آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 22

الموضوع: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها


  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    30/11/2006
    المشاركات
    5,554
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي

    بارك الله فيك
    د. حسين على محمد
    نعم يجب البحث عن دراسات وكتابات المعاصرين الذين قضوا ولم ينشروا اعمالهم القيمة من قبل الدارسين الذين يحرصون على احياء العلوم والآداب

    دمت راقيا


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Iman Al Hussaini مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيك
    د. حسين على محمد
    نعم يجب البحث عن دراسات وكتابات المعاصرين الذين قضوا ولم ينشروا أعمالهم القيمة من قبل الدارسين الذين يحرصون على إحياء العلوم والآداب .
    دمت راقيا
    شكراً للأستاذة الأديبة
    إيمان الحسيني
    على هذا التعليق الجميل،
    مع موداتي


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة
    ما ليس بد من ذكره
    قصة ما بين زمن كتابتها وزمن نشرها خمسون عاماً


    لكي يأنس القاصون بي، ولا يستنكفوا من انتسابي إليهم أورد حكاية هذه القصة، وسبب نومها، ثم إيقاظها بعد نومة طالت قرابة خمسين عاماً:
    كان الإنشاء مادة مقررة علينا في كلية اللغة العربية، إحدى كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وكان الشيخ عبد الرؤوف اللبدي ـ متعه الله بالصحة ـ هو أستاذنا في هذه المادة، وقد كلفنا في أحد الأيام من عام 1378هـ (1958م) بأن يكتب كل واحد منا قصة لم يحدد موضوعها، فكان. وفي الموعد المقرر جمعنا الدفاتر فأخذها الشيخ، وبعد أسبوع أتى بها إلا واحداً هو دفتري. فلما سألته قال: سوف أقرأه في رمضان، وكنا في آخر شعبان.
    وبعد انقضاء شهر الصوم أتى الشيخ بالدفتر، وقد حلاه بثلاثين من ثلاثين، ولم يكن سخيا بالدرجات! وهذا هو سر احتفاظي بهذه القصة، إذ لم أكن أحتفظ بشيء من دفاتر الإنشاء.
    وفي تلك الأيام لم أكن أفكر في النشر لأن أحد شيوخي (وهو محمود فرج العقدة، رحمه الله) قد قال حين سألته عن نشر القصة: إنها كذب، والكذب حرام؛ فنام أصل هذه القصة في القمطر (وحكاية هذه القصة مروية في كتابي «من حياتي»).
    غير أن هناك ما يجب أن تعلمه وأنت تستقبل هذه التي ما بين زمن كتابتها وزمن إعدادها للنشر نحو خمسين عاماً.
    وسألخص لك ما أريد قوله في الإجابة عن الأسئلة الآتية:
    1-لماذا احتفظتُ بهذه القصة وكنتُ أهملتُ جميع دفاتري زمن الدراسة؟
    2-لماذا لم أنشرها في زمنها مادمتُ معجباً بها؟
    3-لماذا أعدها للنشر اليوم؟
    ...
    جـ1-فأما سر احتفاظي بها، فيرجع إلى رأي شيخي عبد الرؤوف اللبدي ـ رحمه الله ـ وقصة ذلك مبسوطة في كتابي «من حياتي».
    جـ2-وأما لماذا لم أنشرها في حينها، فلذلك أسباب منها:
    أ-أني كنتُ أستقلُّ عملي إذا قسته بالأعمال الجيدة التي كنت أقرأها في تلك الأيام.
    ب-أني كنتُ في شغل شاغل بطلب العلم.
    ج-وربما أني لم أفكر في شيء من ذلك.
    جـ3-أما لماذا أيقظتُ هذه القصة من مرقدها في هذه الأيام فلسببين:
    أ-كنتُ إذا ذكرتها معتزا برأي شيخي اللبدي، اتجهت إليَّ أسئلةٌ عن عدم نشرها، حتى أحسستُ شك بعضهم في صحة وجودها.
    ب-أني عندما استنسختُ «من حياتي» على الحاسب خوفاً من اختلال الأفهام في قراءتها، وبخاصة أنها متنوعة الخطوط، تبين لي أن ذلك يمكن أن يحدث لكل ما لديَّ (وهو كثير، ملأ عشرة صناديق كبيرة كرتون): بحوث ومقالات منوعة، إضافة إلى التسجيلات الإذاعية.
    ثم ما كتبته للبرامج الإذاعية مثل «من المكتبة السعودية»، الذي تجاوز الآن عمره ربع قرن، وأربت حلقاته على ألف. وكذا «من مكتبة التراث» وأشياء أخرى، ليس هذا مجال ذكرها.
    وأملي أن آخذ هذه بالترتيب: الأسهل فالسهل، وهكذا.
    أعاننا الله على ذلك.
    لتلك الأسباب عدتُ إلى هذه القصة بعد كتابتها بنحو خمسين عاماً أنفض عنها غبار الإهمال فأنشرها كما هي، لأني لستُ قاصا فأُعيد صوغها، محكماً لغتها وصبغها، بل تركتُها كما كتبها ابن حسين الطالب في السنة الرابعة في الكلية (عام 1378هـ). فإن أُتيح لها أن تتناولها أقلام الناقدين فليستصحبوا ـ مشكورين ـ واقع تلميذ تلك الأيام؛ إذ لا يجوز أن يُحاسب ابن حسين الآن بما كتبه في تلك الأيام التي لها واقعها الثقافي الذي يختلف كثيراً عما نحن عليه الآن.
    ولقد كنتُ في تلك الأيام مُقبلاً على قراءة القصص وأكثرها من المترجمات، مثل «أنا كارنينا»، و«الشقيقتان»، و«الشقيقات الثلاث»، وأشياء أخرى من مثل تلك التي كان الزيات ينشر ترجماتها في مجلة «الرواية» التي أصدرها بجانب «الرسالة»، ثم ماتت معها، ومثل ما كان يُترجم للمنفلوطي مثل «الشاعر» و«ماجدولين» و«في سبيل التاج» و« الفضيلة » ... وهكذا.
    ولم أجف القصص العربية، من مثل ما كان يكتبه طه حسين، ومحمد حسين هيكل، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس.
    ثم صرفتني الأيام عن تلك اللذة الأدبية الجميلة، لا رغبة عنها، ولكن لأسباب ليس هنا مقام ذكرها.
    على أن برنامج «من المكتبة السعودية» الإذاعي قد أعادني إلى القصة مادةً من مواد هذا البرنامج، لأقرأها قراءة باحث، لا مستمتع، وإن لم يكن بين الأمرين شيء من تنافر.
    وإذا كان الشيخ عبد الرؤوف اللبدي قد حلى صدر تلك القصة بالدرجة المُشار إليها سلفاً، فإنه لم يغفل الملحوظات التي جاءت بخطه وتوقيعه في آخر الدفتر.
    ولقد أبقيت على أشياء تغيرت، مثل:
    أ-التوقيت الذي كان غروبيا في تلك الأيام.
    ب-الهاتف الذي يُدار باليد، ويعمل على بطاريتين، والسلطة فيه لرجل المقسَّم الذي كان يدويا.
    ومن الله التوفيق والسداد.
    المؤلف
    أ.د. محمد بن سعد بن حسين
    في: السبت ـ غرة رمضان المبارك 1427هـ.
    الموافق 23/9/2006م.
    بحي النخيل ـ شمالي مدينة الرياض


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الأول
    ليلة من ليالي الرياض


    كان الليل قد مد أجنحته الحالكة السواد، وطوى تحتها تلك المدينة التي كانت في ذلك الوقت لم تبعد كثيراً عن حياة القرية إلا ببعض المظاهر اليسيرة؛ كالحركة العمرانية المفاجئة التي تجتاحها على غير نظام، الهدوء يسود جو المدينة. فلا ضوء سوى بصيص نور المصابيح المعلقة في أهم الشوارع والميادين الهامة، أو مصابيح الكهرباء الصادرة من بعض القصور الملكية على قلتها.
    كادت الساعة تبلغ الرابعة والنصف وكان الظلام يسيطر تماماً على المدينة. والسكون يحكمها إلا من أصوات الحراس والنواطير ينادي بعضهم بعضا، خوفاً من الغفلة أو النوم، وخيول المتجولين منهم تجوب الشوارع والأزقة وكأنها تركل في الأرض الليل بحوافرها لينزاح فتستريح، ولا يشاركها في تلك الحركة إلا أصوات سواقي النخيل التي تحيط بالمدينة، لأن ماكينات الماء لم تنتشر بعد، ولأن يد التقطيع لم تمتد بعد إلى تلك النخيل. وفي فترات قليلة متقطعة تخالط أصوات تلك السواقي أصوات السيارات القادمة من أنحاء المملكة.
    في إحدى السيارات القادمة في تلك الليلة، قدم إلى الرياض شاب مازال في سن الرابعة عشرة من عمره يدعى طارق. جاء ليطلب العلم بها لأنها كانت المصدر الوحيد الذي يمد المملكة بنور العلم والمعرفة ويؤمها الراغبون في العلم من كل مكان.
    لم تكد السيارة تقف في البطحاء حتى صاح قائدها بالركاب : انزلوا لرمي حمل السيارة بالأرض.. نزلوا حاملين ما معهم ثم تفرقوا إلا شخصاً واحداً بقي واقفاً أمام السيارة، إنه طارق صاح به قائد السيارة وقال : لماذا لا تذهب؟ إن السيارة لا يبيت فيها ولا عندها أحد من الركاب.. ممنوع...
    لم يكن طارق في حاجة إلى التفكير إلى أين يذهب. فقد كان ذلك موضع تفكيره منذ أن ركب تلك السيارة. ولكن إلى أين يذهب؟ إنه لا يعرف أحداً هنا.
    فاتجه إلى القائد وقال في صوت قارب الاختناق:
    ـ إني لا أعرف أحداً أذهب إليه ولا إلى أين أذهب. فاسمح لي بالمبيت معك وعند طلوع الفجر أذهب. قال السائق وهو يضحك ساخراً : كل الناس لا يعرفون أحداًِ ويدبرون أنفسهم، ومع ذلك فلا بأس من أن تبيت هنا حتى أذان الفجر.
    ولما طلع الفجر قام طارق وحمل زوادته الخالية إلا من كويسة من التمر تقارب الرطلين أو أقل. وانطلق هائما على وجهه لا يدري إلى أين يذهب هذا المسكين.
    لقد رمى نفسه في مجتمع كان بالنسبة له جديداً مجهولا بعد أن كان يعيش هناك في مجتمع لا يجهل فيه كبيراً ولا صغيراً. هناك في قريته الصغيرة بين أبويه وأسرته، فأفردته الحياة غريباً خالي اليد والجيب، في مدينة يلتفت فيها يمينا وشمالا فلا يرى إلا وجوها ينكرها. يأخذ منه التعب كل مأخذ فلا يجد يداً تمتد لمساعدته.
    وبدأ الليل يطوي ستائره مؤذناً بالرحيل وتبعته الشمس تقذف بشباكها في كل مكان لتصطاد بها أفواج الظلام ثم تقذف بها بعيداً.. وبدأ ضياء اليوم الجديد يطبع ضياءه على الشفاه، فتطفح بالبشر وتعلو وجوهها إشراقة السرور فتحيي ذلك الصبح الجديد بابتسامة فيها الرضى.
    كل هذا وطارق يسير مطرق الرأس، وكأن سحابة من الشقاء المظلم قد وكلت به تسير معه حيثما سار.. إلى أين يذهب هذا الشاب البائس؟ وإلى متى سيبقى سائراً؟ الدنيا صيف، وهاهي الشمس قد ألهبت بسياطها الكاوية وجه الأرض فأحالته إلى جحيم يهري الأقدام الحافية، الناس يفرون منها إلى بيوتهم، او يتفيؤون السقوف التي تظلل بعض الأزقة وبعضهم يلجأ إلى المساجد ليقضي بها ساعات الهجير.
    ومع ذلك فمازال طارق يواصل السير حاملا على رأسه زوادته وهو ينتقل من حارة إلى أخرى، ومن شارع إلى شارع، والعرق يسيل من جسمه غزيراً، كأنما على رأسه فم قربة لا ينتهي ماؤها، حتى إذا ما أجهده التعب توقف تحت سقف من تلك السقوف التي تقام في بعض الأزقة ليتفيأ ظلاله قليلا ثم يستأنف سيره.
    أذن الظهر فلم يكن له بد من دخول المسجد للصلاة فلجأ إلى أول مسجد كان فيه حجرتان إحداهما تحت الدرج الجنوبي للمسجد والأخرى تحت الدرج الشمالي. وأمام كل واحدة منهما حوض مصهرج علقت فيه بعض القِرَب.. وكان ظامئاً، لكنه استحيا من المصلين من أن يروا على رأسه تلك الزوادة.. فصعد بها مسرعاً إلى سطح المسجد. وهناك داخل المئذنة وضع زوادته وفتحها وأخرج منها ثمرات معدودة أكلها، ثم نزل وشرب من تلك القرب ثم انطلق إلى بئر قريبة من المسجد أرشده إليها شخص. فتوضأ منها ثم عاد إلى المسجد ليدفن تعبه بعد الصلاة في نوم عميق وهو متكئ على صندوقه داخل المئذنة. وما راعه إلا سقوط المؤذن عليه حينما حانت صلاة العصر وجاء ليؤذن. فعثر في حذاء طارق وكان أعمى فصاح.. ما هذا؟ ألم تجد مكاناً للنوم إلا هنا؟؟ فانتبه طارق مذعوراً وقال : يا أخي إنني غريب مسكين أنهكني التعب، ولا أدري إلى أين أذهب؟ فلجأت إلى هذه المئذنة لأرمي فيها هذه الزوادة حتى أرى من أمري رشداً.. لا بأس من بقائك، فما اسمك؟ قال : طارق. فصعد المئذنة وهو يردد : طارق طارق طارق. وهنا بدأت صور كلها جمال وبهاء تسير منتظمة أمام ذهن طارق. وقد سار مطرق الرأس آخذاً طريقه إلى خارج المسجد ليتوضأ ثم يعود.
    لقد تذكر الحياة الهانئة السعيدة التي كان يحياها هناك في القرية على الرغم مما كانوا عليه من ضيق حال. تذكر حينما كان يبادر إلى كتاب والده عند أذان العصر ليذهب به إلى المسجد ثم يقدمه إلى والده بعد الصلاة ليقرأ فيه على المصلين، ثم يأخذه منه ويسير وراءه إلى البيت ليجد أمه في انتظارهما بالعشاء.
    وكانت إقامة الصلاة قد حانت فانقطعت عنه تلك الصور وانسجم مع المصلين. وبعد ما انتهت الصلاة أخذه ما يشبه سنة من النوم أفاق منها على صوت عصا الإمام وهو يسحبها على الحصباء.. ورأى الإمام وهو ينهض من مكانه. فانطلق إليه مسرعاً ولما وصله، ومد يده إليه، نظر إليه الإمام وأثر تلك النظرة رد يده مذعوراً وتراجع إلى الوراء ثم انطلق إلى المئذنة ليضع رأسه فوق تلك الزوادة ثم يفرغ عليها كل ما احتقن في عينيه من الدموع.
    لقد ظن الإمام والده فأسرع إليه ولكنه سرعان ما اكتشف أنه يحلم وإن كان يقظاناً، فانطلق إلى تلك المئذنة التي هي كل ما يطمئن إليه في تلك المدينة العامرة المملوءة بالحركة والحياة.. وكان معروفاً بين أهله بأنه لا يبكي مهما عظمت عليه الخطوب، ومهما اشتد عليه ضرب والده في صغره. فوجد البكاء يسيطر عليه لأول مرة بعد سن الطفولة فينفجر باكياً ويفرط في البكاء والنحيب حتى انفطرت كبده من البكاء. وصار نفسه يتردد في صورة شهقات مستمرة لا ينتشله منها إلا ذلك الصوت الذي أتى من داخل المسجد ينادي طارق.. طارق.
    رفع طارق رأسه وأخذ يمسح دموعه وهم أن يجيب الداعي ولكنه قال في نفسه. من ذا الذي يمكن أن يناديني هنا. إن أحداً لا يعرفني فلابد إذاً من أنه يعني شخصاً غيري شاركني في الاسم. وعاوده البكاء فانفجر قائلا : اسكت، ألا يكفيك ما أنا فيه.. وكان من رحمة ا¤ أن ذلك المنادي لم يسمع صوت طارق. فاستمر ينادي متجها إلى المئذنة. وعندئذ خرج طارق من المئذنة فأبصر شيخا أعمى متجها إليه وفي يده اليمنى العصا وفي اليسرى مفتاح خشبي.. إنه المؤذن. فانطلق إليه وهو يقول : نعم نعم.
    وكانت نفس طارق تحدث بهذا الحديث : سأذهب إليه فربما كان في حاجة إليَّ في أمر، لأنه شيخ مكفوف البصر وسأفعل ما في وسعي عسى أن يرحمني به!.
    قال الشيخ:
    ـ أين أنت يا بني؟ ألم تسمعني؟
    قال طارق:
    ـ معذرة يا عم فقد كنت غافلا.
    قال :
    ـ تعال معي يابني..
    ووضع المفتاح الخشبي في يده اليمنى مع العصا وأمسك يد طارق باليسرى فوجدها حارة فقال:
    ـ يدك حارة فهل كنت نائماً؟ إن النوم بعد صلاة العصر مضر.
    قال طارق:
    ـ كلا ولكني كنت أفكر.
    قال :
    ـ تفكر في ماذا؟
    قال طارق:
    ـ أبداً، لاشيء.
    قال الشيخ:
    ـ هنا حجرة فيها كتب.
    فقفز إلى ذهن طارق أنه سيعطيه إياها ففرح.. ولكن تلك الفرحة تلاشت عندما واصل الشيخ كلامه قائلا : وهذه الكتب متناثرة فيها وسأتعبك معي قليلا في جمعها ووضعها في إحدى الزوايا. وتحدث طارق مع نفسه : إذاً هو يريد مني أن أساعده.. ولكن على كل حال فهو شيخ كبير وأعمى مستحق للمساعدة وأنا ليس لي من شغل سوى الهم والغم. وتلك فرصة أقضي فيها آخر هذا النهار متخلصاً من تلك الهموم التي تكاد أن تقضي عليَّ وحيداً في بلاد ليس لي فيها أهل ولا خليل.. ولكن هذه الحجرة لماذا أقيمت ومن ذا الذي يسكنها.. أليست للغرباء كما في قريتنا؟ إذاً فلماذا لا أسكن واحدة.. ولكن عند من أمرها؟ وهل سيفهم حالي ويمنحنى واحدة؟ سأسأله عندما أبدأ في جمع تلك الكتب التي يقول إنه يريد جمعها.
    وكانا قد وصلا إلى الحجرة ففتحها وزفرات حارة تتصاعد من صدره قطعها بقوله : لا إله إلا الله .. الحمد لله على كل حال...
    ثم دفع الباب بيده وجلس متهالكا أمامه، وهو يمسح جبينه بيده اليمنى ثم يمرها على وجهه، وهو يكرر ذكر الله والثناء عليه.. وبعد سكتة قصيرة قال لطارق بصوت هادئ : ادخل يا بني واجمع الكتب.
    دخل طارق وبدأ في جمع الكتب والشك يتملكه من أمر هذا الشيخ، ونسي ما كان يريد أن يسأله عنه (وهو أمر تلك الحجرة). لكنه وهو يسحب الصندوق إلى أقصى ركن في الغرفة تذكر ذلك، فاتجه إلى الشيخ وسأله : من يسكن هذه الحجرة وعند من أمرها؟ عند ذلك بدأ الاضطراب الشديد يسيطر على الشيخ فقال وهو يضع يده على جبهته:
    ـ اذهب يا بني وأت بزوادتك من المئذنة.
    ولاحظ طارق ما اعترى الرجل أثر سؤاله فوقف ينظر إليه ويقول في نفسه: أهذا كله سبب سؤالي؟ يا ليتني لم أسأل. إن سؤالي لم تعد له قيمة وإلا فلماذا طلب مني أن آتي بالصندوق والفراش.. ولكن ألا يجوز إنه أراد أن يجعلهما أمانة فيها حتى أجد مكانا وحينئذ تبقى فائدة السؤال.
    على كل حال سأذهب لإحضارهما. وأحس الشيخ أن طارقاً مازال واقفاً فكرر عليه الأمر، فذهب وأتى بالزوادة وما كاد يصل حتى فوجئ بمنظر غريب.. لقد رأى الرجل يبكي والدمع يسيل من عينيه فألقى مافي يده وأقبل عليه وقبَّل رأسه وقال: يا عم أرجو ألا أكون قد أزعجتك بسؤالي اسمح لي.
    وكانت الصورة الفاجعة قد أخذت من الشيخ كل مأخذ حيث رجعت به إلى تلك الساعة التي جاء ابنه ليخرج له الماء من البئر ليتوضأ للصلاة.. فلما أخرج الدلو وأدلى بيده لأخذها سمع الشيخ صرخة انحدرت الدلو أثرها إلى البِئر. علم الشيخ أنها غلبته فأسرع إليه ولكنه لم يكد يصل حتى سمع البئر ترتجف مما وقع فيها. وبدون شعور أخذ يتخبط باحثاً عن الرشاء ورفع يده إلى الساقية. فاختطفها فأدرجت به فسقط في البئر ولكنه لم يصب بأذى..
    وكان يجيد السباحة فأخذ يعوم باحثاً عن ابنه وعبثاً حاول الحصول عليه، لأن الدلو والرشاء قد ذهبا به إلى القعر، ولكنه ظل يعوم ويصيح حتى خارت قواه وأيقن أنه هالك. وكان الناس يأتون إلى الدلو ليتوضأوا منها، فإذا أطل أحدهم ولم ير دلواً ولا رشاء انصرف. فلم ينتبه أحد منهم إلى صوت الشيخ. وكان القائم على أمر البئر يرى الناس يدخلون ويخرجون دون وضوء، فجاء لينظر فلم ير الرشاء فأطل في البئر فرأى الرجل، فصاح: النجدة! ففزع الناس إليه وأخذوا يتصايحون ويبحثون عن حبال ينزلون بها عليه..
    وفي هذه الأثناء كان الابن قد مات فطفا على وجه الماء فوقعت عليه يد أبيه فأمسك به وهو يقول : يا رب يا رب، فقويت عزيمته وتجدد أمله في حياة ابنه.. ولو علم المسكين أنه ميت لما نجا من الهلاك..
    وكان الرجال قد أحضروا الحبال فانحدر أحدهم إلى البئر، ولما وصل الشيخ وابنه، أخذ الأب وأجلسه على صخرة بالبئر ثم أمسك بالابن وصاح بالرجال «ازعبوا» .. فلما أسلمهم الابن عاد ليخرج الأب. وعرف الرجال أن الابن قد مات.. وكان فيهم عمه فخافوا إن هم أبقوه حتى يخرج والده أن تكون الصدمة قاضية. فأخذه إلى بيته. ولما أخرجوا الأب كان أول كلمة نطقها هي: أين ابني؟ فطمأنوه ونقلوه إلى بيته هو. وكان العم قد سبقه إليه وأخذ يمهد للخبر أمام الأم العجوز.. ولكن صوت الأب المفجوع قطع عليه الطريق. لقد دخل وهو يصيح: أين ابني؟ أين ابني؟ وأفزع الأم ذلك فصاحت به: ماذا بك؟ ولكنه لا يجيبها إلا بهذا السؤال المتواصل: ابني .. أين ابني؟ والتفتت الأم إلى العم ففجعتها دمعة تنحدر من عينه فعلا صراخها واجتاحت البيت عاصفة عنيفة يهيجها الأب بتساؤله المتواصل في حركات وصيحات عصبية، وقف العم فيها موقفاً أحرج من المحرج، كاد فيه أن يفقد أعصابه، لولا أنه استعاد قوته بأن رفع عصاه الغليظة ثم ضرب بها ذلك الصندوق الخشبي ضربة عنيفة وهو يقول بصوت مرتفع: هل جننتما؟ أتتمنيان لابنكما الموت أم ماذا؟ فاتجها إليه بنظرات كلها أمل ورجاء وكأنه يملك من ذلك الأمر شيئاً.
    ومرت فترة قصيرة ساد البيت فيها صمت لم يبدده إلا صوت العم وهو يقول موجها الكلام إلى الأم: لقد وجدناهما في البئر.. ابنك وأخي.. سيحكي لك أخي كيف وقعا أما أنا فسأذهب وهنا صرخت الأم: «أين ابني؟». قال وهو يعتمد على العصا مستعينا بها على القيام.. «يبدو أنه لم يستطع المقاومة كأبيه فغرق» .. وعادت الصرخات تملأ البيت وكان العم قد استوى قائماً فانطلق إلى الباب مهرولا وهو يقول:
    ـ الرحمة والعزاء يا رب!
    فوجئ طارق بالشيخ يسقط على الأرض مغمى عليه فأسرع إلى القِرْبَة وأتى بالماء البارد وبدأ ينضح على وجهه منه حتى أفاق وهو يقول:
    ـ أريد أن أتوضأ.
    فأسرع طارق بملء الإناء ثم أتى به فأخذ الشيخ يتوضأ منه وهو يردد هذا القول.. «اللهم إنك تعلم أنه لو لم يكن هذا الوقت وقت نهي لصليت لك ركعتين عسى أن تخفف عني فارحمني يا رب» .. ثم دفع مفتاح الحجرة إلى طارق، وهو يقول:
    ـ كان ابني يجلس بهذه الحجرة للمذاكرة، وبعد وفاته لم أستطع دخولها، فعزمت على ألا تفتح مادمت حيا.. غير أن حاجتك إليها جعلتني أعدل عن ذلك.
    ثم حكى له قصة وفاة ابنه وهما في الطريق إلى بيته.
    وهنا انكشف لطارق سر تلك الكآبة التي كان يراها مخيِّمة على وجه ذلك الشيخ والتي ذهب تفكيره فيها كل مذهب.
    وفي زقاق ضيق، وأمام باب قديم صنع من جذوع النخل توقف الشيخ، ثم طرق ذلك الباب طرقة واحدة فتح إثرها فدخل وأمر طارقاً بالدخول وأومأ له على حجرة عن يمين الداخل وهي مكان جلوس الضيوف، وكانت حجرة متواضعة ليس بها من فرش سوى حصيرين صنعا من خوص النخل يبدو عليهما أثر القدم وطول المكث، وبها وجار فيه نار وضع بالقرب منها إبريق الشاي ودلة القهوة وعلى حافته وضع وعاء كبير مملوء بالتمر ووعاء آخر بجانبه، وفيه أكواب الشاي والقهوة. ولم يكن هذا المنظر بالغريب على طارق فقد كان يشاهده كثيراً في قريته فجلس بعد دخوله في إحدى الزوايا وبعد غيبة قصيرة غابها الشيخ داخل البيت جاء وقال:
    ـ يا بني إنك صاحب المكان فقم وصب لنا القهوة..
    وأثناء أكلهما من التمر وشربهما القهوة أبصر طارق عجوزاً شمطاء تتقدم إلى الباب بحركة سريعة وتضع أمامه زنبيل ثم ترجع بسرعة.. فتنحنح الشيخ لتعلم أنه علم بذلك..
    وبعد جلسة قصيرة ـ بعدما فرغا من القهوة والشاي ـ استأذن طارق في الانصراف، وقام متجها إلى الباب، فسبقه الشيخ وأخذ يسحب رجله بعد ما خرج من الحجرة حتى لمست الزبيل فرفعه واتجه إلى طارق قائلا:
    ـ هذه بعض الآنية الضرورية استعملها عارية حتى يغنيك الله عنها.
    ومدها إليه.. وتردد طارق في القبول دون أن يتكلم. وأحس الشيخ بذلك فقال:
    ـ يا بني إن في ودي أن أساعدك بأكثر من هذا ولكن هذا هو مقدوري فلا ترد لي قولا..
    فأخذ طارق الزنبيل ونظره يكاد يحفر الأرض خجلا، وخرج وكلمات الشكر تخرج من فمه في تمتمة من الحياء. ووصل إلى منزله الجديد (حجرة المسجد) دون أن ينظر إلى ما في ذلك الزنبيل. ولما فتح الغرفة ودخل أغلق الباب من ورائه وأخذ يفتش في تلك الآنية فوجد إبريقاً وكوبين للشاي وقِدراً. ففتح الإبريق فوجد فيه خرقة وضع في أحد أطرافها قليلا من السكر وفي الآخر قليلا من الشاي. ورفع غطاء القدر فوجد ملعقة تحتها خرقة، فرفعها فوجد تحتها أربعة أقراص وضع بينها قطعتان من اللحم. فكاد يطير من الفرح لأنه لم يذق غير التمر منذ فارق أهله، فأكل البعض ورفع البعض للغد ثم خرج من حجرته لصلاة المغرب وكأنه يملك الدنيا كلها داخل تلك الغرفة.
    (يتبع)


