيء عدا هذه الروح الآدمية التي تجاهد في سبيل الحياة .. وبالطبع هذا دليل على أنني ماذا؟
    وأمام صمت القبور منّي شرع يُعدّد مثالبه على الأصابع, بادئاً بإصبع " ذي يَزَنْ ":
    شجاع , مقدام, جسور, رقيق, شفّاف..
    غوث طفل بريء ( رقة وشفافية ),
    استجابة سريعة مني ودون تفكير ( جسارة وإقدام ) ..
    تناقض! نعم .. لكنه موجود بالأدلة القاطعة في شخصي, وقد يكون موجود في شخصك أيضا لكنك تخفي الجانب الطيّب منه, وترينا فقط الجانب القاسي, الصارم, الجامد, الخالي من كل المشاعر الجميلة, وأعتقد أن هذه وسيلة دفاعية من عقلك الباطن تخفي بها عُقدة قديمة .. صدقني لي فراسة بهذه الأمور..

    لم أعلق على كلامه .. كنت أرى فقط بعين الخيال أياماً صعابًا..

    شعشع الدخان متطايراً في كل الحجرة حتى اعتقدت أنني سأحتاج بعد يومين كمّامة هواء لرئتي..
    - تدخن بشراهة؟
    قلتها متسائلا بعد أن أطفأ السيجارة الثالثة وشرع فـي تهيئة الرابعة, أجاب بعناد أرعبني:
    - أنا حرّ. عندك مانع؟
    من اللحظة الأولى قد لا تكّون تلك الفكرة عن الشخص الماثل أمامك, لكنك من – اللفظة – الأولى تقرر, وتبصم .. وأنا كوّنت وقررت وبصمت, ثم سلمت أمري لصاحب الأمر..

    رفعت مسماع الهاتف طالبا أحد الخدم ليساعدني في حمل سريري بعيدا عن ذلك المدخن الشره, طويل اللسان, لكنني تذكرت أنني في فندق ممتاز, إذاً فليحملوه هم بناءا علـى أوامري .. وبالفعل حضر اثنان من الشباب العربي النشيط, وقاما باللازم, فغمز لي العجوز ألا أعطيهم, فأعطيتهم .. ولمّا خرجوا أحببت ألا أقطع حبال الود مع نزيل عصبي مجبر أنا على الجلوس معه في مكان واحد لمدة سبع وعشرين يوم, قلت باسماً ومداهناً:
    - شباب مسكين .. تخيّل من ترك دراسته ليخدمنا هنا, ومن هو عائل أهله الوحيد, وكلهم تغربّوا من أجل لقمة العيش..
    بصق فـي منديله الأنيق ذي الحرف الذهبي, وأعلن أنهم شباب سوء..
    - راقب واحد منهم في غير نوبته, تجده إما في المراكز, وإما متسكعا بسيارته الفارهة في شوارع الحمراء, وتقول مساكين!

    أتى الليل سريعا كعادة الشتاء معنا .. أبدلت ملابـسي بملابس النوم الواسعة الطويلة .. توضأت وبدأت في تلاوة أذكاري, ثم تأهبت للنوم متخذا شقي الأيمن بداية لنومي .. .. كان هو يراقبني من خلال دوائر الدخان الزرقاء التي لن يتحملها صدري غدا, ثم قام الى النافذتين, فتحها فدخل تيار هواء منعش بارد, جدّد جوّ الحجرة بنسائم طيبة أنعشـت الروح, فخفت رائحة الدخان الكريهة..

    من رحمة المولى لنا نحن الشيوخ أن الشتاء في "جـدة " كالربيع في بقية بلدان الله .. المهم شـكرته بإشـارة من يدي على اللفتة اللطيفة, وقام بعدها الى منامته العجيبة.

    حشرني الضحك وأنا أتأمل خامتها اللامعة, ولونها البنفسجي المائـل الـى الفضة .. لا أدري لماذا كلما اخترت رداء النوم, فضّلته أبيض أو بنيًا أو ازرق .. هذه الألـوان الثلاثة فقط للرجال, وغيرها لا, وكذا أبي وجدي رحمهما الله .. لكن بنفسجي! وبلمعة!! لا أجرؤ, وفي مثل هذا السن أموت خجلا!!! .. .. ثم .. ثم بدأت طقوسا غريبة .. ذراعان وسـاقان في نعومة الزبدة الهولندية تُشـمر بعناية لتُدهن بالكريم ذي الرائحة, هل قال (لافندر؟) نعم أعتقد أنه ذكر لي اسم رائحته في اليوم السابع .. ثم كريم آخر وقطنة دائرية الشـكل في حجم صحن كوب القهوة, مسح بها وجهه، وسائل شفاف هُلامي مررّه بعناية حـول عينيه .. وأخيرا شعره ذي الفراغات الكثيرة, فعل به الأعاجيب مستعينا بفرشـاة أطفال ناعمة, حتى بدا متناسقا .. بعدها استرخى على السرير, ماداً رجلا على رجل..

    - متزوج؟
    والحقيقة أنها اللفظة المؤدبة منّي لكلمة أرمل لكنه أجاب على سؤالي بجواب من يعرفني منذ زمن قاصدا زوجته:
    - غضبى في بيت أهلها.
    كدت أتسرع بكلام طبيعي ( معقول وأنتما في هذا العمر .. ماذا تركتما لصغار السن ) .. لكن وجدت نفسي تقول:
    - أزمة وتعدّي.
    نظر إلي متفرسا صاعدا هابطا مُمعناً في شخصي الضعيف .. ثم سألني بحدة - ليس لها ما يبرر - بعد تلك النظرات القاتلة:
    - تريدني أن أحكي ها؟ أشكو؟! ولمن ؟ لغريب!!
    وأمـام نظراتي الهلعة أجاب بكبرياء حقيقي وبصوت حـاد مشروخ من جرّاء التدخين:
    يا سـيّد .. " أنا لا أشكو ففي الشكوى انحناء, وأنا نبض عروقي كبرياء ".
    - لا حول ولا قوة إلا بالله.
    تمتمت بها في أسى, عجب, لا أدري بالضبط.
    - شطر عظيم.
    - …؟
    - " وأنا نبض عروقي كبرياء " بالفعل شطر عظيم .. عبقري (نفوس) هذا الشاعر!
    - الحمد لله!
    - يستأهل الحمد.
    أرخى رأسه حيث أظفاره المهذبة بمبرد أنثوي متأملها في إعجاب:
    - مُصرّ على أن أحكي!
    - !!!
    - لا بأس. – زفر بقوة – صدقني هي السبب.
    - …؟
    - خلافاتنا الزوجية كلها, تأكد كلها, دائما هي المتسببة فيها ..
    رأسها يابس, تصوّر ترفض السـفر معـي الى - ألمانيا - للتزلج على الجليد .. تعرف هو موسم الجليد في مثل هذا الوقت من السنة.

    تنحنحت لأجـد صوتي الذي يخبوا عند الزعل:
    - وأنت تجيد التزلج على الجليد؟
    - يعني, تمشية حال – قالها بتواضع – لكن الهانم صدمتني صدمة العمر, قـالت كلاما لا يقال, عـن سـفرنا الدائم, تجوالنا, والمرح …
    وسكت كأنه يتذكر, وسكت أنا وقد تأكدت من خطأي الشنيع بترك بيتي والبقاء مع هذا الـ.. لكنه أكمل بحزن:
    تقـول: هجولة, وضياع مال .. في مثل هذا العمر وجب الاتزان, وبدل جواز السفر المزروع في جيبك, والسـجائر الـ , أبدلهمـا بقرآن وسجادة صلاة! – هكذا قالت - .. كأني لا أصلي!!
    تنحنحت للمرة العاشرة لأجلوا الصوت من الطبع القديم:
    - امرأة حكيمة.
    هتفت بها شاردا, متذكرا وجها تقيّا ضاع مني في هذه الحياة , لكن الرجل انتفض بعنف لا يتناسب مع سنّه وحجمه:
    - صدقني أنا حزين وغاضب, غاضب , غـ ا ضـ ب. ثم انتفض واقفاً بعد ثلاثة سعلات كادت أن تفتك بحياته:
    أنت لا تعرفني ساعة الغضب.
    وبإعجاب حار نظر الى قامته الضئيلة في المرآة, وأكمل ولعابه يتطاير على شخصي فيها:
    أكون أسدا, ليثا, غضنفرا, غضنفرا ..
    والتفت الي بتحدّ, مردداً اللفظة الأخيرة بزهو مقتنصاً في نفس الوقت النظرات الى جسده المتخشب في المرآة:
    غضنفر. جداً جميل معناها ..
    تطلع الي برهة, وأمام صمتي المحسور أردف بفهم:
    " غضْ ونفرْ " كـ " كرّ وفرّ " " مدّ وجذر" وكلها كما تعلم تعني الجسارة والإقدام.
    - !!!
    - رحم الله أبي, كنت عندما أغضب وأنقلب الى ذلك الغضنفر, يعزلني في حجرتي المجهزة نوافذها مسبقاً بقضبان حديدية حتى لا ألقي بنفسي من النافذة, خوفاً علي من عاقبة بأسي الشديد .. – هرش رأسه في إثارة - مع إن بعض الخطر مطلوب تحقيقه لأنه يولد مع الانسان .. تعرف. هناك من الأحْداثْ الصغار من يريد الإثارة والخطر والمغامرة وجميع متطلبات الشجاعة, لكنه لا يعرف كيف .. قنبلة موقوتة يكون الحَدَث صاحب هذه الصفات، لذلك تسمع بجنوح الأحداث هذا في العالم كله عدا " النرويج " تصور. لا يوجد فيها شباب جانح, فالكل يستطيع الذهاب للجبال للتزلج كل شتاء, لذلك يخرجون تلك الطاقة المدمرة التي كادت أن تهلكني في صغري.

    اييييه, كنت بكْره, فلّة قلبه, عليه رحمة الله , لكن هي - وكان يعني المدام, رأسها – صندوق عناد, إذا أصرّت على أمر فلا يثنيها عنه شيء, لا دموع, لا استعطاف, ولا حتى حزم .. وخذ بعدها ما يصيبني, ضياع نفسي, تشتت ذهني, هجولة ووحدة قاسية في هذه الفنادق, وإن كانت بخمس نجوم.
    أتم كلماته الأخيرة, مُعقباً بعدها بزفرة شديدة الحرارة..

    كأن الرجل ينتظر مني كلمة ما , استدركت:
    - قلب عجوز.
    سـكت وأخذ يحدق بي, مفكرا, متأملا, لا ادري بالضبط .. أعرف هذا النوع, هو الآن يغربـل كلمتي جيـدا (عجوز, كبير, مُسن, كهل) أوصاف لن يبتلعها سريعا هذا المتصابي .. أجاب بحذر:
    - يعني.
    - تصبح على خير.
    - وأنت؟
    - توفيت. أختار الله خيرته فيها.
    - خسارة. لا زلنا شباب.
    - !! .. الحمد لله على كل حال.
    قلتها منهيا الكلام.
    - دفنتها سريعا على ما أعتقد؟
    - سبحان الله! إكرام الميت دفنه!
    - هذا إذا كان ميتا؟
    لم أفهم .. وأمـام تسـاؤلي الحقيقي قام يشرح وجهة نظره المفزعة:
    - ربما كانت في غيبوبة فقط .. حالات كثيرة تحدث, يُغسّـل الميت ويُكفن, ثم يتضح أنه لم يمت ..
    - ! ! !
    - أنا شخصيا سـأكتب في وصيتي ألا أدفن إلا بعد يومين أو ثلاثة .. سبحان الله قد يكون هناك عمر!
    حديثه الطويـل أدار رأسـي .. ماذا لو كانـت – رحمها الله – لم تمت؟ ما ذا لو…!! تقاذفتني الأفكار, وهاجمتني الذكريات, واندلعت بقوة نار في القلب ..
    - استغفر الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    هتفت بها في حرارة لأطـرد بها أفكارا شيطانية تكاد أن تفترش عقلي وقلبي ..
    - ها. ما رأيك؟ تذكّر ربما وأنت تدفنها لاحظت طريقة وضعها قد اختلفت أو …
    - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
    اسـتعذت بالله طاردا تلك الوساوس .. لن يسكت, إذن, لأتكلم أنا ..
    من كلامه العجيب عن الموت شدني ذكر الوصية, قلت:
    - وأنا في الخامسة والثلاثين كتبت وصيتي, وبعدها في كل عام أجدّدها , وأنت لم…
    - لازلنا شبابًا .. وصية يعني تفكير مبكر في الموت, ثم لا نوم طبيعي, لا سجائر, لا مزاج رائق ..
    - لكن…
    - دع الخلق للخالق.
    قالها بحزم جمدني, ثم التفت الى المذياع دائرا موجته يمينا ويسارا ..
    - خير؟ نريد أن ننام.

    كنت قد تخففت كثيرا من احترامي له ولسِنّه, لكنه أولاني ظهره البنفسجي اللامع, مكملا تدوير الموجه الى أن أرتاح الى أغنية شبابية حديثة, كثيرة الآلات تحكي عن قسوة حبيب العمر وهجره لحبيبه دون رحمة ..
    - لا حول ولا قوة إلا بالله.
    زفرت بها حانقا, فلم يتركني, بل قال بأسف مقصرا الصوت الى أذنه:
    - الآن أدركت سرّ وفاة المسكينة السريع .. تصبح على…
    ***


    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    قد تقولون طالت دون هدف,
    وقد يغمز متحذلق منكم: هي ثرثرة عجوز.
    وتقول فتاة مُشفقة بملل: دعوه يمضي في سرده, فلن نخسر بالسماع شيئا.
    بالطبع سـأمضي في الثرثرة, وإلا انفجرت.

    صعب أن ترى وحدك العجائب والغرائب والهوائل من زميل يساكنك, ولا تستطيع أن تنبس بكلمة .. .. سأكمل, والله المستعان.

    ***

    سمعت آذان الفجر يأتيني واضحا .. فالفتى ذي البيجاما الفضائية يخاف على صحته, وبالتالي لا يريد برد التكييف الصناعي ..
    - مابه هواء ربك؟ ها؟
    قالها بنرفزة بعد أن ملّ فقرات برنامجنا الثاني, وإذاعة صوت العرب ..

    عموما الجـوّ بارد هذه الأيام, فلا داعي للجدال معه, بهذا سلمت .. وخمس دقائق جلستها على سـريري متذكرا كل ما مرّ بي قبله وبعده .. وخمساً ثانية أحمد الله الذي رد علي روحي بعد موتي, قائلا كما كان يقول عليه الصلاة والسلام, ثم خمساً ثالثة مُجهداً الذاكرة العجوز في تذكر اسـمه .. كأنه قال ( محمد علي, أو محمد حسين, أو محمد عبد الكريم ) لا أذكر بالتحديد اسمه من جملة الأسماء الكثيرة التي ذكرها بالأمس حتى اسم الدلع الذي كانت المرحومة تناديه به نسيته .. عموما هو اسم مركب, أوله محمد.

    قد تقولون يكفيك الاسم الأول لمناداته به, فـأجيب باختصار: يغضب هذا الليث إن لم ألحقه بالآخر, لأن الآخر هو اسمه الأصلي .. وأعتقد له الحق في هذا, فأشقاؤه الستة كلهم يحملون نفس الاسـم الأول مع التنويع في الثاني, ولذلك اختلط علي الأمر .. تماما كما لو قلت: (اسمي) ثم سكتّ, أو قلت ( عبد ) فقط دون إلحاقـه باسـم الجلالة أو أحد أسمائه .. في عرفه هكذا الموضوع بالضبط, وأنا لا ألومه مـادام كل هؤلاء الأشقاء الظرفاء يحملون نفس الاسم الأول.

    قطعت حيرتي وترددي بعد أن توضأت, بهزة رقيقة على كتفه, ثم تربيته, ثم خبطة جـامدة على الظهر ( يا شيخ, يا سيد, ولا من مجيب ) ..
    - مات!
    طارئ بشـع تملكني, كاد يوقف دقات القلب

    كنت نائما عندما ماتت, لم أُلقنها الشـهادتين, ولم أشعر بحشرجة صعود الروح, ولا عذاب سكرات الموت التي لم ينجُ منها أحد, حتى سيد الخلق أجمعين ..
    أشـعلت النور فلم يطرف له جفن, أنفاسه خامدة, لا صعود في الصدر ولا هبوط.

    - مِرآه.
    الطارئ الثاني على العقل الخائف .. كنت متأكداً بالطبع مـن أني سـأجدها بين أغراضه الناعمة .. قربتها سـريعا من أنفه, رأيت السطح اللامع المصقول قد امتلأ ببخار أنفاسه ..
    - الحمد لله, حي.
    زفـرت بها براحة, قلبته على الجانب الأيمن بعد أن كـان مُسطحاً على ظهره كالقتيل .. أخيرا سمعت تنهيده خافتة, ثم بدأت الأنفاس العجوز تنتظم .. .. ابتعدت عنه مؤجلا فكرة إيقاظه الى ما بعد صلاتي, التي فطنت الى آذانها الأول وليس الثاني …
    انتهيت من صلاة الليل, شارعا في تلاوة ما تيسر لي من كتاب الله, مُستعينا بمصباح سريري – بعد أن أطفأت النور – وعوينات القراءة, منتظراً حلول قرآن الفجر.

    رحمها الله, هي أول من أعلمني أنها صلاة الفجر, الآية المذكورة في سورة الإسراء " وقرآن الفجر. أن قرآن الفجر كان مشهودا " .. أي يشهدها الله وملائكته .. وأمـام نظراتي المتشككة دوما في أصول كلامها, قالت بحماس: لا تنسَ أن الله ينزل الى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل, وأهزّ رأسي مُفحما, ثم اسألها مداعبا:
    - من أين التقطتها؟ العين السحرية بالطبع.
    وتضحك في جذل, حالفة بالله العظيم أنها سمعتها من شريط الشيخ الفلاني ..

    أول ما جذبني فيها, وداعتها, وصدقها, ثم هذه الضحكات المتقطعة الناعمة, التي تدلك على طبع سـاذج, وتربية مطيعة, كأنها نقيق عشـرة ضفادع صغيرة .. عليها رحمة الله.

    أفقت من الضحكات الصغيرة الرقيقة على آذان الفجر الأخير .. المسجد قريب, لكن أين يقع بالضبط, لا أعرف بعد .. موظف الاستعلامات الساهر سيتكفل بتحديده لي .. انفلت الى "عصام" أحركه وأقلبه دونما فائدة ..
    خرجت الى صلاتي قاطعا كل أملٍ فيه, ولما عدت كان يصلي فرضه.. أبدلت ملابسي واسترخيت في مقعد قريب من سريري ..

    - يعني لم توقظني للصلاة . قاصدًا؟
    أمـام عناده الطفـولي أحجمت عن الجواب, سهل أن تقنع طفلا بما تريد, لكن صعب جدا أن تفعل نفـس الشيء مع هذا الفتى ..
    أكمل: سامحك الله, فوّت علي أجر الجماعة.
    - غلطة. غداً إن شاء الله أوقظك.
    - يـا أنـاني. ذنبي في … وأشـار الى عنقي القريب من إصبعه.
    - لا حول ولا قوة إلا بالله.
    - ماذا يُكلّف عليك لو ناديتني بالاسم فقط .
    - الاسم! الاسم!
    - ماذا تقول؟
    - لا اله إلا الله.
    - أو تـربيته, هـزّه, لا بأس بخبطة خفيفة .. أنا معروف بنومي الخفيف, حتى أن أمي دائما تقول …
    - حيّة … أمك؟!!!
    سـألته بدهشة صافحا عن كل ظلمه ذاك معي.
    - لا. توفاها الله .. كانت صحيحة الجسم, مليئة بالعافية حين توفاها ربك .. امرأة قوية – قالها بإعجاب – كـ ..
    - كثور.
    وأمام نظراته الهلعة اعتذرت بأدب:
    آسـف. لكنه تعبير دائما أقرأه وأسمعه ( قويا كثور ). وهدأ قليلا أمام نظراتي الغارقة في الأسف والتي هي في الأصل غاضبة من كل هذا اللغـو الذي ليس له أساس.
    - كانت قوية كرجل .. يرحمها ارحم الراحمين.

    طبعا إذا كان لكم خيالا مثلي, سيشطح بكم - بناءا على كلامه - أنها توفيت وهو في الثلاثين من عمره, وعلى أقوى احتمال في الخامسة والثلاثين, مادامت قوية وصحيحة الجسم كبقرة … لكنه صدمني لما قال أنها توفيت العام الماضي فقط.

    - ومـن يومها والخلافات في ازدياد بيني وبين زوجـتي, وبالطبع دون تدخل سريع, وصلح, وعودة كما كان الحال أيام المرحومة.
    - عليها رحمة الله.
    قـلتها كمن ينهي صفقة خاسـرة, ويهرب بعدها الى نفسه .. التفتُّ الى قرآني, لكنه أكمل حديثه الـذي قطعته بسـؤالي المفجوع عن أمه:
    - كانت تقول: نوم " محمد حسن " كالقطط.
    - محمد حسن!
    قلتها بفرح كمن وجد كنزا, لكنه أكمل:
    - نومه كالقطط.
    كانت تقولها لاخوتي وجاراتها.
    - يعني. ثقيل, خفيف .. أنا لم أربّ قططاً في حياتي.
    ولجهلي بحياة القطط وحِـدّة صوتي, قال بأسى قاذفاً برغبة النوم عبر الحائط:
    - خفيف, خفيف جدا.
    - يرحمك الله يا أم محمد حسن.
    - تُدهشني أنت.
    وأمام نظرتي المتسائلة, سأل:
    معقوله. ألم تربِّ قططا في حياتك!؟
    - لا أذكر أني فعلتها.
    - مؤكد عرفت نوعك – قرّر في عنف – فتى حافي القدمين, يدور في الأزقة القديمة, قاذفاً الناس بالحجارة.
    - ! ! !
    - لا تنكر. لي نظرة سديدة في الرجال في صغرهم, فماداموا لم يربّوا قططًا, وهي هواية كما تعرف تأكل الكثير من الوقت, فلا بد أنهم أهـدروا كل طفولتهم في الشارع .. يا شوارعي.
    قالها ضاحكا مُرجعا رأسه للوراء ..
    ما علينا .. عفا الله عمّا سلف .. ماذا كنت أقول عن نومي؟ آه, خفيف, خفيف جدا .. بينما " محمد حسين " نومه ثقيل, عكسي تماما .. " محمد علي " بيننا نحن الاثنين .. و" محمد إسحاق " آه من محمد إسحاق … و وانتابه حماس مفاجئ للحديث عن أشقائه الستة أصحاب العادات الظريفة في النوم … وشـرع يحكي مُصدّعـاً رأساً حُرّة ما قبلت مُسكناً منذ زمن طويل.

    ***

    تستطيع أن تغلق كتابك الذي اشتريته أو استعرته, متناولا قرصي مسكن, أو مزاولا أي نشاط يروق لك بعيدا عن ثرثرة الأوراق الصغيرة, لكنك لـن تسـتطيع أن تمنعني من الكلام والفضفضة .. ليس لك الحق في هذا .. كلكم لن تمنعوني من الكلام, وأنا الوحيد فيكم الذي واجه ما واجه, ولمدة من عمر الزمن, شهرا كاملا إلا أياما ثلاث, في فندق نجومه خمس.

    ***

    أفطرنـا إفطـارا مجانيا من الفندق .. شايًا وفولا .. فطلب " محمد حسن " وهو لازال بمنامته البنفسجية اللامعة, بعض الزبدة والمربى والزيتون الأسود الكبير ذا العلبة الخضراء ..
    - الزبدة مفيدة, خاصة عند تقدم العمر .. دائما تسمع أن أغلب المُعمرين كانت الزبدة أساس طعامهم.
    - يالله حسن الختام.
    اهتز من تشاؤمي صائحاً بحدة:
    - تنفعك هذه المواد في كبرك, والمربى مفيدة للمعدة على الريق, والزيتون وزيته يجليان الصوت و..
    - الحمد لله على العافية.
    صاح يُوبخني:
    - كُـل أكـلاً ذا فائـدة حتى تحمد الله حقاً على العافية.

    غصصت , وكـدت اشـرق بدمعي .. ما هذا الذي اسمع؟ .. المؤلم أنني أوبخ, وأهزّأ, وأقبل أشياء لا تطاق بإرادتي ونقودي, لا بإرادة أحد ولا بنقود أحد!
    هل انسحبت؟ للأسف لا .. سـايرت – كما يفعل البعض – الأيام أكمل فيها ما بقي لي من أوقات في هذا المكان ..

    لما حان آذان الظهر .. هززته ..
    كان مستلقيا على قفاه, واضعا الراديو الصغير على صدره الضعيف الضيّـق الأكتاف,
    تململ في ضيق:
    - سمعت, سمعت .. تحسبني أطرش؟
    تنحنحت:
    - ألن تغير البيجاما؟
    كنت مشفقا من انشغال بعض المصلين بعمر الرجل, وسر ردائه الزاهي, ومحرجا في نفس الوقت – وهذا ما سيحدث – من التصاقه بي, أو محادثته لي وهو بهذا الزي, معلنا أمام الملأ معرفته التامة بي .. لكنه لم يرد على سؤالي, فقط أوقف – الاريال – الفضي على وضع أراحه في السمع وشرع يصغي ..
    خرجت الى الصلاة بدونه, ولما عدت وجدتـه يصلي, وعيناه قد انتفختا من اثـر النوم.
    فكرت في إغفاءة قصيرة ثم طلب طعام الغداء وعليه أخذت وضعي, وقبل أن أضع الوسادة الأخرى على رأسي حاجبا بذلك أي ضوء أو صوت قال بصوته الرنان المرتجف:
    - فوّت علي صلاة الجماعة.
    ولما لم أجب, أكمل موشحه:
    - يا أناني, ذنبي في رقبتك.
    تنهيدة طوييييلة فقط, خرجت من صدري قبل أن أنام.


    ***

    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  5. #5
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    - يا سيّد.
    ولـم يكن اسـمي سيّد, لكنه لقبٌ يُصرّ دائما على مناداتي به, بينما هو لا يقبل غير اسمه الكامل مسبوقاً بأستاذ ..
    فتحت عينَيَّ, يا لطيييف هل لازلت أعيش في هذا الكابوس؟ .. ..
    كانت الثـالثة بعد الظهر .. جـوع النوم يعتصرني, ورائحة شواء لذيذة تفعم جوّ الحجرة.

    - قمْ. طلبت – لنا – الأكل.
    - شكراً.
    لكني لما دنوت من الطعام غضبت .. كـان قد طلب لكل منا, قطعة لحم يتيمة سـوداء مُسـطحة, وكثير من السلطة الخضراء, وكوباً من عصير البرتقال ..
    - والرز؟ .. أنا واحد من الذين إذا حُشر في أفواههم أكلات العالم كلها, بدون أرز, لا أقول أكلت.
    امتعض من تعبيري المبالغ فيه, فقال بعصبية مطوحا بالسكين جانباً:
    - الرز يزيد في السـمنة وبروز الكرش .. ألا ترى نفسك في المرآة؟
    وجدت عيني – لا إراديا – تتلصص في المرآة ناظرة الى ما قـال, ووجـدت نفسي بعدها تقول بحدة:
    - أنا حرّ.
    - وأنا يهمني مظهرك .. من اليوم والى أن نفترق سأتبع معك نفس النظام الذي أتبعه مع نفسي, وستشكرني بعدها .. لا أريدهم أن يقولوا "محمد حسن" عاش مع فيل, ولم يستطع أن يحوله طوال شهر كامل الى دلفين رشيق .. لا أريدهم أبدا أن يقولوا عني ذلك.
    - مَنْ. يقول؟!
    - الناس, وأشقائي الستة.

    مهلا:
    ستؤلمونني إن وصفتموني بضعف الشخصية أمام هذا المستبد .. الحكاية وما فيها أن الجدال متعبٌ معه, والكلام كأنه فقاعات صابون سرعان ما تنفجر مُخلفة .. لا شيء.

    ابتلعت قطعة اللحم الإفريقية مستخدما الشوكة وحدها, وهو مستخدما الشوكة والسكين وكثيرا من الوقت .. كل هذا الوقت على هذا البؤس! لا حول ولا قوة إلا بالله ..
    قليلا من السلطة الخضراء التي لا أستسيغها ازدردتها على مضض, ثم عصير البرتقال الذي مججته سريعا من فمي.
    - ما هذا الطعم؟
    - عسل نحل أصلي.
    - ومن قال أني أشرب العصير بالعسل؟ .. من الأساس أنا لا أشرب العصير مع وجبة الغـداء, بل أشرب اللبن.
    - سمعتك تكح في نومك .. صدقني هذا أفيد لصحتك.
    طبعا سيقول أحدكم, يسـتطيع أن ينزل الى المطعم ويأكل ما يريد .. .. هذا بالضبط ما فعلته بعدما أبدلت ملابسي بملابس الخروج مُتعللا بنزهة قصيرة أهضم بها – الدسم – الـذي أكلته.

    شـعرت وأنـا اضغط أزرار المصعد الكهربائي طالبا الدور الأرضي بغصّـة حينما تذكرت أنني علّلت له خروجي .. .. لا بأس, هـو أدبٌ مني لا غير!
    وفـي المطعم أكـلت ما حُرمت منه فوق, وقبل أن ارشف أولى رشـفات اللبن الرائب , جـاءني الخـادم بـأدب.
    - هناك من يطلبك على الهاتف.
    - ! ! ! .. خير؟
    من بين دهشتي, وتساؤلي, وأفكاري الفزعة التي ذهبت بعيدا حيث أبنائي وبناتي وأحفادي الأشقياء, أتاني صوته الرنان عبر المسماع قائلا كمن ظفر بمجرم عتيد:
    - نزهة قصيرة .. هـا؟ حسابك ( بعدين ).

    ***

    عـدت الى الفندق والحجرة المجنونة في العاشرة والنصف مساء ..

    وقت جميل قضيته ما بين زيارة قصيرة لصديق قديم, أو دوران – دون دخول – حول بيتي الدافئ الحبيب, الذي هجرته بملء إرادتي ثم المطعم القريب من بيتي والذي أدمنت الأكل فيه بعد موت الحبيبة .. عشاء ممتاز تناولته, وأخيرا العودة الى الفندق بغية النوم..

    في سيارة الأجرة تضاربت المشاعر ما بين إحساس بالألم, وآخر بالفرح, وثالث بالوحدة الهادئة المحببة .. كأني أخيرا ارتحت لوضعي وتكيفت معه .. منذ وفاتها, هذا أول يوم أمضيه وقد ملأت الوجوه أغلب ساعاته .. الوحدة يا أحبّه هي الشرّ بكل أنواعه خاصة عند رجل أكمل الخمسون من عمره ..

    قبل الفندق بشارعين, أوقفت السائق ونقدته أجره دون انتظارٍ للباقي الذي هو في أمس الحاجة إليه .. ( يوميا إما العودة بكذا, وإما الفصل أو الترحيل ) هكذا يُهدّد أصحاب شركات - الليموزين- هؤلاء المساكين, والراكب لا يرحم يُفاصل علـى القرش والريال..

    مشـيت مسـافة لا بأس بها, شاعراً بخفة في خطاي التي ملّت الأبواب المغلقة, وقبل أن أدخل حجرة العذاب, ( شفطت ) بطني قليلا الى الداخل, تلقائيا فعلتها قبل أن أدخل بثانية واحدة, بعد ملاحظة ذلك العجوز, فاختفى الكـرش, وضاع بـروزه مع بقية الجسد ..
    " المستبد .. كأني خائف منه! ".
    - السلام عليكم ورحمة الله.
    - تأخرت. ألا تدري كم الساعة الآن؟
    - نعم!؟
    أجاب بصوته الرنّان المُرتجف موضحا لي وهو يعد على أصابعه:
    - استيقظت قبل الفجر - على حد قولك - أي لم تنعم بأي نوم معقول, لا في الصباح ولا في الظهر, بنـاءا عليه يجب أن تكون في فراشك منذ التاسعة مساء.
    - آآآآآآآآهـ.
    خرجت من صدري عنيفة, ولا أدري هـل جاءت ردا على اهتمامه – غير المعقول بي – أم على البيجاما الفيروزي اللامعة التي يرتديها .. نفس الخامة الأولى مع تغيير في الموديل طفيف.

    سماعة الهاتف كانت في يده حين دخلت, فعاد بعد آهتي الطويلة تلك الى أزرار الهاتف, يلمس أرقامها برشاقة تحسده عليها عاملات الكمبيوتر في وطننا العربي, ثم أغلق الخط ..
    لم يفتني انفعاله, ولا نظرة شقاوة سخيفة في عينيه, لكني لم أبدِ أية ملاحظة.
    أعاد الاتصال بنفس الرشاقة وقطع الخط,
    وفي المرة الثالثة سمعت من يصيح على الطرف الآخر (آلو آلو), لكن ميمي لم ترد, أغلقت الخط سريعا, وعادت الى انفعالها واحمرارها.
    - ارحم بنات الناس يا هووه.
    قلتها سـاخرا, متأملا بعين آسفة المنامة الفيروزية اللون .. لكـنه ضحك بصخب أفزعني:
    - لا. هذه حقيقة راحت علينا.
    وأكمل ضحكه الصاخب طارقاً برأسه خشب السرير:
    - رقم لذيذ, لذيذ.
    أنا ما سألت, وما كنت سأسأل , لكنه قال برعونة:
    زوجتي.
    ثم تنهد بحرقة مسنداً ظهره على الجدار, رافعاً رأسه في أسى حقيقي كما يفعل مراهقونا العرب:
    تعرف. أنا من ضيّع في الأوهام عمره .. أحبها كل هذا الحب, وماذا يكون رد الجميل؟ شحططة, ومرمطة, كما هو الحال الآن, لا وأحياناً نُجبر على استضافة أناس من عالم آخر ..

    تغاضيت عن الإهانة التي لم يعتذر عنها بحال لكن أي حب وأي وله؟ في أواخر العمر يهدأ الحب ويبقى هناك عيش هانئ قرير بين الزوجين يسمى تعاطفا, مودة ورحمة, وخوف كل واحد على صحة الآخر .. هذا ما يتبقى, وهذا ما نريده في عمر الراحة والاحتياج ..

    لم يتركني أنعم بأفكاري, هَدَر في عنف:
    كل فنادق مدينة "جدة " عرفتني .. تقريباً في العام الواحد يحدث هذا الأمر خمس ست مرات .. تخيّل!

    لم أعلّق .. الدلع هذا لا يعلم إلاّ الله نهايته .. وبالطبع لم يعجبني عبثه بالهاتف, وأنا أعرف ماذا تعني رنّة جرس هاتف في بيت محافظ بعد منتصف الليل, ولا أحد يجيب كما يفعل هو ..

    تنحنحت ليخرج صوتي واضحاً وهادئاً, وضعوا تحت هادئٍ ثلاثة خطوط:
    - يا أخ رأفت. لماذا اللعب بأعصاب الناس…
    قاطعني بضحكة صاخبة ماجنة :
    - رأفت! هاهاها, أعجبني جداً هذا الاسم, هاهاها ..
    - حدثها وانتهـ
    - هاهاها .. اسم جميل كأنني ولدت به .. تعرف…
    اعتدل جاداً, باتراً, قاطعاً كالسيف :
    لم لا يكون هو اسمي المستعار؟ أغلبية عباد الله لها أسم مستعار بجانب اسمها الحقيقي, دعك من ( سُنسن ) لقد مللته.