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    (بقية الفصل الأول)

    مضت أيام وأيام باع فيها طارق زوادته وأكل ثمنها وعاد بعد ذلك خالي الوفاض من كل شيء إلا من تلك الآنية التي أعاره إياها المؤذن..
    مرت أيام عجاف وطارق فيها لا يقتات إلا من تلك التمرات التي زودته بها أمه يوم سفره وليتها كانت كثيرة إذن لخففت على المسكين آلام الجوع، ولكن المسكين فجع بانتهائها بعد أن كان يأكل منها كل يوم ثلاث وجبات كل وجبة ثلاث تمرات...
    مضت ثلاثة أيام لم يذق فيها طارق طعم الأكل، ولم يجد فيها ما يرميه في فمه سوى الماء.. وكان في إمكانه أن يطرق باباً من تلك الأبواب الكبيرة حيث يتيسر فضل الطعام. وما أكثر تلك الأبواب لو أراد، ولكنه كان يرى أن في ذلك جرحا لكرامته وإهانة لشرفه.. ولكم نازعته نفسه وأرادته على أن يضع حداً لألم الجوع عن طريق التسول ولكنه كان يغلبها..
    وفي مساء اليوم الثالث من تلك الأيام التي لم يذق فيها شيئاً تغلبت عليه نفسه فقام بعد صلاة العشاء وتقدم من طرف الصف إلى حيث يكون الإمام وهو عازم من شدة الخجل على ألا يتكلم بل يكتفي بالوقوف أمامهم.. وكان يسير في بطء وكأنه صورة لشبح يسير وسط الظلام.. فقد خارت قواه بسبب الجوع المتواصل وذهب كل معنى للحياة في وجهه.. وبينما هو يستعد لاستقبال المصلين إذا بنار تشتعل في جسمه وأحس وكأن جهنم قد فتحت أبوابها عليه وأخذت تصب حميمها عليه غزيرا.. فانطلق مسرعا إلى باب المسجد وكأن وراءه عدواً يريد القبض عليه، فخرج من المسجد إلى الشارع ريثما يخرج الناس منه فيعود إليه فينام فيه..
    وصلى طارق صلاة الصبح مع المصلين وكان اليوم يوم جمعة لا يجلس فيه الشيوخ للدرس. فانصرف كعادته يوم كل جمعة إلى تلاوة القرآن. لكنه لم يبق في مكانه من الصف كما هي عادته في مثل هذا اليوم بل انتقل إلى شرقي المسجد لأنه أكثر برودة. ولم يكد يستقر في مجلسه ويبدأ في القراءة حتى رأى ذلك الشيخ الطاعن في السن والذي كان يستمع إليه كل يوم وهو يقرأ القرآن يدنو منه ويقول:
    ـ يا بني هذا ريال قد سقط منك وأنت تصلي ووجدته فخذه.
    ونظر طارق إلى الريال الفضي وهو في يد الشيخ أبيض ناصع مستدير، فتراقصت نظراته وعصفت به نفسه قائلة: «خذه إنك في أمس الحاجة إليه، لأنك لم تذق شيئا منذ ثلاثة أيام وهذا هو اليوم الرابع ولاشيء عندك فأنت أولى به من صاحبه». وامتدت يده لأخذ الريال ولكنها لم تكد تلامسه بأطراف أصابعها المرتعشة حتى جذبها بسرعة وقال وهو يزحف مبتعداً عنه: «لا .. لا لن آخذه إنه ليس لي .. أبعد هذا الشيطان عني». وأعاد الشيخ الريال إلى جيبه وهو يحدث نفسه بهذا الحديث لماذا سمى الريال شيطاناً؟ ولماذا علته هذه الرعشة وابتعد عني كأن في نفسه خيفة مني. على أي حال سأستمر في خطتي حتى أختبره .. وكان هذا الشيخ من الأثرياء. وكان من أشد الناس تديناً وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره.
    لم يستطع طارق الاستمرار في القراءة فوضع رأسه بين يديه وغرق فيما يشبه الذهول، يحاول أن يفكر فلا يجد سبيلا إلى التفكير. لكن الأمر لم يطل به على هذه الحال. فقد انتشله منها صوت عصا الشيخ وهو يسحبها على الحصى لينهض عليها، فرفع رأسه وتابع الشيخ ببصره حتى خرج من المسجد ثم قام واتجه إلى تلك الحجرة التي هي أشبه شيء بوجار الضب ففتحها، ودخل ثم خرج منها وفي يده كوب شاي فارغ، ثم أغلق الحجرة وخرج من المسجد. وبينما هو يسير، والكوب الفارغ في يده اليسرى إذا بالشيخ الذي كان معه في المسجد يمسك فجأة بيده .. فرفع رأسه مذعوراً وزاد ذعره أن عرف أنه صاحبه الشيخ، وأراد أن ينهره بعنف ويسأله ماذا يريد منه، لكن الشيخ لم يترك له فرصة الكلام بل فاجأه بقوله: يا بني إنني شيخ كبير، ومع ذلك فقد أعجبتني بل سحرتني هذه الفتاة بجمالها فهل أنا صادق؟! .. انظر إليها! .. وكانت الفتاة منهمكة في تنظيف بيتها والباب مفتوح. فاستجمع طارق ما ترك فيه الجوع من بقية من القوة ونفض يده من يد الشيخ وقال: «لماذا تغريني بالسوء؟! دعني وشأني إنني مسكين!».
    وانطلق وهو يحدث نفسه لماذا ترك الباب مفتوحا؟ ولماذا لم تكترث الفتاة بوقوف هذا الشيخ الشرير أمامه؟ أيعقل أن يكون من أهله؟ فلماذا يغري الناس الأجانب بها إلا أن يكون مجنوناً؟؟
    ولم يكن الشيخ مجنوناً بل إنه من أعقل الناس وأكثرهم ديناً، وهو شيخ كبير قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره.
    لندع الشيخ واقفاً أمام الباب معتمداً على تلك العصا الغليظة الحمراء يلوح بياض لحيته ورأسه من تحت عمامته وكأنه يفاخر به تلك الخيوط الفضية التي أرسلتها الشمس مؤذنة بقدوم يوم جديد. ولنتبع طارقاً في طريقه المجهول، وفي يده كوب الشاي الفارغ، لننظر ما شأن ذلك الكوب؟ هناك فوال على رأس الطريق. وطارق قد وقف أمام دكانه. مسكين طارق، لقد أضرَّ به الجوع. فهل تراه يريد أن يبيع على الفوال ذلك الكوب؟
    قال طارق:
    ـ يا أخي أريد خبزة واحدة لكن ليس معي قروش، فهل تتكرم بإبقاء هذا الكوب رهناً في قيمتها.
    قال الفوال:
    ـ أهذا معقول؟ ماذا أصنع به .. إن عندي ما يكفيني من الأكواب.
    قال طارق:
    ـ أنا لا أريد بيعه فأنا لا أملكه.
    قال الفوال :
    ـ لا تملك حتى كوب الشاي؟ فمن أين أتيت به عارية؟
    (قالها وهو يضحك)
    وأحس طارق بالألم يعتصر قلبه من سخرية الرجل به ولكنه تحامل على نفسه وقال:
    ـ أنا لم آت إليك لتسخر مني وإنما أتيت لتبيعني قرصا من العيش تأخذ هذا الكوب رهينة في ثمنه.
    قال الفوال:
    ـ أنا لا آخذ رهائن ولكن خذه وأتني بقيمته غداً.
    قال طارق:
    ـ لا أستطيع لأني لا أملك شيئاً.
    قال الفوال:
    ـ خذه إذن صدقة. قال:
    ـ لا، ولكن آخذه وآتي بقيمته متى ما يسرها الله.
    وأومأ الفوال برأسه كدليل على الموافقة، وعند ذلك طوى طارق الخبزة وأدخلها في جيبه ثم انطلق إلى تلك الحجرة الخاوية في جانب المسجد فأخذ منها إناءً صب فيه ماءً بارداً من إحدى قرب المسجد، ثم جلس في حجرته وأخرج القرص من جيبه، وبدأ يقطع منه ويغمس في الماء ثم يأكل. غير أنه لم يكد يأكل لقمتين حتى فوجئ بشاب يقف في الباب مستأذنا بالسلام. ولم يملك طارق إلا الإذن له والترحيب به. غير أنه لم يتمكن من إخفاء الماء والخبزة فقال له الشاب:
    ـ لماذا تأكلها على الماء؟ هلا عملت لك شايا على الأقل؟!
    فلم يجد طارق عذراً غير الكسل وعدم وجود الحطب فبادره الشاب قائلا:
    ـ أرجو أن تتكرم بقبول دعوتي لنذهب ونفطر في البيت معاً.
    وبالطبع لم يوافق طارق في أول الأمر، ولكن الشاب ألح عليه ولم يدعه حتى رافقه إلى بيتهم. غير أن طارقاً اندهش حينما رأى الشاب يتوقف أمام البيت الذي كان الشيخ واقفاً أمامه، ينظر إلى الفتاة وتوقع أمراً، وحدّث نفسه بالهرب ولكن كانت يد الشاب ممسكة بيده. فدخل ـ وهو مرتبك ـ لا يدري ماذا يصنع وماذا سيكون؟
    أشار الشاب لطارق على باب الديوانية، فدخل فيها، ولم يكد يتخذ مجلسه منها حتى سمع صوت شيخ يتنحنح فتذكر الشيخ الذي آذاه هذا الصباح. فتململ وأصغى لسماعها ثانية ولكنه فوجئ بدخول الرجل فنهض لاستقباله لكنه لم يكد يتقدم إليه بضع خطوات حتى تبين أنه صاحبه الشيخ فذعر وبقي واقفاً مكانه فسلم عليه الشيخ فلم يرد، غير أن الشيخ لم يستغرب ذلك فألقى عصاه وجلس. وأسرع طارق إلى الباب يريد الخروج لكن الشاب حال بينه وبين ذلك حينما أقبل. وفي إحدى يديه إناء فيه تمر، وفي الأخرى إناء آخر فيه ماء. ثم وضع التمر والماء وطلب منه أن يأكل لكنه أخذ ينظر إليه تارة وإلى الشيخ أخرى وهو يحدث نفسه: لماذا ساقني الله إلى هذا البيت بالذات؟! ولماذا وافقت على المجيء؟!، بل لماذا أتى هو إلى هنا؟! إني خائف. ولكن لماذا أخاف إنني لم أوذ أحداً إطلاقاً فلم أخاف؟
    ومد يده إلى التمر وعينه لا تزال عالقة بالشيخ، فارتجفت واصطدمت بالإناء فمال وسقط منه بعض التمر فلم ينتبه لذلك. فقد كان غارقاً في تفكير هو فيه كالغريق. لماذا لا أسأل الشاب عن أمر هذا الشيخ ولكن كيف وهو بجانبه؟؟ وأخيراً اتجه إلى الشاب قائلاً (بالأرقام الأبجدية) من هذا الشيخ؟
    ـ لماذا تكلمني بالأرقام؟ كلمني بالعربي.
    فالتفت الشيخ إلى الشاب وقال:
    ـ أنت ثور لا تفهم.
    ثم وجه الكلام لطارق:
    ـ أنا أبوه يا بني .. كأنك في شك من أمري .. أو كأنك خائف مني .. اطمئن فسأشرح لك كل شيء. إنني شيخ كبير كما ترى وعندي خمس من البنات، كنت أمنِّي نفسي بأن أعلمهن. فشغلتني عن ذلك الحياة. ثم علقت الأمل على ابني (وأشار إلى الشاب). غير أن أعمال التجارة قد ملكت جميع أوقاتنا، فأخذت أبحث عن شاب أَكِلُ إليه ذلك، فما اطمأنت نفسي إلا إليك. فأردت أن أختبرك زيادة على ما شاهدته منك من ثبات وقوة في الأخلاق والدين، ففعلت ما فعلته معك هذا الصباح. فهل تقبل يا بني أن تكون معلماً لهن؟!!
    (انتهى الفصل الأول، ويليه الفصل الثاني)


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي الفصل الأول

    الفصل الأول
    ليلة من ليالي الرياض

    كان الليل قد مد أجنحته الحالكة السواد، وطوى تحتها تلك المدينة التي كانت في ذلك الوقت لم تبعد كثيراً عن حياة القرية إلا ببعض المظاهر اليسيرة؛ كالحركة العمرانية المفاجئة التي تجتاحها على غير نظام، الهدوء يسود جو المدينة. فلا ضوء سوى بصيص نور المصابيح المعلقة في أهم الشوارع والميادين الهامة، أو مصابيح الكهرباء الصادرة من بعض القصور الملكية على قلتها.
    كادت الساعة تبلغ الرابعة والنصف وكان الظلام يسيطر تماماً على المدينة. والسكون يحكمها إلا من أصوات الحراس والنواطير ينادي بعضهم بعضا، خوفاً من الغفلة أو النوم، وخيول المتجولين منهم تجوب الشوارع والأزقة وكأنها تركل في الأرض الليل بحوافرها لينزاح فتستريح، ولا يشاركها في تلك الحركة إلا أصوات سواقي النخيل التي تحيط بالمدينة، لأن ماكينات الماء لم تنتشر بعد، ولأن يد التقطيع لم تمتد بعد إلى تلك النخيل. وفي فترات قليلة متقطعة تخالط أصوات تلك السواقي أصوات السيارات القادمة من أنحاء المملكة.
    في إحدى السيارات القادمة في تلك الليلة، قدم إلى الرياض شاب مازال في سن الرابعة عشرة من عمره يدعى طارق. جاء ليطلب العلم بها لأنها كانت المصدر الوحيد الذي يمد المملكة بنور العلم والمعرفة ويؤمها الراغبون في العلم من كل مكان.
    لم تكد السيارة تقف في البطحاء حتى صاح قائدها بالركاب : انزلوا لرمي حمل السيارة بالأرض.. نزلوا حاملين ما معهم ثم تفرقوا إلا شخصاً واحداً بقي واقفاً أمام السيارة، إنه طارق صاح به قائد السيارة وقال : لماذا لا تذهب؟ إن السيارة لا يبيت فيها ولا عندها أحد من الركاب.. ممنوع...
    لم يكن طارق في حاجة إلى التفكير إلى أين يذهب. فقد كان ذلك موضع تفكيره منذ أن ركب تلك السيارة. ولكن إلى أين يذهب؟ إنه لا يعرف أحداً هنا.
    فاتجه إلى القائد وقال في صوت قارب الاختناق:
    ـ إني لا أعرف أحداً أذهب إليه ولا إلى أين أذهب. فاسمح لي بالمبيت معك وعند طلوع الفجر أذهب. قال السائق وهو يضحك ساخراً : كل الناس لا يعرفون أحداًِ ويدبرون أنفسهم، ومع ذلك فلا بأس من أن تبيت هنا حتى أذان الفجر.
    ولما طلع الفجر قام طارق وحمل زوادته الخالية إلا من كويسة من التمر تقارب الرطلين أو أقل. وانطلق هائما على وجهه لا يدري إلى أين يذهب هذا المسكين.
    لقد رمى نفسه في مجتمع كان بالنسبة له جديداً مجهولا بعد أن كان يعيش هناك في مجتمع لا يجهل فيه كبيراً ولا صغيراً. هناك في قريته الصغيرة بين أبويه وأسرته، فأفردته الحياة غريباً خالي اليد والجيب، في مدينة يلتفت فيها يمينا وشمالا فلا يرى إلا وجوها ينكرها. يأخذ منه التعب كل مأخذ فلا يجد يداً تمتد لمساعدته.
    وبدأ الليل يطوي ستائره مؤذناً بالرحيل وتبعته الشمس تقذف بشباكها في كل مكان لتصطاد بها أفواج الظلام ثم تقذف بها بعيداً.. وبدأ ضياء اليوم الجديد يطبع ضياءه على الشفاه، فتطفح بالبشر وتعلو وجوهها إشراقة السرور فتحيي ذلك الصبح الجديد بابتسامة فيها الرضى.
    كل هذا وطارق يسير مطرق الرأس، وكأن سحابة من الشقاء المظلم قد وكلت به تسير معه حيثما سار.. إلى أين يذهب هذا الشاب البائس؟ وإلى متى سيبقى سائراً؟ الدنيا صيف، وهاهي الشمس قد ألهبت بسياطها الكاوية وجه الأرض فأحالته إلى جحيم يهري الأقدام الحافية، الناس يفرون منها إلى بيوتهم، او يتفيؤون السقوف التي تظلل بعض الأزقة وبعضهم يلجأ إلى المساجد ليقضي بها ساعات الهجير.
    ومع ذلك فمازال طارق يواصل السير حاملا على رأسه زوادته وهو ينتقل من حارة إلى أخرى، ومن شارع إلى شارع، والعرق يسيل من جسمه غزيراً، كأنما على رأسه فم قربة لا ينتهي ماؤها، حتى إذا ما أجهده التعب توقف تحت سقف من تلك السقوف التي تقام في بعض الأزقة ليتفيأ ظلاله قليلا ثم يستأنف سيره.
    أذن الظهر فلم يكن له بد من دخول المسجد للصلاة فلجأ إلى أول مسجد كان فيه حجرتان إحداهما تحت الدرج الجنوبي للمسجد والأخرى تحت الدرج الشمالي. وأمام كل واحدة منهما حوض مصهرج علقت فيه بعض القِرَب.. وكان ظامئاً، لكنه استحيا من المصلين من أن يروا على رأسه تلك الزوادة.. فصعد بها مسرعاً إلى سطح المسجد. وهناك داخل المئذنة وضع زوادته وفتحها وأخرج منها ثمرات معدودة أكلها، ثم نزل وشرب من تلك القرب ثم انطلق إلى بئر قريبة من المسجد أرشده إليها شخص. فتوضأ منها ثم عاد إلى المسجد ليدفن تعبه بعد الصلاة في نوم عميق وهو متكئ على صندوقه داخل المئذنة. وما راعه إلا سقوط المؤذن عليه حينما حانت صلاة العصر وجاء ليؤذن. فعثر في حذاء طارق وكان أعمى فصاح.. ما هذا؟ ألم تجد مكاناً للنوم إلا هنا؟؟ فانتبه طارق مذعوراً وقال : يا أخي إنني غريب مسكين أنهكني التعب، ولا أدري إلى أين أذهب؟ فلجأت إلى هذه المئذنة لأرمي فيها هذه الزوادة حتى أرى من أمري رشداً.. لا بأس من بقائك، فما اسمك؟ قال : طارق. فصعد المئذنة وهو يردد : طارق طارق طارق. وهنا بدأت صور كلها جمال وبهاء تسير منتظمة أمام ذهن طارق. وقد سار مطرق الرأس آخذاً طريقه إلى خارج المسجد ليتوضأ ثم يعود.
    لقد تذكر الحياة الهانئة السعيدة التي كان يحياها هناك في القرية على الرغم مما كانوا عليه من ضيق حال. تذكر حينما كان يبادر إلى كتاب والده عند أذان العصر ليذهب به إلى المسجد ثم يقدمه إلى والده بعد الصلاة ليقرأ فيه على المصلين، ثم يأخذه منه ويسير وراءه إلى البيت ليجد أمه في انتظارهما بالعشاء.
    وكانت إقامة الصلاة قد حانت فانقطعت عنه تلك الصور وانسجم مع المصلين. وبعد ما انتهت الصلاة أخذه ما يشبه سنة من النوم أفاق منها على صوت عصا الإمام وهو يسحبها على الحصباء.. ورأى الإمام وهو ينهض من مكانه. فانطلق إليه مسرعاً ولما وصله، ومد يده إليه، نظر إليه الإمام وأثر تلك النظرة رد يده مذعوراً وتراجع إلى الوراء ثم انطلق إلى المئذنة ليضع رأسه فوق تلك الزوادة ثم يفرغ عليها كل ما احتقن في عينيه من الدموع.
    لقد ظن الإمام والده فأسرع إليه ولكنه سرعان ما اكتشف أنه يحلم وإن كان يقظاناً، فانطلق إلى تلك المئذنة التي هي كل ما يطمئن إليه في تلك المدينة العامرة المملوءة بالحركة والحياة.. وكان معروفاً بين أهله بأنه لا يبكي مهما عظمت عليه الخطوب، ومهما اشتد عليه ضرب والده في صغره. فوجد البكاء يسيطر عليه لأول مرة بعد سن الطفولة فينفجر باكياً ويفرط في البكاء والنحيب حتى انفطرت كبده من البكاء. وصار نفسه يتردد في صورة شهقات مستمرة لا ينتشله منها إلا ذلك الصوت الذي أتى من داخل المسجد ينادي طارق.. طارق.
    رفع طارق رأسه وأخذ يمسح دموعه وهم أن يجيب الداعي ولكنه قال في نفسه. من ذا الذي يمكن أن يناديني هنا. إن أحداً لا يعرفني فلابد إذاً من أنه يعني شخصاً غيري شاركني في الاسم. وعاوده البكاء فانفجر قائلا : اسكت، ألا يكفيك ما أنا فيه.. وكان من رحمة ا¤ أن ذلك المنادي لم يسمع صوت طارق. فاستمر ينادي متجها إلى المئذنة. وعندئذ خرج طارق من المئذنة فأبصر شيخا أعمى متجها إليه وفي يده اليمنى العصا وفي اليسرى مفتاح خشبي.. إنه المؤذن. فانطلق إليه وهو يقول : نعم نعم.
    وكانت نفس طارق تحدث بهذا الحديث : سأذهب إليه فربما كان في حاجة إليَّ في أمر، لأنه شيخ مكفوف البصر وسأفعل ما في وسعي عسى أن يرحمني به!.
    قال الشيخ:
    ـ أين أنت يا بني؟ ألم تسمعني؟
    قال طارق:
    ـ معذرة يا عم فقد كنت غافلا.
    قال :
    ـ تعال معي يابني..
    ووضع المفتاح الخشبي في يده اليمنى مع العصا وأمسك يد طارق باليسرى فوجدها حارة فقال:
    ـ يدك حارة فهل كنت نائماً؟ إن النوم بعد صلاة العصر مضر.
    قال طارق:
    ـ كلا ولكني كنت أفكر.
    قال :
    ـ تفكر في ماذا؟
    قال طارق:
    ـ أبداً، لاشيء.
    قال الشيخ:
    ـ هنا حجرة فيها كتب.
    فقفز إلى ذهن طارق أنه سيعطيه إياها ففرح.. ولكن تلك الفرحة تلاشت عندما واصل الشيخ كلامه قائلا : وهذه الكتب متناثرة فيها وسأتعبك معي قليلا في جمعها ووضعها في إحدى الزوايا. وتحدث طارق مع نفسه : إذاً هو يريد مني أن أساعده.. ولكن على كل حال فهو شيخ كبير وأعمى مستحق للمساعدة وأنا ليس لي من شغل سوى الهم والغم. وتلك فرصة أقضي فيها آخر هذا النهار متخلصاً من تلك الهموم التي تكاد أن تقضي عليَّ وحيداً في بلاد ليس لي فيها أهل ولا خليل.. ولكن هذه الحجرة لماذا أقيمت ومن ذا الذي يسكنها.. أليست للغرباء كما في قريتنا؟ إذاً فلماذا لا أسكن واحدة.. ولكن عند من أمرها؟ وهل سيفهم حالي ويمنحنى واحدة؟ سأسأله عندما أبدأ في جمع تلك الكتب التي يقول إنه يريد جمعها.
    وكانا قد وصلا إلى الحجرة ففتحها وزفرات حارة تتصاعد من صدره قطعها بقوله : لا إله إلا الله .. الحمد لله على كل حال...
    ثم دفع الباب بيده وجلس متهالكا أمامه، وهو يمسح جبينه بيده اليمنى ثم يمرها على وجهه، وهو يكرر ذكر الله والثناء عليه.. وبعد سكتة قصيرة قال لطارق بصوت هادئ : ادخل يا بني واجمع الكتب.
    دخل طارق وبدأ في جمع الكتب والشك يتملكه من أمر هذا الشيخ، ونسي ما كان يريد أن يسأله عنه (وهو أمر تلك الحجرة). لكنه وهو يسحب الصندوق إلى أقصى ركن في الغرفة تذكر ذلك، فاتجه إلى الشيخ وسأله : من يسكن هذه الحجرة وعند من أمرها؟ عند ذلك بدأ الاضطراب الشديد يسيطر على الشيخ فقال وهو يضع يده على جبهته:
    ـ اذهب يا بني وأت بزوادتك من المئذنة.
    ولاحظ طارق ما اعترى الرجل أثر سؤاله فوقف ينظر إليه ويقول في نفسه: أهذا كله سبب سؤالي؟ يا ليتني لم أسأل. إن سؤالي لم تعد له قيمة وإلا فلماذا طلب مني أن آتي بالصندوق والفراش.. ولكن ألا يجوز إنه أراد أن يجعلهما أمانة فيها حتى أجد مكانا وحينئذ تبقى فائدة السؤال.
    على كل حال سأذهب لإحضارهما. وأحس الشيخ أن طارقاً مازال واقفاً فكرر عليه الأمر، فذهب وأتى بالزوادة وما كاد يصل حتى فوجئ بمنظر غريب.. لقد رأى الرجل يبكي والدمع يسيل من عينيه فألقى مافي يده وأقبل عليه وقبَّل رأسه وقال: يا عم أرجو ألا أكون قد أزعجتك بسؤالي اسمح لي.
    وكانت الصورة الفاجعة قد أخذت من الشيخ كل مأخذ حيث رجعت به إلى تلك الساعة التي جاء ابنه ليخرج له الماء من البئر ليتوضأ للصلاة.. فلما أخرج الدلو وأدلى بيده لأخذها سمع الشيخ صرخة انحدرت الدلو أثرها إلى البِئر. علم الشيخ أنها غلبته فأسرع إليه ولكنه لم يكد يصل حتى سمع البئر ترتجف مما وقع فيها. وبدون شعور أخذ يتخبط باحثاً عن الرشاء ورفع يده إلى الساقية. فاختطفها فأدرجت به فسقط في البئر ولكنه لم يصب بأذى..
    وكان يجيد السباحة فأخذ يعوم باحثاً عن ابنه وعبثاً حاول الحصول عليه، لأن الدلو والرشاء قد ذهبا به إلى القعر، ولكنه ظل يعوم ويصيح حتى خارت قواه وأيقن أنه هالك. وكان الناس يأتون إلى الدلو ليتوضأوا منها، فإذا أطل أحدهم ولم ير دلواً ولا رشاء انصرف. فلم ينتبه أحد منهم إلى صوت الشيخ. وكان القائم على أمر البئر يرى الناس يدخلون ويخرجون دون وضوء، فجاء لينظر فلم ير الرشاء فأطل في البئر فرأى الرجل، فصاح: النجدة! ففزع الناس إليه وأخذوا يتصايحون ويبحثون عن حبال ينزلون بها عليه..
    وفي هذه الأثناء كان الابن قد مات فطفا على وجه الماء فوقعت عليه يد أبيه فأمسك به وهو يقول : يا رب يا رب، فقويت عزيمته وتجدد أمله في حياة ابنه.. ولو علم المسكين أنه ميت لما نجا من الهلاك..
    وكان الرجال قد أحضروا الحبال فانحدر أحدهم إلى البئر، ولما وصل الشيخ وابنه، أخذ الأب وأجلسه على صخرة بالبئر ثم أمسك بالابن وصاح بالرجال «ازعبوا» .. فلما أسلمهم الابن عاد ليخرج الأب. وعرف الرجال أن الابن قد مات.. وكان فيهم عمه فخافوا إن هم أبقوه حتى يخرج والده أن تكون الصدمة قاضية. فأخذه إلى بيته. ولما أخرجوا الأب كان أول كلمة نطقها هي: أين ابني؟ فطمأنوه ونقلوه إلى بيته هو. وكان العم قد سبقه إليه وأخذ يمهد للخبر أمام الأم العجوز.. ولكن صوت الأب المفجوع قطع عليه الطريق. لقد دخل وهو يصيح: أين ابني؟ أين ابني؟ وأفزع الأم ذلك فصاحت به: ماذا بك؟ ولكنه لا يجيبها إلا بهذا السؤال المتواصل: ابني .. أين ابني؟ والتفتت الأم إلى العم ففجعتها دمعة تنحدر من عينه فعلا صراخها واجتاحت البيت عاصفة عنيفة يهيجها الأب بتساؤله المتواصل في حركات وصيحات عصبية، وقف العم فيها موقفاً أحرج من المحرج، كاد فيه أن يفقد أعصابه، لولا أنه استعاد قوته بأن رفع عصاه الغليظة ثم ضرب بها ذلك الصندوق الخشبي ضربة عنيفة وهو يقول بصوت مرتفع: هل جننتما؟ أتتمنيان لابنكما الموت أم ماذا؟ فاتجها إليه بنظرات كلها أمل ورجاء وكأنه يملك من ذلك الأمر شيئاً.
    ومرت فترة قصيرة ساد البيت فيها صمت لم يبدده إلا صوت العم وهو يقول موجها الكلام إلى الأم: لقد وجدناهما في البئر.. ابنك وأخي.. سيحكي لك أخي كيف وقعا أما أنا فسأذهب وهنا صرخت الأم: «أين ابني؟». قال وهو يعتمد على العصا مستعينا بها على القيام.. «يبدو أنه لم يستطع المقاومة كأبيه فغرق» .. وعادت الصرخات تملأ البيت وكان العم قد استوى قائماً فانطلق إلى الباب مهرولا وهو يقول:
    ـ الرحمة والعزاء يا رب!
    فوجئ طارق بالشيخ يسقط على الأرض مغمى عليه فأسرع إلى القِرْبَة وأتى بالماء البارد وبدأ ينضح على وجهه منه حتى أفاق وهو يقول:
    ـ أريد أن أتوضأ.
    فأسرع طارق بملء الإناء ثم أتى به فأخذ الشيخ يتوضأ منه وهو يردد هذا القول.. «اللهم إنك تعلم أنه لو لم يكن هذا الوقت وقت نهي لصليت لك ركعتين عسى أن تخفف عني فارحمني يا رب» .. ثم دفع مفتاح الحجرة إلى طارق، وهو يقول:
    ـ كان ابني يجلس بهذه الحجرة للمذاكرة، وبعد وفاته لم أستطع دخولها، فعزمت على ألا تفتح مادمت حيا.. غير أن حاجتك إليها جعلتني أعدل عن ذلك.
    ثم حكى له قصة وفاة ابنه وهما في الطريق إلى بيته.
    وهنا انكشف لطارق سر تلك الكآبة التي كان يراها مخيِّمة على وجه ذلك الشيخ والتي ذهب تفكيره فيها كل مذهب.
    وفي زقاق ضيق، وأمام باب قديم صنع من جذوع النخل توقف الشيخ، ثم طرق ذلك الباب طرقة واحدة فتح إثرها فدخل وأمر طارقاً بالدخول وأومأ له على حجرة عن يمين الداخل وهي مكان جلوس الضيوف، وكانت حجرة متواضعة ليس بها من فرش سوى حصيرين صنعا من خوص النخل يبدو عليهما أثر القدم وطول المكث، وبها وجار فيه نار وضع بالقرب منها إبريق الشاي ودلة القهوة وعلى حافته وضع وعاء كبير مملوء بالتمر ووعاء آخر بجانبه، وفيه أكواب الشاي والقهوة. ولم يكن هذا المنظر بالغريب على طارق فقد كان يشاهده كثيراً في قريته فجلس بعد دخوله في إحدى الزوايا وبعد غيبة قصيرة غابها الشيخ داخل البيت جاء وقال:
    ـ يا بني إنك صاحب المكان فقم وصب لنا القهوة..
    وأثناء أكلهما من التمر وشربهما القهوة أبصر طارق عجوزاً شمطاء تتقدم إلى الباب بحركة سريعة وتضع أمامه زنبيل ثم ترجع بسرعة.. فتنحنح الشيخ لتعلم أنه علم بذلك..
    وبعد جلسة قصيرة ـ بعدما فرغا من القهوة والشاي ـ استأذن طارق في الانصراف، وقام متجها إلى الباب، فسبقه الشيخ وأخذ يسحب رجله بعد ما خرج من الحجرة حتى لمست الزبيل فرفعه واتجه إلى طارق قائلا:
    ـ هذه بعض الآنية الضرورية استعملها عارية حتى يغنيك الله عنها.
    ومدها إليه.. وتردد طارق في القبول دون أن يتكلم. وأحس الشيخ بذلك فقال:
    ـ يا بني إن في ودي أن أساعدك بأكثر من هذا ولكن هذا هو مقدوري فلا ترد لي قولا..
    فأخذ طارق الزنبيل ونظره يكاد يحفر الأرض خجلا، وخرج وكلمات الشكر تخرج من فمه في تمتمة من الحياء. ووصل إلى منزله الجديد (حجرة المسجد) دون أن ينظر إلى ما في ذلك الزنبيل. ولما فتح الغرفة ودخل أغلق الباب من ورائه وأخذ يفتش في تلك الآنية فوجد إبريقاً وكوبين للشاي وقِدراً. ففتح الإبريق فوجد فيه خرقة وضع في أحد أطرافها قليلا من السكر وفي الآخر قليلا من الشاي. ورفع غطاء القدر فوجد ملعقة تحتها خرقة، فرفعها فوجد تحتها أربعة أقراص وضع بينها قطعتان من اللحم. فكاد يطير من الفرح لأنه لم يذق غير التمر منذ فارق أهله، فأكل البعض ورفع البعض للغد ثم خرج من حجرته لصلاة المغرب وكأنه يملك الدنيا كلها داخل تلك الغرفة.
    (يتبع)