    - استغفر الله .. أقول حدثها وانتهِ، هي فرصة, فلربما ينقشع الضباب ..
    - لم ترد. الذي كان يفعل أباها.
    - هو حيّ حتى الآن؟!
    سألته بوجع آلمني,
    سبحان الله! ما هذه العائلة المُعمّرة, ماذا تأكل حتى تعيش كل هذا العمر؟ طبعاً لم أفه بها, لكنه نظر إلي باشمئزاز آلمني:
    - يا أخي لم الحَسد؟ ثم إذا كانت عائلتك ومن صاهرت ينقرضون سريعا, فتأكد أن هذا من حسن طالع البلد.
    - آسف, لم اقصـ …
    - ما علينا. – ألقى رأسه الى الوراء في ضحكة عصبية قصيرة ثم أعاده في دهشة بعد أن ردّد اسمه الجديد ثلاث مرات – :
    يا أخي, أبوها هذا داهية, مصيبة من مصائب الزمن .. حازم وشديد, وكلمته لا تنثني أبدا!
    - إذن تطلبها من أبيها, هي زوجتك على كل حال!

    أجابني بعد وقت بقرف وهو يلف سيجارة بمهارة, لاعقا طرفها الرقيق بلعابه:
    - أنت لا تعرف عمي .. سيقول تعال لنتفاهم, وكما أوصلتها الى هذا البيت تأخذها بنفسك منه و.. و.. كلام من هذا القبيل.
    - عين العقل. من الغد توكل على الله.
    نظر الي شزرا وصاح:
    - لماذا اللعب بأعصاب الناس. كلّمها. أطلبها. صالحها. خذها. ألم تجرب لوعة الحب؟
    ألا تجد لذة في العتب بعد الصلح؟ الآن, والآن فقط, بت متأكدا من سـبب وفاة – المسكينة – السريع.

    وأولاني ظهره اللامع بغضب, وعاد الى الهاتف يعابث أزراره, طالبًا الرقم اللذيذ.


    ***

    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  6. #6
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    في ذات أمسية أعتقد أنها الرابعـة منذ سكني معه, اقترح على أن نذهب الى "السوبر ماركت" ..

    الليلة بالذات لم تكن لطيفة ولا ناعمة .. كانت باردة, شديدة الوطأة على شيخ مليء بالذكريات الحميمة, والقريبة جدا من قلبي في ذلك الفصل المتعب .. لذلك تحججت بالوقت المتأخر, وبموعد نومي, لكنه قال بعصبية:
    - المحل مفتوح أربع وعشرون ساعة, وهو ليس ببعيد, بعدنا بكذا شارع فقط.
    - أعرفه .. كنت أتسوق منه أحيانا مع المرحومة.
    - في الليل؟
    - نعم, وأحيانا قبل الفجر بساعتين.
    - لوحدكما؟
    وغمز بعينيه الاثنتين على التوالي, فأكملت دون أن أفهم:
    - نعم. كل خميس يجتمع الأبناء في البيت, وتطول السهرة, شباب واخوه, وحالما يخلو البيت منهم, نجد أن صلاة الفجر قد أوشكت علينا نحن الذين لا نحب السهر, فننتظرها حتى لا ننام بالذهاب للتسوق.

    كأنني شاهدت مسحة من الخيبة على وجهه طغت على الابتسام الخبيث, وبالفعل صدق حدسي حين أكدها:
    - خيبك الله من رجل .. ولأجل هذا السبب فقط كنت تخرج معها الفجر؟
    - نعم.
    أجبت وأنا لا أريد أن أفهم, ولا أريد أن يذكرني بأيام حلوة مضت ..
    - خيّبك الله. قمْ, قمْ لنذهب.
    - قلت أريد أن أنام. هي رغبة شخصية بحتة وأنت رجل ذوق, تفهم ماذا تعني رغبة شخصية.
    كانت الذكريات قد غزتني, ناعمة, شجية, حزينة, لكنه لم يتركني لها ..
    - لا تركب رأسك , لن نتأخر.
    وقبل أن أعترض مرة أخر , هدّد بإصبعه النحيل:
    ارتدِ ثيابك الى أن أخرج من الحمام.
    وخرج من الحمام في بذلـة رياضية من القطن – ليمونية – اللون, طُعّمت حواف أكمامها وجيوبها وياقتها باللون الأزرق.
    تمعنت في اللون الأخير, كان الشيء الوحيد المحترم في الرجل .. لاحظ نظرتي بزهو, غامزاً باليسرى فقط:
    - أعجبك؟
    - اللون الأزرق لون وقور للرجل.
    - والليموني؟ وأنا؟ يا محترم الزيّ بصاحبه.
    وأمام استنكاره كررت عبارتي بثقة, مصرّاً على الاحتفاظ برأيي هذه المرة, رفعت يدي بثقة كمن يطالب بالكلام, واللون الليموني الصارخ يصبغ الرجل بلون المرض:
    - أرى دائماً أن اللون الأزرق لون وقور للرجال.
    - ترى!
    مصمص بشفتيه, ماطاً السفلى قليلا الى الأمام قائلا بقرف:
    يا سيّد. خذها نصيحة مجانية من سُنسّن أو محمد حسن .. .. لكي تغدو جميلا جرّب كل الألوان, وإذا أصبحت جميلا, حتما سترى الوجود كله جميل ..
    تعرف بالطبع المقولة الرائعة " كن جميلا ترى الوجود جميلا " ..
    الله, الله - قالها وهو يدور حول نفسه كممثلة ناشئة – مقولة رائعة أطبقها بالحرف على نفسي .. أشقائي .. على الحياة …
    ثم أي الأزرق تقصد؟
    سألها بخبث ببساطة عالم عظيم, وارتج علي القول أمام فصاحته:
    - الأزرق. الأزرق الجميل المعروف.
    - الأزرق الجميل المعروف! - قلّد بها لهجتي هازّاً رأسه هزّة العارف وهو يشير بكفّه الرقيقة تأكيداً الى السماء الواضحة خلف الزجاج - :
    - الأزرق درجات .. أزرق داكن, أزرق فاتح, أزرق مُخضرّ, أزرق … داهمت الرجل نوبة سعال نفضته, ثم أكمل صارخاً ضارباً كفاً بكف:
    مصيبة. مصيبة أن تعيش كل هذا العمر وأنت لا تعرف سوى درجة واحدة للون الأزرق!
    ثم ضحك بسخرية مشروخة بعدما هدأ صدره مكرراً مقولتي التي ندمت عليها:
    الأزرق الجميل المعروف,
    ازدادت سخريته:
    مؤكد هو لون جديد لم نفطن له نحن الستة, ومخترعه موجود معي في الحجرة, يا للشرف الكبير!

    الأمر لله من قبل ومن بعد, حسبي الله ونعم الوكيل " .. سلمت بالأمر أمام اللون الصارخ والسحنة المحمرّة من كثرة السعال:
    - اطلب سـيارة أجره الى أن أرتدي من ملابسي أنا الأخر ..

    فـي بهـو الاسـتقبال ألقى بالمفتاح الممغنط الى موظف الاستقبال بحركة شبابية أغاظتني, ثم خرجنا الى التاكسي ..
    - اسمع. لن تركب أية سيارة أجره .. المكان ليس ببعيد.

    نظرت طويلا بغلّ الى البذلة "الليموني" دون أن أنظر الى وجه صاحبها ..
    أفكار كثيرة هاجت في نفسي عن الظلم والمظلومين, وأفكار كثيرة أخمدت .. وكان هو يسبقني بأمتـار ..
    تستطيع العودة – بهذا فكرت – أنت حُر, رجل حُرّ بمعنى الكلمة, الأمر بيدك كما ترى, فقط إحزِم أمرك.. استدر .. خطوات وتجد نفسك تتناول المفتاح من الموظف الأنيق .. اصعد بعدها الى الحجرة .. نَم, أو عش في ذكرياتك الخاصة .. صدقني لن يجرؤ مخلوق على منعك, حتى ولو كـان الفتى "رأفت" ذي البذلة الليموني ..
    ايييه , دائمـا التفكير شيء, والعمل والإقدام عليه .. شيء آخر.
    الحقيقة, وجدت نفسي تتبعه دون كثير ضيق.

    في – السوبر ماركت – الكبير ذي الأنوار البيضاء الغـزيرة انتقى بعناية دقيقة أدوات القهوة التركي .. بن غامق, كوبين مزركشين, صينية وعـدة ملاعق, وأخيرا سُـكر قطع, خيّرني - الديمقراطي العجوز- بين شكله السداسي, وشكل المربعات الصغير, فاخترت من باب التنفيس الشكل السداسي, ربما لأن أضلاعه وتعقيداته أكبر, لكنه ألقى في العربة بالسكر المربع!
    هاهو الإحباط يمشي على قدمين, يأمر وينهى ويرتدي عجائب الألوان ..

    - تُجيد صنع القهوة.
    نطقها اللئيم كمن يقـول: أنت ستصنع القهوة.
    - لا. لا أعرف.
    زمجرت بها بعد إهانة السكر, فزجرني بحزم وعنف:
    - ولد. لم نطلب - كبْسه -, فنجان قهوة فقط .. سأعلمك صنعه حين نعود.
    طقطق شفتيه بلذة:
    تعرف. أعشق القهوة التركية, ولا بأس بالأمريكية, الفرنسية الطازجة دوماً ..
    ثم ضحك باستخفاف شاب:
    أعتقد لو عُصِر هذا الكيان – وكاد أن يقول الجميل أو الأنيق لولا شيء من حياءْ - لنزلت منه لترات من اللون الأسود .. .. أما القهوة العربية للأسف, حاولت تجرعها دون نجاح يُذكر .. تعرف أنها قهوة الشيوخ والشخصيات الكبرى - قالها بحسرة وغيظ - ما علينا, لكن القهوة السوداء أيضاً قهوة العلماء والمفكرين .. ألا ترى ذلك؟
    قلت ببرود:
    - وقهوة المدّعين.
    أغمض عينيه بتفكير مُمسكاً بإناء القهوة الألمنيوم بيمناه في وضع تهديدي:
    - مَنْ تقصد؟
    - …
    - عموماً قصدك لم يكن بريئاً, والمفروغ منه أنه أنت من سيصنع القهوة. قالها بحياد مُدخلا سبّابته في عيني اليسرى.


    مهلا, للمرة الألف ..
    أستطيع أن أقول (لا) بحزم, (لا) على أي شيء لا يرضيني, وأسـتطيع أن أقول (لن) أصنع القهوة .. اصنع قهوتك أنت أيهـا العجوز المتصابي الـ … لكنني مُجبر, ويجب أن تصدقوني على مسايرته لأمرين: الأول كل الشرقيين يقدرونه, ويفعلون به .. احترام السن. أنا مُجبر على احترام سنّه الذي يكبرني بعشرين سنة تقريبا … ولو عرف أن هذا هو السبب الـذي يمنعني عن مقارعته النـد بالنـد, لغضب, ولربما …
    وثانيها: الفضول, وكفى بها من كلمة.

    المهم, رضخت لأنني سـمعت نفسي تسأله بخمول عن إنـاء القهوة, والنار التي ستنضجها.
    - ستجد ما تريد في دولاب ملابسي.
    - لا.
    نطقتها بعفوية متخيلا ألوانا أخرى أكثر ابتذالا مرصوصة بعناية.
    لا, أرجوك.
    - حسنا. سأخرجها لك.
    العجيب أنه لأول مرة يُسـلّم بأمر ما, دون جدال.

    بعد انتهاء الحسـاب, انحنى على عامل الصندوق الشـاب, الذي كان يأكل حبّات من اللوز يقذفها في فمه بين راحة وأخرى:
    - دفعت ثمنها؟
    - لا.
    قالها الشاب سريعا ثم عضّ على شفتيه بحنق, فقال له صاحبي بعقل:
    - أنت مُؤتمن على كل ما في المحل, حتى ولو كانت حبّات لوز بقرش واحد.
    فغر الفتى فاه, وانسحب العجوز مُهرولا الى الخارج بمشـية رياضية يُحسـد عليها, تاركا لي بالطبع ما أحمله.
    عجبت, وآمّـنت بصدق:
    " إلى جانب اللون الأزرق, هناك شيء آخر وقور في هذا الرجل ".


    ***
    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  7. #7
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :


    أيقظني في الليل .. أعتقد في الحادية عشرة – لم تكن المرة الأولى التي يوقظني فيها, وأيضا لم تكن الأخيرة – وإحقاقا للحق, هو لم يوقظني بالمعنى الحرفي المتعارف عليه (هيه, أنت, قم, هزه, رشة ماء على الوجه في حالة المزاح الثقيل) .. لم يكن شيء من هذا, لكنه وقف أمامي زهاء الساعة, وأعتقد أنني – وطبيعي هذا الأمر – قد قضيت أغلب ذلك الوقت في التململ والقلق وهـزّ القدمين بدون وعي, بل وربما أحلام مفزعة الى أن فتحت عيناي.
    رأيته أمامي كشبح, مدققا بصره في شخصي الضعيف المسالم, بشاربه العجيب ذاك, ووجهه اللامع من أثر الكريمات, وبيجاما جميلة بلون السماء الصافية المائلة الى البياض - أو هكذا خيّل إليّ - .. أخيرا هاهو لون معقول.
    - الحمد لله انك صحوت.
    - اووووووووف.
    - أعـوذ بالله منك ومن أمثالك .. ديننا يوصينا حالما نفتح أعيننا من النوم بالحمد, والذكر, والدعاء بالمغفرة, وأنت تتأفف! من أي مِلّة أنت؟
    - ! ! !.

    لم أُعلّق, ولم أجب بشيء .. .. أعرف تماما ما أوصانا به الدين عندما نستيقظ من النوم, أو نفتح أعيننا .. لا عندما نُجبر من جرّاء تركيز النظرات القاتل على الغافلين, على فتح أعيننا, أعرف, أعرف …
    أغمضت عيني, لا حابسـاً دمعة, فمثلي لا يبـكي حتى وان كان على الجروح جروح, لكنني تذكرت استعاذة شجيّـة كان يُرددها عليه أفضل الصلاة والسلام ضمن دعائه الثري ( وأعوذ بك من قهر الرجال ) .. هـذا هو يا سـادة قهر الرجال .. صدقوني, أعرف المعنى الصحيح, لكنه في حالتي تلك, هو بعينه قهر الرجال.

    - تعرف.
    - لا. لا أعرف.
    - ولد. لا تسرع هكذا في الرد, عيب.
    - أعوذ بالله من جميع الشياطين.
    - زأرتُ بها في قوة, فانتفض بعصبية:
    - تثيرني وتقززني بردودك غير المحترمة معي, ومع ذلك تجدني متباسطاً معك .. تواضع؟ نعم, تربية حسنة؟ أكيد, رحمة بأرمل بائس وحيد رغبة في الأجر والثواب من الله؟ مائة في المائة صحيح, ومع ذلك يا سيّد ماذا يكون الجزاء؟ تعنّت, صدّ وهجران, الأول منك والثاني من المدام ..

    لم أجبه بشيء غير التثاؤب والاستغفار وإدامة النظر الى الشارع خافت الإضاءة من نافذة بعرض الجدار .. أما هو فقد تأمل بيجامته ( اللبني ) بكثير من رضا, والتي صحح لي لونها في مناسبة أخرى ( أيها القروي السماوي لون, واللبني لون .. أحمد ربك أن لا ثالث معنا في الحجرة, وإلاّ لكانت الفضيحة ):
    تعرف. لا أنام في الليل إلا وقد استرجعت شريط حياتي كله أمامي, أحلامـ …
    قاطعته بحزم وعيني على الوسادة الباردة:
    - أمر طبيعي. والعاقل فقط من يفعل ذلك .. شريط حياتنا كله نسترجعه أمامنا في هدأة الليل .. ماذا قدمنا لآخرتنا .. ماذا ارتكبنا في دنيانا من معاص وذنوب , منتهزين صفاء الليل وساعة حساب الضمير في ركعتي توبة لله واستغفار وإنابة و...
    - لاااااااإله إلا الله .. يا أخي عيب عليك مقاطعتي هذا أولا, ثانيا أنا لم أقصد هذا المعنى .. هذا الأمر بينك وبين ربك, ورياء منّي حين أخبرك به ..

    لم أرد على أسلوبه المُستفز كاتماً همّي وغيظي ورغبة شديدة للنوم ..
    الذي قصدت من استرجاع شريط حياتي أمامي كل ليل .. هي بقيّة أحلامي التي لم أحققها بعد .. قالها بحسرة ..

    " وهل بعد هذا العمر .. حلم!؟ يا إلهنا الرحيم " بالطبع لم أصرّح بها , وإلا لكانت نهايتي على يديه بمعاونة أشقائه الخمسة .. فقط تثاءبت بقوة كليث قرّروا حبْسه في حديقة الحيوان للفرجة.
    - لا تزأر هكذا عيب, ثم نحن في هدأة الليل…
    - استغفر الله.
    في الاستغفار يا سادة منافع جمّة, أولها ..
    - تصدق - قالها لنفسه بحنان أو هكذا أحسست – خمسون في المائة فقط من أحلامي تحقق …
    فركت عيني بشدة طارداً نوماً كان, عموما فرك العينين بشدة, والصحو المتقطع أغلب الليالي أصبحا عملي الوحيد هنا ..
    والخمسون الأخرى للأسف لم تتحقق بعد, أملي في الله كبير بتحقيقها ولو بعد سنين..
    - تفاؤل تحسد عليه!
    نفض قميص بيجامته كمن يطرد عنه شرّا:
    - " حتى على الموت لا أخلو من الحَسَدِ ", أعوذ بالله منك.
    ثم أمال برأسه جهة المرآة, ناظراً الى وجهه بحسره:
    بالطبع هناك أحلام لن تتحقق .. يا لأقدار الله.
    في صغري كنت أفنّد أحلامي في وريقات صغيرة ملونة .. كل حلم أو أمنية أضعها في لونها الملائم..

    • حلم جوّي في ورقة بلون السماء.
    حك رأسه بغيظ:
    كان حلمي وأنا في العشرين أن أصبح مضيف طيران, لكن…
    آه من لكن,
    الأهل, والعائلة المحافظة و… وكأنني … ما علينا..

    • أحلام عِلمية, وقد كانت كثيرة .. دكتور في الذرّة, طبيب أعشاب, جرّاح في أمراض القلب … هذه أضعها في ورق أزرق داكن دليل الجديّة.

    • أحلام أدبية .. وأولها أن أصبح أديبا شهيرا مثل " دستوفسكي, جوركي, بلزاك, شكسبير, نجيب محفوظ " لا تلهث هكذا لن تحزر بثقافتك الضحلة أياً منهم.
    نظرت إليه بتؤدة:
    - غريبة ظننتك ستذكر " إحسان عبدالقدوس!
    ضحك بصخب:
    - خبيث. فهمت قصدك. لا, أبداً, على العكس تماماً, أنا ضد الزميل إحسان في هذا الأمر .. أنا جداً أحترم المرأة وما كنت سأصورها كما فعل هو .. لقد صوّرها في أغلب أعماله كرغبة, دُمية, كيان مثير لكن بلا عقل .. يا سيّد, المرأة عندي هي أمي وأختي, جدتي وابنتي, مستحيل أن أفعل هذا بها .. يكفي أنّ الله قال عنها وفي مساواتها بنا ( ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف, وللرجال عليهن درجة ) مسألة القِوامَة والنفقة تعرف الآية بالطبع..
    نفض رأسه طارداً الفكرة:
    مستحيل بالطبع .. ماذا كنّا نقول؟ ها.
    أو شاعرا رقيقا مثل "عمر أبو ريشة " لا تقل لم أسمع به .. شاعر عربي سوري شهير..
    تعرف قصيدته الشهيرة، وبالطبع لم ينتظر الإجابة مني،
    رفع رأسه قليلا الى الوراء متقمصاً أداء الشاعر الرقيق, ناطقاً بعدة أبيات:
    ( تتساءلين … على مَ يحيا
    هؤلاء الأشقياء ..!
    المُتعَبون ودربهمْ
    قفر, ومرماهم هباءْ
    الذاهلون الواجمون
    أمام نعش الكبرياء!
    الصابرون على الجراح
    المُطرقونَ على الحياءْ
    أنسـتهم الأيـام, مـا
    ضحك الحياةِ وما البكاءْ
    أزرتْ بدنياهمْ , ولم
    تترك لهم فيها رجاءْ
    تتساءلين .. وكيف أعلمُ
    ما يَروْن على البقاء؟!
    إمضي لشأنك ..
    أسكتي ..
    أنا واحد من هؤلاء! )

    كان الإلقاء بديعاً, ولو لم أكن غاضبا منه ومن الوقت الذي أهدره منّي لهنأته على ذاكرته المدهشة وإلقائه الجيد.
    تنهد هو:
    - كلمات جميلة كما سمعت, وأداء دائماً أحسد عليه .. اييييه, هذه الأحلام الأدبية أضعها في ورق أخضر هادئ.

    • أحلام فنيّة .. وهذه أصوغها في ورق بلون الزهر..
    تنهد بحسرة حقيقية:
    كنت أتمنى أن أكون " عبدالحليم حافظ " آخر .. صوتي لا باس به في الغناء, لكن …
    صحيح باغتتني هذه الأمنية على كِبَرْ, تقريبا بعد وفاته عليه رحمة الله, وكادت أن تفتك بي بعد أن تملكتني كليّاً, لكني لم أجد التشجيع الكافي من الأهل, ولا من الزوجة, ولا من الأصدقاء .. ..
    تنحنح وكاد أن يتحفني بمقطع من أغنية له, لولا رحمة الله التي أذِنت بالآذان الأول .. طقطق شفتيه حسرة وردد قليلا وراء المؤذن ثم أكمل:
    أما في مجال التمثيل فقد تمنيت أن أكون " أنور وجدي " في رشاقة حركاته, وهيام البطلات به, بشعره اللامع الغزير المهتزّ يمنى ويسرى لأقل حركة .. رأيته بالطبع, كان شعره ذاك عقدتي في الصغر .. و"فريد شوقي" في قوته, شجاعته, وفتكه بالأشرار, و"رشدي أباظة" في عنفوانه ووسـامته, و"حسين رياض" في طِيبَته, و"أمينة رزق" في حرارة تمثيلها …
    لكن كما أسلفت .. العائلة المحافظة, الدين, التقاليد…


    تأملت الرجل .. هذه الحياة كلها التي عاشها وما زال يعيشها هذا الصاخب .. مؤكد أشعرته بلذتها بقيمتها, بأنها عزيزة وإلاّ لما تمسّك بها كل هذا التمسك .. عِشق وشعلقة غريبان بالدنيا, يُشعرك أنه شربها حتى العظم!
    وأحلام يُقسم بأنها لم تتحقق بعد!!
    ماذا أعطته حتى يُحبها كل هذا الحب؟
    وماذا يريد أكثر مما أعطته؟
    أيُعقل أنها جرّعته هذه الفانية كأس صفائها رشفة رشفة, دون فقد عزيز, أو خذلان رفيق, خيانة صاحب, مرض طويل, أو حتى صفقة خاسرة؟!


    تثاءبت للمرة التاسعة عالماً أن النوم صيّاد لشخص مثلي, لكنه لم يبال, قال بتفكير:
    - تصدق؟. لم أوقظك لهذا.
    غرق في هنيهة صمت ثم اكتسح وجهه حنان عميق:
    - تعرف.
    بدأ بها بعد تلك الهُنيهة مُفسحاً لنفسه مكاناً عند وجهي, واضعا قدما زرقاء – عفواً لبنيّة - فوق قدم .. أكمل:
    منذ أن قـدمت الى هـنا وأنت تُـذكرني بـ شكّوري.

    لم أسأل من " شكّوري " .. كنت أتلو دعاء الكرب في صدري بعد كل ذلك الهذر عن الأحلام والأماني والأوراق الصغيرة الملونة : " لا اله إلا الله العظيم الحليم, لا اله إلا الله رب العرش العظيم, لا اله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم"
    اختنق به الصدر مراراً وتكراراً .. يُريح الدعـاء صاحبه عندما يخرج بصوت عال .. جداً يـُريح.

    - حتى في لا مبالاتك بالأمور العاطفية تشبهه, كلنا عاطفيون, أنا ومحمد حسين, ومحمد علي, ومحمد إسحاق, محمد نور ومحمد نوح, بينما شكّوري عالم آخر غيرنا .. كأنه قدّ من صخر ذلك القاسي, أحيانا أقول إن نشأته العسكرية في بيت جدي ثم التحاقه بنفس العمل هي السبب في هذا ..
    تنحنح بشده جاليا صوته من أثر السعال والتدخين:
    جدي كـان عقيدًا عتيدًا, رحمه الله .. كان رجلا صارما, شجاعا, لابد أن أحد أفراد العائلة الكريمة سمع عنه, رجل مشهور .. العقيد/ محمد عمر محمد إدريس .. لا تقل لم تسمع عنه ..
    حتى أننا – اخوتي وأنا – كثيرا ما أشفقنا على ابنة الحلال التي سترضى به وبجموده ذاك..

    لا اله إلا الله العظيم الحليم…
    أوجعني الصدر من كبتها في الداخل, بودي لو جأرت بها ثم رفعت جهاز الهاتف القريب من يدي وهويـت به على رأسـه الفـارغ مـن العقل, يقلق منامي مُنتحلا تلك الطريقة الاستفزازية في الإيقاظ, ثم يفرط السـبحة في حديث مُطول عنه, ثم عن اخوته السـتة, وعن شكّوري .. ثم من شكوري هذا, لابد وأن يكون ببغاء, أو قط, أو أي شيء آخر سـخيف.

    للأسف أكمل ما بدأه وابتسامة الذكريات الحانية على شفتيه:
    كنا نسمع لدرويش والحامولـي وبـديعة, ثم لعبد الوهاب, وابتسام لطفي, وأم كلثوم, وفريد, ثم أصبحنا نسـمع لعبدالحليم .. آه من عبدالحليم ومن أغانيه الشجية .. .. هل ذكرت أنّ من أحلامي الوردية أن أصبح عبدالحليم حافظ آخر؟
    طقطق بلسانه مُتلذذاً, لافاً في نفس الوقت سيجارة من سجائره العجيبة:
    آه من عبدالحليم آه .. كنا نتأثر ونسح الدمع من كلمات أغانيه وطـريقة أدائـه لتلك الألحان الصعبة, حتى طريقة لِبسـه لم يسـلم العندليب الحزين من تقليدنا له, البنطلون الضيق والقميص الأبيض والصديري الأنيق بنفـس لون البنطلون, ثم المنديل المُحكم حول الرقبة في ربطة جانبية, والشـعر المُلمّع بالفـازلين في فرقة جانبية أنيقة .. بالفعل كانت أيام جميلة .. كنا نرتدي مثله في أسفارنا الكثيرة مع الوالد والوالدة رحمهما الله, وبالطبع لا نخـرج الى الشارع في ملابسـنا تلك إلا وقد فعلت أمي الأفاعيل بنا, تحصين وأدعية وبخور .. العين حق كما تعرف..
    ايييـه أيام لا تنسى تلك أيام العندليب الأسـمر, لا كـأيام الآن .. الحزن المفتعل, والبكـاء المفتعل, وكل شيء مفتعل في الأغاني ..
    أذكر أن أكبر أبنائي وقتها كان قد ألتحق بالجامعة حينما عرض له أول أفلامه.
    - أظنه محمد توفيق.
    الاسم الوحيد الذي نطقته بصوتي مصادفة أمام شلال الذكريات الهادر, وبسخرية واضحة أراحتني جدا, لكنها لدهشتي صدفت معه حينما نفى ما قلت:
    - لا. هـذا ابني الأصغر, هـو الآن مدير في (…), الذي قصدته هو محمد سِرَاج, بِكْري وفلّة قلبي.
    - لا اله إلا الله العظيم الحليم …
    الحمد لله, أخيرا خرجت من الصدر.
    - كلنا كنا نسمع تلك الأغاني الحسّاسة إلا "شكّوري" لم يكن يسمع, وإن سمع لا يحسّ مثلنا..
    تذكر طبعا ( صافيني مره, خسـارة, بأمر الحب, أنا لك على طول, بتلوموني ليه), كان الحزن يعتصرنا لما يسلطن بها العندليب, لكن هو…
    - لحظه .. لحظه – قلتها هائجاً وأنا أخبط الجدار براحة يدي - من هذا الشكوري الشديد الجاف الذي لا يتأثر مثلكم بالأغاني العاطفية؟ أعتقد من حقي أن أعرف.
    كان السؤال الأخير الذي نطقته بغلّ قبل أن ألتزم الصمت التام, فقال وهو ينظر إلي بحنان بالغ وعينين ترقرقت بالدمع:
    - محمد عبد الشكور .. أصغر أشقائي وأقربهم الى قلبي.



    ***


    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  8. #8
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    كانت تلك المرة هي الأولى التي أوقظ فيها بالنظرات التي لابد وأن تصيب هدفها .. أما المرة الثانية فكانت بـ ـ بالنّهر ـ, ( هيه, أنت, يا سيد ), ومن أجل من؟ من أجل خاطر ابنه .. المرة الأولى "شكوري" شقيقه, والثانية ابنه..

    الوقت ظهرا, وأنا أحب قيلولة الظهر, لكن "محمد حسن" لم يتركني ..

    فتحت عينيّ بكسل, أضف الى الكسل شعور طبيعي آخر حاول هو أن يعودني عليه .. القهر..
    - ابني الأكبر قادم الآن لزيارتي.
    - …
    - هيّا قمْ.
    - ابنك أنت, وليس ابني أنا.
    قلتها بغيظ فصرخ:
    - لا ترفع صوتك علي.
    - حسبنا الله ونعم الوكيل.
    قصدت بها إنهاء هذه المهزلة والعودة الى القيلولة اللذيذة .. الدم لم يغلي بعد في الرأس من الغضب, لذلك سـأعود الى النوم, لكنه لم يمهلني سـوى مدة ارتداء ملابسه واصلاح زينته!
    هـذه المرة لون خرافي لامع .. بيجاما نعم, ليست حمراء ولا في لون البرتقال .. لون عجيب سمّاه لي ( فوشيا ), وأنا رأيته لـونًا طيفيًا داكنًا بعض الشيء .. اللون الصارخ المبتذل يغطي الرجل بالكامل من عنقه الى أخمص قدميه, مما أعطى ظلالا على وجهه حملت نفس اللون.
    - هيّا.
    لم أرد, فقط فتحت عينَيَّ وأبقيتهما على وضعها المؤلم ذاك لكي يطمئن.
    - قم، ارتد ملابسك، وارحمني, ارحمني يا أخي من هذا اللون الداكن الذي قتلتني به يومين كاملين.

    من بين أشواك عينيَّ الملتهبتين من آثار النوم والرغبة فيه, اختلست النظر الى منامتي .. لون بني – رجالي – محترم, قارنتها بمنامته, الفـارق بشع وإن كان – عند الإناث – في صالحه.
    - ذكرتني بمحمد توفيق أصغر أبنائي .. كان مثلك عندما أُوقظه للمدرسة, يظل فاتحا عينَيهِ كالقتيل حتى أدعه وشأنه ..
    - اسـتغفر الله وأتوب إليه, اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني.
    - أنـا لا أدري من أين تأتي بهذا الكلام الكبير؟ ولماذا؟ كـأن هناك من يُسلّط سكيناً على عنقك!!
    - استغفر الله العلي العظيم.
    نفضت عني كسل النوم وقهر الرجال, وقمت الى منامة أخرى جديدة ارتديها حتى يكف لسانه الطويل عني.
    - أعوذ بالله، ما أسـوأ من البني إلا الكحلي .. ما هذه الألوان الجنائزية, الآن فقط عرفت سرّ وفاة المرحومة السريع.
    وقبل أن أفتح فمي مُهدّدا، قال في حيرة:
    - سأعطيك من عندي, وأمري الى الله.
    - لا. لاااااا. لا.
    - لكن أي الألوان يُناسـبك؟

    بالطبع لم يعبأ لـ – لائي – العنيفة .. كانت الحيرة تأكله بالفعل حول أي الألوان يناسب لون بشرتي, متجاهلا الحجم, وكنت أنا قد تنمّرت حتى غدوت سبعا ضاريا .. لكل شيء حدّ .. سيدنا أيوب عليه السلام جأر بها مناديا ربه: "رب أني مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين", فرحمه خالقه إذ قال الرحمن الرحيم: "فكشفنا ما به من ضر" .. .. ثم من هذا الذي يجبرني على هزّ صورتي أمام نفسي أكثر من هذا, وكيف يطيب لي العيش بعدها وأنا قد ارتديت الليموني أو الفيروزي أو البنفسجي الفاتح, ومن أجل من؟! عجوز خليع, أو ابنه الشاب الرقيع الذي لابد وأن يكون مثله, وما أظن بعد ( الفوشيا ) لون.

    - اسمع.
    أمراً حاراً زلزلت به الجدران, ونفضته هو واللون القرمزي الذي كان بين يديه:
    أنا لن أسمح لك بـ
    أُخفض صوتي قسـراً, وبعثر الثقة التي ركبتني طرقٌ مُؤدبٌ حازمٌ على الباب .. .. ألقى المنامة القرمزية بضيق في الدولاب, فاتجهت الى الحمام, واتجه هو الى الباب يفتحه, وقبل أن يفعل, رماني بنظرة حارة, وإصبعٍ نحيلٍ حركه في الهواء:
    - حسابك بعدين.

    أسمع تحيات ناعمة وأنا اقدّم رأسي التي ألهبها الغضب الى صنبور الماء البارد .. .. قبلة على هـذا الخد, وأخـرى على الخد الآخـر, مؤكد لا رأس, ولا يد, ولا يحزنون .. أين هم من أولادي - أولئك الضواري – حرارتهم ولهفتهم في السلام حتى لتكاد الروح تزهق بين يد الواحد منهم .. سـلام حار من القلب..

    شلال الماء الكثيف أراحني وأنعشني .. جففت شعر رأسي بعده, مُسرّحا كالعادة بقليل عناية, على الهامش كما يقولون, ثم خرجت لأجد تلك المفاجأة!

    منظر عجيب سمّرني في الأرض, وتضاربت في رأسي الرطبة أفكار وتأويلات: ( بوليس آداب, هيئه, شيخ, داعية؟ )
    " غريبة ! لمْ أشكُ لأحد!! "
    نعم, زائـرنا أحـد هـؤلاء .. رجـل محترم بكل معنى الكلمة .. وجه أبيض سمح متسامح، وعارض أسود جميل تخللته بعض الشعيرات البيض, وسالفان ناصعان في لون الفضة ..
    كان الابن ربعة في الطول, يرتدي زيّنا العربي, والعجوز بجانبه واضعا سـاقًا على ساق, متفحصنا بغير رضا ..
    التفت الرجل الجميل دهشا الي, ثم نظر الى صاحبي مستفسرا, فأجاب الآخر باقتضاب:
    - زميل سكن.
    ثم أكمل بهدوء:
    أرمل, مسكين.
    نطقها الظالم كمن يقول: فقير مسكين مقطوع من شـجرة, آويته عندي و…و… وهنيئا لك يا فاعل الخير والثواب..
    لم يزعجني ردّه, وان أغاظني قليلا .. مددت يدي مصافحا الرجل:
    - لابد وأنك "محمد مصباح" ؟ في الحقيقة حدثني الوالد عن قدومك و…
    ضحك الرجل, ولم أفزع, كانت ضحكة معقولة.
    - محمد سراج, وليس محمد مصباح.
    احمر وجهي خجلا:
    - آسف, اعتقدت أنك
    - لا عليك, فكلها صالحة للإنارة.
    وضحكنا للنكتة بتفاهم, ولـم يضحك العجوز .. مصمص بشفتيه علامة على عدم الرضا, ثم قال لي بحزم:
    - أرى أن تتركنا قلـيلا, عندي ما أقـوله لـ سراج.

    المُستبد .. حتما سيُصدق الرجـل أنني مقطـوع من شـجرة, وأن أبـاه آوانـي .. لا بأس .. لن أُحرج, ولن أغضب ..
    شددت على يد الرجل الذي أحببته من أول مـوقف ونـزلت , وصوت صاحبي - الإلكتروني- يتبعني:
    - لن تأكل شـيئا في المطعم, سنتغدى كلنا هنا .. مفهوم.