  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    مضت أيام وأيام باع فيها طارق زوادته وأكل ثمنها وعاد بعد ذلك خالي الوفاض من كل شيء إلا من تلك الآنية التي أعاره إياها المؤذن..
    مرت أيام عجاف وطارق فيها لا يقتات إلا من تلك التمرات التي زودته بها أمه يوم سفره وليتها كانت كثيرة إذن لخففت على المسكين آلام الجوع، ولكن المسكين فجع بانتهائها بعد أن كان يأكل منها كل يوم ثلاث وجبات كل وجبة ثلاث تمرات...
    مضت ثلاثة أيام لم يذق فيها طارق طعم الأكل، ولم يجد فيها ما يرميه في فمه سوى الماء.. وكان في إمكانه أن يطرق باباً من تلك الأبواب الكبيرة حيث يتيسر فضل الطعام. وما أكثر تلك الأبواب لو أراد، ولكنه كان يرى أن في ذلك جرحا لكرامته وإهانة لشرفه.. ولكم نازعته نفسه وأرادته على أن يضع حداً لألم الجوع عن طريق التسول ولكنه كان يغلبها..
    وفي مساء اليوم الثالث من تلك الأيام التي لم يذق فيها شيئاً تغلبت عليه نفسه فقام بعد صلاة العشاء وتقدم من طرف الصف إلى حيث يكون الإمام وهو عازم من شدة الخجل على ألا يتكلم بل يكتفي بالوقوف أمامهم.. وكان يسير في بطء وكأنه صورة لشبح يسير وسط الظلام.. فقد خارت قواه بسبب الجوع المتواصل وذهب كل معنى للحياة في وجهه.. وبينما هو يستعد لاستقبال المصلين إذا بنار تشتعل في جسمه وأحس وكأن جهنم قد فتحت أبوابها عليه وأخذت تصب حميمها عليه غزيرا.. فانطلق مسرعا إلى باب المسجد وكأن وراءه عدواً يريد القبض عليه، فخرج من المسجد إلى الشارع ريثما يخرج الناس منه فيعود إليه فينام فيه..
    وصلى طارق صلاة الصبح مع المصلين وكان اليوم يوم جمعة لا يجلس فيه الشيوخ للدرس. فانصرف كعادته يوم كل جمعة إلى تلاوة القرآن. لكنه لم يبق في مكانه من الصف كما هي عادته في مثل هذا اليوم بل انتقل إلى شرقي المسجد لأنه أكثر برودة. ولم يكد يستقر في مجلسه ويبدأ في القراءة حتى رأى ذلك الشيخ الطاعن في السن والذي كان يستمع إليه كل يوم وهو يقرأ القرآن يدنو منه ويقول:
    ـ يا بني هذا ريال قد سقط منك وأنت تصلي ووجدته فخذه.
    ونظر طارق إلى الريال الفضي وهو في يد الشيخ أبيض ناصع مستدير، فتراقصت نظراته وعصفت به نفسه قائلة: «خذه إنك في أمس الحاجة إليه، لأنك لم تذق شيئا منذ ثلاثة أيام وهذا هو اليوم الرابع ولاشيء عندك فأنت أولى به من صاحبه». وامتدت يده لأخذ الريال ولكنها لم تكد تلامسه بأطراف أصابعها المرتعشة حتى جذبها بسرعة وقال وهو يزحف مبتعداً عنه: «لا .. لا لن آخذه إنه ليس لي .. أبعد هذا الشيطان عني». وأعاد الشيخ الريال إلى جيبه وهو يحدث نفسه بهذا الحديث لماذا سمى الريال شيطاناً؟ ولماذا علته هذه الرعشة وابتعد عني كأن في نفسه خيفة مني. على أي حال سأستمر في خطتي حتى أختبره .. وكان هذا الشيخ من الأثرياء. وكان من أشد الناس تديناً وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره.
    لم يستطع طارق الاستمرار في القراءة فوضع رأسه بين يديه وغرق فيما يشبه الذهول، يحاول أن يفكر فلا يجد سبيلا إلى التفكير. لكن الأمر لم يطل به على هذه الحال. فقد انتشله منها صوت عصا الشيخ وهو يسحبها على الحصى لينهض عليها، فرفع رأسه وتابع الشيخ ببصره حتى خرج من المسجد ثم قام واتجه إلى تلك الحجرة التي هي أشبه شيء بوجار الضب ففتحها، ودخل ثم خرج منها وفي يده كوب شاي فارغ، ثم أغلق الحجرة وخرج من المسجد. وبينما هو يسير، والكوب الفارغ في يده اليسرى إذا بالشيخ الذي كان معه في المسجد يمسك فجأة بيده .. فرفع رأسه مذعوراً وزاد ذعره أن عرف أنه صاحبه الشيخ، وأراد أن ينهره بعنف ويسأله ماذا يريد منه، لكن الشيخ لم يترك له فرصة الكلام بل فاجأه بقوله: يا بني إنني شيخ كبير، ومع ذلك فقد أعجبتني بل سحرتني هذه الفتاة بجمالها فهل أنا صادق؟! .. انظر إليها! .. وكانت الفتاة منهمكة في تنظيف بيتها والباب مفتوح. فاستجمع طارق ما ترك فيه الجوع من بقية من القوة ونفض يده من يد الشيخ وقال: «لماذا تغريني بالسوء؟! دعني وشأني إنني مسكين!».
    وانطلق وهو يحدث نفسه لماذا ترك الباب مفتوحا؟ ولماذا لم تكترث الفتاة بوقوف هذا الشيخ الشرير أمامه؟ أيعقل أن يكون من أهله؟ فلماذا يغري الناس الأجانب بها إلا أن يكون مجنوناً؟؟
    ولم يكن الشيخ مجنوناً بل إنه من أعقل الناس وأكثرهم ديناً، وهو شيخ كبير قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره.
    لندع الشيخ واقفاً أمام الباب معتمداً على تلك العصا الغليظة الحمراء يلوح بياض لحيته ورأسه من تحت عمامته وكأنه يفاخر به تلك الخيوط الفضية التي أرسلتها الشمس مؤذنة بقدوم يوم جديد. ولنتبع طارقاً في طريقه المجهول، وفي يده كوب الشاي الفارغ، لننظر ما شأن ذلك الكوب؟ هناك فوال على رأس الطريق. وطارق قد وقف أمام دكانه. مسكين طارق، لقد أضرَّ به الجوع. فهل تراه يريد أن يبيع على الفوال ذلك الكوب؟
    قال طارق:
    ـ يا أخي أريد خبزة واحدة لكن ليس معي قروش، فهل تتكرم بإبقاء هذا الكوب رهناً في قيمتها.
    قال الفوال:
    ـ أهذا معقول؟ ماذا أصنع به .. إن عندي ما يكفيني من الأكواب.
    قال طارق:
    ـ أنا لا أريد بيعه فأنا لا أملكه.
    قال الفوال :
    ـ لا تملك حتى كوب الشاي؟ فمن أين أتيت به عارية؟
    (قالها وهو يضحك)
    وأحس طارق بالألم يعتصر قلبه من سخرية الرجل به ولكنه تحامل على نفسه وقال:
    ـ أنا لم آت إليك لتسخر مني وإنما أتيت لتبيعني قرصا من العيش تأخذ هذا الكوب رهينة في ثمنه.
    قال الفوال:
    ـ أنا لا آخذ رهائن ولكن خذه وأتني بقيمته غداً.
    قال طارق:
    ـ لا أستطيع لأني لا أملك شيئاً.
    قال الفوال:
    ـ خذه إذن صدقة. قال:
    ـ لا، ولكن آخذه وآتي بقيمته متى ما يسرها الله.
    وأومأ الفوال برأسه كدليل على الموافقة، وعند ذلك طوى طارق الخبزة وأدخلها في جيبه ثم انطلق إلى تلك الحجرة الخاوية في جانب المسجد فأخذ منها إناءً صب فيه ماءً بارداً من إحدى قرب المسجد، ثم جلس في حجرته وأخرج القرص من جيبه، وبدأ يقطع منه ويغمس في الماء ثم يأكل. غير أنه لم يكد يأكل لقمتين حتى فوجئ بشاب يقف في الباب مستأذنا بالسلام. ولم يملك طارق إلا الإذن له والترحيب به. غير أنه لم يتمكن من إخفاء الماء والخبزة فقال له الشاب:
    ـ لماذا تأكلها على الماء؟ هلا عملت لك شايا على الأقل؟!
    فلم يجد طارق عذراً غير الكسل وعدم وجود الحطب فبادره الشاب قائلا:
    ـ أرجو أن تتكرم بقبول دعوتي لنذهب ونفطر في البيت معاً.
    وبالطبع لم يوافق طارق في أول الأمر، ولكن الشاب ألح عليه ولم يدعه حتى رافقه إلى بيتهم. غير أن طارقاً اندهش حينما رأى الشاب يتوقف أمام البيت الذي كان الشيخ واقفاً أمامه، ينظر إلى الفتاة وتوقع أمراً، وحدّث نفسه بالهرب ولكن كانت يد الشاب ممسكة بيده. فدخل ـ وهو مرتبك ـ لا يدري ماذا يصنع وماذا سيكون؟
    أشار الشاب لطارق على باب الديوانية، فدخل فيها، ولم يكد يتخذ مجلسه منها حتى سمع صوت شيخ يتنحنح فتذكر الشيخ الذي آذاه هذا الصباح. فتململ وأصغى لسماعها ثانية ولكنه فوجئ بدخول الرجل فنهض لاستقباله لكنه لم يكد يتقدم إليه بضع خطوات حتى تبين أنه صاحبه الشيخ فذعر وبقي واقفاً مكانه فسلم عليه الشيخ فلم يرد، غير أن الشيخ لم يستغرب ذلك فألقى عصاه وجلس. وأسرع طارق إلى الباب يريد الخروج لكن الشاب حال بينه وبين ذلك حينما أقبل. وفي إحدى يديه إناء فيه تمر، وفي الأخرى إناء آخر فيه ماء. ثم وضع التمر والماء وطلب منه أن يأكل لكنه أخذ ينظر إليه تارة وإلى الشيخ أخرى وهو يحدث نفسه: لماذا ساقني الله إلى هذا البيت بالذات؟! ولماذا وافقت على المجيء؟!، بل لماذا أتى هو إلى هنا؟! إني خائف. ولكن لماذا أخاف إنني لم أوذ أحداً إطلاقاً فلم أخاف؟
    ومد يده إلى التمر وعينه لا تزال عالقة بالشيخ، فارتجفت واصطدمت بالإناء فمال وسقط منه بعض التمر فلم ينتبه لذلك. فقد كان غارقاً في تفكير هو فيه كالغريق. لماذا لا أسأل الشاب عن أمر هذا الشيخ ولكن كيف وهو بجانبه؟؟ وأخيراً اتجه إلى الشاب قائلاً (بالأرقام الأبجدية) من هذا الشيخ؟
    ـ لماذا تكلمني بالأرقام؟ كلمني بالعربي.
    فالتفت الشيخ إلى الشاب وقال:
    ـ أنت ثور لا تفهم.
    ثم وجه الكلام لطارق:
    ـ أنا أبوه يا بني .. كأنك في شك من أمري .. أو كأنك خائف مني .. اطمئن فسأشرح لك كل شيء. إنني شيخ كبير كما ترى وعندي خمس من البنات، كنت أمنِّي نفسي بأن أعلمهن. فشغلتني عن ذلك الحياة. ثم علقت الأمل على ابني (وأشار إلى الشاب). غير أن أعمال التجارة قد ملكت جميع أوقاتنا، فأخذت أبحث عن شاب أَكِلُ إليه ذلك، فما اطمأنت نفسي إلا إليك. فأردت أن أختبرك زيادة على ما شاهدته منك من ثبات وقوة في الأخلاق والدين، ففعلت ما فعلته معك هذا الصباح. فهل تقبل يا بني أن تكون معلماً لهن؟!!
    (يتبع)


  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    الفصل الثاني
    خطوات على الطريق