    وفي الليل قبل أن أنـام كنت أسترجع أحداث اليوم .. .. كان الشـريط يقف دائما عند (سراج), آسف (محمد سراج) , ربما لأنه الجديـد الجميل طوال تـلك الأيـام الجافة, والغريب الشـاذ في دائـرة أبيه العجيبة..
    فتى شجاع لم يرضخ لتعنت أبيه في نظام الأكل الذي حاول أن يفرضه علينا, بل طلب له ولي ما نشتهي .. أكلنا بمرح تحت نظرات العجوز اللاذعة لي, ثم شربنا الشاي بعد الغـداء مباشـرة, لا بعده بساعة كما يُريد "لؤي"..

    لـم يتـحدث عـن ملابسـه الملونـة التي تأتيه – طلبية خاصة بالبريد الجوي – من إنجلترا وألمانيا, ولا عن عمليات زرع الشعر التي صدّع بها رأسي, والتي تمت بنجاح في نيويورك, ولا عن منعم الكعبين ذا المفعول السحري و… لاشيء من هذا .. فتى جدُّ طبيعي, بعدما كدت أنسى من هو الطبيعي وغير الطبيعي .. باختصار رجل بمعنى كلمة الرجولة التي افتقدتها هنا ستة عشر يوما.
    تنهدت براحة أو عجب, لم أميّز مشاعري وقتها, لكني ميّزت صوته القلق:
    - نمت؟
    - على وشك.
    وعلى وشك هذه لا تعني في مفهوم أي عاقل سوى معنى واحـد, وأعتقد أنه واضح جدًا, لكنه – سامحه الله - تحدث, وأنتم تعرفون ماذا يعني إذا تحدث "محمد حسن".

    - تعرف.
    - لا.
    كانت اعتراضا سريعا مني.
    - ولد!
    نهرني بها صائحا.
    " كل هذا العمر والشعيرات البيض, وسنينَ تعـدت الخمسين بـشهر .. وولد!! " بهذا فكرت ونغزات الشياطين تدفعني لأن أرد عليه .. ماذا قـال الله تعالى لي ولأمثالـي: " ادفع بالتي هي أحسن ", "واستعذ بالله" .. الله كم هو جميل كلام إلهنا.

    - تعرف.
    كانت (تعرف) الأولى بدايته في الكلام, والثانية دخوله فيه.
    كل أبنائي كوم, ومحمد سراج كوم آخر.
    الحمد لله, أفادتني الاستعاذة فهدأت, وطمأنني الحديث الإجباري أنه عن صديقي محمد سراج.
    - ماذا تعني؟
    سألته وأنا أقصي الوسادة نهائيا عن رأسي, غير مؤملٍ في أي شكل من أشكال النوم.
    - منذ أن شب وهو لا يشبهنا في شيء .. لم يأخذ مني ولا من أعمامه أي شيء .. لا عادة, ولا هواية, ولا ميولا, ولا حتى الشبه!! سبحان الله .. حتى اخوته, صحيح أنه أكبرهم, لكن لم يأخـذوا منه, ولم يقتبس منهم .. فتى غريب.
    - كلامك صحيح. ليـس في الفتى أي شيء منك ولا من أعمامه الذين حكيت لي عنهم .. أعتقد أنه يشبه عمه عبد الشكور, شكّوري؟
    - فعلا – ضرب بيده على ركبتي - الفتى كله شكّوري.
    وابعد الراديو عن صدره, واعتدل في الفراش مفكراً:
    - هـو وحـش صغير .. لا توجد تسمية غيرها, نعم نعم هو كذلك.
    نطقها بتأكيد كمن وجدها بعد تعب, رافعا في نفس الوقت يدا معترضة معروقة وان كانت في نعومة الحرير .. وأمام نظراتي الهلعة المتسائلة, وأفكاري التي ذهبت يمينا وشمال قال:
    ألـم ترَ يديه المشعرتين حينما شمّر للأكل, صدره ووجهه الغارق في الشعر .. قرد بشري ابني هذا .. بصراحة منذ بلوغه وأنا وأعمامه لا نناديه إلا بهذا اللقب.
    - قرد بشري؟!
    - لا. الوحش الصغير.
    اختلست النظر الى يدَيَّ المشعرتين, ووجهي الغارق في الشعر, لابـد أنني في نظره منذ أن تساكنـّا .. وحش كبير.
    قلت مدافعا عنه وعني وعن أغلب الرجال:
    - منذ فترة ما رأيت وجها ولا هيئة ولا مهابة تظلل رجلا, مثل التي رأيتها اليوم على ابنك.
    قال بثقة:
    - هذا لأنه في الأصل يشبهني.
    وزفر بملل:
    يا محترم أنا لا أتحدث عن الملامح, مقصدي هو – الديكور – الذي يسجن ابني نفسه وشبابه الغض فيه.

    وأدركت أنه يقصد ملابسه الطبيعية, وشكله العادي الذي يشبه أغلب الرجال هنا في المملكة, واللون الفضي الذي غزا أمـاكن متفرقة من شعره, أدركت هذا سريعا, وبالطبع لم استفهم, ولن أستفهم عن أي شيء آخر .. .. إن لم أمت بحريق، أو غرقًا، أو بحادث سيارة مفاجئ, فلابد أن يكون السبب المؤكد هذا العجوز .. بعصبية وسـرعة أعدت وسادتي الى رأسي مُنهيا كل حديث.
    لن أقول لكم أنه ناداني أكثر من مرة ليكمل حديثه عن (بِكْرهِ), الوحش الذي يشبهنا أنا وشكّوري, ورأيه الشخصي في ثلاثتنا ..
    ولن أقول أنه حاول أن يخرجني في هذا البرد, وهـذا الليل الى السوبر ماركت المفتوح لأبتاع له أحد دهاناته التي نفدت.
    ولـن أقول أنه أراد أن يستفزني لأكثر من مرة برفع صوت المذياع بأغانيه الشبابية التي تهدرها محطات سخيفة في رهبة الليل .. موتتنا الصغرى.
    ولـن أقول أنني قاومته طويلا, وجاهدت بحزم ألا أستجيب لنداءاته, محكما الوسادة على رأسي, ويسراي كالقيد عليها, حتى نمت.
    نعم. لن أتعبكم بهذا .. فقط سأقول: أعدت الوسادة على وجهي, ونمت.


    ***

    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  9. #9
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :


    كدت أن أؤرخ سرد آخر أيامي تلك, بزيارة ( سراج ) الجميلة لنا, وأقف ملتقطا أنفاس الشيخوخة التي سمّمها رجل واحد .. إلا أن ما حـدث بعد ذلك, أعتقد أنّه يستوجب السرد .. أقلّها لمجرد التنفيس ورؤية ما حدث لي, من قريب .. وهل ( أنا ) ظالم ومفترّ, كما يصرّ ( هو ), أم مظلوم ومفترى عليه؟!


    في ظهر اليوم الحادي والعشرين قدِم الشباب لزيارة شقيقهم المريض!

    صدقوني. صدقـوني لـم يحدث له أي شيء ضار .. حمّام ما قبل النوم المعتاد, ثم طقوس التجميل والتنعيم التي لم أفوتها منذ أن قدمت لأي عذر, أعقبها عطسة خفيفة, عطسة واحدة فقط بدت لي أرحم من عطساته الخاصة بالنشوق, قام بعدها الى النافذة, أغلقها بحزم .. طبعا لم يستأذنني, وأنا لم أعترض .. عوّدني الشقي ألا أعترض, لكنه صرّح بأنها عطسة مرض, بداية مرض .. وقام من فوره يتصل بـ"محمد إسحاق" أحد الأشقاء يخبره بمرضه, وجعل يعاتبه بصوت واهن مريض زهاء النصف ساعة, وقبل أن يغلق الخط أوصاه بالاتصال بزوجته في بيت أبيها وإخبارها بمرضه الشديد!
    واعتقدت - ولا أدري لماذا- أنه سيصدق كـذبته بعدهـا وينام, ينام, ونوم الظالم … لكنه التفت مرة أخرى الى الهاتف الذي لم ينجُ من يده كل ليل, ولا يمل من تكرار رقمه المفضل, كأي شاب أرعن لن يثنيه شيء عن رعونته سوى قدر الله, والمحزن أنه لا يغضب أبدا من إغلاق الخط في وجهه, وان حالفه الحظ معها وغالبا ما يكون بعد منتصف الليل – مؤكد بعد نوم أبيها – يطول حديث كله عتب, وآهات, وذكريات, وأنتِ بدأتِ, وأنت الذي بدأتْ, واتهامات سخيفة لا يمكن أن تخطر إلا على بال مراهق .. وبعد هذا كله يضع السماعة في مكانها ويبتسم ذلك الابتسام الحالم, لي, أو للستارة, أو حتى لذرة غبار سارحة في فضاء الحجرة, وأكثر الأحيان يترك السماعة معلقة في يده وهو لا يزال يبتسم .. .. أما الليلة وبعد أن تأكد من شقيقه أنه أخبرها بمرضه, اتصل بها, وكان العتاب كله عن مرضه وحاجته لها, وقد قام قبلها بحركة سخيفة لا أدري من أين تعلمها هذا الشقي .. أخذ عدة طبقات من المناديل الورقية وغطى بها الثقوب الدقيقة المسؤولة عن إيصال الصوت, وبالطبع تغيّر الصوت وهلع القلب - الآخر- الصغير.

    المهم أتى اليوم, وقدم الشباب الخمسة لزيارة شقيقهم الأكبر..

    أحسست بإحباط شديد, وتأكدت من أنني سأكون كمّا مُهملا طوال وقت زيارتهم, مادام العاقل الوحيد لم يأتِ معهم, وبالفعل كنت كذلك طوال مدة زيارتهم له, كمّا مهملا, أو وحشا كبيـرا بشعر الرجـال وملابس الرجـال المحترمين .. .. وخمس علب من الهدايا اختفت تحت أغلفة صارخة الألوان .. كل فتى يحمل في يده علبة, والأحجام تختلف, والألوان - آه من الألوان - أيضا تختلف..
    " ألا ليت الشباب يعود يوما, فأخبره بما فعله "محمد حسن" واخوته الخمسة فيه " .. فقط تخيّلوا يرحمكم الله, أن كل هؤلاء الخمسة هم أكبر سنّا مني.

    نعم, هم فقط خمسة بثياب رقيقة ما بين صفراء وبيضاء, شفافة طبعا .. القامات متقاربة جدا, فكلهم أقل من ربعة .. "الفانـلات" ولله الحمد طبيعية, وأغلبها نصف كم – نجوا مـن تأثير شقيقهم ذي الفانلة الشبك – صرعة الثلاثينيات من هذا القرن..

    كـنت أرقبهم بعين صقر ظنوه في قيلولة .. (الغتر)عجيبة بعض الشيء, لكن لا بأس من التغيير .. مـاذا يضرّ لو كانت الغترة البيضاء مطعمة حوافها بخط أخضر عريض, أو خط بني مثل (محمد حسين) أو ازرق مثل (محمد إسحاق), أو أصفر مثل … مهلا ماذا أرى؟ تـوأم! لم يخبرني (طلعت) بأن لهم توأم, حتى لتقول أنهما سيامي من شدة التصاقهما في الشبه .. توأم بغترتين: بيضاء وحواف صفراء فاقعة, مـاذا يضرّ؟ .. أظنهما واللـه العالِـم (محمد نور, ومحمد نوح) .. .. نعم أقول ماذا يضرّ لو ارتدوا هذه الألوان, ومشـوا عصبة في شارع عام, أو بهو فندق ضخم؟ الناس - وخاصة محمد حسن وأشقائه – لهم ما يحبون ويشتهون ويفضلون, لا ما يفضله وحش كبير مثلي ويراه لائقا..

    الأحذية (ماركات عالمية), وأنا رجل يفهم كثيرا في نوع الحذاء .. الألوان لابأس بها, أربعة أقدام بحذاءين في لون الحليب, وأربعة أقدام أخرى بزوجين أسودين – أظنهما للتوأم- وقدمٌ أخيرة أعتقد أنها لمحمد إسحاق, في حذاء بلون البن العربي..

    الشوارب الرفيعة فقط لم تنجُ من التأثير .. كلهم نفس الخط المستقيم القصير, والشعيرات صرعى على جانبيه كأنها نباتات هزيلة لـم تذق الماء مـن زمن.

    سلّموا على كبيرهم في مرح .. قبلة هنا وقبلة هناك, طرقعة القبلة ترن في فضاء الحجرة كأنهن غادات صغيرات في زيارة صديقة لهن .. (سـلامات, ولماذا لـم تخبرنا بعنوانـك, أو حتى هاتفك لنحادثك يوميا, نطمئن على الأقل .. نحـن اخـوة وأنت كبيرنـا .. أخبارنا .. أخبارهم…).
    مضى الشباب في سرد مذهل للأحوال, كأنـهن (أم أحمد وأم طارق وأم عصام), لا أبا أحمد وأبا طارق وأبا عصام .. وأخيرا التفتوا الى وجودي .. بعضهم سلّم بحماس, والبعض الآخر – وهم الأغلبية – بالكاد مد يده الناعمة المعطرة آلي … وتعليقات كثيرة ظنوها لاتصل الى مسامع الوحش الكبير:

    - مَنْ هذا العجيب؟
    - أعانك الله على وجودك معه.
    - فظيع. من أي عصر؟!
    - عشرون يوما وأنت معه!
    صحح العجوز الخطأ الرهيب:
    - واحد وعشرون.
    وختمها توأم الرابع بقوله:
    - أكيد هو الجحيم بعينه.
    وهزّ صاحبي رأسه في تسليم معيدا المقولة التي أكرهها:
    - أرمل مسـكين, حالما عرفت بقصته, آويته عندي.
    علت همهمات خافتة من الشباب العاطفي:
    - ( يالله .. مسكين .. منذ متى ماتت .. كيف .. أرمل, وحيد .. أجرك عند الله عظيم ). وهذه الأخيرة لم تكن لي, كانت لـ (حاتم الطائي) الذي عطف على الطريد الشريد وأواه عنده عشرين يوما - عفوا - واحد وعشرون يوما.

    فُتحت الهدايا مع الشهقات المختلفة, والفتى سعيد ومنشرح, تطالع عيناه شاكرة هذه وتلك .. أقصد هذا وذاك.

    " لاااااا لاااااا أرجوكم, لا مـزيدا من الألوان لا مزيدا من العذاب لااااا ". رغم ألمي الحقيقي من أيام وكوابيس جديدة قادمة لا محالة, إلا أن صوتي لم يدركهم .. شهقاتهم, وضحكاتهم, وتعليقاتهم على موديلات بعينها منعتهم من الشعور بأي إحساس آخر ..
    ورغم إلحاح صاحبي في بقاءهم معنا لتناول الغداء, إلا أنهم تمنعوا متحججين بزوجاتهم, ومن بقى من أولادهم.
    - (يا بختكم ). قالها المراهق بزفرة حرّة أذابت قلوب الخمسة .. ثم ذهبوا كما قدموا, بوداع القبلات الرنانة .. وبالطبع لم يلتفت لي أحد, رغم استعدادي النفسي لرد تحياتهم بأحسن منها والابتسام لهم, أو حتى الاكتفاء برفع اليد, إذا كانوا لا يريدون أن يسلموا, لكنهم لم يفعلوا.
    لمّا خلا الجوّ, التفت الي بتشف, ناشرا بعض هداياهم الملونة على السرير:
    - انظر. هذه هي الاخوّة .. خوف, وسؤال, حب واحتياج .. ما إن علموا بمرضي حتى كانت قلوبهم قبل أقدامهم هنا .. لا مثلك .. لا سؤال ولا اطمئنان عليك, كأنك سبع هرم, عزله أصحابه عنهم, تجهيزا لإعدامه.

    حزّ في نفسي قوله الأخير, فقلت بخفوت بعد أن استطعت ابتلاع بعضا من ريقي:
    - لم أخبرهم بمكاني.
    - لن تقنعني بغير ما فهمت .. حتى أنا لم أخبر أحـد, لكنهم بحثوا, وسألوا, وأتوا مهرولين وأولهم (سراج) الحبيب.

    قالها الظالم بعنفوان شـرس .. فكدت أن أخبره بالتقاطي لمكالمته مـع ابنه قبل أن يحضر بليلة, وبمكالمته لشقيقه تلك, وكدت أن أقول أيضا أنك معتاد على هجر (المدام) والالتجاء الى الفندق, لمزيد من الدلع والدلال والـ هدايا .. وهم بالطبع قد فهموا واعتادوا هذا الدلع المصابة به أغلب العائلة، غير أني سكتّ .. ودارت في رأسي صورٌ كثيرة تحمل وجوها أحبها .. وجوها غابت, وأخرى موجودة, لكني أبعدتها بيد من حديد.

    - آااااااه من الوحدة, وآاااه آه من فقد الأحباب.
    علا صوتي المختنق في الأخيرة, فلان القلب الشاب خابطاً براحته المرتجفة على صدره:
    - سلامتك من الآه .. قلبي معك.
    قام من مكانه تاركا مذياعه على الأرض, مفترشا معي السرير, آخذا راحتي الساخنة في يده:
    - أنا أيضا فاقدٌ للأحباب.
    قلت وأنا أكاد ابكي:
    - أهلك معك, متعك الله بصحبتهم, أما أنا فقد رحلوا, رحلوا.
    لكنه أنـكر بعنف لا يناسب لحظة الضعف تلك:
    - أبـدا .. مـادام الخصام وشبح الفراق موجودان, فالحال واحد.
    ثم أقبل علي وقد أشرق دمعه, وطفق يحدثني بحنان – ويدي في يده – أحاديث شتى, لم يدخلها لون ولا زيّ .. عجبت, ودهشت, لا من الكلام, فالكلام كثير, لكن من المحدّث العاقل اللطيف, وكدت أن أهيب به ألاّ يعود الى سـابق عهده, غير أني أحجمت .. خنقني الرجل بكرمه, فسكت.


    ***

    ( يتبع )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  10. #10
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    كانت ليلة رائقة نسيت رقم يومها, حدثني فيها قبل أن أنام, بدأها بالطبع بكلمة (تعرف), وتعرف هذه بداية طبيعية لكلام غير طبيعي لم أعد أستسيغه.

    كانت ساعة يدي تقارب على العاشرة والنصف مساء, وساعة يده الملونة ذات الحزام الأحمر تقارب على نفس الوقت ..
    - القراءة فن جميل جداً.
    كان واضعاً كعادته ساقاً على ساق, ولم يكن بيده كتاب ولا صحيفة .. فقلت بتهور مقصود:
    - تقصد هواية جميلة؟
    هزّ رجله بفتور متأملا منامتي البيضاء ذات الخطوط الرمادية بقرف:
    - بعض الناس محسوبون على الفن والطرب, وبعضهم – وهنا تأملني بنفس القرف – محسوبون على الثقافة, وبعضهم وهم الأغلبية محسوبون على البلد نفسها..
    لم أعلّق..
    كان اشمئزازي من كلامه وأفعاله وأزيائه قد بلغ حدّه في نفسي .. .. ربما كان خافتاً مؤدباً تلك الأيام, لكنه اليوم أطل وارتسم على وجهي بوقاحة ووضوح .. .. ولما طال الصمت بدأ يتأوه:

    - آه ..
    آآآآآه ..
    آآآآآآآه...
    خرجت الأخيرة ممطوطة طوييييييلة, من صدره ضيّق الأكتاف .. .. كنت أتأمله بهدوء متابعاً ملامحه بعد الآهات الكاذبة وهي تتخذ شكل الحزن .. .. أسند ظهره على السرير ماداً ساقين كأعواد (البامبو) مكسوتين بسروال بيجاما حرير كثيرة الألوان تزيّنه نباتات فاقعة الصُفرة من زهور دوّار الشمس المعروفة ..
    فجأة انتصب ظهره, تبدلت ملامح الحزن في وجهه الى عتاب حاد:
    - أنت عديم الإحساس, خالي من الإنسانية.
    باغتني التغيير السريع الذي طرأ عليه, وتذكرت اسم "أمينة رزق" في إحدى أمانيه ..
    - لماذا تقول ذلك؟ سألت ببراءة
    - أتأوه بصدق آهات موجعة تمزق نياط قلب أقسى الناس, ولا تفعل أو تقول شيئا!
    - أقول ماذا؟
    - أي كلمة مواساة .. يا أخي أنا إنسان .. إنسان .. "بلوعة صرخ بالكلمتين الأخيرتين ثم أكمل":
    وحين أتأوه أو أتنهد أعتقد من حقي أن أسمع أي كلمة طيّبة تخفف عني.

    "لا حول ولا قوة إلا بالله, أظن الرحيل قد آن .. نعم آن الرحيل من هذا المكان"..
    بهذا سلّمت في صمت, لكنه هَدَر كآلة صدئة عنيدة قابلة للتشغيل, فاتحاً أزرار قميص بيجامته العلوي – مُوهمني بالاختناق – والذي كان هو الآخر على شكل زهرة دوّار الشمس:
    - أين الأحبّة, أينهمُ؟
    الكناريْن, الأنيق, الوسيم, والـ
    آه, ما جدوى الكلام الآن؟
    "حزرت من يقصد بالكنارين, لكن استعصى علي نفسي تحزير الآخريْن"..
    حالما أنطق بها, الكل يسارع بأصدق العبارات وأشجاها: "سلامتك من الآه يا أخانا" ويسارع أشفهم واضعاً يدهُ على قلبي ليقول لي بأسى حقيقي: "عسى هذه الآهة في قلبي أنا"..
    أين أنت منهم؟
    ثم نظر الى النافذة التي أمامه, هادراً بشطر أظنه للمتنبي:
    ( أمّـا الأحبّة فالبيداء دونهمُ ) .. ظل يردده الى أن هدأ..
    نظرت بدوري الى زجاج النافذة الشفاف لمدينة عمَارها ملايين البنايات, حتى أن بين كل بناية وبناية .. بناية.
    حالة الاشمئزاز داخلي – مما يحدث أمامي - تحولت الى قرف كبير, وحالة القرف أضحت كابوسا لا يُطاق..
    وممن؟
    غصتني العبْرة وأنا لا أرى سوى مهرّج كبير في السن.

    - تعرف.
    دبّ في جسده الضئيل نشاط مفاجئ, وأنا أصبحت أعي ما وراء (تعرف).
    - مـ ا ذ ا؟
    بالكاد وجدت الصوت لينطق بها..
    أجاب وهو يتأمل بيجامته الفاقعة الألوان بإعجاب:
    - ما عرفنا زهور "عبّاد الشمس" إلاّ منه, عليه رحمة الله.
    قلت مصححاً:
    - زهور دوّار الشمس, فالله وحده هو الواحد المعبود في هذا الكون.
    - اوكي. اوكي - اعترض بيده الناعمة يُسكتني - زهور دوّار الشمس, ما عرفناها إلاّ منه عندما خلّدها في لوحته الشهيرة .. .. تصدق, قدّرتْ الآن بالملايين وهو الذي توفى دون أن يجد ما يأكله .. عليه رحمة الله.
    - مَنْ ذا الذي تترحم عليه؟
    سألته بفتور, فشهق بهلع من جهلي:
    - "جوخ, فان جوخ" يا أحمق .. ظننتك على عِلم بحديثي, خاصة وأنا ألبس ( مُصغّر كربوني طبق الأصل ) من لوحته الشهيرة.

    تأملت المنامة الحريرية المفزعة الألوان والتي كنت متأكدا من أنها إحدى أسباب صداعي الليلة, سائلا في قلق:
    - وهل لوحته الشهيرة التي تُقدّر بالملايين على هذه الشاكلة؟
    انتفض كمن قرص:
    - ما بها هذه. ها. ما بها؟
    - لا شيء فقط ناعمة أكثر من اللازم.
    هدأ أخيراً:
    - يا أخي كادت الجيرة أن تُحال الى نار.
    لم أعبأ بأسفه:
    - تقول "جوخ" وتقول عليه رحمة الله .. أتترحم على مشرك بالله؟
    ارتجف بعنف هذه المرة قاذفاً وجهي بسعلتين حارتين:
    - يا سيّد. كلنا مرحومون بإذن الله .. كلنا علينا رحمة الله .. "ديانا" مثلا حينما قتلتْ هي و"دودي" كلنا ترحمنا على شبابهما الغضّ, رغم أن الأولى نصرانية, والثاني مسلم, لكن رحمة الله واسعة .. أتتأله على الله .. أتتأله عليه؟

    أمام الوجه المحتقن, واللعاب المتطاير, ورجفة الصوت الرنانة, أجبت بجمود:
    - أنا لا أتأله على الله, لكنها قناعة بما قاله الله في كتابه: ( إنّ الله لا يغفر أن يُشرك به, ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ), وقال عن الدين المقبول لأمّة محمد عليه الصلاة والسلام: ( ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يُقبل منه, وهو في الآخرة من الخاسرين ).
    سكت قليلا أمام كلام الله، ثم قال بعناد, لافاً آخر سيجارة له في ذلك الليل:
    - رحمة الله واسعة وأنت لاتدري شيئاً عنها.

    أطفأت المصباح الصغير المجاور لي, مُعطياً الرجل ظهري كإشعار مُسلّمٍ به بالسكوووووت, بعد كل هذا الحديث الذي لا مناسبة له سوى ألوان بيجامة قبيحة يرتديها رجل جاوز الستين بكثير..

    - تعرف.
    قالها وهو يكح استعداداً لحديث آخر:
    - استغفر الله العظيم.
    - لقد قطع أذنه وأرسلها دامية الى حبيبته.
    انقلبت كحوت على وشك الإغماء الى الجانب الآخر .. .. لن يمضي هذا الليل دون دعاء حار عليه .. .. طالعتني سحائب دخان أخفت عنّي سحنته:
    - مَنْ؟ دُودي؟
    - لا. جوخ .. تخيّل يستأصل جزءاً مُهماً منه فِداءاً لحبيبته! .. لا تقنعني بحكاية مشاجرته مع صديقه الحميم وتأنيب ضميره وكل ذلك الهراء الذي قيل, الحكاية التي تقنعني وتسعدني أنه قطعها فِداءاً لحبيبته.
    بالطبع لم افهم منطق الاثنين, صاحبي وجوخ، ولا أدري لم هذا الإحساس بأن الليل لن يمضي على خير معه .. .. تساءلت في عناد هذه المرة:
    - لماذا يقطع أذنه ويبعثها لها؟ هل كانت بأذن واحدة مثلا حتى يبعث بأخرى لها. مواساة؟ ترقيع؟
    فتح فاه على آخره, ممسكا قلبه بيده على طريقة يوسف وهبي:
    - آه. آه. آه .. قاتلك الله .. أتريد أن تقضي علي .. يا أخي إفهم, يا عديم الإحساس افهم .. أرسلها تعبيراً عن حُبه لها.
    - ولِم هذا العذاب؟ - قلتها بصدق ووضوح - أعتقد لو طلب يدها .. تزوجها .. لكان خيراً له ولها..
    ثـم مـاذا ترجي هي من أذن مقطوعة مُرسلة في كيس أو علبة غارقة في الدماء؟ وكيف ستنظر المسكينة بعدها بعين العشق التي تحب أن ترى كل شيء جميل, الى رجل بأذن واحدة؟!
    - اسكت. آآآه. أسكـ
    اختنق الرجل حقيقة بها, ممسكاً قلبه وحلقه, مرتعشاً ارتعاشات كثيرة غريبة..
    - الهاتف .. الطبيب .. الطبيـ
    وأمام ارتعاشاته التي ازدادت بشكل واضح اتصلت بإدارة الفندق التي بعثت لنا بطبيبها الخاص الذي ما إن رأى الفتى حتى حقنه بمهدىء خفيف, وقبل أن يغادر الحجرة التفت الي شارحاً, مطمئناً:
    - انفعال زائد, شراهة في التدخين, أعصاب, وهذه ضعها جميعاً في خانة كبار السن, ثم أكمل بتظرّف:
    وأعتقد أن لألوان البيجاما دور واضح في تعب أعصاب الوالد.


    ***


    (يتبع)

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  11. #11
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    آمنت بالله وحده, ثم بالقول الحكيم الذي يقول: "من ترك داره , قلّ مقداره" .. بالفعل قول حكيم يجرح ويطعن ويصيـب بـلا أي سلاح ..

    قـول جميل أكملت عليه سطرا من عندي, أرجو أن تنظر له الأجيال اللاحقة بعين الاعتبار: (ويستأهل ما يأتيه جزاء استهتاره) .

    نعم. أنا استهترت بمشاعر أبنائي وأحبتي, ابني البكر وزوجته السمينة لماذا لم أبقِهِما عندي, لِمَ لمْ أتمسك بهما؟ والأهم استهتاري بكرامتي التي كلما صاحت في وجه (محمد حسن) أخمدتها بالعقل وطيب الكلام, وبحجة واهية (احترام السن)!!

    رجاء حار: دعوا التساؤل جانبا, واسمعوني لأنـي قـاربت عـلى نهـاية حكـايتي مـع الشاطر (محمد حسن)..

    في اليوم الثامن والعشرين – بعد تعبه ذاك بستة أيام - عدت الى داري تاركا يومين خلفي, بلا وداع, ولا احتفال كبير ولا حتى صغير, لا وعد بلقاء, لاشيء مطلقا من كل هذا..

    طردت شرّ طردة نتيجة ضغط إجباري, ومؤامرة دنيـئة حاكها السـيد العجـوز مع التؤام و… المدام.

    الحكاية بدأت قبلها بيوم, ورغم أني سمعت كل شيء إلا أنني لم أفهم إلا بعد ليلتين كاملتين..
    المدام يا سـادة مدعـوّة الى فرح فـي صالة (…), وبالطبع تصفيفة شعرها وأصباغ وجهها لن تُسوّى إلا في صالون (…) .. .. وبرقت عينا العجوز وهو يحادثها بعد منتصف الليل:

    - نتقابل بعد الفرح؟
    - …
    - إذا قبل حضورهم بساعة.
    - …
    - لا . اطمئني سأختفي خلف السيارات الكثيرة.
    - …
    - نعم. نعم قبلها بساعة, أما عني سأكون مزروعاً هناك من العاشرة .. كم (زيزي) عندي؟

    امتعضت , أعرف جيدا الاسم الحقيقي تحت هذا الاسـم المائـع: (زكيه, زينب, زهراء ), وأكمل المراهق:
    - كل انتظار يهون من أجل…
    وهنا خفت صوته, هامسـا بكلمة أو اثنتين, ناظرا الي شزرا.
    ثم ألقى بسؤاله العجيب الذي لم اسأله في حياتي زوجة ولا ابنة:
    - أي ثوب سترتدين؟
    - …
    - لماذا (التركواز؟) .. ما رأيك في الأبيض ذا الإزار اللول, والياقة الدانتيل؟).
    - …
    - بالعكس, ستبدين رائعة .. الأبيض (مَلِكْ) الألوان.
    - …
    - ولا تنسي العقد اللؤلؤ هدية المرحومة.
    - …
    - وحذاء أبيض .. إذا كان سـادة من غير (نقشة أو فيونكة), الصقي عليهما فص أو فصين من اللول .. صدقيني ستكونين نجمة الحفل.
    - …
    - مع من ستذهبين؟
    - …
    - الحمد لله. والعودة؟
    - …
    - لا .. فظيع .. لماذا لا يكون السائق أيضا في العودة؟
    - …
    - يالله .. فظيع عمّي هذا.
    ولم تنته المكالمة, هدتني أنا الحسرة على الوقار, فأنهيتها في النوم .. يا ضيعة الشيب والعمر!

    حقيقة كنت أظن إجازتي هـذه ستجعل فِـكري في تبلّد وخمول – وهذا ما أردته لنفسي – لكن العكس هو الذي يحدث, الفِكْر جدُّ مشغول بمقارنات رهيبة بيني وبينه .. في الشكل, في الحديث, في العادات, في المعاملة, حتى في المكالمات الهاتفية.

    لمّا حان الفجر خرجنا سوياً الى المسجد القريب. عجبت من أمره, دائما ينام عن صلاته في الدقائـق الأخيرة, يُصليها في الحجرة ثم يُتحفني بموشحه القديم: ( يا أناني, لماذا لم توقظني, ذنبي في…).

    أما اليوم فهو نشـط, مرح, عابث, شقي .. صعبة جدا على النفس شقاوة الشيوخ, كملعقة دواء مرّ بالكاد تتجرعه .. وعطر باريسي يسبقه بأمتار, وبذلة رياضية فـي لـون زهور – الليّلك – أهداها له ذلك الظالم (محمد علي).

    - خير؟!
    - خير.
    أجاب كطفل في العاشرة يكتم سرّاً, ونوازع الطفولة التي لازالـت فيه تُجبره على البوح به.
    - يعني لم تنم؟
    - بقي على الفجر دقائـق, قلت لا نوم. وابتسم ابتسامة غامضة, متفحصا بتلصص جانب وجهي .. عموما هو لم يسامحني أبداً على ذلك اليوم الذي ختمناه ( لجهلي الرهيب ) كما يزعم, بإبرة مهدئة وطبيب..

    - اليوم خميس.
    - نعم. هو الخميس.
    - ما رأيك - قالها بمرح مصطنع - لو تجتمع بأصدقائك, أبنائك و تعيد سهرات زمان في أي مكان تختاره, حتى لو كان تحت، فـي بهو الفندق .. الحجرة صغيرة كما ترى, ولن تكفي لهذا الغرض.
    أجبت بصدق مُحبطاً مرحه ذاك:
    - تعرفني لا احب السهر.
    نطقتها بطيب وابتسام, غير أنه عبـس وسـكت .. وتوجسـت شـرّا (ماذا وكيف) لا ادري.
    - خير, خير.
    وفـي الحجرة بعد عودتنا ظل ينظر لي نظراته الغريبة تلك .. تارة مباشرة, وأخرى غير مباشرة, وثالثة مباشـرة وغامضة فـي نفس الوقت .. ثم يهب بنشاط مُرتبا المكان, مبدلا قطع أثاثه الأنيقة .. تلك هنا, وهذه هناك, ومقعدي ومقعده المصنوعان من خشب بني جيد, ولباس في لون (الخربز), شكّلهما في نصف دائرة, زارعاً خلفهما الطاولة الصغيرة التي ثبت على سطحها جهاز الهاتف, ومنبهه الأحمر الصغير..

    هببت لمساعدته, لكنه نهرني وألزمني بالنوم, ثم اتصل بالاستقبال طالباً في همس سلة كبيرة من زهور البنفسج في ساعة معينة من يوم غد, لم أتبينها لخفوت صوته .. بعدها بثوان أعاد الاتصال مُغيراً النوع الى الورد البلدي الأحمر, وفي ثالث اتصال استقرّ رأيه على خليط من اللونين الأصفر والأبيض.

    - خير. لمن الورود؟
    - أية ورود!؟
    نطقها بإنكار أرعبني, واللون الليلكي الذي يرتديه يفعل بلون وجهه الأفاعيل, في الظل والضوء.
    - سمعتك تقول…
    - ها. هي هدية لصديق.
    - مريض؟
    - أعوذ بالله من شرّ لسانك.
    والتزم بالصمت, ناسيا طقوس التجميل التي عوّدني عليها في هـذا الوقت, أو أنـه أجّلها إلـى أن أنام.

    انشغل في دولابه الملون, ناثراً محتوياته على الأرض, جالسـا بجانبها يطويها طيّا دقيقا, حتى بدت كقوالب صابون ملون. بالطبع لا كلام ولا مشاركة, ولا ذكريات عن شكّوري وأشقائه الآخرين .. فقط نظرات متسلّلة حاقدة الي من حين لآخر .. ونمت وفي قلبي يقين بأني لن أرى هذا الرجل بعد اليوم..

    في العاشرة صباحا تناولت فطوري راضيا, الفتى نائم, والحجرة مشرقة وجميلة بكل ما في هذه الكلمة من معنى .. يداً مدرّبة أعادت إليها الحياة..

    اييييه بقيت لـي أيـام ثلاثة وأغادرها – مؤكد – الى غير رجعة.