    كان طارق يستمع إليه وهو مطرق الرأس، وكأنه ينفض عنه تلك الأفكار السود التي تلبدت في دماغه حتى أفقدته التفكير فبقي صامتاً لم يتكلم بشيء عندما سكت الشيخ مما جعله يواصل الحديث قائلا : سأعطيك على ذلك أجراً لا بأس به عشرون ريالا كل شهر أي أربعون ومئتا ريال في السنة. وستأكل وتشرب هنا وتنام إن شئت ولك مني كسوتان في السنة فما رأيك؟
    واستمر طارق في صمته وإطراقه وإمارات الحيرة تلوح على جبينه الذي بدأ ينضح بالعرق، وكأنه يريد أن ينم عما يعتمل في نفس ذلك الشاب الذي مازال يحيا في بقايا معركته مع الجوع في تلك الأيام الثلاثة الماضية.
    طيفان يتصارعان في مخيلته: طيف الجوع الذي طواه، وطيف اليسر وسعة العيش الذي يعرض عليه الآن وهو متأرجح بينهما لا يدري أيجيب داعي النفس فيطرد الأول ويقرب الثاني؟ أم يجيب داعي المجتمع الذي يعيب على مثله تعليم البنات لأنه من أسرة عريقة في حسبها ونسبها؟.
    وبعد مجهود كبير بذله في المفاضلة بين هذين الطيفين، رفع رأسه واتجه إلى الشيخ قائلا : ليس لي من أحد أستشيره ولكني سأستخير الله، فأمهلني إلى الظهر.
    وافق الشيخ على ذلك. ولما ذهب طارق إلى المسجد صلى ركعتين دعا فيها بدعاء الاستخارة ثم نام. ولما استيقظ وجد نفسه قد عقدت العزم على الموافقة.
    وفي صباح الغد بدأ العمل في تعليم البنات الخمس. وكان للشيخ أبي البنات جار من أثرياء الرياض وتجارها له من الولد اثنان: ابن وبنت. فلما سمع بأن جاره قد أتى بمعلم لبناته استأذنه في أن تشترك ابنته معهن. فرحب الشيخ بذلك فالتحقت فطوم بنت إبراهيم بالدراسة على طارق مع بنات الشيخ.
    ولم يسر طارق بالتحاقها أول الأمر لأنه كان يرى أن تلك المهنة غير شريفة. فكان يتستر، لأنه يخشى من انتشار الخبر في المدينة بسبب التحاق بنات الجيران. فصار يلتمس الفرص لتخلفها ويهيئ لها الأسباب ليتخذ منه وسيلة لطردها بحجة أنها ستكون سبباً في تخلفهن. غير أنه لم يكد يمضي شهر حتى أبدت فطوم تفوقاً عظيماً على زميلاتها. وكانت بلباقتها في الحديث وحسن أدبها وتلقيها للدرس وخفة روحها وسبقها لزميلاتها سبباً في تغير نظرة طارق إليها. بل لقد أعجب بها أيما إعجاب. فتحول إهماله لها إلى عناية، وتربصه بها إلى خوف عليها.
    وفي يوم من الأيام جاء بعد الظهر ليواصل العمل في تدريس تلميذاته الست، ولكنه لم يكد يصل إلى باب البيت حتى فوجئ بأبشع منظر :أجسام محترقة، ودخان يملأ الفضاء، ونيران تشتعل داخل بيت أصحابه .. والكل يصيح: النجدةَ النجدة. فاقتحم البيت المشتعل وأبصر الأيدي تشير إلى فتاة حالت النيران دونها وأنسته بشاعة المنظر نفسه، فاقتحم النار إليها ولفها فيما حولها من ثياب. وقطع النار بها إلى الخارج ولكنه لم يكد يجاوز المكان المشتعل حتى سقط مغشيا عليه، فبادره أبوها فحملوه إلى بيتهم، لأنها كانت فطوم بنت الجيران التي انضمت إلى تلميذاته لتدرس معهن. وبقي طارق في بيت إبراهيم ثلاثة أيام لا يتكلم، بل إنه بين الحياة والموت. فقد أحرقت النار كل جسمه ماعدا الوجه واليدين.
    غير أن إبراهيم كان من أغنياء المدينة ووجهائها فعمل المستحيل لإنقاذ طارق الذي أنقذ ابنته الوحيدة فنصحه الأطباء أن ينقله إلى مكان أكثر هدوءاً وأنقى هواء لخوفهم من أن يكون الحادث قد أثر على عقله؛ فتلعثم كلامه، وتعثر لسانه وصيحاته المتوالية «النار .. النار » تنبئ بذلك.
    كان إبراهيم قد بنى له خارج البلد فلة كبيرة على طراز لم يسبق لمدينته إن رأت مثله، وإن كانت هذه الأيام تغص بما هو أجمل منها بكثير. غير أن وجود بيت مبني بالمسلح على طراز خاص وتحيط به الأشجار من كل جانب. كان يبدو في تلك الأيام أمراً غريباً وكان خوف إبراهيم من العين ومن أن تلوك ألسنة الناس سيرته بمثل قولهم «أطغته الدراهم»، فزهد في بيوت آبائه وأجداده أو وصفه بالإسراف والبذخ. من أجل ذلك أجل إبراهيم الانتقال إليها، ولكن حرصه على مكافأة طارق على ما عمله من أجل ابنته جعله ينسى ذلك كله، بل ويبني في جانبها غرفة وحمام لطارق وأتى له بخادم خاص يقوم على خدمته وملاحظته إذا ما غاب هو وابنه عن البيت.
    ومضى شهر على الحادث شفي خلاله طارق من جميع الجروح التي أصيب بها. غير أن هناك مرض أخطر من الجروح خلفه الحادث المرعب في أعصاب طارق مازال يلازمه كلما جاء وقت الحادث أو سمع حديثاً عنه، صراخ وهذيان وارتعاش متواصل لا يهدأ إلا إذا أتى الدكتور فأعطاه إبرة منوِّمة يغط بعدها في نوم عميق يصحو بعده. وقد ذهبت عنه النوبة فيبدو طبيعياً في كامل الصحة والعافية.
    ودفع اهتمام إبراهيم بطارق الدكتور إلى أن يبذل كل ما في إمكانه لإنقاذ طارق فتقدم على يده شيئاً فشيئاً حتى شفي تماماً.
    وكان الربيع قد حل، فاخضرت الأرض وكثرت الأعشاب والغدران وطاب الخروج إلى البر. غير أن حرص إبراهيم على صحة طارق جعله يرفض طلب أولاده الخروج. أما وقد شفي وانقطعت عنه تلك النوبة فلم يعد له عذر فوافق.
    وفي أول أيام الأسبوع وبعد صلاة الفجر كان كل شيء قد أعد فركبوا السيارة جميعاًً؛ إبراهيم وابنه حامد وطارق في المرتبة الأمامية وفطوم وأمها في المرتبة الخلفية. أما خادم طارق فقد ركب مع الخادم الآخر في سيارة "ونيت" تحمل المواد والمتاع.
    ولما كانت تعليمات الدكتور تقضي بألا يتعرض طارق لرؤية النار أو سماع قصة الحادث إلى أن يأمن تأثره بهما، فقد عمل إبراهيم على أن يصعد به الجبل بعد وصولهم حتى ينتهي الجميع من إعداد الشاي والإفطار. فأخذ يدور به في الجبل ويستعرض معه كل كهف يمران به أو بركة طبيعية امتلأت بالغدير، إلى أن ظن أن كل شيء قد انتهى وأن النار قد أطفئت فعاد، فكان كل شيء على ما يرام.
    كان الجوع قد تمكن منهم فلم يكد يقدم الإفطار حتى أخذوا يأكلون منه بنهم، وصار طارق بين لقمة وأخرى يصف في فرحة وسرور لحامد ما مر به مع أبيه من كهوف ومياه.
    كان الخادم الذي أطفأ النار بالماء قد وضع عليها الحطب زيادة في إخفاء أثرها فمرت بها الريح فوجدت شرارة أخطأها الماء فأضرمتها، ولم يشعر بها أحد حتى اشتعلت في الحطب. وكانت فطوم أول من رآها فصاحت:
    ـ النار .. النار اشتعلت في الحطب.
    فقفز طارق مذعوراً وهو يصيح: النار؟ ورأى فاطمة تحاول إطفاءها فأسرع إليها وهو يصيح : فطوم فطوم، النارَ النار!
    ووقف عندها يتلفت وكأنما يبحث عن شيء ثم رد يده إلى جبته وحاول خلعها فلم تطاوعه أزاريرها، فقطعها ثم خلعها ولف بها فاطمة وهو يرتعش واحتضنها وهو يصيح:
    ـ النار النار!
    فأسرع إليه إبراهيم ولكن الرعدة قد تمكنت منه. فسقط على الأرض وأصاب رأسه حجر فشجه. وكان إبراهيم قد وصل، فرفع فطوم من على صدره وصاح بحامد : أعطني التنتريون والقطن والشاي من درج السيارة. وما هي إلا لحظة وانتهى إبراهيم من إيقاف الدم وتضميد الجرح ولكن طارق مازال في هذيانه وارتعاده. وحمل إبراهيم بمساعدة ابنه طارقاً إلى السيارة وانطلق بها الأب كالبرق إلى البلد، إلى بيت الدكتور.
    بقي حامد مع أمه وأخته والخادمين ليقضوا بعض يومهم ثم يعودون إلى البلد كما أمر والده. ولكن لماذا يعودون آخر النهار؟ ألم ينظموا أمورهم على أنهم سيبقون أسبوعاً كاملا.
    لماذا ينغص عليهم هذا الغريب حياتهم؟.
    ولماذا قبلوا أن تتحول فلتهم الجميلة إلى سجن مجانين بسبب وجود هذا المعتوه الغريب (طارق)؟ ولماذا قبلوا بتحول عناية أبيهم بهم إلى عنايته بدخيل لا تربطهم به أية رابطة؟
    لماذا هذا كله؟
    بل لماذا يسكت ويقف مكتوف اليدين؟ أليس من حقه أن يتكلم، بل ويفرض رأيه على هذا الشيخ المخرف (والده)؟ والتفت إلى أخته التي مازالت ترتعش بسبب الذعر الذي أصابها حينما لفها طارق في جبته واحتضنها وهو يصيح:
    ـ قطومَ فطّوم، النارَ النار.
    وازداد تجسم المشكلة أمامه، وأخذت تلك التساؤلات تتفاعل في دوران مستمر برأسه فانفجر صارخاً بهذا السؤال الموجه إلى أمه :
    ـ أيرضيك هذا؟ قولي لي متى ولدتموه حتى يشاركنا بل ويؤثر علينا؟
    والتفتت الأم والدمع يتناثر من عينيها كما تتناثر حبات عقد خانه نظامه وقالت:
    ـ يا بني شاب غريب مسكين! لا أهل له ولا مال، ثم إن ما أصابه بسبب مجازفته بحياته في سبيل إنقاذ أختك فلا أقل من أن نخدمه ونعنى به حتى يُشفى.
    وفي موج من الغضب والسخرية من قول أمه قال وهو يضرب الأرض بعود كان في يده:
    ـ إذن فبكاؤك من أجله، لا من أجل متعتنا بهذه الرحلة التي أضاعها منا؟ ولا من أجل أختي التي مازالت ترتعش أمامك من جراء نوبات هذا المجنون، إني لن أسكت، لن يبقى معنا هذا المجنون أكثر مما بقي.
    وأرسلت الأم زفرة عميقة وهي تمسح دموعها المتزايدة؛ لئلا لا تزيد من غضب ابنها. زفرة عميقة تنهدت بها من الإشفاق على طارق والألم والمرارة من هذا الشعور الخبيث المسيطر على ابنها، ثم قالت:
    ـ افرض أني أكرهت نفسي ووافقتك على ما تقول ولكن ما الذي تظنه من أبيك؟ إن منزلة طارق في نفسه كبيرة، وإشفاقه عليه ليس له حدود.
    لم يرد على أمه، بل نهض من عندها وهو يردد في نفسه:
    ـ أبي أبي! سأكفيك أمره، سأنزله على حكمي راضياً أم كارها، سأرغمه على طرده، أو أتخلص منه أنا بأي وسيلة نعم. ولتكن آخر وسيلة ـ قتله ـ إن لم تنجح الوسائل الأخرى.
    وكان قد انتهى إلى مرتفع ليس بالبعيد عن المكان وكانت فيه صخرة كبيرة ملساء منحدرة يتزحلق عليها الأطفال الخارجون مع أهلهم إلى هذا المكان. فأسند إليها ظهره شبه مستلقيا. وأغرق نفسه في التفكير ورسم الخطة التي سيتخلص بها من طارق.
    مضت ساعة وساعتان وثلاث وهو غارق في أفكاره. وأقبل الظهر فطفق الخادمان يعدان طعام الغداء وظنته أمه نائماً. فجاءت لتوقظه، فلما وصلت إليه ورفعت في رفق وحنان بيدها رأسه صاح بها قائلا:
    ـ اتركيني.. اتركيني..
    وخافت الأم من أن يعرف الخدم ذلك فصاحت بـ (سرديني):
    يا سرديني يا سرديني يا سرديني ..عمك يريد ماء ليتوضأ. وأسرع سرديني بالماء فاعترضته الأم في الطريق وقالت بصوت خافت:
    ـ ضع الماء بجواره ولا تكلمه.
    وبعد قليل قام حامد وتوضأ وصلى. وقدم الغداء، فأكل الجميع ثم شربوا الشاي. وكان كل شيء يجيء في صمت متواصل ساد الوادي منذ قام حامد من عند أمه في أول الصباح.
    سكوت طويل موحش أضل ذلك الوادي المؤنس الخصيب كأنما لم يحل به أحد. سكوت مطبق لا يقطعه إلا ما كان يتخلله من بعض الاستفهامات من الخادمين وإرشادات الأم لهما بحسب أسئلتهما، أو ضحكات فطوم كلما قذفت أمها بشجيرة حلوة أعجبتها فاقتلعتها لتضعها في فم أمها. إلى أن قام حامد إلى السيارة ففتح بابها الخلفي ثم فتح الباب الأمامي وركب في صدرها منكبا على عجلة القيادة ففهم الخادمان أنه يريد رفع المتاع ليرجعوا إلى البلد.
    وما هي إلا لحظات حتى كان كل شيء في السيارة ولم يبق في الأرض شيء. ركب الخادمان في الخلف وركبت أم حامد وأخته معه في الصدر. فانطلق بها وهو لا يبصر طريقه من الغضب. فاعترضهم وادٍ عميق لم يأخذ له حساباً، فهوت به السيارة فجأة فانقلبت على ظهرها ثم انقلبت ثانية فاعتدلت على عجلاتها، وأفاق الجميع بين كسير وجريح؛ فقد شُجَّت الأم في رأسها وجرحت فطوم في فخذها وكسرت يد سرديني، وفضت رجل علي.
    أما حامد فلم يصب بأذى. فعالج السيارة فمشت فالتفت إلى أمه وقال: كل هذا من بركة المذكور حتى الشاش والقطن (والآيدين) المطهر مع أخينا في السيارة * يعني والده * ولم تقل الأم غير كلمة رددتها في سرها:
    ـ أبوك تقول له أخينا. تتحاشى أن تتلفظ بأبي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، لطفك يا رب؟!!
    ومضوا. ولاشيء يسمع سوى صوت آلات السيارة المسرعة كأنما يريد بعضها أن يأكل بعضًا، وهي تدفع هيكل السيارة في سرعة هائلة، حتى كأنما حملتها الريح عن الأرض فزادت في اندفاعها ليتمزق الهواء عن وجهها مخلفاً أصواتاً كمثل الرعود مختلطا بالعواصف الهوج. فتغرق الأم في دوامة من أفكار متشائمة أهاجها تساؤل خطر بفكرها: لماذا أغرق حامد نفسه في هذا الصمت منذ الصباح؟ أيضمر شراً؟ بلا شك، ولكن هل سيؤدي ذلك إلى نزاع مع أبيه؟ ولكن حامد شاب مؤدب يحترم أباه. لكنه اليوم غير حامد الذي أعرفه. فهل سيتشاجر مع أبيه؟ رباه إن إبراهيم لا يرضى أن يتطاول عليه ابنه وهو إن فعل ذلك فسيضربه وربما هرب حامد وهو وحيدي إنه ولدي.. ولدي.
    ورفعت بها صوتها بلا شعور. وتيقنت أن حامد قد سمعها فالتفتت إليه ولكنه لم ينظر إليها، وازداد الذعر في نفسها فعلتها رعدة هزت جسمها هزاً عنيفاً فتناثر الدم السارب من جرحها أمامها وأفاقت على صراخ ابنتها من ألم فخذها المجروح وشعرت هي بالألم يفرم رأسها فبدأت تئن فاختلطت الأصوات المتنافرة بعضها بالبعض: جلبة السيارة، أزيز الريح، أنين الأم، صراخ البنت لتشكل مجتمعة في أذن الأم أفظع مأتم وأبشع مناح.
    أما الخادمان فكان ارتجاج السيارة وتمايلها يخفف عليهما الألم لما يدخله في قلبيهما من رعب بسبب الخوف من أن تنقلب مرة أخرى فيكون الهلاك.
    ويعود الصمت إلى الإطباق ويتساءل الخادمان ما السبب ؟ فلا يجدان جواباً فيعودان للسكوت.
    وتصل السيارة إلى البيت، فيجد حامد الباب مفتوحاً، فيدخل ويفاجأ برؤية أبيه جالساً على كرسي عند باب غرفة طارق، فيزيد ذلك في غيظه.
    وتتوقف السيارة فينزل حامد فيراه أبوه متجهمَ الوجه فيظن أنه قلق على طارق فيبادره بقوله:
    ـ إنه في...
    ولكن الكلمات تموت على شفته وتحتبس في صدره. فقد فوجئ بمنظر الدم الطافحة في ثياب ابنته وزوجته. فصرخ بحامد :
    ـ ما هذا يا حامد؟
    فيجيبه في سخرية وتهكم:
    ـ بركاتك أنت وهو.
    يغلى مرجل غضب الأب، فيصفع حامداً صفعة شديدة ترمي به على الأشجار المجاورة للرصيف فينهض وهو يقول : أظن خسارة ـ الله يحييك ـ أن أسقط على الأشجار التي أمام غرفة طارق فأكسرها.
    فيركله الأب برجله ركلة أفظع من الأولى فيتدحرج بعيداً فيلحق به ليضربه فتحول دونه أمه وأخته وتأخذ الأم بيد زوجها مهدئة له إلى داخل البيت لتقص عليه كل ما جرى في الطريق. لكن منظر الدم الذي يكسوها يربك إبراهيم فينزع يده من يدها ليسرع إلى الهاتف طالباً الدكتور ثم يعود إليها ليسمع الخبر، وما هي إلا لحظات أطلعته فيها على كل شيء. وحضر الدكتور فأجرى الإسعافات اللازمة للأربعة.
    وبحثت الأم عن ابنها لتمسح عليه من حنانها عسى أن يثوب إلى رشده فلم تجده، فعضت على شفتها السفلى حتى كادت أن تقطعها، وتحاملت على نفسها مفضلة الصبر والسكوت بقية يومها، لكن عواصف الخوف أخذت تتعاورها وإبراهيم مازال غاضباً. فماذا تفعل؟
    ولجأت إلى ابنتها فاطمة لتصرخ بأبيها:
    ـ أين أخي حامد يا أبي؟ لقد هرب.
    وانتبهت في الأب عاطفة الأبوة فصاح بسرديني:
    ـ أين حامد؟
    وجاء سرديني يعدو معلقا يده على صدره. ففهم إبراهيم أنها مكسورة فقال: أين على ليبحث عن حامد؟
    قال سرديني:
    ـ علي على فراشه لا يستطيع القيام.
    ـ اذهب إذن أنت وابحث عنه، وسأبحث أنا أيضا ولكن اجتهد ولو أنك ستتعب.
    قال سرديني:
    ـ لقد أسرَّ لي يا سيدي بأنه سيذهب إلى أخواله في منفوحة وطلب مني ألا أخبركم بذلك.
    ـ استرح إذن هناك في غرفتك ولا تبرح فربما احتجت لك.
    وانقلب سرديني راجعاً إلى غرفته ولكنه سمع صوت سيده يناديه. فعاد إليه ليسمع قوله:
    ـ اسمع يا سرديني ابحث لنا عن خادم يخدمنا ويخدمكم حتى تشفيا.
    فيجيبه:
    لا حاجة لنا في أحد يا سيدي فتعبنا في سبيل راحتكم واجب، وليس هناك ما يدعو إلى أن نأتي بخادم.
    ـ اذهب إذن لغرفتك واسترح حتى أدعوك.
    ذهبت الأم مع ابنتها إلى غرفة النوم بعدما اطمأنت على مصير ابنها، ليسلمها التعب إلى نوم عميق.
    وكان إبراهيم قد أحس باستيقاظ طارق، فاتجه إلى غرفة الخادمين وأمرهما ألا يخبراه بشيء، ثم ذهب إليه ليجلس معه ويحادثه. ثم نادى الخادم سرديني فطلب منه أن يأتي لهما بشيء من الطعام ليتغديا، ففعل. ولم يكد إبراهيم وطارق ينتهيان من الطعام حتى فوجئا بدخول الدكتور ولم تطل الدهشة. فقد فهم إبراهيم من نظرات الدكتور أنه يريد أن يخلو به، فخرج من الغرفة يتبعه الدكتور، وفي وسط الحديقة أطلع الدكتور إبراهيم على الرسالة الشفوية التي أرسلها بها حامد حينما مر به وهو في طريقه إلى أخواله. وخرج الدكتور وذهب إبراهيم إلى زوجته فوجدها تغط في نوم عميق فتركها واستلقى على فراشه وهو يفكر في تلك الرسالة الخبيثة التي بعث بها حامد ويطلب من والده أن يعزل طارقا عنهم في بيت البلد القديم أو يطرده وإلا فسوف يتولى حامد طرده أو قتله إذا لزم الأمر ثم يهرب إلى الخارج.
    وبقي ساعة كاملة يتقلب على فراشه كحبة في مقلاة على نار شديدة، فأحست به عائشة فرفعت رأسها فلم يكد يراها مستيقظة حتى هتف بها قائلا:
    ـ أدركيني تعالي هنا.
    فأسرعت إليه وهي تقول :
    ـ هل أصابه سوء؟ يا ليت. استغفر الله يا إبراهيم.
    ـ اسمعي تهديد ابنك لي. أما أن أعزل طارقاً في بيت البلد أو أطرده، أو يطرده هو أو يقتله ويهرب إلى الخارج.
    قالت:
    ـ يا أبا حامد، ما المانع من إنزال طارق في بيت البلد؟
    ـ ولكننا قد وقفناه على المسجد وسلمنا مفاتيحه للقاضي.
    ـ على كل حال اترك الولد عند أخواله هذا الأسبوع واهدأ وفكر في الأمر، فربما وجدنا حلا لا يكون فيه عنت أو ربما أسف الولد وعاد إلى رشده. ادع الله له يا إبراهيم.
    ـ على كل حال سأستشير الدكتور أحمد فهو مخلص وعنده حكمة.
    ـ ولماذا لم تستشره حينما جاء؟
    ـ لقد أنساني الغضب ولكني سأذهب إليه الآن. يا رب إننا لم نقصد بعملنا مع طارق إلا وجهك الكريم فلا تجعله وبالا علينا ومُنَّ علينا بإتمام ما بدأنا.
    وقام إبراهيم فركب سيارته وانطلق إلى بيت الدكتور أحمد، أما عائشة فقامت متثاقلة من فراش زوجها الذي كانت جالسة على حافته حينما ناداها واتجهت إلى غرفة فاطمة فوجدتها مازالت نائمة. فجلست على حافة فراشها تفكر في ابنها الذي هرب من البيت. ما الذي جعل حامد يتضايق من وجود طارق بهذا الشكل؟ هل نخسر ابننا من أجل ولد ناس آخرين لا لشيء؟ غير أنه أنقذ فاطمة من النار، وهل هذا قليل؟ ولكن هل يبرر تضييعنا ابننا؟ الله يهديك يا حامد، ما كان الأمر يحتاج إلى هذا كله؟
    (يتبع)


  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    وانفجرت تبكي وخرجت من غرفة فاطمة التي مازالت تغط في نومها ولاذت بفراشها لتسقيه بكل ما في عينيها من دموع الأمومة، وكان وقت صلاة العصر قد حان فقامت وهي تستعيذ من الشيطان وتمسح ما سرب على خدها من دموع، فذهبت إلى الحمام فتوضأت ثم رجعت إلى فاطمة فأيقظتها للصلاة، ثم تناولت السجادة من على الدولاب ففرشتها وصلت.
    قعدت تفكر في حل يعيد إليها ابنها. لماذا لا أحتال في إبعاد طارق؟ ولكن كيف؟ نعم سآخذ له بعض النقود وأغريه بالسفر إلى أهله ولن يعود إلينا بعد ذلك .. ثم افرضي أنه عاد لا نستقبله إلا باستقبال لا يطمعه في البقاء عندنا. واتجهت إلى خزانتها ففتحتها وتناولت منها بعض النقود ثلاثمائة ريال من الفضة ثم أغلقتها.
    وكانت فاطمة قد انتهت من الصلاة فطلبت منها أن تعمل شايا وقالت لها إنها ستذهب إلى طارق لتسأله عن حاله. ثم وضعت جلبابها على رأسها ولوت طرفه على رقبتها وأرخت آخر على وجهها، وخرجت من الفلة ومشت في الحديقة متجهة إلى غرفة طارق.
    ولكنها لم تكد تدنو من الغرفة حتى سمعت بكاء يخرج منها فارتجف قلبها وخافت أن يكون المسكين قد علم شيئا، ودخلت وهي تقول:
    ـ طارق ماذا بك؟
    رفع رأسه من الوسادة مذعوراً. واعتدل على فراشه وقد أضفى غترته على وجهه ليخفي الدمع المتناثر على خديه:
    ـ أم حامد؟! .. لاشيء يا أمي.
    عصفت تلك الكلمة بقلبها عصفاً عنيفاً (أمي):
    ـ لا يا طارق .. لماذا تبكي؟ هل ضايقك أحد؟ والله لا يرضينا شيء من هذا فأنت ابننا وهذا بيتك مادمت راغباً فينا.
    ـ أبدا والله ما حصل شيء.
    ـ إذن لماذا تبكي ولم أرك قبل اليوم باكياً؟
    ـ إني أحس بكابوس ثقيل جداً يضغط على قلبي وأخاف أن يكون مكروهاً قد أصاب أهلي.
    ـ استعذ بالله من الشيطان أهلك بخير وأنت هنا لست بغريب.
    ونظرت إلى النقود المربوط عليها في ذلك المنديل الأحمر المزركش وقالت لنفسها:
    ـ ابن يفكر في أهله وأهل يفكرون في ابنهم إن خطتي هذه خطة ناجحة مائة في المائة فلأنفذها إذن.
    ـ طارق ..
    ـ نعم.
    ـ رأيي أن تذهب إلى أهلك وتقيم عندهم شهرين أو ثلاثة ثم تعود ونحن أهلك هنا وهذه ثلاثمائة ريال اشتر بها بعض الحاجات لهم. أما كسوتك فسأعد لك من ثياب حامد ما يكفيك في مدة غيابك عنا.
    ـ لقد قبلت ببقائي عندكم وتكرمكم بمعالجتي وخدمتي، لأني فقير وغريب ففعلتم معي أكثر مما قد يفعله أهلي لو كنت عندهم. وتريدين مني الآن أن آخذ مالكم أيضا، لا يا أم حامد.
    ـ ألم تقل لي منذ قليل يا أمي؟
    ـ بلى. وإني لأحس بمحبتك في قلبي وكأنما تريد أن ترجح بمحبة أمي التي ولدتني، ولكن هذا لا يعني أن أطمع في أكثر مما فعلتموه.
    ـ إن ما تجده في قلبك من محبة لي أجده أنا في قلبي بالنسبة لك. ولهذا فإني لمحبتك لي أرجو أن تأخذ هذه النقود. والله لن أعود بها وسأضعها في حقيبتك
    ثم سحبتها وفتحتها ثم ألقت بالنقود وأغلقتها وطارق صامت، وقد غرق في بحر من الخجل لا يدري بماذا يقابل هذا الكرم الذي عاش فيه منذ الحادث حتى هذه اللحظة.
    وانفلتت مسرعة إلى الفلة وعيناها عالقتان ببابها كأنما تخشى أن تهرب منها. إنها تريد أن تصل إليها بأقصى سرعة ولولا الحشمة والحياء من أن يراها أحد وهي تعدو لركضت.
    لقد وصلت إلى حل سيعيد إليها ابنها الهارب من البيت وفي أسرع من لمح البصر. وصلت الباب فصاحت:
    ـ فاطمة... فاطمة سمي (نعم). أطلبي لي * وأنا أمك * أباك من بيت الدكتور أحمد خيري.
    ـ حالا إن شاء الله.
    وأدارت فاطمة يد الهاتف بسرعة وردّ عليها السنترال. يا مركز أعطنا بسرعة بيت الدكتور أحمد خيري. وفي لحظة رد بيت الدكتور، فطلبت أباها فناداه الدكتور فأتى ورد:
    ـ ألو من؟
    ـ أنا فاطمة انتظر .. تريدك أمي.
    ووضعت السماعة بجوار الهاتف وانطلقت إلى أمها فأخبرتها بأن أباها على الهاتف.
    أقبلت الأم وفي يدها لفافة فوضعتها تحت أقدامها ورفعت السماعة:
    ـ ألو إبراهيم.
    ـ نعم خيراً.
    قالها وهو يود لو اقتحم سماعة الهاتف إلى البيت، لأن في نبرات صوت فاطمة ما يوحي بأن هناك أمراً خطيراً.
    وكانت الفترة مما بين ذهاب فاطمة وإتيان أمها كفيلة بأن تذبذب فكره في حوادث مختلفة، ترى هل جن حامد فتعجل في تنفيذ شيء مما هدد به؟ أم أن طارقاً علم فخرج؟ أم أن الجروح قد اشتدت على أحد منهم؟ أم ماذا؟
    ولكن تساؤلاته لم تطل فقد بددتها عائشة بقولها : لقد توصلت إلى حل للمسألة يا إبراهيم. ولم تنتظر منه سؤالاً عن ذلك فأردفت قائلة : لقد أقنعت طارق بالسفر إلى أهله والبقاء عندهم شهرين أو ثلاثة وكانت فرصة أن وجدته قلقا عليهم فانتهزتها.
    ـ ولكني قد توصلت مع الدكتور إلى حل أفضل سأخبرك به إذا أتيت. إني آت الآن في أمان الله.
    ووضع السماعة. ووضعت عائشة السماعة على الهاتف ثم رفعت اللفافة التي كانت معها وانطلقت بها خارج الفلة إلى حجرة طارق، فدخلت عليه وهي تقول:
    ـ يا ابني هذه هي الملابس أربعة طقوم كاملة.
    ثم سحبت الحقيبة من تحت السرير ووضعتها فيها فوق صرة الفلوس، ثم أعادتها، وانصرفت.
    وبعد قليل دخلت سيارة إبراهيم من الباب الخارجي، ثم أوقها ونزل، ثم اتجه إلى الفلة بعد أن أغلق باب السيارة دون أن يمر بطارق كما هي عادته. وفي طريقه إلى الباب الداخلي كان ينظر في ورقة كانت في يده وهو يقود السيارة. ولم يكد يصل حتى وجد عائشة واقفة في الداخل تنتظره فبادرها بقوله:
    ـ أتدرين ماذا في هذه الورقة؟
    نظرت إلى وجهه فرأت الغضب يتلاطم فيه فقالت في ذعر وهلع :
    ـ لا والله لا أدري. ابنك مستعد بعشرين ألف ريال مقابل قتل الدكتور لطارق. كتبه هذا الخبيث المجنون.
    ـ من؟
    ـ ومن يكون غير كلبك حامد؟؟
    ـ حامد؟
    ـ نعم حامد النذل مع الأسف، إني صرفت كل جهد في تربيته ليكون مثال الشاب الصالح الورع. وأخيراً تكون هذه نهاية تربيتي. ليتني فقدته قبل أن أرى منه هذا. ليت السيارة حينما انقلبت بكم طحنته حتى لا أحس بخيبة أملي في تربيته. لا يمكن أن يفعل هذا؟؟ لا يمكن؟؟ اسمعي "نعم أنا حامد بن إبراهيم أقر واعترف بأن في ذمتي للدكتور أحمد خيري عشرين ألف ريال عربي قرضة في فترات مختلفة اقترضتها منه وعلى ذلك أوقع" (توقيع حامد) إبهام الموقع زيادة في الإيضاح. اسمعيني أنا وراؤك يا حامد يا ضائع إذا ما أدبتك فلست بأبيك.
    وارتعدت مفاصل الأم، ثم سرت الرعدة في جميع جسمها فأغمي عليها وسقطت على الأرض، فأسرع إليها إبراهيم ورفعها بين يديه واتجه بها إلى فراشها وهو يصيح:
    ـ فاطمة .. فاطمة ماء بارد عجلي.
    وأسرعت البنية بالماء، ولم تكد ترى أمها على فراشها وبين يدي أبيها حتى انفجرت في صراخ شديد:
    ـ أمي .. أمي.
    ـ أمك بخير .. هاتي زيادة ماء.
    وأخذ ينضح الماء على صدرها ورأسها وكتفيها حتى أفاقت وهي تقول في شبه هذيان:
    ـ ابني .. ابني .. أنا بخير بس أريد ابني .. ابني.
    وانفجرت بالبكاء.
    ـ الحمد لله ابنك سيأتي إليك قبل الليل فأريحي نفسك.
    وتحاملت على نفسها فجلست، وأسندت ظهرها على الجدار حياء من أن تضطجع وزوجها جالس، ثم التفتت إلى فاطمة الجالسة تحت قدميها وقالت:
    ـ هاتي لنا الشاي ليشرب معنا أبوك فنجانا. وأنت يا إبراهيم ما هو الحل الذي قلت أنك قد توصلت إليه مع الدكتور؟
    ـ يقول الدكتور سأشير عليه بالسفر إلى الطائف للاستشفاء هناك، ولكي يقبل راضياً يجب ألا يحس بأنكم توافقونني على هذا.
    ـ يا إبراهيم اتق الله. أتريد أن ترمي المسكين في بلاد غربة وهو فقير؟
    ـ لقد تدبرت هذا الأمر مع الدكتور وسيوصي به زميلاً له هناك أما أنا فسأمده بشيء من المال حتى يغنيه الله وسأبعث معه سرديني ليقيم معه شهراً إلى أن يتعرف على الناس هناك.
    وجاءت فاطمة بالشاي فقدمت لأبيها فنجانا ولأمها آخر، ثم وضعت الصينية أمامهما وملأت فنجانين بقيا بها.
    نظر أبوها وقال في ضحكة كبيرة :
    ـ فنجانان يا فاطمة؟ ألأنك أصغرنا؟
    ـ لا يا أبي ذا فنجان أخي حامد فربما جاء الآن.
    وتنهدت الأم، ثم نظرت إلى إبراهيم وقالت:
    ـ لماذا لا نبعث له سرديني يخبره ويأتي به؟
    ـ أجننت؟ أتريدين أن تشعريه بأنه قد أملى رغبته علينا لتتكرر فعلته الخبيثة كلما أراد إكراهنا على أمر؟
    وانفعل إبراهيم وكان قد رفع الكوب ليشرب منه فعاد ووضعه وأردف:
    ـ اسمعي أولاً يجب أن يفهم أن طارقاً قد سافر بمحض إرادته وإننا حاولنا منعه فلم نفلح. وثانياً يجب أن نتركه إلى أن يأتي هو بنفسه صاغرا. وثالثاً يجب ألا يلمس أي فرح منا بمجيئه .. لا تسلمي عليه، بل عاتبيه .. هذا إذا أردت أن تربي ابناً صالحاً. أما إن أردت ابنا مدللا ضائعاً يريك في المستقبل كل ما تكرهين فأسيلي الدمع عند قدومه واستقبليه استقبال العائد من مكة.
    ـ اطمئن سأفعل كل ما يرضيك ولو قلت اطرديه لطردته وإن كان في قلبي ما الله به عليم. سامحك الله يا حامد.
    وجاء الدكتور كعادته فاتجه إلى طارق وسأله عن حاله، ثم قام بفحصه فحصاً دقيقاً .. ولم يكد يفرغ الدكتور من الفحص حتى كان الخادم قد أتى بالشاي، فجلس الدكتور يشرب مع طارق ودخل معه في حديث السفر إلى الطائف واستطاع أن يقنعه بضرورته وأخبره بكل ما أعد له من تسهيلات وقال:
    ـ إن هناك مدرسة دار التوحيد تستطيع إذا ما تحسنت صحتك أن تلتحق بها وللطالب فيها مكافأة لا بأس بها مائة وثلاثون ريالاً.
    ـ مبلغ لا بأس به يا دكتور.
    ـ على كل حال تستطيع أن تعيش به عيشة لا بأس بها وتطلب العلم وهو المهم.
    ـ نعم هو المهم، وإلا لماذا أتيت من بلدتي وتحملت وحشة الغربة وعنتها؟
    ولما كان الصباح جاء إبراهيم ليتناول الإفطار مع طارق فسأله طارق:
    ـ أين حامد؟
    ـ ألا ننتظره؟
    ـ إني يا عم عازم على السفر إلى الطائف وأود أن أقضي معه أطول وقت ممكن، لأني أحبه سأفارقه وله في نفسي منزلة الأخ الشقيق.
    ـ تسافر؟، هل قصرنا معك في شيء دون أن نعلم؟
    ـ والله يا عم إبراهيم لقد عملتم معي أكثر مما يفعله الأهل مع ابنهم ولكن هذا رأي الدكتور.
    ـ نعم، يقول أن صحتك في حاجة إلى جو مثل جو الطائف.
    ـ وقد قلت: أغير الجو بالذهاب إلى بلدي فنهاني عن ذلك.
    ـ أما إذا كان هذا هو رأي الدكتور ووافقت عليه فنحن لا نحب لك إلا الخير ولكن ألا يحسن أن يكون معك شخص يساعدك على تحمل الغربة أول الأمر؟
    ـ لا يا عم، فقد اعتدتها والحمد لله.
    ـ لا يا طارق .. بل سأرسل معك خادمك سرديني يبقى معك شهراً ثم يعود إلينا.
    ـ لا داعي في أن تتعبوا أنفسكم. حسبكم مضايقتي لكم هنا.
    ـ لا تقل هذا فأنت بمنزلة حامد عندنا افطر .. افطر.
    ـأين حامد؟
    ـ إنه عند أخواله.
    وأثناء الأكل قال إبراهيم :
    ـ ومتى عزمت على السفر في حفظ الله؟
    ـ رأيك يا عم!
    ـ متى ما أردت فأخبرنا نحجز لك مقعداً ..الأسبوع الآتي مثلا؟
    ـ أو غداً يا عم.
    ـ ما شئت حتى لو الآن.
    ـ ليست لي حاجة غير كتاب أود بعثه لأبي. فإن كان في الإمكان آخر النهار ففي ودي.
    ـ سيتم ما فيه الخير إن شاء الله.
    وخرج إبراهيم وهو يقول:
    ـ سأعود لنشرب الشاي. وغاب قليلا ثم عاد وفي يده شيء. سحب حقيبة طارق وألقى به فيها ثم أعادها، وجلس معه فقال:
    ـ تلك بعض نقود إن كنت تريد أن تشتري لأهلك بعض الشيء.
    واحمر وجه طارق من الخجل وحاول بكل وسيلة أن يرفض ولكن إبراهيم قطع كلامه بقوله:
    ـ إني قد أقسمت فلا تردها.
    وبعد خروج إبراهيم قام طارق إلى النقود فعدها فوجدها سبعمائة، فأخذ منها خمسمائة وأرسلها مع كتاب إلى أبيه، وأخبره بأنه قد سافر إلى الطائف للدراسة.
    سافر طارق في ذلك اليوم ومعه سرديني الذي أجبره إبراهيم على اصطحابه، ومضى أسبوع على سفر طارق ولم يأت حامد أملا في الاسترضاء، فلما لم يأت أحد لاسترضائه أتى بنفسه، لأنه سئم العيشة عند أخواله الفلاحين وأتعبه ركوب الحمار بعد السيارة الفخمة فعاد ليستقبل بما لم يتوقع من جفوة وقلا من والديه، وسألهم كيف طردوه؟ فزجروه فعاد يسأل فاطمة فقالت له:
    ـ إنه قد سافر بمحض إرادته ليدرس بدار التوحيد .. الله يوفقه ويرده سالماً .
    ـ الله لا يوفقه ولا يرده سالماً. وما الذي رأيناه منه إلا التنكيد! .. جعلها روحة بلا رجعة.
    ـ استح يا حامد، ما الذي رأيته من المسكين. كلنا نحبه إلا أنت مع أنه يحبك أكثر منا!
    ـ أنتِ مغرورة؟ .. قالوا لك إنه أنجاك من النار وكاد أن يهلك نفسه من أجلك فأوهموك .. بلا كلام فارغ، بلا طارق، بلا مارق، واحد فقير غريب حقير مثله نتركه ينغص علينا ما نحن فيه من نعمة ..كلكم مجانين .. والله مجانين.
    وانصرفت وهي تهز رأسها وتقول في سخرية:
    ـ بس أنت العاقل يا حمودة يا أخي؟!!
    ورن جرس الباب الداخلي فخرج حامد لينظر من هو. فوجده الخادم على، وفي يده كتابان فأخذهما، ووجد أحدهما لأبيه فوضعه بجوار الهاتف. أما الآخر فعليه اسمه ففتحه وصار يقرأ فيه ويضحك؟ فمرت به أخته فقال لها في ضحكة ساخرة:
    ـ صدقت .. إنه لم يعلم بشيء! ولهذا كتب لي.