    مسحت بعيني طاولة الزينة التي استأثر بها كـل تـلك الأيـام, ومـا عليها من أدوات كثيرة تخصه وحده .. .. ضحكت في سري وأنا أتأمله: شـاء العلي القديـر أن أرى (عينة) من البـشر لم أكن لأصدق أبداً – أنها موجودة – لو حكوا لي عنها .. بأُم عيني شاهدتها, لم يخبرني أحد .. في الحقيقة لم تكن عينة واحدة .. ست عينات وان كانت متلاحمة.

    قدم الظهر الذي قطعت أغلب الوقت الذي قبله في تأمل المارة من النافذة العريضة .. سـبحان الخالق, لا أحد في "جدة" يمشي على قدمين! الكل راكـب, والمنبهات بضجيجها تقرع القلوب قبل الآذان .. في عمر قديم, نُوّمت في مشـفى حكومي بباب شريف بعضكم لابد أنه يذكر المشفى المشهور المزدحم بالخلق وأبـواق السـيارات الضاجّة في ردهاته وغرفه .. أزعجتني أصوات الأبواق المتنافرة والكثيرة في كل وقت, فصحت في (الممرض السـاهر على راحتنا) أن يفعل شيئا, فتأملني مـن بين أهدابه المطبقة على الأخرى في كسـل, هارشـاً رأسـه بغباء ثم قـال: (فـي مشـفى حكومي, وتشترط, عجبت لك يا زمن!).

    أخيرا أيقظته للصلاة, بالكاد سمع:
    - قامت الصلاة ؟
    سـألني بكسل متمطيا بدلع مُقزّز , فأجبت بجفاف :
    - دقائق وتقوم.
    نظر لي بغيظ, ثم رفـع الغطاء الى ما فـوق عينيه, فخرجت بدونه كأغلب الأيـام ولمّا عدت كان قد انتهى من صلاته .. توقعت أن يسمعني الموشح الفريد, لكنه لم يفعل, أختلس النظر الماكر الي ثم عاد الى النوم..
    - ألن تتغدى؟
    - لا.
    - ولا حتى فطرت.
    قلتها بحنان بعد أن تذكرت جهوده الجبّارة في الحجرة ليلة أمس, لكنه – سامحه الله – لم يفهم, غرز نظراته الحادة في عيني قائلا:
    - أنا حرّ. لن آكل. دعني أموت.
    - استغفر الله.
    هذا العنيد من أي معدن خُلق, كلّما قربت أن أفهمه لبس علي أمره .. وفي النهاية أولاني ظهره ونام .. .. وجدتها فرصة لأطلب لي ما أشتهي من الأكل, ورغم همسي للعامل بما أريد, إلا أنني رأيت قدميه الناعمتين تهتزّ في اعتراض, ولم أبال .. هو حرّ, وأنا حرّ, نعم أنا حرّ .. وثلاثة أيام أولها هذا اليوم سأجول فيها وأصول رادّا اعتباري .
    نعم. كنت قد قرّرت وعزمت, دون أن أدري بما قرّره الفتى وعزم عليه.

    - العصر. الصلاة.
    فتح عينيه دون أن ينظر الي, ثم انسابت نظراته الى طاولة الأكل فاحصا محتوياتها كطبيب أغذية متخصص .. ابتسمتُ بتشـف, ففعل مثـلي .. ابتسم ابتسامة غريبة هزتني .. شيء ما في داخلي تبعثر, ودهشت .. هذه الابتسامة غير مريحة, وصمته أصبح لا يطاق, تنحنحت:
    - كنت جائعا فـ …
    كدت أن أقطع لساني الذي نطق .. لماذا اختلاق الأسباب أمامه دائما؟ .. لم يرد, فقط اتسعت ابتسامته أكثر حتى ضاع خط الشارب, واختفت العينان, فبدا الوجه غريبا جدا.
    انفلت الى وضوئي والصلاة, ولمّا عدت كان لتوه قد أعاد سماعة الهاتف الى مكانها.

    بعد صلاة المغرب, عاد يلح علي في الخروج والسهر, فاكتفيت باعتراض بارد متكبر من يدي, وهزّة رأس نافية قهرته .. الحمد لله. أنا الآن ذلك الـرجل المهيب الـذي فقدتـه سـبعة وعشرين يومـا - بصراحة: أعجبت جدا بنفسي -.

    تأملت بسرور سـلة الورد التي أنعشت جوّ الحجرة, مضفية عليها ظلالا ساحرة, تسـاندها إضاءة صفراء خافتة لا أدري من أين أطلقها هذا الحالم .. كانت الورود في لون الشمّام, لابد وأن الفتى غيّر طلبه ذاك للمرة الرابعة بعد أن نمت..

    الغريب أن رغبتي ازدادت في التعلق بالحجرة .. أعرف نفـسي جيدا حالما أتكيّف مـع المكان صعب – على نفسي – بعدهـا انتزاعي منه .. أعانني الله علي يومين سيمران كالبرق..

    كان قد نشر على سريره ثلاثة أردية برّاقة, الأولى قد رأيتها من قبل, أما الأخيرتان فمن هدايـا الشـباب له - سامحهم الله -..
    قلت بتهوّر :
    - البيج . البيج جيدة .
    أجاب ببرود متأففا من جهلي:
    - (الكريمي) دائما رائع.
    مسحت ببصري اللونين الأخيرين .. بنفسجي وأخضر .. البنفسجي معروف, والأخضر هـو الأخضر.. إذا لابد أن يكون (الكريمي) هو البيج الذي عنيت.
    - نِعْم اللون الكريمي.
    قلتها بحماس أملا في طرد أي لون آخر من مخيلته المراهقة, وأفكاره الرعناء , لكنه رفع يدا ناعمة معترضة , قائلا بسبّابتها في تحذيـر واضح:
    - ولد. لا تتجاوز حدودك معي. ثم من قال انني أردت رأيك؟ ها من قال؟
    سكتّ, ولعل شفتَيَّ انفرجتا عن بعضها البعض نتيجة لصدمتي بكلامه القاسي, إذ صاح بعصبية:
    - يا أخي اغلق فمك, حتى دهشتك قروية!
    بالطبع أغلقت فمي بحزم, ومنظري المخزي يطالعني بعين الخيال .. .. ماذا يضرّ لو أبديت رأيي فيما سيرتدي, ثم من يكون هو حتى لا أتجاوز حدودي معه, والأدهى من ذلك: ماذا فعلت؟!!
    كدت أن أترك له الحجرة هاربا الى أي مكان حتى أهدأ, لكنه التفت الي بابتسام بريء, طالبا رأيي –الحقيقي- في الألوان الثلاثة!

    استغربت سلوكه .. إدباره عني وإقباله علي في نفـس اللحظة, وكأنني لوح رصاص لا يشعر ولا يحس .. لا تقولوا هو طيّب, وقلبه أبيض كاللبن, مستحيل. مستحيل!

    نظرته المنتظرة تقول أنه فعلا يريد الجواب, قلت بعبوس, وفي غير ثقة, وبصوت يوشك على الدخول في بحر من الكآبة العميقة:
    - البيـ "الكريمي" .. لون هادئ وكله وقار.
    - لكن الأخضر الزرعي كله حياه.
    - …
    - صخب وضجيج. أنظر الى اللون الحي, تكاد تراه من فرط سطوعه وإشراقه, أصفر! – كان في غاية الحماس والانفعال – والأصفر سـتراه أحمر أو برتقاليا أو أي لون ناري!
    - …
    - هدوء! وقار!!
    قالها بقرف:
    - ما ضيّع المرحومة غيرك يا…

    إن كان الجدار الذي كنت ساندا ظهري عليه أثناء المناقشة والإهانات قـد نطق, فأنا قـد فعلت .. ألجمني الطاغية .. .. إذا لم تكن من سـياستك تقبّل آراء الآخرين بصدر رحب, فلم سؤالهم من الأساس, وإحراجهم, وإحباطهم بهذا الشكل؟
    نعم كنت مُحبطا, وغاضبا, وكدت أن أنفجر فيه بأعتى الألفاظ فأنا في الأصل – ابن حارة لكن الزمن هذبني -, إلا أن الهاتف اللعين حال بيني وبينه .. دائما الهاتف يحول بيني وبينه في لحظات الغضب والتنفيس .. .. كلام كثير بالكاد أسمعه, همس وحسيس كأصوات أفاع خمس .. كل الذي فهمته أن أحد التوأم على الخط.

    (يتبع)

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  12. #12
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :
    :

    وبعد صلاتي الأخيرة كنت عائدا الى حجرتـي في الفندق حين اسـترعى انتباهي – شيئان – في البهو الكبير .. غترتان كلاهما بحواف زرق, وأربعة أحذية في لون الليل, وسُـبحتان صغيرتان في لون قمر الدين, وقلمان مـن الذهـب في الجيـب العُـلوي لكل منهما.

    هذه الأوصاف أعرفها جيدا, ولو اُرتكبت جريمة, وشهد شاهد أن اللذين ارتكباها بنفس المواصفات التي ذكرتها, ودون التطرق الى الوجه والطول والعمر, لأحضرتهما مـن آخر الدنيا, وأنا أقسم (أنهما) من ارتكبا الجريمة, وعبثا بأمن البلد.

    وعلى الفور قاما للسلام علي .. قُبل رنّانة من جهتهم وكلام كثير, ثم جرجرة الى قـاعة الطعام بين نظرات الدهشة من المحيطين بنا, عاملين وزوّار ومقيمن, مـن (الجوز) الـذي معي .. وبهتت كلمات المجاملة بيننا ثم خيّم صمت كثيف, ألزمني بطلب مشروب شوكولاته ساخن لكل منهما, وكـأس من عصير البرتقال لي .. وانتهى الشرب الإجباري, وبقيت نظرتان مبتسمتان, ونظرة واحدة قلقة, متخوّفة.
    - تفضلا فوق. لابد وأن الأستاذ في انتظاركما.
    - لا ليس فوق.
    ورد الآخر مُكملا:
    - كنا هناك ولم نجده.
    - غريب. لم يخبرني أنه سيخرج!
    قلتها بدهشة, فرد أحد التوأمين:
    - والغرفة مغلقة.
    وصدّق الآخر على كلامه:
    - والمفتاح – قالوا لنا – معه.
    - ومفتاحي أنا أيضا ليـس معي, لا أدري أين اختفى بعد عودتي من صلاة المغرب!
    وانفرجت شفاه التوأمين - رهيبا الشبه - بابتسامة مخيفة كابتسامة شقيقهم الأكبر في الساعات الأخيرة التي سبقت وضعي هذا, تبادلا بعدها النظرات, وعدت أنا للقلق..

    سـبحان الله! شبه عجيب في التطابق والتماثل..
    عادة حينما نرى طفلين توأمين نقول: (ما شاء الله, لاقوة إلا بالله) .. غبطة وسرورا ..
    ولمّا نرى شابان بنفس الشكل نقول في عجب وانبهار: (سبحان الله) لكن, عندما نرى شيخين متماثلين في كل شيء حتى في ألوان الأحذية والغتر البيض بحواف زرق, والسُبح القمر الدين, ومتلاصقين الى حد أن إيقاع خطواتهم واحدة, والتفاتاتهم أيضا واحـدة حتما سنقول: (الحمد لله) أو (لا حول ولا قوة الا بالله) أو (لله في خلقه شئون)..

    - ما رأيك فـي نزهة بالسيارة. البحر قريب جدا؟
    - وبديع في هذا الوقت.
    عموما ما كنت لأجيب الا بعد أن يقول الآخر ما يريد أن يقول.
    أجبت في فتور:
    - أنام مبكرا.
    - بدون عشاء! غير معقول.
    ورد (الجوز) الآخر برجاء:
    - نتعشى على البحر .. الأماكن كثيرة هناك وساحرة.
    نظرت الى الجلد المُتغضن في كل مكان وهامة العُمر الموسومة وسْماً عليهما .. (لطيف, ساحر, رائع, بديع, مبهر) .. تعابير لا نقولها نحن معشر الشيوخ, حتى ولو مجاملة .. أغلب تعابيرنا تشتم فيها طابع عدم الرضا عن شيء, والتشبّع المرّ من الحياة, والسـكون والخـلود الـى الراحة مثـل: ( فيما بعـد, لا يضرّ, أراه لاحقا, لا بأس, نعم, لا )..

    وفي السيارة أصرّا على أن أتوسطهما في المقعد الأمامي الطويل - أعتقد من باب الترحيب الزائد - فأقسمت برب الكعبة ألاّ أفعل .. توأم سيامي وأنا بينهما! منظر قبيح جدا, وبالطبع أبدا لن يناسبني … أخيرا قـسموا البلد نصفين, لا بينهما كما أرادوا هُمْ, ولا في الخلف كما أحببت أنا .. في نفس المقعد الأمامي جهة الباب .. وبعد دقائق خمس فقط تلثمت بغترتي خافيا نصف وجهي بعدما شاهدت نظرة دهشة في عين طفلة مرعوبة, في سيارة – جمس – شدّها وهي ملتصقة بالزجاج منظر التوأم المتلاصقين..
    كيف ستنام الليل هذه المسكينة؟

    وفـي المطعم أكلت وشربت, وأكلت وشربت, ثم شربت وشربت وشربت .. عصير, مياه غازية, مياه معدنية, قهوة, شاي, وكدت أسأل هذين الكائنين الدقيقين في الحجم والأكتاف, أين تذهب كل هذه الكميات من الطعام والشراب, أين؟!
    منذ أن قدمنا وهما لاهم لبطنيهما الا الأكل والشرب والنكات السمجة .. وان انتهى أحدهما من الأكل تذكّر الآخر صنفاً قد ذاقه على بلاج كذا ببلدة كذا, وسرعان ما يتحول التذكّر الى واقع أمامنا, فيحضر الأكـل ويقبلان عليه بحماس كبير..

    طـال الوقت, وقاربت سـاعتي علـى الحادية عشرة..
    - أعتقد نعـود الآن.
    - يا رجل , كُلْ.
    وأكمل الآخر:
    - أنت ضيفنا من الآن وحتى الفجر إن أحببت.
    - جزاكما الله خيرا, أعيداني فقط الى فندقي فقد أكلت معكما ما يشبعني لثلاثة أيام.
    قلتها صـادقا ومجاملا, فضحك الاثنان بصخب وفجأة سـكتا!
    - تريد العـودة الى الفندق؟
    - ربما لم يعد شقيقنا بعـد.
    لم تفتني رنة التحدي في السؤال وعبارة الآخر التهكمية:
    - لا يهم.
    - المفتاح معه.
    التفت سريعا الى الثاني الذي أكمل:
    - ومفتاحك – كما قلت – مفقود.
    - المفتاح الاحتياطي للغرف .. حدثت معي مرة في الغرب, وحُلت ولله الحمد.
    - كيف؟
    - أحك لنا.
    وأمام الوجه المبتسم, عفواً .. الوجهان المبتسمان حكيت الحكاية القديمة بفتور:
    - في إحدى سفرات العمل تركت حجرتي بالفندق لثوان فقط , أي وقت وضع بقايا عشائي خارجا على الأرض, وفجأة أغلق التيار البارد باب حجرتي .. كنت حافيا وبملابس النوم, والجوّ صقيع, وبهو الفندق في صخب كما تعرفان الى ساعة متأخرة من الليل, وربما صباح اليوم التالي مما منعني -إحراجا- من النزول .. جلست القرفصاء مستندا بظهري على باب حجرتي, ومسلما أمري لصاحب الأمر, وبعد ربع ساعة فقط يسّر الله لي مسؤول الفندق الذي كان من أصل عربي, كان بالصدفة البحتة يحمل مفتاح الغرف, ففتحه لي.
    وصفق أحد السياميين:
    - قصة رائعة.
    وزاد الآخر عليه:
    - بل شيّـقة, مليئة بالعبر!
    - لماذا كنت وحدك؟
    - أين كانت المدام؟
    حدجتهما بنظرة حارّة أخرست فضولهما, ثم نهضت طالبا سيارة أجرة.
    - نحن نوصلك.
    - شكرا.
    - أرجوك.
    - صدقنا, نحن في طريقنا الى هناك.

    لماذا كل هذا الكرم معي .. النزهة, الأكل, التوصيلة, وهذان بالذات هما من ترفعا عن مصافحتي يوم زيارتهم التاريخية لشـقيقهم, وبالكاد مدّا لي يدين ناعمتين .. لماذا؟!

    قاربت الساعة على الثانية عشرة والنصف وليس هذا طريق الفندق .. أعدت لثامي الى وجهي, ليس خجلا من طفلة أخرى, فلا أطفال في هذا الوقت, الذي دفعني إليه هو كثرة تثاؤبي وأنا معهم.

    الملل, ونسيم "جدة" العليل, والهواء المتسرّب من خلال النافذة العلوية المفتوحة, جعلوني أمد قدمَيَّ على آخرهما, وأريح جـسدي في وضع أكثر استرخاء و و و وأنام.

    أفقت على الثالثة والنصف صباحا .. لازلت في السيارة, والتوأم في حالة همس .. نظرت الى الساعة :
    - الله أكبر - صرخت بها - كل هذا الوقت ولازلنا في السيارة!
    - الحقيقة كنت نائماً فقلنا…
    - قِفْ!
    توقفت السيارة بعنف, واحتكت العجلات بالإسفلت, وتعالى في الليل صرير رهيب .. قفزت منها الى سيارة أجرة كانت بجانبنا.
    - بسرعة, فندق …
    - عشرون ريالا.
    - خمسون. فقط أسرع.
    انطلقت السيارة كالصاروخ الى هناك ..

    في الطابق الثاني أمام حجرتنا وجدت حقيبتي, ومعطفي الطويل, وباقة من الورد الأبيض… وبالطبع لم أفهم .. النوم فالنوم ثم الأسئلة.

    طرقت باب حجرتي بهدوء, ثم بعنف, وقبل أن أستعين بإدارة الفندق فُتح الباب عن هيكل العجوز في البيجاما ( الأخضر الزرعي الذي ستراه من فرط سطوعه أصفر أو أحمر أو برتقالي أو أي لون ناري ).
    - خير؟!
    قـالها بغضب ودهشـة كأنني دخيل لا صاحب حق.