  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    الفصل الثالث
    عـــلامـــات الحـــــب

    ارتجف قلبها واشتد خفقانه وتواصلت ضرباته في عنف وسرعة بلا انتظام وتمنت لو طلبت منه أن يسمعها إياه، ولكنها خشيت أن يسخر منها فقالت:
    ـ وأبي لم يكتب له؟
    ـ بلى.
    ـ أين هو؟
    ودون أن ينظر إليها أو إليه. أشار بيده إلى الهاتف فانفلتت بسرعة والتقطته، ثم انطلقت إلى غرفة أبيها، ولم تكد تتوارى عن أنظار حامد حتى أخذت تقبل في الكتاب تارة وتضعه على قلبها تارة أخرى. وفاضت عيناها بالدموع وخافت أن يراها أحد فأسرعت إلى الحمام فأغلقت بابه عليها لتريق ماء تلك الجفون الحالمة الساهمة.
    ومر الوقت سريعاً وهي غارقة في مناجاة صامتة لهذا الكتاب، لا يُسمع منها إلا شهيق متواصل، ولم تفق إلا على صوت أبيها يناديها فقد تأخرت عليه بالشاي الذي طلبه فأسرعت بوضع الكتاب في جيبها، ثم غسلت وجهها وأسرعت إلى الشاي الموضوع بجانب النار فأخذته وجاءت به إلى أبيها فوضعته أمامه ويدها ترتعش، ثم ردت يدها إلى صدرها وأخرجت الكتاب ومدته لأبيها دون أن تنتبه إلى تبليل دموعها له. فلما سألها والدها قالت إنه قد سقط منها وهي تغسل الفنجان فابتل.
    ـ ولماذا تأخرت على بالشاي؟
    ـ لقد أحسست بألم في بطني فذهبت إلى الحمام.
    نظر إلى وجهها فرأى التعب والإجهاد فيه. فطلب منها أن تذهب إلى فراشها ريثما يشرب الشاي فإن سكن الألم وإلا استدعى الدكتور. وتباطأت في الانصراف. إنها تود لو سمعت ما في هذا الكتاب، ولكن ماذا يقول والدها لو أحس منها بهذه الرغبة؟. لابد إذن من الفراش.
    وانطلقت إلى غرفتها ودفنت نفسها تحت الغطاء، وحاولت أن تدفن فيه ما يضطرب داخل صدرها من زفرات، وإن تعصر ما احتقن في جفونها من دمع على وسادتها، ولكن شعوراً عنيفا حبس تلك الزفرات وذلك الدمع، حتى استحالا إلى رعدة شديدة كرعدة المحموم تنفض السرير مع جسمها. وأحست بشيء ينسل من تحت الغطاء ويمس جبينها في رفق فتلمسته فوجدت يد أبيها إنه لم يستطع إكمال الشاي فأتى ليطمئن على أعز شيء لديه .. إنه يحبها أكثر من كل أحدٍ آخر حتى أخيها، ولم يكد يرى ما هي عليه حتى انطلق مسرعاً وقال للأم:
    ـ اذهبي عند فاطمة.
    ـ ماذا بها؟
    ـ إنها مريضة؟ ـ
    ـ مريضة؟!!
    ـ نعم، سأذهب إلى شغلي وسأرسل حامد إلى الدكتور، ثم أتصل بكم بعد قليل لتخبروني كيف حالها.
    وجاءت الأم مهرولة إلى ابنتها. وكم كانت دهشتها شديدة حينما رفعت عن وجهها الغطاء فوجدتها تبكي.
    ـ فاطمة .. أتبكين؟ .. ماذا بك يا بنتي؟ فاطمة ردي عليَّ .. ماذا بك؟
    ـ لا أدري صدري ضائق.
    ـ من ماذا؟ هل آذاك أحد؟ هل تخاصمت مع أخيك؟
    ـ أبداً.
    ـ إذاً لماذا تبكين؟ .. أخبريني.
    ـ لا أدري.
    ـ إنا لله وإنا إليه راجعون!
    ثم مسحت بيدها العرق المتصبب على جبين ابنتها وقالت :
    ـ اسمعي يا فاطمة أنا أمك ولا يصح أن تخفي عليَّ شيئاً. متى أحسست بذلك؟
    ـ منذ قليل.
    ـ بسبب أي شيء؟
    ـ لا أدري..
    واشتد خوف الأم وصارت تقطع البيت في جيئة وذهاب، تنتظر الدكتور.
    وبعد ساعة قضتها الأم على أحر من الجمر جاء الطبيب فأخذ في فحصها. وبعد ما انتهى من ذلك أعطى الأم ورقة فيها دواء وقال:
    ـ إنها مضطربة الأعصاب، وهي في حاجة إلى هدوء تام ومواظبة على العلاج، وسأفحصها كل يوم فلا تضايقوها.
    مضت الأيام، وقامت فاطمة من فراشها ولكنها لم تعد إلى ما كانت عليه من مرح ولم تعد تملأ البيت بحيويتها ونشاطها .. إنها شاردة الذهن، مشغولة البال دائماً، مما جعل أمها وأباها في حيرة من أمرها. لقد فقدوا السعادة التي كانت تملأ بها البيت بين الابتسامة الحلوة، والضحكة العذبة، والروح المرحة المتفائلة وحل بدلا من ذلك ذهول وشرود ذهن، ومسحة من الكآبة يطفح بها وجهها الغض الذي استحال إلى لون الوردة التي صهرتها الشمس فأحالتها إلى ما بعد الذبول من شحوب وجفاف.
    ولم تترك الأم سبيلا في الاحتيال على فاطمة لفهم السبب في هذا الشرود الذهني والانحراف النفسي الطارئ والتي كانت تجيب أمها في سؤالها عنه بـ«لا أدري». فتزداد حيرتها ويعظم خوفها على ابنتها فتصرخ بها وتهددها تارة وتبكي وتتوسل إليها تارة أخرى. ولكن ذلك كله كان يزيد فاطمة تكتما وألماً.
    مرت بخاطر الأم فكرة رأت من ورائها شبح المشكلة يلوح فعزمت على تنفيذها. وفي صباح يوم من الأيام وبعد مضي أربعة أشهر قضتها أمها في مراقبة دقيقة دون أن تصل إلى شيء، أمسكت بطرف الخيط الذي قد يوصل إلى فهم تلك المشكلة التي أذبلت زهرة البيت فأفقدته أريجها وابتساماتها، وأحاطت شمعته بظلام قاتم.
    كانت فاطمة تلمع حذاء أبيها وكانت أمها تصب له الشاي فأخرج من جيبه رسالة وصلته بالأمس وأخذ يتلوها على أمها وسمعته يقول: «هذه رسالة من طارق»، فتوقفت عن المسح وبقيت يدها ممسكة بالفرشة ثابتة على الحذاء واحتبست أنفاسها، وبقيت فاغرة فاها، شاخصة العينين وحانت من أمها التفاتة فدهشت ولكنها لم تقل شيئا، بل اكتفت بمراقبتها ومحاولة إشغال أبيها حتى لا يراها. وكان مستمراً في تلاوة الرسالة ولم يكد يصل إلى قوله: «والذي أتمناه أن أرى حامد وفاطمة وقد وصلا إلى مبلغ من التعلم؛ فالعلم كما علمتم أجمل وأثمن حلية يتحلى بها الإنسان .. يجب أن تعنوا بدراستهما وإن كنتم أرأف مني بهما، ولكنه شيء في نفسي لم أستطع حجبه».
    وهنا لاحظت الأم أن يدها قد ارتعشت حتى سقطت الفرشة منها وخافت أن ينتبه أبوها فصاحت بها:
    ـ عجلي يا فاطمة!
    فاستأنفت التلميع حتى فرغت منه، ثم قدمتهما إلى أبيها فلبسهما ثم خرج. أما فاطمة فراحت كعادتها في كل صباح تنظم ملابس أبيها وأخيها بعد خروجهما، بينما كانت الأم جالسة في الغرفة تستعرض كل ما مر بها من ملاحظات في الأشهر الأربعة الماضية وقالت في نفسها: هل أحبته؟ وهل حبه هو الذي عمل بها هذا كله؟ ورجعت بها ذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي وجدت فيه فاطمة تبكي. اليوم الذي بدأ فيه التغير يظهر عليها، وحاولت أن تربط بين ذلك وبين أول كتاب جاء من طارق. ألم يكن في ذلك اليوم؟ وألم تستلمه هي من أخيها؟ ثم اليوم الذي جاء فيه سرديني ألم تكن تصغي إلى حديثه عنه وتبتسم؟ إنها تحبه وإلا فَلِمَ يطفح وجهها بالسرور. كلما أثنينا عليه وذكرناه بالخير ويعبس ويظهر عليها الغضب كلما ذمه أخوها؟! لم لا أسألها؟! ورفعت رأسها لتتكلم. ولكن فكرة عرضت فمنعتها، فعادت إلى إرخاء رأسها واستأنفت التفكير. ألا يجوز أن أكون مخطئة في استنتاجي فأفتح في قلبها ثغرة قد لا أكون قادرة على سدها؟ إنها ما تزال صغيرة وكل تصرف من هذا القبيل يكون خطأ، لابد وأن يكون عاملا في خلق مشاكل قد لا نستطيع التخلص منها.
    وقامت الأم متثاقلة واتجهت إلى الحمام لتتوضأ وتصلي نافلة الضحى وتدعو الله أن ينير لها السبيل في فهم تلك المشكلة وأن يأخذ بيد ابنتها ويعيدها إلى ما كانت عليه لتملأ البيت بهجة وسروراً.
    ومضى النهار وأقبل الليل، وجلست الأم وابنتها بعد العشاء يتحدثان.
    قالت فاطمة:
    ـ يا أمي إني أود أن أقرأ.
    ـ ولكنك يا بنت أنت التي رفضت حينما قال أبوك إنه سيأتي بحصة زوجة المطوع عيسى لتدرسك.
    ـ كنت متضايقة من كل شيء ذلك اليوم.
    ـ لا بأس، سأخبر أباك حينما يعود .. ولكن هل أنت متأكدة من صدقك في هذه الرغبة؟!
    ـ نعم لابد من أن أقرأ.
    ـ أبشري يا بنيتي فهذا ما نحب .. ولكن قولي هل استفدت من قراءتك على طارق في تلك الأيام؟!
    ـ نعم أفدت كثيراً ولو استمر شهرين آخرين لكنت قد استطعت أن أقرأ وأكتب بسهولة.
    ـ وما رأيك فيه؟!
    ـ من تعنين؟!
    ـ طارق.
    ـ أنت أعلم به مني.
    ـ أنا لم أعرفه إلا بعد ذلك اليوم الذي أصيب فيه.
    ـ إنه شاب طيب، وكان يعتني بي أكثر من بنات الجيران.
    ـ هل تحبينه؟
    وتصاعد الدم ساخنا إلى وجه فاطمة حتى احتقن وكاد أن ينبجس الدمُ خجلا، وعضت على شفتها بأسنانها حتى كادت أن تنقطع، وبقيت صامتة تنظر إلى أمها التي شخصت عيناها وانعقد جبينها وقالت في صوت ملأه الغضب والعنف:
    ـ تكلمي أتحيينه؟!
    فانفجرت بالبكاء، وعلا شهيقها، وقد غطت وجهها بيديها فجرت عليهما دموعها حتى بللت أكمام ثوبها، فلطمتها أمها بيدها لطمة شديدة وقالت:
    ـ والله، لئن لم تنته لأخبرن أباك وهو يعرف كيف يربيك يا كلبة؟
    وقرع الباب ففرت المسكينة لائذة بفراشها وأغلقت باب الغرفة عليها، وخافت أن تقول أمها شيئاً لأبيها فأطفأت النور ووقفت خلف الباب وأذنها على ثقب المفتاح لتسمع ما تقول.
    ودخل أبوها وسأل:
    ـ أين فاطمة؟
    ـ في فراشها.
    ـ إنها نائمة لأنها تحس بشيء من التعب.
    ـ سأذهب لأراها قبل أن أنام.
    وارتجفت وزاد خوفها، وأخذت تشد على الباب وكأنها تريد منه أن يمنع أباها من الدخول. ولكن الأم صرفته قائلة:
    ـ لا تكدر عليها نومها، والصبح قريب.
    إذاً فهي لن تخبره .. وتركت الباب، وارتمت على فراشها وهي تتمنى لو ابتلعها، فلا تراهم عند الصباح، أو لو أنها ماتت حتى تسلم من هذا العذاب وما ينتظرها من أمها وأبيها.
    أخذ الليل يمضي بطيئا بطيئاً بين البكاء والأنين .. قلب يخفق، وعين تدمع، وصدر يموج بالزفرات وحلق بح من الشهيق ونَفَس كاللهيب تتابع فيه التنهدات، فرق لها الليل قبل إقلاعه فألقى عليها قبيل الفجر بسنة هزيلة من النعاس، عسى أن يخفف ما بها. وليته لم يسمح بها!
    تراءى لها طيف طارق واقفاً بجانبها يناديها ويقول: فاطمة أنا طارق. لماذا لا تنظرين إليَّ؟ ألست تحبينني؟ إني أحبك من كل قلبي. فاطمة لقد تعبت من الغربة لأني لا أستطيع البعد عنك. ومد يده إليها فمدت إليه يدها ولكنها لم تصل إليه. فهنالك حاجز يفصل بينهما فبقي ماداً يده يناديها:
    ـ فاطمة! هذه يدي، أعطيني يدك.
    .. وانتبهت مذعورة وراعها الظلام المطبق. فأخذت تخبط ما حولها بيديها فلم تجد شيئاً، فأسرعت إلى مفتاح النور ففتحته فامتلأت الغرفة بالضوء فأخذت تقلب طرفها يمينا وشمالا فلم تر أحداً فانكفأت على فراشها، وأخذت في البكاء حتى خارت قواها فاستسلمت لما يشبه الذهول.
    وحانت صلاة الفجر فجاءت الأم لإيقاظ ابنتها. فطرقت باب الغرفة دون أن تتكلم وأفاقت فاطمة على الطرق، فقامت من فراشها متثاقلة لتتوضأ ثم تصلي، ثم تبدأ في مساعدة أمها على إعداد القهوة والشاي والإفطار، فحامد يذهب إلى المدرسة وإبراهيم يذهب إلى عمله مبكراً. ولهذا لابد من إعداد كل شيء بسرعة لتواصل فاطمة العمل في البيت فتنظم ملابس أبيها وأخيها ثم تبدأ في تنظيف البيت من أوله إلى آخره. ولكن هل ستستطيع اليوم أن تقوم بذلك كله؟
    إن كل شيء يتراقص في عينيها. الدواليب تتمايل والستائر ترتعش والأقداح والفناجين تتراقص كأن كل شيء في البيت يريد أن يهوى إلى الأرض. ثم إنها لم تستطع أن تأكل شيئا. وكانت أمها متنبهة لذلك كله فزاد في حنقها فنادتها: أعطيني ماءً. وكان صوتها ينبئ عما في نفسها وما ستقوله لها ولكن فاطمة على كل حال بادرت إلى ملء الكوب بالماء. ثم أقبلت به ولكنها أصيبت بدوران فسقطت على الأرض وتحطم الكوب وصاحت بها أمها:
    ـ هل أنت عمياء أم مجنونة، قومي أخذ الله عمرك.
    ولكن فاطمة لم تقم، فصاحت بها ثانية وثالثة ولكن أحداً لم يرد فقامت إليها وحركتها برجلها فلم تتحرك فأسرعت إلى الماء وهي تصيح:
    ـ بنتي .. بنتي.
    وصارت تصب الماء عليها صبا وتحاول تفويقها حتى أفاقت، فأمسكت بيديها تساعدها على الوصول إلى الفراش، حيث قدر لها أن تلازمه شهرين كاملين عجز خلالهما الدكتور عن أن يقدم لها أي مساعدة.
    وقد قلق أبوها وجميع أقربائها من هذا المرض الذي استعصى على الدكتور فهمه وعلاجه، غير أن الأم التي تعاني من القلق والهم أضعاف ما يحمله الجميع هي الوحيدة التي تستطيع معالجة هذا المرض، لأنها هي الشخص الوحيد الذي يعرف أسبابه ولكنها في حيرة من أمرها لا تدري ماذا تفعل؟ .. أتفضي بذلك لزوجها؟ .. ولكن ما الذي سيفعله إذا علم؟ ربما زاد ذلك الأمر تعقيداً .. ولكن إلى متى ستسكت؟! وكادت أن تفعل لولا زيارة أختها مريم العجوز الحكيمة.
    لقد فرحت بها عائشة وأحست بأن حملا يزاح من على ظهرها، وصارت تحدث نفسها وهي تسير أمام أختها التي اصطحبت معها زوجة ابنها صالح. إنها امرأة حكيمة مجربة ثم إنها قليلة الكلام، أمينة على السر، وهي بعد ذلك كله أختي فلم لا أستشيرها في الأمر بعد اطلاعها عليه، نعم لابد من أن أفعل. وكانت قد انتهت بهما إلى باب غرفة فاطمة فقالت وهي تفتح الباب:
    ـ أهلا وسهلا .. فاطمة هذه خالتك مريم، وشيخة زوجة صالح ابن خالتك.
    ورفعت فاطمة رأسها الثقيل وحاولت أن تقوم من الفراش ولكنها لم تستطع وانتهت إليها خالتها فمسحت على جبينها وقبلته.
    أما الأم فقد تركتهن وذهبت لإعداد القهوة والشاي ولكنها لم تستطع الانتظار فنادت أختها لتلقي بما في صدرها عليها عسى أن تجد منها العون والمشورة. وكم كانت دهشتها كبيرة حينما سمعت أختها تقول:
    ـ إنك مخطئة كل الخطأ .. إن الحب يا أختي شيء يسيطر، ولا يسيطر عليه. إنه ليس في مقدورك أن تنتزعيه من قلبها. بل إن انتزاعه ليس في مقدور أحد حتى هي لو أرادت لما استطاعت. ومادام لم يجر إلى خطأ في السلوك فما المانع منه؟ .. إن طارقاً كما فهمت منك شاب مستقيم وفيه تفاؤل ونشاط، وهو الآن هناك يقف على أبواب مستقبل زاهر ويدل على ذلك تقدمه السريع. ألم تقولي أنه في ظرف سبعة أشهر استطاع أن يستبدل دكانه الصغير داخل الحارة بدكان كبير في سوق الأقمشة؟ .. ألم تقولي ذلك؟
    ـ بلى!
    ـ وألم تقولي أنه من أسرة كبيرة محترمة؟
    ـ بلى.
    ـ وألم تقولي أنك معجبة به إلى أبعد حد؟
    ـ بلى، كل هذا صحيح.
    ـ إذن فمم تخافين ولماذا تؤذين ابنتك؟
    ـ إنني يا أختي أخشى أموراً كثيرة.
    ـ ما هي تلك الأمور؟! .. خبريني! .. أم أن ذلك سر؟
    قالتها وهي تضحك.
    ـ كلا يا أختي. لو كان هناك ما يخفى عليك لما أخبرتك بشيء.
    ـ إذن فما الذي تخافين منه؟
    ـ أخشى من أنه لا يبادلها هذا الحب.
    ـ هذا أمر يسير يمكن فهمه من رسائله وهداياه. ألم يخص فاطمة بخاتم زيادة على مساواتها بك؟
    ـ بلى، ولكن قد يكون ذلك لأنها صغيرة البيت.
    ـ ألم تقل لك شيئاً عن ذلك؟
    ـ قالت لي إنه كان يخصها بالعناية بين بنات الجيران حينما كان يدرسهن .. ولكن ربما كان ذلك من قبيل العطف والإشفاق أو مجرد إعجاب.
    ـ كل هذا قد يتحول إلى حب، وهذا أمر يسير فهل هناك أمر آخر؟
    ـ أخشى ألا يوافق أبوها وأخوها على زواجهما.
    ـ ولماذا؟
    ـ لا تنسي إنه كان في يوم ما مدرس بنات.
    ـ ولكنه اليوم من أفضل الشباب اليوم. ألم يستطع الجمع بين الدراسة والتجارة بنجاح؟؟
    ـ بلى ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً .. ثم إن راشد ابن عمها يوشك أن يتقدم لخطبتها.
    ـ وهل تفضلين مثل راشد على طارق؟
    ـ ليت الأمر لي.
    ـ اسمعي عندي فكرة بها نستطيع إبعاد راشد عن طريقها.
    ـ وما هي؟
    ـ أنت لا تستطيعين رفض راشد بدون سبب ظاهر، أليس كذلك؟
    ـ بلى.
    ـ وتعلمين أني لا أنوي تزويج عبد العزيز ابني في القريب.
    ـ نعم، ولكن ما علاقة ذلك بالموضوع يا أختي؟
    ـ مهلا سأخطب فاطمة من إبراهيم لعبد العزيز فإن وافق طلبنا منه أن تبقى المسألة سراً إلى حين، ثم نتدبر الأمر بعد ذلك في إحلال طارق محل عبد العزيز.
    ـ وإن رفض؟
    ـ عند ذلك يصير لك العذر في رفض راشد.
    ـ وكيف؟
    ـ الأمر سهل؛ تقولين له رفضت ابن أختي فما أكرهتك فكيف تكرهني إذا لم يعجبني ابن أخيك؟
    ـ فكرة رائعة فمتى تنفذ؟
    ـ اليوم.
    ـ اليوم؟
    ـ نعم، اليوم خير البر عاجله.
    ـ فليكن ولكن ما رأيك في فاطمة هل أتركها هكذا؟
    ـ لا، بل يجب أن تشعريها بأنك معها، لعل ذلك أن يخفف من مرضها.
    ـ بل إنها ستشفى تماماً لأن ذلك هو سبب مرضها. إني أعلم ذلك ولكني لم أعرف ماذا أصنع. سأحاول ولكن قبل أن أنسى الغداء معنا اليوم.
    ـ أما أنا فسأنتظر لأتكلم مع إبراهيم فيما اتفقنا عليه، أما شيخة فلابد من ذهابها.
    ـ ولماذا عبد العزيز وصالح نقول لهما أن يأتيا للغداء وأنتم قد وعدتمونا بالزيارة؟
    ـ يوم آخر * إن شاء الله * لأن عندنا ضيفاً اليوم
    ـ اتركي الحديث في هذا الآن ولنذهب إلى غرفة فاطمة فقد أطلنا الجلوس هنا وربما تضايقتا.
    وهناك بجوار فراش فاطمة دارت أحاديث متواصلة متتابعة متشعبة وقد لا تكون مترابطة، ولكنها معركة كلامية تحاول كل واحدة منهن أن يطغي صوتها على أصوات الجميع كما هي عادة النساء، ولكن واحدة منهن استطاعت أن تسيطر على الجميع .. إنها الخالة مريم التي ركزت اهتمامها في مشكلة ابنة أختها فحاولت بحكمتها المعهودة أن تجر الحديث إلى طارق، فانقادت له أختها وانتعشت به روح فاطمة.
    أما شيخة فسارت مع الركب كارهة ولم تكد تستمر في حديثها عنه والسؤال عن أخباره حتى انطلقت عائشة في عد مناقبه والثناء عليه، ثم قامت وغابت قليلا لتأتي وفي يدها لفافة وضعتها وأخذت تكشف عما فيها، وهي تقول: لقد بعث بهذه الهدية إلينا من دكانه الذي افتتحه هذه الأيام ستة ثياب، لي ثلاثة وثلاثة لفاطمة وستة رجالي لحامد وأبيه. ورفعتها إلى فاطمة قائلة:
    ـ أليست جميلة؟
    ـ إنها رائعة؟
    ورأت الأم تلك الابتسامة التي بعد عهدها بها واشتد حنينها إليها، رأتها ترتسم على شفة فاطمة وهي تقول:
    ـ لابد أن أهدي إلى شيخة واحدة منها، اختاري.
    أرعشت الفرحة جسم الأم، فاهتز القماش في يدها وهي ترفعه إلى أختها لتختار هي أيضا منه ما يناسبها. وأحست فاطمة بالتغير الطارئ على أمها، فبدأت الحياة تدب في جسمها دبيب الماء البارد في جسم الظمآن .. إنها تتحسن في سرعة متواصلة وكأنها تخشى من أحد أن يسد عليها باب الحديث، إنها لا تريد أن تسكت .. ربما كانت تريد أن تعوض نفسها من ذلك الكبت الذي عانت منه في الأيام السابقة. إنها تتحرك بخفة لم تُعهَد منها منذ شهور، وتقوم وتقعد، كثيراً وتتلفت يمينا وشمالا، وكأنها تبحث عن شيء فقدته، فتباشر من في الدار بذلك، ولم يكد والدها يدخل حتى قابلته أمها تبشره، فأسرع إليها مسروراً، واحتضنها وهو يقبلها والدمع يسيل من عينيه ولسانه يلهج بالحمد والثناء لله الذي من عليه بشفائها، ثم قام لتغيير ملابسه.
    وقبل أن يدخل الغرفة نادته زوجته:
    ـ أبو حامد أختي تسلم عليك.
    ـ أم صالح؟ أهلا وسهلا .. يا مرحباً .. قدومك مبارك يا أم صالح.
    ـ الواقع يا أبا حامد أن وجه فاطمة لم يسفر ولم ينطلق لسانها إلا بعد ما رأتها.
    ـ إنها امرأة صالحة ودعاء الصالحين غير مردود والحمد لله الذي شملنا ببركاتها.


  12. #12
    عـضــو الصورة الرمزية د.محمد فتحي الحريري
    تاريخ التسجيل
    25/06/2009
    المشاركات
    4,840
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    الاخ الاستاذ د. حسين محمد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية ومودة خالصة على تتبعكم واهتمامكم بالادب واخباره وشؤونه
    ودي وتقديري .


  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.محمد فتحي الحريري مشاهدة المشاركة
    الاخ الاستاذ د. حسين محمد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية ومودة خالصة على تتبعكم واهتمامكم بالادب واخباره وشؤونه
    ودي وتقديري .
    شكراً للأديب والناقد المبدع
    الأستاذ الدكتور
    محمد فتحي الحريري
    على المُشاركة والتحية،
    مع تقديري واحترامي


  14. #14
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    وعلى هذا النمط من الفرحة والابتهاج مضى اليوم مسرعاً، وكانت الخالة مريم تحاول اصطياد الفرصة لتتحدث مع إبراهيم إلى أن حان العشاء وجاء ابنها لأخذها فطلبت من أختها أن تستأذن لها إبراهيم، لأنها تريد أن تتحدث معه. فانفردت به في غرفة ثم خرجت وتلقفتها أختها متلهفة لمعرفة ما دار بينهما فغمزت يدها. فهزت لها يدها ففهمت أنه رفض ولكن ماذا قال؟
    سارت معها إلى الباب لتوديعها فأفهمتها أنه يقول إنها صغيرة ولا بأس من ترك هذا الموضوع إلى حين، وطمأنتها بالوعد بالعمل على نجاح الخطة، ثم خرجت بعد أن ودعتها.
    وعادت عائشة إلى زوجها فأبصرته منسجما مع خطاب في يده يقرأ فيه. فسألته:
    ـ خيراً * إن شاء الله * ..
    ـ ماذا تعنين؟
    ـ إنك تقرأ وتبتسم.
    ـ نعم، لقد أصبح طارق تاجر أقمشة كبيراً.
    ـ ماذا؟
    ـ اسمعي ما يقول .. «سيدي ووالدي العم إبراهيم. لقد عزمت على نقل دكاني إلى الرياض وأرجو تكرماً منكم لا أمراً عليكم.
    ـ لا أمراً؟!
    ـ اسمعي يا بنت الحلال . «لا أمراً عليكم أن تكلفوا شخصاً باستئجار دكان كبير داخل السوق، وفي وسطه في أقصى سرعة ممكنة لأني آخر الشهر عندكم ودمتم. سلامي لكم جميعاً خاصة الوالدة أم حامد وأخي وأختي ودمتم .. ابنكم طارق».
    ـ يعني بعد عشرة أيام سيأتي طارق؟
    ـ عشرة أيام .. ماذا؟ .. إن هذا الشهر ناقص، بعد تسعة أيام يكون تاجر الأقمشة طارق هنا.
    وانتهزت عائشة فرصة ذهابها لإحضار الماء الذي طلبه إبراهيم فأسرعت إلى فاطمة لتهمس في أذنها:
    ـ سيأتي طارق بعد تسعة أيام ليتجر في الأقمشة هنا. إنه قد أصبح تاجر وسيتحقق أملك بحول الله. ولكن احذري من أن يلاحظ عليك أبوك شيئا فتفسد الخطة.
    ـ أية خطة تعنين؟!
    .. أرادت فاطمة أن تسأل أمها غير أن نَفَسها الذي احتبس عند سماع الخبر المفرح لم يرجع إلا بعد خروج أمها من الغرفة، فبقيت في خليط من الفرحة والتفكير فضاق بها الفراش، وأخذت تدور في الغرفة وتناجي نفسها بصوت مهموس وتضغط على أصابعها المرتجفة وتعد:
    1-طارق سيأتي.
    2-وسيأتي تاجراً.
    3-وسيتحقق الأمل.
    4-ثم احذري كي لا تفسد الخطة.
    5-وأمي التي كانت تتوعدني وتهددني تتغير فجأة فتأتي لي بهدية طارق التي لم أعلم بها وكانت قد أتت من شهور وتخبرني بهذا كله وفي يوم واحد.
    ما السبب؟ هل لمجيء خالتي علاقة بذلك؟ أم ماذا؟ إنني في حيرة ولكن كل هذا غير مهم، مادام طارق سيأتي ومادامت أمي قد تحولت إلى أكبر مساعد لي.
    وارتشفت ريقها كأنما تناولت أعذب مشروب، وواصلت الدوران في مشية تشبه الرقصة وهي تقول لنفسها: أريد أن أعمل شيئاً لا أريد أن أبقى هكذا. نعم فليكن شاياً أقدمه لأبي. فلقد بعد عهدي بذلك. وأسرعت إلى المطبخ. وما هي إلا لحظات ودخلت على أبيها وعلى يدها صينية الشاي وضعت فيها الإبريق والفناجين. ثم غطتها بمنشفة وجاءت لتقدمه إلى أبيها. فدهش من الفرحة لأنه لم يكن يتوقع مثل هذا من فتاة طريحة الفراش منذ شهور وقال مخاطباً الأم:
    ـ طارق سيأتي وفاطمة شفيت في يوم واحد.
    ـ هذا كثير؟!
    ـ لا يستكثر شيء على الله..
    وارتجفت يد فاطمة حينما سمعت اسم طارق وعثرت قدمها وكادت أن تسقط بالصينية وما فيها لولا أن أمها تلقفتها بسرعة وهي تقول:
    ـ معذورة! .. إنها مريضة، بركة منها أن استطاعت إعداده والوصول به.
    ولم تكن الأم ترغب في مجيء فاطمة في تلك اللحظة، فطلبت منها أن تذهب لتعمل لهما كوبين من الحليب .. وفهم الأب مقصدها، فلم يعترض.
    ولما خرجت فاطمة قالت الأم لإبراهيم :
    ـ ولكن .. هل كلمتك أختي في شيء؟
    وعصفت بجسمه هزة عنيفة من جراء الضحكة القوية الساخرة التي غرق فيها، فانتثر الشاي الذي كان في يده فأخذته منه لتمسح خارجه ثم تعيد ملأه ثم وضعته أمامه ثم أتت بمنشفة مبللة بالماء لتمسح بها الشاي المتناثر وهي تقول:
    ـ ما الذي يضحك؟
    ـ ألا تعلمين؟
    ـ لا .. أختك.
    ـ وما الذي يضحكك منها؟
    ـ نكتتها!
    ـ نكتتها؟! .. أختي انفردت بك لترمي لك نكتة.
    ـ نعم، بلا شك! .. إنها غير جادة وإلا لما طلبت مني أن أدفن فاطمة حية!
    ـ أختي طلبت منك ذلك؟
    ـ نعم.
    ـ لا .. يبدو أنك غير طبيعي هذه الليلة.
    ـ أبداً والله بل أنا في غاية الانبساط.
    ـ ألم تطلب منك يد فاطمة؟
    ـ بلى.
    ـ وقبلت؟
    ـ لا..
    ـ ولماذا؟
    ـ لأنه من ذوات الثلاث.
    ـ ذوات ثلاث وذوات أربع ماذا؟ .. أتسخر؟
    ـ يا سلام. لو كان من ذوات الأربع لكان أليق.
    ـ على كل حال أنا لا أريد مخالفتك في شيء، ولا أستطيع إكراهك على قبول ابن أختي وغاية ما أطلبه منك. ألا تزوج فاطمة لأي رجل لا أرضاه.
    ـ لك ذلك .. فأنا لا أستطيع إكراهك أيضاً.
    وتمر الأيام سراعاً، ويستأجر إبراهيم الدكان، ويصل طارق من الطائف بأقمشته وملابسه النفيسة، ويفتح الدكان، ويشتغل فيه بكل نشاط، ويساعده الحظ بفضل صدقه وأمانته وحسن معاملته وتوفيقه في اختيار نوع البضاعة؛ فيقبل عليه الناس ويحوز شهرة عظيمة، فيضطر إلى نقل دكانه الصغير إلى معرض كبير بشارع الوزير.
    غير أن ما وصل إليه من ثراء واسع ومنزلة عالية بين تجار المدينة ووجهائها لم ينسه أمله الوحيد الذي كان يستمد منه قوته ونشاطه ويستوحي منه أمله وسعادته (فاطمة) .. فطوم التي ما فتئت تلازم روحه ملازمة الظل للجسم.
    لقد حاول أن يطلب يدها من أبيها .. لكنه كان يرهب الصدمة التي قد يصاب بها لو رفض أبوها طلبه. ففضل أن يعيش على أمل تحقق حلمه، تاركا الفرص لتفعل له المعجزة فاكتفى بالمراسلة عن طريق نفائس الأقمشة التي كان يبعث بنماذجها إلى بيت إبراهيم قبل عرضها في السوق، لترى أول ما ترى على حبيبته التي تعبر عما يشتعل في قلبها من حب وشوق بعبارات مقتضبة، كانت تبعث بها مع الخادم سرديني الذي ينطلق بها مسرعاً إلى طارق، الذي كان ينفحه ببعض من النقود كلما أتى إليه منها بخطاب أو ذهب إليها منه بمثله. غير أن البيئة لا تسمح ببسط الإحساسات والمشاعر وشرح الأشواق والآلام وعرض الآمال والأحلام؛ لذا كانت رسائلهما عبارات مقتضبة تشبه الإشارات.
    فقد يتكون جوابها من «جمال اختيارك يدل على صفى ودك». وقد يكون جوابه على رسالتها «رضاكم هو الأمل الذي نسعى إليه».
    وذات يوم وبينما كان طارق يستقبل زبائنه إذا بباب المعرض ينفتح وإذا بسرديني يدخل فأسرع إليه طارق عسى أن تكون معه رسالة، غير أن سرديني لم يرسل الباب بل أمسك به لتدخل سيدة يبدو من تصرفاته أنه يحترمها كثيراً، فيقف طارق مرتبكا إذ أنه ليس من عادة سرديني أن يأتي معه بسيدات، ثم إن فاطمة وأمها ليست من عاداتهما أن تأتيا إلى السوق لقضاء حاجاتهن، بل كانت حاجاتهن تأتي إليهن في البيت. فمن هي هذه المرأة؟ حقق طارق النظر وهو مازال على مسافة منهما فتبين أن السيدة هي أم فاطمة فأسرع إليها وهو يقول:
    ـ أهلا وسهلا .. أهلا ومرحبا .. اليوم أعظم عيد .. ذا شرف كبير للمحل يا أمي.
    فردت التحية مختصرة ورفعت قطعة من القماش وهي تقول:
    ـ ما اسم هذا؟ ما اسم هذا؟!
    ولم تنتظر الجواب بل التفتت إلى الخادم سرديني وقالت اذهب واحضر لي شنطة اليد التي في السيارة.
    ثم دنت من طارق وقالت له:
    ـ اسمع قبل أن يأتي الخادم .. إن فطوم قد خطبها ابن عمها وهي على ما يبدو لا تريده .. وأظنك تحبها كما تحبك .. فإن كنت تريدها فتقدم إلى أبيها الليلة واطلبها منه بحضوري، ثم أترك الباقي عليَّ، مع السلامة.
    ثم ذهبت بسرعة إلى خارج المعرض، وما هي إلا لحظة حتى اختفت، وقد بقي طارق جامداً في مكانه .. إنها مفاجأة غير منتظرة رمته بها أم فطوم ثم انصرفت، تاركة الوساوس والأوهام تكتنفه من كل جانب، وهي تشير إلى مستقبل مجهول المعالم والقسمات لذلك البيت السعيد الذي كان يعيش ويعمل على أمل تحقيقه .. البيت الذي تقيم دعائمه فطوم الفتاة التي ما أحب قبلها ولا بعدها فتاة.
    لحظات رهيبة كادت أن تفقده شعوره يناديه المشرف على المعرض ليجيب على أسئلة بعض الزبائن فلا يرد، بل يبقى منقلا نظره بين رواد المعرض وموظفيه وكأنه يبحث بينهم عن أحد .. ثم انطلق خارج المعرض دون أن يلفظ كلمة واحدة وهو لا يدري إلى أين يذهب.
    لابد أن يفارق هذا الضجيج الذي سمعه لأول مرة مزعجا وكان قبل تلك اللحظات في أذنه أجمل من أعذب الأنغام! .. وانطلقت به سيارته مسرعة وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه أمام فلة إبراهيم وتردد في الوقوف لأنه لم يقصدها. ولكن نفسه غلبته فأوقف السيارة وغادرها دون أن يغلق الباب وأخذ يضغط على زر الجرس بيد مرتعشة وجاء سرديني الخادم لينظر من بالباب فأبصر طارقاً وقد تغير واصفر لونه فعرف أن الصدمة كانت عنيفة. أمسك بيد طارق واتجه به إلى سيارته ورد الباب وراءهما وهو يقول:
    ـ تعال يا سيدي امض بنا سريعاً أريد أن أتكلم معك.
    ولاحظ سرديني أن طارقاً في حالة اضطراب عنيف لا يمكنه معه أن يقود السيارة. ففتح له باب المقعد الخلفي وطلب منه أن يترك له أمر قيادة السيارة فلم يمانع طارق وركب صامتا وانطلق سرديني بالسيارة وهو يحدث طارق:
    ـ سيدي إن عمها وابنه في البيت وحامد وأبوه الآن في صراع مع أمها التي رفضت قبول ابن عم فاطمة ودخولك عليهم في هذه الحال غير مناسب .. فانتظر اليوم وأنا آتيك بالخبر الليلة بعد العشاء.
    ووصلا بعد قليل إلى منزل طارق فدخل معه سرديني ليطمئنه، ولكن الذعر من نجاح ابن عمها قد حوله إلى طفل صغير يقف أمام المشكلة حائراً لا يجد حلا سوى البكاء .. فانفجر باكيا، وصار ينتحب كما تنتحب الفتاة المقهورة المغلوبة على أمرها!. ولكن سرديني نزع غترته ومسح وجهه بالماء وهو يقول:
    ـ اطمئن فلن ينجح ابن عمها وسأقتله إن استدعى الأمر ذلك!
    ـ تقتله؟ .. لا .. إني لا أستطيع أن أبني حياتي على دم!
    ـ سيدي كن مطمئناً إني متحقق من صلابة أمها.
    ـ ولكن الكلمة هنا للأب.
    ـ نعم، ولكنه كما أعرف يعز أم حامد ولا يستطيع إغضابها وإكراهها على مالا تريد وهي لا تريد راشد ابن عمها
    وصمت هنيهة وأكمل:
    ـ وكذلك فطوم! .. علمت أنها لا تريده ولن توافق عليه أبداً!
    ـ وهل لها من الأمر شيء؟!
    ـ نعم، إن إبراهيم كما تعلم ورع تقي. والإسلام يفرض استشارتها.
    ـ وهل سترفض حقيقة؟! .. إني أشك! بل إن الوساوس تكاد تخنقني الآن.
    ـ قلت لك : كن مطمئناً، بعد أربع ساعات آتيك بالخبر.
    ـ في أمان الله.
    ـ في أمان الله!
    (يتبع)


  15. #15
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    ثم شيعه إلى الباب، وأراد أن يوصله في السيارة فرفض سرديني محتجاً بأن له حاجة في بيت قريب لابد من أن يمر به، والحق أنه إنما رفض، لأنه يخشى ألا يتمكن طارق من الرجوع بالسيارة، لأن الإجهاد قد بلغ منه كل مبلغ!
    ومضى سرديني مخلفاً وراءه طارقاً الذي وقف بالباب يشيعه بنظرات كلها استعجال واستجداء، واختفي سرديني عن عيني طارق ولكنهما بقيتا مرتميتين على آخر الطريق الذي اختفى فيه. وأنهما تنتظران عودته منه بعد غياب. كانت يده اليمنى ممسكة بالباب واليسرى قد اعتمد بها على الجدار وكان في شبه غيبوبة لا يفكر في أي شيء. فأخذته سنة من النوم فتمايل وكانت سيارة شحن قد أقبلت ولم ينتبه لها فخاف صاحبها من سقوطه فضغط على المنبه ضغطة قوية نبهت طارقاً فدخل وأغلق الباب.
    وهناك في داخل البيت تقاذفته الأوهام والظنون كل مقذف، فرمى جسمه المتهالك على مقعد مكتب البيت، وامتدت يده إلى درج كان يجمع فيه قصاصات الورق التي كانت تصل إليه منها، فتناول القصاصات وصار يؤلف بينها بحسب ترتيب وصولها. غير أن ارتعاش يديه لم يمكنه من الترتيب لأن صورتين من صور الوهم كانتا تتعاورانه. فتارة يتصور نجاح ابن عمها فيعصف الألم بقلبه عصفاً عنيفاً. وأخرى يتصور فشله ونجاح الأم فينتعش وتسري في جسمه موجة من الفرح فيرفع القصاصات ويقبلها في شوق عارم كأنما يريد أكلها..
    وبقي على تلك الحال حتى دخل عليه موظفو المعرض الذين كان قد أسكنهم معه، لأنهم كانوا جميعاً من الغرباء المساكين الذين تعمد هو انتقاءهم رحمة لهم وإحسانا إليهم، فتفانوا في خدمته وأخلصوا في أعمالهم وكان ذلك من الله بمثابة التشجيع له على أعمال الخير، فاستقبلهم ببشاشته المعهودة، وانصرف كل واحد منهم إلى ما خُصص له من عمل في البيت، وكان قد اختص نفسه من أعمال البيت بإعداد القهوة والشاي إذ لم يرض أن يكون بينهم بلا عمل وإن كانوا قد حاولوا منعه في أول الأمر ولكنه رفض بإصرار.
    ومضى الجميع يعملون ويتحدثون بأصوات مرتفعة تملأ البيت لغطاً وضجيجاً وهم يواصلون العمل. فهذا يشتغل في المطبخ يقطع البصل والخضار ويعد العشاء، وذاك ينظف البيت، وآخر ينفض الفرش ويسويها، ورابع يغسل الآنية ويعد الماء وما إليه وكانت أصوات الأربعة مرتفعة كعادتها، أما الصوت الخامس (صوت طارق) فكان مفقوداً، ولم ينتبه أحد منهم لذلك.
    غير أن فارس الذي دخل على طارق ببعض الآنية والفناجين ذعر حينما رأى طارقاً، فسقطت منه الآنية وهو يصيح: يدك... يدك.. أحرقتها القهوة.
    فرفع طارق رأسه ويده وهو يقول * وكأنما أوقظ من نوم عميق *:
    ـ هه.. آه... آه..
    وجذب يده بقوة وهو يقاسي ألم الحروق. وصاح فارس بالآخرين، وأسرع الجميع إلى الشاش والقطن والمرهم فضمدوها، ثم طلبوا منه أن يترك مكان القهوة فرفض قائلا :
    ـ إنه عملي ولابد من أن أتمه فأتموا أعمالكم.
    ـ ولكن يدك محروقة فارحم نفسك.
    ـ إن يدي الأخرى سليمة وأستطيع أن أتم بها عملي فامضوا إلى أعمالكم.
    وأتم إعداد القهوة والشاي بيد واحدة ثم قام واتجه إلى سريره فاستلقى عليه وهو يئن من الألم.
    ولكن عينه وقعت على الساعة المعلقة فنهض مذعوراً ونادى:
    ـ الصلاة.. لقد تأخرنا إن الساعة الثانية والنصف.
    ـ ولكن العشاء جاهز.
    ـ نصلي أولا.
    وانتهت الصلاة ثم قدم العشاء وأخذوا يأكلون بنهم دون أن ينتبهوا لطارق الذي كان يضع يده في الإناء ثم يرفعها شبه فارغة، فلما قام انتبه الجميع فأبصروا ناحيته لم يتنقص. فنظر بعضهم إلى بعض وسؤال واحد يدور بينهم فيزيد من حيرتهم، لأنهم لا يجدون له جواباً. إن طارق غير طبيعي، فما السبب؟ لا أحد يدري وليس فيهم من يجرؤ على سؤاله فارتبك الجميع، وأخذ كل واحد منهم يتفقد تصرفاته وحركاته في يومه خوفاً من أن يكون قد صدر منه ما لا يرضيه.
    ترك الجميع السفرة وأخذوا في إتمام أعمال البيت، ولكنهم كانوا يقبلون ويدبرون في صمت رهيب، وساد البيت سكون تام .. حتى المذياع كان صامتاً، لأن طارقاً لم يجلس بجواره كعادته. وحينما جمعهم نداء سيدهم لشرب الشاي لم يجرؤ أحد منهم على مفاتحته وتناول كل واحد فنجاناً وصار يتجرعه كما يتجرع علقماً أو حميماً .. وقد تعلقت أنظارهم جميعاً بطارق الذي كان بعيداً عنهم لا يشعر بنظراتهم وإن كان جالساً بينهم. فقد كانت نظراته منصبة على الأرض التي كان يحرك أصبعه عليها، وكأنه يريد أن يخترقها ليلقي بهمومه ووساوسه في باطنها لتموت هناك فيستريح من ضغطها العنيف على دماغه الذي يكاد أن ينفجر.
    وخفق قلبه خفقا عنيفا ورفع يده ورأسه في حركة عصبية وشخص بصره إلى الباب. رباه إنه يطرق فهل يكون سرديني؟ وماذا يحمل؟ إني خائف. وتتابعت ضربات قلبه وقال والعرق يتصبب من جبهته:
    ـ إذا لم يكن سرديني فأنا غير موجود.
    وكانت الفترة القصيرة ـ مابين ذهاب الخادم ليفتح الباب ودخول القادم ـ من أعنف الفترات التي مرت بطارق .. لقد كاد فيها أن يفقد عقله لولا أن الله تداركه بدخول سرديني وهو يضحك، مردداً:
    ـ الحمد لله.. الحمد لله..
    فبادره طارق قائلا بصوت ملأته الفرحة والاضطراب:
    ـ طردوه؟!
    فأجاب سرديني:
    ـ كلا يا سيدي.
    عصفت كلمة «كلا» بطارق، وصاح به في صوت متهدج، وقلبه يكاد أن يتمزق:
    ـ إذن علام تحمد الله؟
    أجاب سرديني:
    ـ اطمئن ياسيد ي فالأمل أقوى وسأروي لك ماحدث.
    ـ عجل إني لا أطيق الانتظار أكاد أن أجن.
    وألح طارق على سرديني أن يتحدث ونسي أن موظفي المعرض وخدمه عندهم. غير أن سرديني طلب منهم إخلاء المكان فأسرعوا إلى الخروج وهم يتهامسون:
    ـ ما هو هذا الرفض الذي يتلهف عليه طارق والذي قلب كيانه؟ .. ولكننا مادمنا قد أمنا من أن يكون تغيره بسببنا فما علينا إلا أن نحمد الله، وإن طلب منا المساعدة في أمر فسنعمل المستحيل وإلا فلا شأن لنا بشيء.
    وبعدما أغلق سرديني الباب اتجه إلى طارق ليقول:
    ـ سيدي.
    فقاطعه قائلا:
    ـ أخبرني بالنتيجة أولا ثم أوجز في الكلام.
    ـ لقد أصرت سيدتي على الرفض فقامت معركة بينها وبين حامد، وكانت واقفة بجواره فأمسكت بعضده وقالت : أنا أعرف منك بمصلحة أختك.
    وقاطعه طارق:
    ـ قلت لك أخبرني بالنتيجة أولا هل قبلوه؟
    ـ كلا، لقد اختلفوا، فحامد في جانب والباقون في جانب.
    ـ تعني أن حامداً يريد تزويجها من راشد.
    ـ نعم، ولو بالقوة كما زعم.
    ـ القوة؟ .. ومن يقف في صفه؟
    ـ كان عم إبراهيم في صفه قبل أن يضرب أمه.
    ـ إبراهيم يضرب عائشة؟
    ـ كلا يا سيدي .. حامد هو الذي ضرب أمه.
    ـ ضرب أمه؟ .. قبحه الله من ولد عاق! .. كيف كان ذلك يا سرديني؟
    ـ قلت لك أن سيدتي كانت ممسكة بعضد حامد وهي تقول : اسمع يا حامد أنا أدري بمصلحة أختك .. إن راشد لا يصلح أن يكون زوجاً لها. وكان الغضب قد تملك حامداً فنفض يده من يد أمه بقوة، فضربت يده صدرها ضربة عنيفة أسقطتها على ظهرها فثارت ثائرة إبراهيم فأخذ يصفعه بنعله وهو يقسم ألا يزوجها من راشد الذي كان السبب في هذا العقوق.
    وتوقف سرديني عن الكلام، فرفع طارق رأسه وهو يجتذب نفسه المحتبس وقال:
    ـ ثم ماذا؟
    ـ لا أدري، لقد انطلقت من مخبئي خلف النافذة التي تطل على الحديقة خوفاً من أن يبحث عني حامد الذي خرج من الغرفة بعدما تخلص من أبيه، أو أن يخرج من الباب الخلفي فيراني فيحدث مالا تحمد عقباه.
    ـ حسن جداً يا سرديني؛ فمعارضة حامد غير مهمة.
    ـ ولكنه قد أقسم ألا يتزوجها إلا راشد ولو أدى ذلك إلى قتل من يتقدم لخطبتها.
    ـ حامد يقتل أحداً؟!! .. وربك ولا دجاجة!
    ـ لقد قال له عم إبراهيم:
    ـ أنت تستطيع ضرب صدر أمك، أما قتل الرجال فلست كفؤاً لقتل دجاجة!
    ـ إني يا سرديني أخشى من أن يخلق هذا القول في نفسه عقدة ربما تدفعه إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة في المستقبل.
    ـ هل تخشاه يا سيدي؟
    ـ كلا، فلن يستطيع أن يمسني بسوء، ولكني أخشى من أن يخلق لأهله متاعب. لقد أصبحت أحبهم جميعاً .. إنهم أسباب سعادتي، ولا يمكن أن أنسى أعمالهم الطيبة معي .. لقد فُتحت لي أبواب الخير على أيديهم. ونظر سرديني إلى الساعة التي كانت في يده فنهض وهو يقول:
    ـ استأذنك يا سيدي، فقد بلغت الساعة الخامسة.
    ـ في أمان الله.
    ـ ولكن لا تنس أن تخبرني بكل ما يجد.
    ـ اطمئن، فسوف أحرص على فتح أذنيَّ وعينيَّ على كل شيء.
    وفي الصباح الباكر ذهب طارق إلى بيت إبراهيم فوجده مع زوجته يشربان الشاي، فقدما له فنجانا فرفض شربه إلا إذا لبيا طلبه فوعداه بذلك فتناوله وهو يقول:
    ـ يا عم، إني أطلب يد فاطمة .. إني ابنكم وتعرفون عني كل شيء، وهي أختي .. ما أظن أحداً سيسهر على راحتها أكثر مني.
    رفع إبراهيم رأسه وكان مطرقا أثناء حديث طارق ونظر إلى زوجته التي سرت في جسدها رعشة، وهي تشد على أصابع يدها بالأخرى .. لا تدري ما الذي سيقوله إبراهيم. وتبودلت نظرات تساؤلية بينهما .. أما طارق فصار يلوم نفسه على هذا التسرع ويحدث نفسه بتكهنات وتوهمات .. هل تسرعت حقيقة؟ إنهما قد تشاجرا مع ابنهما البارحة، ومازال أثر هذا الشجار في نفسيهما. لو تأخرت يوما أو يومين ألم يكن أنسب؟ إن صمتهما يخيفني .. إن طلبي لم يوافق هوى في نفسيهما وإلا لماذا هذا الصمت؟ .. ولماذا هذه الحيرة التي تظهر على وجهيهما؟!! رباه أكاد أفقد أعصابي. لماذا لا يتكلمان؟ على أي حال انتهى الأمر ولابد من جواب سأتكلم ..
    وبصوت قلق ملأه الاضطراب قال وهو ينظر إلى الأرض ويخط عليها بيده المرتعشة:
    ـ عمي لماذا سكت؟ هل في طلبي إحراج إذا كنت لست بالجدير بها فقولوا: لا .. لست بالغريب!
    ـ كلا .. كلا يا ابني .. معاذ الله. ولكن هذا أمر يحتاج إلى التدبر والتأني. فأمهلنا يومين أو ثلاثة وأنا سأعطيك الرد!
    ـ على أي حال سأنتظر الرد، وإن كنت لا أطيق الانتظار.
    ومضى شهر كامل كان مملوءاً بالمشاجرات العنيفة بين حامد من جهة ووالديه من جهة .. وكان إبراهيم يطلب من طارق الإمهال كلما اتصل به.
    (يتبع)


  16. #16
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    الفصل الرابع
    الانحـــــــــــــــدار

    كان راشد ابن العم قد علم بتقدم طارق لخطبة ابنة عمه. فأخذ يعتصر قوى الشر في نفسه الخبيثة باحثاً عن خطة يقضي بها على منافسه، فصورت له تلك النفس الشيطانية خطة جهنمية، فأحضر اسطوانة غاز مملوءة، ثم طلب من علي خادم حامد الأمين أن يذهب بها ويضعها في معرض طارق كأمانة وإذا سأله أهي مملوءة؟ فليقل إنها فارغة.
    وبعد ثلاثة أيام طلب عليا، وأمره أن يذهب إلى المعرض وأعطاه مفتاحاً للاسطوانة ومعه ألف ريال وقال:
    ـ إذا نفذت ما أقول لك فلك عليَّ مثلها مرتين.
    ثم أعطاه زنداً في صورة قلم، وأخبره بالخطة التي يريد منه تنفيذها وأعلمه أن هذا الزند يمكن استعماله كقلم وزند في آن واحد. ثم ودعه قائلا:
    ـ الموعد بيت عمي أنا ذاهب إليه الآن.
    لم يكد راشد يدخل من الباب الخارجي لفلة عمه حتى شاهد حامداً، وقد اتجه إلى الباب مسرعاً وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه فتلقفه مذعوراً وقال:
    ـ ما الخبر؟ إنك غير طبيعي.
    ودون أن يتكلم حامد رد يده إلى جيبه وأخرج منه مسدساً ورفعه أمام وجه راشد فتراجع مذعوراً، وهو يردد:
    ـ حاسبْ، حاسب يا حامد.. هل أنت مجنون؟ ماذا فعلت؟
    ـ تخاف من المسدس؟ .. إذن فكيف تكون حال طارق الذي سيقابل به الآن؟ .. أظنه سيموت قبل أن أطلق عليه الطلقة الأولى!
    ومع ضحكة عريضة ساخرة تذبذبها الرعدة التي لم تبرح جسمه حتى الآن. قال:
    ـ لا يا أخي، أرح مسدسك! .. إن طارقاً الآن صار في خبر كان!
    ـ ماذا؟!!
    ـ الآن يأتي عليٌّ، ويخبرك بكل شيء.
    ـ ولماذا لا تخبرني أنت؟!
    ـ أنا رسمت الخطة وأمرت عليا بالتنفيذ، وسيأتي الآن ويصف لك الموقف وصفاً شاعرياً.
    ـ يا شيخ؟! بلا شاعري!
    ـ وما أدراك ما شاعري؟!
    ـ أخبرني بالخطة .. هل كلفته بقتله؟!
    ـ كلا. وإنما أمرته بإحراق معرضه وهو في داخله .. الآن لم يعد لي مزاحم .. سأتزوج فطوم وتتزوج أنت أختي كما أسر لك أبي.
    ـ المهم .. هل أنت متأكد من نجاح الخطة؟!!
    ـ مائة في المائة ..
    وأضاف وهو يبتسم:
    ـ كن على استعداد للبحث عنهم بين الأنقاض! .. إنه واجب الإخوة والصداقة والإنسانية .. أليس كذلك؟!!
    وفجأة ظهر أمامهما طارق وسلم، فذعر الاثنان ولم يستطيعا رد التحية .. وكان المسدس ما يزال في يد حامد فسقط منه، فرفعه إليه طارق وهو يقول:
    ـ مساء الخير، عمي إبراهيم هنا؟
    ـ نعم .. نعم، ادخل.
    قالها حامد وهو في غاية الارتباك، فتركهما طارق واتجه إلى داخل الفلة فأبصر سرديني يعدو أمامه فناداه، ولكنه اختفى داخل الفلة ثم عاد سريعا. لقد كلم سيده في أمر ثم عاد قبل أن يصل طارق إلى الباب، فطلب منه مفتاح سيارته ليقضي حاجة لسيده. ثم يعود سريعاً فأكد عليه، لأنه يريد الرجوع إلى المعرض قبل أن يؤذن المغرب.
    واستقبل إبراهيم طارقاً ورحب به ولكن الاضطراب كان يسيطر عليه. فاتجه بضيفه إلى غرفة نومه بدلا من غرفة الاستقبال، غير أن طارقا لم يلاحظ اضطرابه ولم يستغرب من ذهابه به إلى غرفة النوم؛ لأنه لا يعد نفسه غريبا .. غير أن عاصفة من القلق اجتاحت طارقاً الذي كان يجلس على كرسي بجانب السرير، فنهض من الكرسي واتجه إلى النافذة المطلة على الحديقة ففتحها وجلس على كرسي بجانبها وحاول أن يشغل نفسه بمرأى شجيرات الورد وأغصان الريحان التي ساهم في يوم ما في زراعتها وتنظيمها، كما استعان بصوت الراديو الذي أخذ يدير مؤشره على غير هدى!
    لكن القلق كان يتزايد، فنظر إلى إبراهيم نظرة المستغيث، ولاحظ قلقه واضطرابه، وأن أوراق المناقصة التي قدمها إليه لأخذ رأيه فيها مازالت في يده ولكنه لم ينظر إليها. إن يده ترتعش فتسقط الأوراق وسماعة الهاتف الذي قام إليه أكثر من خمس مرات في ظرف خمس دقائق تكاد تسقط من يده.
    واشتد القلق بطارق وهو يستعرض ما شاهده منذ دخوله: حامد وراشد وسرديني كلهم مرتبكون. وعمه إبراهيم على مثل الجمر من القلق حتى أنا سرى إليَّ القلق دون أن أشعر. إن كارثة ستقع ولكن ما هي؟ ومن أين ستأتي؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهم بالقيام، ولكن عائشة دخلت بالشاي وهي ترحب به فلم ير بداً من البقاء للتحدث معها وشرب فنجان من الشاي. فلعل في حديثها ما يقشع هذه السحابة الثقيلة من القلق.
    وبينما كانت عائشة تصب الشاي كان إبراهيم يصرخ في الهاتف: ألو، ألو .. نعم، نعم .. ما يرد!، ماذا؟!! .. مقطوع!
    وسقطت السماعة من يده، وحاول أن يعتمد على الحائط ولكنه سقط قبل أن يتمكن من ذلك، فذعر الجميع وحاول طارق رفعه إلى السرير بينما ركضت عائشة لتأتي بماء بارد.
    وملأ الصراخ البيت وحاول طارق استعادة وعي إبراهيم بواسطة غسل وجهه ورش الماء على صدره، وما هي إلا لحظات حتى أفاق وهو يقول بصوت متهدج:
    ـ أين طارق؟
    ـ ها أنا يا عم بجوارك ماذا بك؟ .. مع من كنت تتكلم؟
    ـ سأخبرك .. ولكن لا تدعني ابق معي؟
    ـ حاضر .. تحت أمرك.
    ثم أمر إبراهيم طارقاً أن يطلب له بالهاتف أخاه حسين أبو راشد.
    وبعد قليل حضر، فأمر عائشة بالخروج مع طارق في الغرفة الأخرى؛ لأنه يريد أن ينفرد بأخيه في أمر. وبينما كانت عائشة مع طارق تروي له قصة صراعها مع زوجها وابنها في سبيل تزويجه فاطمة .. وهو يستمع إليها مقبلا على التقاط كلماتها بكل مشاعره وإحساساته وخطوط سعادته المقبلة تتراءى له من خلال حديثها آمالا تلمع كالمجرة تبدت في ليلة صافية الأفق، كان حديث المسدسات والنيران الملتهبة والفضائح في المحاكم والدوائر والسجون والغرامات يدور في أعنف معركة كلامية بين إبراهيم وأخيه حسين.
    لقد أطلعه على ما أخبره به سرديني من أمر الحديث الذي جرى بين حامد وراشد والذي سمعه وهو خلف الشجرة التي بجانب الباب الخارجي، وطلب منه أن يقوم بدفع خسارة طارق وينهي الموضوع وكأن شيئا لم يكن. ووعده بمساعدته في ذلك. وإن كان أكثر منه مالا. فثارت ثائرة حسين، واتهم إبراهيم بأنه قد دبر هذه المهزلة ليصيد عصفورين بحجر يقضي على ماله أولا، ثم يتخلص من خطبة راشد ثانياً.
    وارتفع صوت حسين وحاول أخوه تهدئته عبثاً .. فقام وهو يقول في عصبية وبصوت مرتفع قطع على طارق وعائشة حديثهما الهادئ الحالم:
    ـ ما شأني؟ والمعرض أحرق أم لم يحرق؟!! .. إن شاء الله تحترقون أنتم.
    وأحس طارق كأن خنجراً غرس في قلبه، ودار بينه وبين نفسه هذا الحديث... لماذا طعنتني كلماته؟ لماذا؟ .. هل؟ .. ولم تطاوعه نفسه في إتمام السؤال. وبلا شعور ولا استئذان اندفع إلى الخارج وهو ينادي:
    ـ سرديني! أين مفتاح السيارة؟
    وبالطبع لم يسمع مجيباً سوى صوت إبراهيم من ورائه. وقد تحامل على نفسه وأسرع والأرض تدور به ليرده. ولما لم يجد سرديني ولا السيارة عاد ليقول إنه سيذهب إلى المعرض في سيارة أجرة وحينما يأتي سرديني يلحق به هناك. غير أن كلمات إبراهيم المتقطعة بسبب الحشرجة العنيفة وقعت على رأسه كالصاعقة:
    ـ لا تذهب يا ابني! .. المعرض راح .. ذهب!
    ـ ماذا يا عم؟
    ـ قصدي .. ذهب عماله تعال معي وأنا أخبرك أتوسل إليك أنا لا أستطيع تركك!
    ودقق جرس الهاتف. فأمر طارقا أن يرد عليه فرفع السماعة وجسمه يرتعد فسمع منادياً يقول:
    ـ ألو إبراهيم أنا مدير المستشفى .. خادمكم سرديني عندنا .. صدمته سيارة شحن فانعدمت السيارة. أما هو فلم يفق بعد، ولكن الأمل قوي وإن كانت ذراعه قد انكسرت وكذلك فخذه. أما على فقد مات في الحريق.
    وأحس طارق بحرارة شديدة تسري في جسده كأنما غمس في لهب ذلك الحريق وقال ويده ترتجف:
    ـ حريق في أي مكان؟!
    فقفز إبراهيم واختطف السماعة من يده وطلب من الدكتور أن ينتظر ثم أجلس طارقا وأعطاه كأساً من الماء ثم صب الآخر على صدره وهو يردد:
    ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.
    ثم عاد إلى الهاتف وعلم من مدير المستشفى كل شيء، وطلب منه أن يقيم حراسة شديدة على سرديني والمصابين في الحريق. فقد يحاول المجرم التخلص منهم ليسلم من شهادتهم .. فاعتذر الدكتور مدير المستشفى، وقال إن ذلك من اختصاص الشرطة. فاتصل بهم فطلب منه أن يمنع الزوار ريثما يخبر الشرطة فوعده بذلك.
    ولم يكد إبراهيم يخبر الشرطة بالأمر حتى بادروا بإرسال فرقة إلى المستشفى تقوم بالتناوب على حراسة المصابين ومنع الزائرين سوى الأطباء والممرضين.
    ولم يكد إبراهيم يقبل على طارق حتى جابهه بهذا السؤال:
    ـ احترق كل ما في المعرض يا عم؟!!
    ـ اتق الله يا ابني، المال كالشعر يسقط وينبت.
    ـ المال غير مهم يا عم فقد نشأت فقيراً ولكن إخواني الذين تفانوا في خدمتي أين هم؟!! .. أكلتهم النار؟!
    كان يلفظ تلك الكلمات عبر البكاء والشهيق ووجهه بين يديه وكأنه يتحاشى رؤية ذلك المنظر البشع الذي تلتهم فيه النار الأجسام كما تلتهم الهشيم.
    ومرت الأيام المثقلة بالهموم والأحزان على طارق المسكين الذي صار فقيراً معدما ينوء بمائة وخمسين ألف ريال من الديون التي لا مقابل لها بعد أن كان يملك معرضاً كبيراً لا تقل معروضاته عن ستمائة ألف ريال.
    وليت المأساة انتهت عند ذلك الحد، بل لقد قام أهل الديون يطالبون بحقوقهم، فرُمِي طارق في السجن، ثم أخرج بكفالة إبراهيم.
    وفي خطوات بطيئة خرج من السجن وكأنه يدفع إلى سجن أمرَّ من ذلك السجن الذي تركه، وكان يجد به على الأقل المأوى والطعام ..
    أما وقد تركه إلى مدينة لا يملك فيها شيئاً فلا بدله من أن يذرع هذه المدينة عرضا وطولا ليبحث عن منزل صغير حقير، ليواري فيه نفسه عن تلك الأنظار المتشفية أو المشفقة. ثم إن صاحب مثل هذا المنزل قد ينظره في الأجر لبواره. وهناك في منفوحة الجديدة وجد ضالته.
    ومر عام تغيرت فيه أحوال كثير من الأسر. وذلك بسبب مرض الكوليرا الذي أفنى بعضا من الأسر. فقد مات إبراهيم وزوجته، وسالم أخو إبراهيم وابنه راشد، وأمه وسرديني، وجميع العاملين مع طارق .. وخلق كثير.
    أحداث قاسية استطاعت أن تغير من نظرة حامد إلى طارق، حيث عاد الصفاء بينهما، فعاشا صديقين حميمين. أما فاطمة فقد ألجأتها الحاجة إلى أن تخدم نفسها بنفسها وتخيط ملابسها بنفسها بعدما كانت الفتاة المدللة. لكن لا بأس مادام أخوها معها، وتلك إرادة الله. ثم إن هذا الشاب الحفي بها (طارق) تنشر حفاوته أمامها آمالاً عراضاً ربما كان فيها شيء من تعويض لما فقدته بعد وفاة أمها وأبيها، وإن كان الوالدان لا يعوضان .. ثم إن ذلك المرض قد أخذ كثيرين من أسرتها وممن عرفتهم.
    ومرت أيام بين الثقال والخفاف، وفي يوم كان حامد يبحث عن طارق فلم يجده فذهب إلى بيته الجديد في منفوحة. فلما وصل إلى الباب وجده مفتوحاً فدخل وكان طارق في إحدى الغرف. وأخذ حامد يدنو من الغرفة قليلاً قليلاً وهو يسمع صوت صديقه وهو يغني ويقول:
    أي سر فيك إني لست أدري
    كل ما فيك من الأسرار يغري
    ولما بلغ قول الشاعر:
    هذه الدنيا هجيـر كلهـــا
    أين في الرمضاء ظل من ظلالك؟
    كان صدره قد ضاق بتزاحم العبرات فيه فانفجر باكيًا. ودخل عليه فوجده مكباً على وساده يشكو إليه، ويبثه أحزانه ويسكب عليها ما بقي في عينيه من دمعه. فزع لما شاهده من أثر الحزن العميق على وجه صديقه الذي هجر بيتهم منذ أسابيع. فتقدم إليه في لين وتلطف وقال:
    ـ يا صديقي معذرة فلم أعلم بمرضك. وربي!
    (يتبع)


  17. #17
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    ثم قبله في جبينه وقال:
    ـ ماذا بك؟!! .. إنني أراك متعباً حقاً. أقسم عليك بالله أن تخبرني مم تشكو؟
    قال له:
    ـ لا شيء يا سيدي!
    وألح في السؤال، فتنهد وقال:
    ـ يا أخي! .. إنني ضائق بهذه الحياة، وإنني الآن أنتظر الموت .. أنا مريض وشفائي مستحيل .. رباه أين ملك الموت ليقبض وديعتك. لقد سئمت من حملها.
    ثم زفر زفرة كادت تطير منها نفسه، ثم قال:
    ـ لقد زهدت في تلك الحياة آه. إنني لا أطيق رائحة الخيانة.. فرحماك يا ربي!
    ثم نهض وقال:
    ـ سوف أذهب إلى الطبيب.
    ولم ينتظر جواب طارق، لقد أخذ كلامه ومنظره من الصديق كل مأخذ. وعز عليه أن يرى صديقه على هذه الحال فانطلق مسرعاً، ولكنه لم يذهب إلى الطبيب. لقد أدخل يده في جيبه بعد أن خرج من عند صديقه ليبحث فيها عن بعض النقود ليدفعها للطبيب ولكنه لم يجد شيئاً فأخرجها صفراً. فجعل ينظر إلى يده وكأنه يلومها وأخذ يفكر ولكنه لم يطل التفكير. فقد انطلق يسابق الريح إلى أين؟ إلى ذلك الدُّرْج في مكتبه وراح يعدو كالمجنون. لا يلتفت إلى يمينه ولا إلى شماله حتى وصل إلى البيت وهو يلهث من التعب لطول الطريق وشدة العدو. فدخل واتجه نحو غرفة مكتبه. وغمس يده في جيبه وهو يستعجلها في إخراج المفتاح. ولكن تلك اليد قد أبطأت وأطالت البحث عن المفتاح فلم تجده. لقد سقط وهو يعدو، فذعر من ذلك ولكنه اتجه إلى غرفة أخته ليأخذ منها بعض النقود.
    ولما دنا من الغرفة سمعها تغني وهي جالسة إلى ماكينة الخياطة .. ولم يكن الغناء وحده مثيراً لاهتمامه، ولكنه سمعها تبكي وهي تغني، فدنا من النافذة قليلاً ليتمكن من سماع ما تقول .. وكان الشوق والحرقة يشعلان النار في صدر تلك الفتاة المسكينة فيتحول البكاء إلى زفرات يضيق بها الصدر فيقذف بها كتلا في مجرى البكاء، فتحبسه وتشل حركة اليدين الصغيرتين الجميلتين عن الحركة فتسحبها من على الماكينة بعد أن بللت القماش بالدمع الغزير، فتلوذ بذلك الفراش المحروم لتُوْدع فيه تلك الزفرات وتسقيه بهذه الدموع ليحتفظ بها هدية لذلك الحبيب الموعود، ولكن حامداً يخنق تلك العبرات ويحبس هذه الدموع قليلاً لتصحبها دموع الاتهام وزفراته.
    لقد دخل عليها جاحظ العينين، محمر الوجه، منتفخ الأوداج، يهتز من الغضب، ونظر إليها وقد وقفت مذعورة من مفاجأته لها، وقال:
    ـ من هذا الذي شبك قلبك؟!
    وكانت مفاجأة سؤاله أشد دهشة من مفاجأة دخوله بدون إشعار.
    قالت له:
    ـ ماذا تعني يا حامد؟ وماذا بك؟
    فرد عليها قائلاً:
    ـ ماذا بي؟ وماذا أعني؟ قولي لي: من هذا الذي تغنين له بعد أن شبك قلبك؟
    قالت:
    ـ أنا لا أغني لأحد وإنما هي مجرد تسلية.
    فقال وهو يسخر منها:
    ـ مجرد التسلية؟!
    .. وهز يده في وجهها وهو يقول:
    ـ إن لم تخبريني به فسأقتلك.
    ثم أعاد الشيطان على أذنه في هذه اللحظة ذلك الكلام الذي سمعه من صديقه وهو يخرج من باب غرفته التي ملأها أنينه فلم يأبه لها إذ ذاك « الخيانة .. الشقا».
    لابد أنه خاننا مع أختي، وإلا فما هي تلك الخيانة والشقاء اللذين يعنيهما؟ .. نعم لقد خاننا ثم خاف على نفسه فابتعد عنا فشقي لبعد شريكته في الخيانة.
    كانت هاتان الكلمتان ترنان في أذنه حتى فقد شعوره، وصار لا يفكر إلا في وسط زنزانة من الغضب الطاغي على الإحساس والشعور. ثم انتفض انتفاضة الرجل الكريم غليظ الطباع الذي جُرحت كرامته وانتُهك عرضه ثم انقض عليها وهو يقول:
    ـ ألم أقل لك أخبريني من هذا الذي تغنين له؟
    فصرخت لشدة قبضته على عضديها اللذين كادا أن ينحطما وهي تقول:
    ـ من تعني بكلامك هذا.. ألم أقل لك إنها مجرد تسلية.
    فقاطعها قائلاً:
    ـ كلام معاد أخبريني «يــا... ».
    ثم حبس كلامه وثرت عيناها بالدموع .. لقد فهمت ما حبسه من الكلام. وأحست بأن كرامتها تجرح لأول مرة بلسان أقرب الناس إليها، وأكثرهم غيرة عليها فانفجرت بالبكاء، ولكن هل يعيد هذا الدمع وذلك البكاء هذا الأخ الثائر إلى هدوئه ووداعته؟
    لقد تحول إلى وحش ضار، بل إن قلبه قد صار كتلة فولاذية تفل الحديد ولا تفل، وهل يطغى صوت البكاء على أصوات أجراس الرذيلة؟ وهل تمحو تلك الدموع المنهمرة دماء الكرامة المكلومة؟ لأنها دموع الخوف والندم.
    لقد أشعل ذلك نار غيظه فأمعن في الزجر والتهديد. ثم هزَّها هزاً عنيفاً وهو يقول:
    ـ اعترفي.
    وخرج صوتها ممتزجاً بالزفير والدموع وهي تقول:
    ـ بم أعترف؟ لا جريمة لي حتى أعترف بها.
    فلم يطق طول الجدل فصرعها على الأرض، وأخذ يركلها برجله ركلا عنيفاً حتى إذا غابت عن الوجود تركها وانصرف إلى صاحبه المريض يفكر في أمره ويدبر الخطة لاغتياله.
    واتجه إلى مكتبه ليأخذ منه مسدسه ونسي أنه أضاع المفتاح، فأدخل يده في جيبه وكاد يمزقه، إذ لم يجد المفتاح فيه، ولم ير بداً من كسر الباب فكسره وأخرج المسدس من الدرج الذي كان يريد أن يأخذ منه النقود ليدفعها إلى الدكتور الذي كان يريد أن يأتي به لصاحبه.
    وترك الدرج مفتوحاً والباب مكسوراً وخرج من البيت يعدو في الطريق تارة، ويمشي تارة. يعدو إذا لم يره أحد، ويمشي إذا أبصر أحداً، حتى إذا دخل على صديقه صاح به قائلاً:
    ـ أيها الخائن، أهكذا تفعل...؟
    فيجيبه:
    ـ ماذا تقول؟ أنا خائن.
    فيجيبه:
    ـ نعم؟ وأي خيانة بعد ذلك العمل؟
    فرد عليه قائلاً:
    ـ حامد... لا أكاد أصدق بصري...،
    ـ تصدق بصرك بماذا؟..
    ـ بأنك حامد.
    ـ لماذا...؟
    ـ هل أنا مجنون؟
    ـ كلا، ولكنك خائن...
    ـ أنا؟
    ـ لا فائدة في الكلام. لقد جرحت كرامتي ولوثت شرفي... ولا أقول لماذا لم تحفظ الصداقة.. فليس عندك وأمثالك حفظ للصداقة ولا قيمة عندكم للشرف والكرامة... إنكم سفلة أنذال..
    فقاطعه طارق قائلاً:
    ـ كفى... كفى أيها الأبله.. أنا الذي لا قيمة للشرف والكرامة والصداقة عندي... أغرب عن وجهي.. أغرب عن وجهي أيها القذر قبل أن تندم؟
    ـ أندم؟... أنا؟
    وأخرج المسدس من جيبه وقال:
    ـ اعلم أن انتهاكك لعرض أختي وتدنيسك شرفي وكرامتي لن يذهب سدى ولسوف أمحو بدمك ودمها ذلك الدنس .. سأفرع في رأسك هذا المسدس ثم أذهب فأفرغ مثل ذلك في رأسها. وعندئذ ستهدأ هذه الثورة وإن بقي بعض الدنس لن أترككما حتى تكونا طعاما للدود وحيَّات القبور وعقاربها.. ستذهبان من شقاء الدنيا إلى شقاء وعذاب الآخرة.
    ثم رفع مسدسه وعلت منه صرخة:
    ـ شرفي... شرفي!
    لقد أيقن طارق بالموت، وتخيل الرصاص يخترق جسمه البريء ويحاول إزهاق روحه الطاهرة. .. تلك الروح التي آثرت المرض ومعاناة الحرمان والبؤس، إيثاراً لصيانة الشرف والكرامة التي يقتل الآن بسبب اتهامه بتدنيسها .. فماذا يعمل ليتمكن من كتابة وصية تثبت براءته من هذه التهمة؟
    أما الموت فلماذا يكرهه وقد فكر في الانتحار مراراً وإنه الآن ليس في حاجة إلى التفكير في ذلك الانتحار. فقد سيق إليه سوقاً. ما الذي يمنعه من أن يخلي بينه وبين تلك الروح التي طال حبسها في ذلك الهيكل العظمي الذي لولا بقايا من العصب المحترق تمسك بعضه ببعض لتناثر على ذلك السرير أوصالاً من العظام النخرة البالية .. لا حاجة عنده إلى ذلك الهيكل الخرب ولا في راهبه المقيم فيه إلا ساعة واحدة .. ساعة واحدة .. يكتب فيها براءته من تلك التهمة التي ألصقت به إلصاقا وهو منها براء ..
    وتوجه إلى صاحبه وقد تحول من إنسان إلى وحش ضار وقال في تلطف وخضوع:
    ـ حامد لي عندك حاجة واحدة أطلبها منك قبل أن تنفذ إرادتك.
    ـ وما هي؟
    ـ نصف ساعة أكتب فيها وصيتي.
    ـ لتكتب فيها أني قتلتك لتطلب الأخذ بثأري؟ .. إني لا أخاف من أحد... لك نصف ساعة إني واقف خارج باب الغرفة حتى تنتهي من كتابة ما تريد.
    وخرج من الغرفة وأخذ يدور حول نفسه أمام الباب، كأسد يدور حول فريسته. ثم همس به الشيطان لماذا لا تذهب فتقتل أختك. أسرع إليها، فدخل عليها ليجدها منكبة على وجهها تبكي فصاح بها صيحة نهضت منها مذعورة قائلاً:
    ـ من هو.. ألا تعترفين؟ ولكن لا حاجة إلى اعترافك. فقد عرفته ولم يبق إلا أن أقتلك ثم أذهب إليه فأقتله... إنك خائنة، بل إنك دنس في ثوب كرامتنا وشرفنا يجب أن يزال.
    فردت عليه قائلة: إنك نذل سافل... إنك لست أخي... فصرخ:
    ـ كلام معاد اتفقتما عليه، بل لا شك أنكما كنتما تصفانني به قبل أن اكتشف أمركما.
    قالت:
    ـ أي أمر تعني؟ ومع من قلت إنك حمار... حمار..
    فأطلق عليها الرصاص فسقطت على الأرض. وأيقن أنها قد ماتت. فانطلق يعدو واضعاً يده في جيبه قابضة على المسدس ووصل الباب ففتحه ويداه ترتعشان.
    لقد بلغ الانهيار العصبي منه كل مبلغ قبل أن يطلق الرصاص على أخته، ولكنه تشجع وقال لنفسه:
    ـ بدأت ولابد أن أتم ما بدأت.
    وفتح الباب ودخل ثم أغلقه دونه حتى لا يدخل عليه أحد، ثم تقدم إلى الغرفة وفتحها وقال:
    ـ ألم تنته من كتابتك؟
    فأجابه:
    ـ بلى، إنها لك ولكن لا يمكن أن تقرأها إلا بعد أن تفعل ما تريد.
    فقال:
    ـ مازلت تهددني حتى الآن أيها الأبله؟
    فقال:
    ـ صه، لست بالأبله، وإنما الأبله أنت.
    قال:
    ـ أعطني ما كتبت.
    فقال طارق:
    ـ كلا لن تأخذها مادمت حيا.
    فقال:
    ـ لن تمنعني مما شئت، سوف آخذها.
    وهجم عليه كالوحش حين ينقض على فريسته، ونشبت بينهما معركة حامية، تمكن فيها حامد من جذب طارق من السرير وإلقائه على الأرض.
    وكان الاستعداد للرصاص قد أذهب ما بقي في ذلك الهيكل من قوة. فلم يستطع المقاومة ولم يثبت فأغمى عليه .. وتمكن حامد من أخذ الورقة من يده بسهولة، ثم أفرغ ما بقي في مسدسه من الرصاص على ذلك الجسم الملصق بالأرض، ثم ولى هارباً .. وخرج من بيت ضحيته الثانية مسرعاً وهو على حذر من أن يراه أحد .. وانطلق يعدو ويده في جيبه قابضة على المسدس والكتاب إلى خارج الرياض.
    ولما وصل إلى الملز وكان في تلك السنة مازال أرضاً خالية لا بناء فيها، وقف ووجهه إلى البلد، وكأنه ينتظر من يلحق به وكان يحس بأن كل شيء ينظر إليه نظرات كلها ريبة وشك وخيل له أن كل ما حوله يلعنه ويزدريه حتى حذاؤه والأرض التي يقف عليها.
    (يتبع)


  18. #18
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    وأخرج يده من جيبه وفيها الكتاب الذي أخذه من يد ضحيته الثانية ففتحه وبدأ يقرأ فيه، فإذا أول ما يطالعه في أعلاه:
    «بسم الله الرحمن الرحيم .. وبعد ذلك الحمد والثناء على الله فالصلاة على النبي ثم هذه الكلمات يتضرع بها إلى الله واحد القهار: «اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاغفر زلتي، اللهم إني أقتل مظلوماً، لأني صدقتك ما عاهدتك عليه فلم أتجاوز الحدود التي وضعتها، فارحمني يا إلهي وأجرني من عذاب الدنيا والآخرة».
    ثم قال:
    «أيها المسكين الذي خرج عن طور الإنسان إلى طور ضاري الحيوان: لست أدري بم أخاطبك، لأنك كفرت بنعم الله وشرف العقل الذي شرفنا الله بمنحه لنا كفرت بالصداقة التي منحتك إياها فلم يبق لي إلا أن أخاطبك بما أنت له أهل: «أيها الشيطان الأحمق» .. لقد منحتك صداقتي وكنت حريصاً على أن لا أمنحها من لا يستحقها، ولكني خدعت فيك فصادقتك. ولقد حافظت على تلك الصداقة كمحافظتي على شرفي وشرف أسرتي. وكان في وسعي أن أفعل لولا عصمة ربي وعنايته بي. لقد دخلت بيتكم نقي الصفحة وفارقته ولم تدنس هذه الصفحة حتى ولو بالنظرة .. ولم أحمل نفسي على ذلك خوفاً منك ولا من أي بشر. لا .. وربي! .. وإنما حملتها على ذلك خوفاً من ربي وطاعة له .. إنكم لن تستطيعوا مراقبتي في كل لحظة وإنما يستطيع ذلك من معي أينما كنت. ألم تر أنك ستقتلني الآن وأنت آمن من أن يراك أحد، ولئن استطعت أن تخفي آثار جريمتك في وقتها فإنك لن تستطيع ذلك طويلاً ستحاسب عليها إن عاجلاً أو آجلاً .. فاستعد للقصاص من الآن! ..وإني لأرجو أن يكون حسابك بأكمله أمام الله يوم الحساب. أيها الشيطان العنيد! .. لقد عانيتُ في سبيل المحافظة على الشرف والكرامة اللذين تتهمني بانتهاك حرمتهما وتتشدق بالدفاع عنهما ما لو ابتليت بقليل منه لم تثبت له أنت وأمثالك من مدعي الدفاع عنهما. وإني لا أتمدح بذلك، وإنما أحمد الله الذي منحني الصبر والقوة وضبط جماح النفس الأمارة بالسوء .. لقد قلت لك منذ ساعة أني كاره لهذه الحياة التي يتنازعنا فيها عاملان كل منهما شر من الآخر «الخيانة والشقاء »!.
    أما عامل الخيانة فقد نجوت منه في ما مضى من حياتي والحمد لله. وأسأل الله الحماية في ما بقي إن حييت، والعفو إن مضيت. وأما العامل الثاني: الشقاء، فعونك اللهم إني قابل له على كره (حنانيك بعض الشر أهون من بعض). أيها المجنون! .. بل أيها الشيطان! .. لقد ثبت أمام تلك العاصفة التي كادت تؤدي بشرفي وشرف أسرتك ورددتها رداً لا يتنافى مع سمو الشرف والكرامة. ذلك السمو الذي كنت أضعه أمام عيني بعد رضاء الله. ولن أحدثك عن هذه العاصفة فإنك تستطيع أن تعرف حديثها من مصدرها، فابحث عنه إن شئت أو لا تبحث فلا شأن لي بذلك.
    إني لست آسفا على ما فعلت ولن أأسف على حياتي، لأنني لا أخاف من المستقبل. فلقد كنت أتوخى الصواب في جميع أعمالي وأحاول البعد عن الشبهات ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولكني آسف على صداقتك وثقتي فيك. فلقد كنت أرى فيك صديقاً وفياً لا يمكن أن يجود الزمان بمثله فقرنت مستقبلي بمستقبلك، ووهبتك من ودي وإخلاصي ما لم أهبه غيرك! .. حتى كان لأسرتك في نفسي من الحب والتقدير ما لأسرتي، وما ذلك إلا لأني أحببتك حباً أخوياً وأنزلتك مني منزلة الشقيق لا الصديق ولكنها حكمة الله ﴿ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ﴾ صدق الله العظيم.
    ولكني أريد أن أقول لك إنك سوف تندم حين لا ينفع الندم. وستدمي أسنانك بنانك من عضة الندم، ولكن ذلك لن يكون إلا في الساعة التي يذهب فيها شيطان الغضب .. تلك الساعة التي ما هي إلا مقدمة لصيحة شيطان الجنون الذي ستبتلى به بعد ذلك جزاء لك على ظلمك وأخذك بالظنة وقد نهاك الله عنها في كتابه العزيز حيث يقول: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ صدق الله العظيم.
    اللهم أنت العالم بكل شيء فاشهد ﴿ وكفى بالله شهيداً ﴾.
    فرغ من قراءة الكتاب فأخذ يقلب بصره في الأرض تارة، وتارة في السماء، وتارة بينهما وكأنه يبحث عن شيء فقده، ثم غرق في بحر من التفكير المضطرب والندم، وذهبت عنه سحب الغضب وبدأت سحب أخرى تتراكم أمام عينيه.
    سحب سود تنذر بمستقبل مظلم موحش وطال وقوفه وأعياه التفكير المضطرب، منهك القوى خائر العزيمة، مضطرب الشعور، وسمع صوتاً يناديه من خلفه ويقول:
    ـ ستصحو من سكرة الغضب لتدخل في سكرة الجنون.
    فرفع رأسه مذعوراً وكأنه مستيقظ من نوم طويل، وأخذ يجول ببصره يمينا وشمالاً يبحث عن صاحب ذلك الصوت فلم ير أحداً، فاستوحشت نفسه، وتغولت عليه الأرض، فأخذ يحدث نفسه بهذا الحديث:
    ـ من صاحب هذا الصوت؟ ومن أين؟
    لا بد له من مصدر ولا بد له من صاحب. إنه يشبه صوت طارق، بل إنه صوته لاشك في ذلك، ولكنه مقتول. نعم فإني لم أتركه حياً إن لم أكن قتلته فقد أصبته إصابة قوية على كل حال. وقد فارقته وهو في غيبوبة فإن كان الموت لم يقدر له بعد أو أن رصاصاتي لم تصب منه مقتلاً فنجا من الموت فإنه لن يعرف الطريق الذي سلكته، لأن أحداً لم يرني حينما خرجت من بيته. إذن فالصوت غير صوته لابد أن يكون ذلك هو الجنون.
    نعم، إنه هو الجنون الذي تنبأ به طارق لي في هذا الكتاب رباه لئن صدقت نبوءته ليقولن الناس لقد جن حامد. فقتل أخته وصديقه أو حاول قتلهما. ولئن كذبت ليقولن الناس خانت بنت إبراهيم، فقتلها أخوها وقتل شريكها في الخيانة .. ولابد أن أُقاد إلى المحكمة بتهمة قتل طارق وأختي ثم يحكم عليَّ بالقصاص فأقتل. لن أنجو من القصاص لأنه ليس هناك بينة تثبت إدانتهما وتثبت صدق ما أدعيه من خيانة.
    وعند ذلك سمع الصوت الذي سمعه منذ لحظات يصيح به مرة أخرى:
    ـ ستصحو من سكرة الغضب لتدخل في سكرة الجنون.
    فصاح بأعلى صوته:
    ـ لا.. لا لن أجن .. إني سليم العقل .. مستقيم التفكير.
    وبدأ يفكر في الانتحار .. فأخذ يحدث نفسه بهذا الحديث: لأن صح كلامه فأنا مجرم ولابد من القصاص، ولئن كذب فلن تظهر براءتي ولابد من القصاص في كلتا الحالتين.
    وأدخل يده في جيبه وهو يصيح بصوت مرتفع:
    ـ إني مجرم.. مجرم وسوف يقتص مني .. ولكن لن أتركهم يقتلونني .. سوف أقتل نفسي بنفسي .. نعم، وبهذا المسدس الذي قتلت به أختي وصديقي الخائنين.
    ثم أخرج المسدس من جيبه ورفعه إلى رأسه وأخذ يضغط عليه بقوة ولكنه نسي أن كل ما فيه قد أفرغ على مقتوليه فزادت حسرته حسرة.
    وأخذ ينظر إلى مسدسه وكأنه يلومه لماذا قتلهما ولم يقتله.. ووقعت عينه على ساعته التي في معصمه فأبصر فيها شريطاً يمر أمام عينيه؛ أوله يروي ماضيه، وآخره يروي مستقبله.
    أبصر في أول حياته المملوءة بألوان السعادة التي كانت ترفرف على ذلك البيت بأجنحة خضر، ريشها الأماني والآمال في المستقبل وأبصر في ظلال تلك السعادة أمه وأباه وأخته الطفلة الوادعة تصغي لأخيها كما تصغي لأمها وأبيها. ثم رآها تمد يدها إلى جيب أبيها لتسرق منها تلك الساعة الذهبية لتعطيها أخاها بعد أن أبى أبوه أن يعطيه إياها ثم أبصر أمه تتقلب في أعطاف تلك النعمة وتطوف بالخدم تأمرهم بفعل هذا وترك ذاك وتطوف في البيت لتشرف على تنظيمه وذاك أبوه وقد عاد قبيل المغرب إلى بيته في سيارته ليقضي مع زوجته وأولاده آخر النهار وأول الليل في تلك الحديقة الجميلة. وبين تلك الأشجار التي تأنق زارعها في غرسها واجتهد في تنظيفها وتنسيقها حتى بدت تلك الشجيرات من الورد والنرجس وجميع أنواع الرياحين وقد حلتها الشمس عند الأصيل بلونها الذهبي الفتان وكأنهن عرائس ربين في بحبوحة من العيش الناعم وقد لبسن أزهى الحلي وأجمل الحلل استعداداً للزفاف، في تلك الليلة تحف بها جماعات الطير من كل جانب تبعث تسابيحها في ترتيل ونظام بديع إلى السماء فيخيل لك أنك تسمع أروع قطعة موسيقية أو أعذب قصيدة شعرية. ثم يخلف أشعة الشمس الذهبية على تلك الحديقة أشعة الكهرباء الملونة فيزيد جمالها جمالاً، فيقضون فيها أول الليل ثم ينتقلون إلى داخل البيت ليجلسوا في إحدى تلك الغرف المكسوة بالمناظر الطبيعية في السقوف والحيطان. وتلك الستائر والمقاعد المزركشة بالألوان الذهبية والفضية فيتحدثون ما طاب لهم الحديث إلى أن يأتي وقت النوم. ثم أبصر صديقه في غرفة مذاكرته وقد أكبَّ على تلك الجداول والأوراق التي عاد بها من المكتب. ثم بدأ المنظر يتغير أمام عينيه فبرزت صورة المسدس وهو في يده قابض عليه في عنف وقوة. وفجأة خرج من فوهة مسدسه عاصفة هوجاء لها من الليل ظلمته، ومن الرعد زمجرته، ومن الريح غبارها، فاقتحمت غرفة أخته وخرجت منها بعد أن تركتها ملقاة على الأرض مضرجة بدمائها واتجهت إلى بيت الصديق المريض فولجت فيه ودخلت الغرفة التي كان يرقد فيها على سرير مرضه فحطمته عليه وتركته يتخبط في دمه يعالج سكرات الموت بعد أن ألقته بجانب سريره ثم رجعت إلى البيت فقلبت عاليه سافله. ثم مرت بتلك الحديقة لتعصف بأشجارها وتفرق طيورها وتصوح جميع أغصانها، بعد أن بعثرت أزهارها ومزقت أوراقها لتذريها كالهشيم البالي فلا ترى لها أثراً ولا تلمس بها ثرى .. ثم أبصر العاصفة تعود إليه بعد أن انتهت من البيت وساكنيه وبعد أن تركت البيت وقد سُوِّي بالأرض بعد أن كان صرحاً شامخاً يرمز للسعادة والنعيم.
    وأحس بشيء يدفعه من خلفه فسقط على وجهه، وهو يحاول أن يصيح .. ولكن هول الموقف عقد لسانه فعطله من النطق كما عطله من التفكير .. فأحس أن تلك العاصفة تدحرجه على الأرض، فغرق في إغماء طويل لم يفق منه إلا عند منتصف الليل على نباح الكلاب وصفارات الشرطة.
    (يتبع)


  19. #19
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    الفصل الخامس
    إنسانيــة طبيــــب

    هبّ حامد مذعوراً، وانطلق يعدو إلى بيتهم .. يغدو تارة فيسقط .. ويعدو أخرى، فأبصرته رجال الشرطة على هذه الحال فظنوه مخموراً فقبضوا عليه. وبعد أن عرفوا أنه ابن إبراهيم، الرجل المشهور والمعروف بالتقى والصلاح قالوا لقائدهم:
    ـ ماذا نفعل به؟
    فقال:
    ـ دعوني أكتب لكم تقريراً عنه حتى تذهبوا به إلى المستشفى.
    فصاح بهم الشاب:
    ـ نعم المستشفى فأين الهاتف .. أين الهاتف؟
    فقالوا له: ماذا تريد من الهاتف؟
    فقال:
    ـأختي... أختي
    واستمر في صياحه:
    ـ أختي.. أختي.
    فسمعه القائد فأمر الجنود أن يأتوا به إلى داخل المكتب حيث الهاتف. فدخلوا به فطلب القائد المستشفى، فلما رد عليه الطبيب دفع الهاتف إلى طارق فأعطاه فصاح بصوت ملأه الاضطراب:
    ـ دكتور كيف أختي؟
    وكان الدكتور مصري اللهجة فقال:
    ـ فائت.
    فسقط الشاب مغشياً عليه فأخذ الضابط السماعة وقال للدكتور:
    ـ ماذا قلت له؟ لقد أغمي عليه. أسرعوا بالإسعاف.
    وقال الدكتور:
    ـ قلت له إنها فائت.
    ـ لقد ظنك تقول له فاتت أي ماتت، أسرعوا بالإسعاف.
    وجاء الإسعاف وفيه الدكتور، فأخذه إلى المستشفى وأخذ الدكتور يحاول تنبيهه .. أمضى بعض الوقت في فحصه دون أن يفلح في سعيه، واضطر الدكتور أن يجرده من ملابسه ليفحصه بالأشعة، ولم يكل ذلك للممرضين بل تولاه بنفسه لما تركه ذلك الحادث الذي أصاب هذه الأسرة جميعها في نفسه من أثر عميق، جعله ينظر إلى تلك الحالة بجد واهتمام بالغين.
    وبعد أن خلع ملابسه جعل يتحسس جيوبه، ووقعت يده على أحد الجيوب فوجد فيها مسدساً وكتاباً وأحس أنه أمسك أول خيط لتلك الشبكة التي وقعت فيها هذه الأسرة المفجوعة. فأخذ المسدس والكتاب وأخفاهما في جيبه حرصاً على ألا يعلم أحد بذلك .. لكي يتسنى له تتبع أثر هذه الجريمة دون أن يقف في طريقه أحد، واجتهد في فحص المريض وعلى ضوء هذا الفحص استمر في معالجته بكل نشاط واهتمام ..
    وأخيراً نجح في انتشال ذلك المريض من هذه الإغماءة التي استمرت عدة ساعات حتى يئس من حوله من حياته.
    وكان الدكتور قد أمر جميع الممرضين والخدم في المستشفى أن يكتموا خبر الابن عن أخته لكي لا تتبع الصدمة بمثلها، وحسنا فعل. فالأخت لم تعترف بما وقع منه، بل زعمت أن رجلا غريباً قد دخل عليها وطلب منها مفاتيح الخزانة .. فحاولت طرده وهددته بأن تصيح وتطلب النجدة من الجيران، فهددها بالقتل مرة ثانية فأسرعت إلى الهاتف فبادرها بالمسدس وأطلق عليها الرصاص فسقطت ولا تعلم بعد