    لم أرد ترفعاً .. أبعدته فقط بحركة حازمة من راحـة يدي إلا أنه – لدهشتي- عـاد الى الالتصاق بمكانه , كأنه فتى الملاكمة البلاسـتيك ذى القاعدة الثابتة والمُصنّع خصيصا للهو الأطفال, ذاك الذي كلما لكمته عـاد بتحدّ الى مكانه .. هكـذا كان العجوز في تلك اللحظة..
    - اِ ب ت ع د.
    كانت عيناي في لون الدم من جرّاء السهر, ومن الغضب .. وكان هو في أبهى زينة ونعومة وإشراق..
    أوقف تقدمي بحركة يد حاسمة في صدري:
    - يا رجل عيب, المدام هنا.

    وقفت في سكون .. يداي تدلتا بفتور الى جانبي, وبصري انساب بزهق الى الأمتعة وباقة الورد الأبيض .. ماذا أفعل بهما تلك اللحظة, هل ستكون لي فراشا وغطاءا؟ .. تتبّع عقلي في خمول أحـداث يوم كامل منذ الاستيقاظ وحتى الآن .. ابتساماته, غمزاته, استيلائه على مفتاحي الخاص, ثم (هجولتي) كل ذاك الوقت مع توأم سمج .. كل هذا كان مؤامرة مدبّرة من قبل الأسرة الفتيّـة..
    رفعت بصري إليه في بلادة وقهر:
    - لماذا, لقد بدأت أرتاح إليك؟
    - …
    - لو صارحتني, تركت لك الحجرة برضا.
    - لا يا شيخ. - قالها بعناد- لو تذكر .. لمّحت لك أكثر من مرة أن تسهر مع الرفاق, تتعشى في الخارج … لكنك كنت كالمصيبة, كالطفل السخيف الذي يجري خلف ذيل ثوب أمه كل ساعات اليوم..
    عموما – وهنا ربّت على كتفي بمودة – تركت لك ما يرضيك, وأيضا يذكرك بي, رغم أني لم أجد في أمتعتك الباهتة ما يغري عاطفي مثلي بالاحتفاظ به كذكرى .. تصبح على خير .. ومدّ لي يدا في طراوة العجين..

    وعند الاستقبال أردت إكمال النصف المتبقي من الحساب, لكن الموظف الأنيق أخبرني أن الأستاذ قد دفع .. وكدت أن أسأله حجرة أخرى قبل أن أسقط من التعب, فقط الى أن يأتي الصباح, غير أن المكان بدا لي كريه جداً.

    جـرجـرت خطاي الثقيلة الى أول سيارة أجرة .. أعطيته عنوان البيت رافضا محاولاته في وضع متاعي في الحقيبة الخلفية.
    - دعها هنا بجانبي.

    زأرتُ بها كليثٍ غاضب .. فوضع الحقيبة بجانبي, وعند الإشارة الحمراء الخالية من الناس والسيارات, فتحتها لأحصي للرجل أجرته..

    في الضوء الخافت شاهدت شيئا ما في لون الدم تصدّر ملابسي المطوية بعناية مبالغ فيها .. شهقت .. أعرف هذا الشيء .. البيجامـا الفوشـيا, ما الذي أتى بها الى هنا؟!
    أشـعل السائق اثر شهقتي مصباح السيارة .. تبينت اللون الساطع في الضوء .. نعم, هي الفوشيا..

    فتحت الباب مستغلا الإشارة الحمراء وخلو المكان من الناس, الى أقرب صندوق قمامة أسـرعت – بحنق وغضب – ألقيتـها فيه .. ولما عدت كانت نظرة السائق لي في المرآة غير مريحة, نظرة كلها شك وتذاكي وفِهمْ .. .. مؤكد رأى اللون الفوشـيا الساطع, وبالطبع لن ينسبه الى رجل, مهما بلغ من ذكاء فلن يفكر, ومهما أقسمت له أنها كذلك فلن يصدق .. لابد وأن يحشر أنثى بريئة في الموضوع, ويشـطح به الخيال لمسميات كثيرة .. لهو محرّم, زوجة ثانية, أو ربما جريمة قتل حدثت في ليلتي تلك, وبالطبع صاحب (الشهقة) هو الجاني, فيشـهر للشـرطة البيجاما كدليل, ويحضر هـو كشاهد … عموما أكره هذا النوع المتذاكي العاقد حاجبيه في جمود..

    - قِفْ.
    عدوت مترين الى الخلف حيث صندوق القمامة الذي خلفناه وراءنا, تناولت اللون المرعب وأعدته بغيظ الى الحقيبة..
    كان جسدي كله يرتجف من عدم النوم, وعيناي في لون الدم, وسأم في نفسي كبير, ورغبة في البكاء أكبر … ونظرات السائق الوطني لازالت بسخافاتها الثلاث مغروزة في المرآة.

    (تركت لك ما يُذكرك بي) .. ونِعْم الذكرى يا شاطر حسن, ونِعْم الذكرى..

    أخيـراً وصلت الى البيت, داري الحبيبة .. وخفّ البـواب الطيّب لملاقاتي فاركـا عينيه ليطير منها النوم .. تعانقنا في حب .. عشرة عمر حقيقية مع هذا الرجل .. أبنـائي وأبنـاؤه تربّوا هنا, ولعِبُـوا أيضا هنا, ثم تفرقت الفروع, وبقي الأصل الذي كان .. أنا وزوجتي, وهو وزوجته. لم أعامله يوماً كمالك بناية, وبوّاب.

    حـاول أن يحمل الحقيبة عني, لكني رفضت، للسن حكمه .. فتحتها وألقيت للسائق بأجرته, ثم تناولت البيجاما وألقيتها بقرف في صندوق القمامـة المجاور لعمارتي, وصعدت الأدوار الثلاث..


    - آخ. المفتاح في المعطف, والمعطف أهديته بمناسبة – فرحة الوصول – لصديق العُمر الطيّب.
    عدت أدراجي نازلا طوابقي الثلاث التي اجتزتها بمعجزة إلـى أن وصلـت حجرتـه, وفي الصـمت قبل أن أطرق الباب, أتاني صوت زوجته واضحا:

    - لاحول ولا قوة إلا بالله .. ماذا تقول .. بيجاما حمراء؟
    - بيجاما حمراء!
    - نسائية؟!
    - ولامعة, ومُتضمخة بالعطور.
    - ماذا جرى لعقله؟
    - ربما تزوّج.
    - لو فعلها, لكانت هنا, فلا زوجة تغار ولا أبناء يغضبون .. ثم لو حدث هذا فعلا لما أضطر الى إلقاء – هذا الشيء – في صندوق القمامة!
    - أعوذ بالله, أعوذ باللّه.


    ابتعدت عن حجرة البواب قاصدا في الخارج هواء نظيفا أملأ به صدري ورئتاي, وصوت البواب يأتيني مُتحسّراً كأنها سياط في الظهر, حسراته تلك:
    - خسارة .. كان رجلا .. وكان على خُلق .. خسارة . خسارة
    .


    ( تمت )

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  13. #13
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    أردت أن أسجل مروري هنا ، وأرحب بك في منتدى الرواية .. لقد قرأت جزئين إذا جاز التعبير .. أعجبني جدا مقدمة القصة ، وفيها من خفة الدم ما يغري بالقراءة .. لكنني سأكتفي اليوم بهذا القدر .. وسأتابع معك باقي القصة الطويلة .


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  14. #14
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :

    غاليتي فايزة..
    كلي شوق لمعرفة رأيك الأخير بها.

    مبارك الترقية مؤكد أنتِ أهلاً لها
    وسعيدة بمرورك وتقديرك.

    خالص الود

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  15. #15
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    قرأت الجزئين الثالث والرابع ، وهذا العمل هو رواية وليس قصة طويلة.. لأن النظرة في الوقت الحاضر إلي الرواية تغيرت .
    لقد ضحكت بصوت عالي أكثر من مرة .. فالحوار بين الرجلين طريف جدا .
    لكن أهمس لك بشييء .. لقد تصورت بطل روايتنا رجل تخطى الستين بعدد من السنين .. فالرجل يا عزيزتي مع سن الخمسين لا يعتبر عجوزا لتصبح الحياة أمامه كالحة .. فالرجل أحيانا في هذا السن يقبل على الحياة كأنه مراهق صغير .. وكثيرا ما انهارت بيوت من أجل أن المرأة لا تدرك هذا .
    وأجد نفسي متعاطفة مع هذا العجوز المراهق .. فكثيرا من أفكاره لاقت قبولا عندي .. فقط إهماله في الصلاة .. أما الملبس فهو حر فيه طالما بين جدران أربعة .
    سأتابع معك باقي الأجزاء إن شاء الله


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  16. #16
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    :

    غاليتي فايزة
    كنت قد سجلت تحت العنوان بأنها (رواية) لكن أحد النقاد أشار بأنها حكاية أو قصة طويلة, فمحوت ما رأيته أنا
    وثبت ما قاله الناقد, والأن كما ترين أعدت المسمى: رواية.

    تقولين: لقد تصورت بطل روايتنا رجل تخطى الستين بعدد من السنين .. فالرجل يا عزيزتي مع سن الخمسين لا يعتبر عجوزا لتصبح الحياة أمامه كالحة .. فالرجل أحيانا في هذا السن يقبل على الحياة كأنه مراهق صغير .. وكثيرا ما انهارت بيوت من أجل أن المرأة لا تدرك هذا.

    ملاحظتك صحيحة مائة % والواقع يؤكدها, لكن البطل هنا (استثنائي) فهو حديث ترمل, إضافة الى إتزان ثقيل وكآبة قديمة في طبعه وعزلة توضحها ألوان ملابسة المحدودة والداكنة ثم تقوقع وارتداد داخل النفس أكثر أمام رؤية العجوز الحي والنابض بالحياة والألوان والأهواء.
    لي زميلة زوجها ثلاثيني العمر - كان صديق لعمي - لكنه بقلب عجوز. ولشقيقتي صديقة تعاني من نفس المشكلة في زوجها.

    بالنسبة للعجوز - لا بد أن بيننا شيء مشترك -, فالعجوز بطبعه ووضعه الشاذ أمام البطل الذي ظن على طول الخط أنه (صح) والعجوز هو (الخطأ بعينه) أحببته وناصرته وضحكت معه أثناء كتابتي للرواية.

    بصدق سعيدة بتفتحك وبمرورك

    ملاحظة: كدت أن أسرق الباقة الحمراء الجميلة لأهديها لك عن طريق الاقتباس لكن وقتي ضاع في محاولات فاشلة.

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  17. #17
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    غاليتي فاطمة
    واضح جدا أن ميولنا مشتركة .. وهناك هوى في نفسي يدفعني إليك .. حتى اسمك حبيب إلي فهو اسم أختى الكبرى التى أكن لها كل حب .
    كما أنك مع ثقافتك العالية جدا ، وأسلوبك الجميل الرائع .. تتمتعين بخفة ظل .. وهناك أشياء نتفق فيها معا رغم مرحنا شعرتها مع قصصك القصيرة .
    أقرأ الرواية على دفعات .. لأن القراءة عبر النت مرهقة جدا .. ولن أستطيع أستوعب كل فكرتك إلا مع آخر الرواية .
    وبالنسبة لتحليلك عن الناس فهم قطعا مختلفون .. وبطلنا على رأيك سوداوي دائما مغلق الفكر .. وكثير ما هم من الجنسين .. بينما الثاني صاحب البيجامة الفضائية كان رجلا لطيفا جدا ضحكت لقفشاته .. أقصد قفشاتك بصوت مرتفع ، مما جعل أولادي يتسائلون عن سبب ضحكي .

    أما بالنسبة للصورة فلك ألف صورة منها .. فقط حمليها على جهازك ، ثم عبر هذا المركز يمكنك نسخها وإليك الرابط الخاص به

    http://www.10neen.com/up/
    هذا المركز التحميل منه سهل جدا .. فاضغطي على كلمة بروز .. فتظهر لك صورك المحملة في جهازك .. ثم اضغطي على كلمة تحميل .. فتظهر لك الصورة بعد لحظات ، ستجدين في الأسفل مباشرة مستطيل أضغطي علي كلمة نسخ .. فيصبح اللون أزرق .. أعملي كوبي بالماوس داخل المستطيل وانقلي رقم الصورة والرابط بلصق في ردك .. ستظهر معك في المعاينة أو بعد أن تصل الرسالة .

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  18. #18
    أديب وكاتب الصورة الرمزية سعيد نويضي
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    العمر
    68
    المشاركات
    6,488
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    بسم الله الرحمن الرحيم...

    الأخت فاطمة بنت السراة سلام الله عليك و رحمته و بركاته...

    قرأت الرواية أو القصة الطويلة على اختلاف تسمية النقاد و أعجبت كثيرا بطريقة الحكي الممزوجة بخفة الظل و كما أشارت الأديبة المقتدرة فايزة فقد انتابني الضحك في عدة مواقف لجمالية تصوير الحدث...لكني لم أتمم بعد قراءتها كلية...

    و للحديث بقية إن شاء الله...دمت مبدعة و أديبة و الله المستعان...


  19. #19
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    سأكتب تعليقي للمرة الثانية علي روايتك ، وأعتقد أنك اطلعت عليه
    الرواية فعلا مكتوبة بجمال وحبكة متقنة .. ويمكن أن تتحول إلي عمل مسرحي بسهولة .. لأن المشاهد محدودة بأماكن ومناظر قليلة جدا .
    هناك تكرار حدث في الحوار وكان لازمة لكل من الرجلين ويعبر عن شخصيتهما ، وكذا التأكيد المتكرر على صفات الرجلين ، وبعض التصرفات .. لكن لم أجد غضاضة من هذا التكرار مطلقا .. فلم أشعر بلحظة ملل .
    ومع المجتمعات المحافظة واالمغلقة نوعا مثل السعودية .. فكتابة رواية هو الصعوبة بمكان .. لأن الرواية التي نالت حظها في أوربا ولدت في مجتمع مفتوح تتصارع فيها الحوادث والشخصيات من الجنسين .. فيكون هذا مجالا خصبا لفن الرواية .
    ومع أن الرواية دارت في هذا المجتمع المغلق ، وبين شخصيات قليلة جدا ، لم يكن للصوت النسائي فيها دور ، سوى هذا الدور الهامشي جدا لزيزي .. ولا أعتقد أنه كان لها صوتا مسموعا .. كأنك تحافظين على خدر المرأة وخصوصيتها الشديدة .
    مع نقص هذا العنصر الذي يعطي للعمل ألقه وحيويته .. إلا أنك بالفعل اجتزت هذه المحنة .. بل كان عملك رائع جدا .. طريف جدا .. برعت فيه وكنت جديرة بلقب روائية قديرة .. حتى النصوص الدينية كنت موفقة فيها غاية التوفيق .. على الرغم من التخوف من دخولها في أي عمل أدبي خشية أن يتحول إلى موعظة .
    أما بالنسبة لسن الرجل فقد كان مناسبا جدا .. فالحوار والأحداث عززت أن يكون في الخمسين من عمره .
    وفيما يخص تقسيم العمل من روائي إلي قصة .. فالنقاد اختلفوا من حيث المدة الزمنية .. فأطلق على القصة التي تمتد أحداثها إلى فترة زمنية طويلة بالرواية .. وهناك نقاد نسبوا هذا المسمى حسب طول العمل .. ونعتبره هنا رواية من حيث الطول حيث أن الفترة الزمنية قصيرة .
    أهنئك على هذا العمل .. قد استطعت التحكم في الأحدث دون أن تنفلت منك .. ولقد سعدت معك جدا وبصحبتك من خلاله ومن خلال تعليقاتك القيمة .


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  20. #20
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الرجاء التزام الوقار - فاطمه بنت السراة

    سأكتب تعليقي للمرة الثانية علي روايتك ، وأعتقد أنك اطلعت عليه
    الرواية فعلا مكتوبة بجمال وحبكة متقنة .. ويمكن أن تتحول إلي عمل مسرحي بسهولة .. لأن المشاهد محدودة بأماكن ومناظر قليلة جدا .
    هناك تكرار حدث في الحوار وكان لازمة لكل من الرجلين ويعبر عن شخصيتهما ، وكذا التأكيد المتكرر على صفات الرجلين ، وبعض التصرفات .. لكن لم أجد غضاضة من هذا التكرار مطلقا .. فلم أشعر بلحظة ملل .
    ومع المجتمعات المحافظة واالمغلقة نوعا مثل السعودية .. فكتابة رواية هو الصعوبة بمكان .. لأن الرواية التي نالت حظها في أوربا ولدت في مجتمع مفتوح تتصارع فيها الحوادث والشخصيات من الجنسين .. فيكون هذا مجالا خصبا لفن الرواية .
    ومع أن الرواية دارت في هذا المجتمع المغلق ، وبين شخصيات قليلة جدا ، لم يكن للصوت النسائي فيها دور ، سوى هذا الدور الهامشي جدا لزيزي .. ولا أعتقد أنه كان لها صوتا مسموعا .. كأنك تحافظين على خدر المرأة وخصوصيتها الشديدة .
    مع نقص هذا العنصر الذي يعطي للعمل ألقه وحيويته .. إلا أنك بالفعل اجتزت هذه المحنة .. بل كان عملك رائع جدا .. طريف جدا .. برعت فيه وكنت جديرة بلقب روائية قديرة .. حتى النصوص الدينية كنت موفقة فيها غاية التوفيق .. على الرغم من التخوف من دخولها في أي عمل أدبي خشية أن يتحول إلى موعظة .
    أما بالنسبة لسن الرجل فقد كان مناسبا جدا .. فالحوار والأحداث عززت أن يكون في الخمسين من عمره .
    وفيما يخص تقسيم العمل من روائي إلي قصة .. فالنقاد اختلفوا من حيث المدة الزمنية .. فأطلق على القصة التي تمتد أحداثها إلى فترة زمنية طويلة بالرواية .. وهناك نقاد نسبوا هذا المسمى حسب طول العمل .. ونعتبره هنا رواية من حيث الطول حيث أن الفترة الزمنية قصيرة .
    أهنئك على هذا العمل .. قد استطعت التحكم في الأحدث دون أن تنفلت منك .. ولقد سعدت معك جدا وبصحبتك من خلاله ومن خلال تعليقاتك القيمة .


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •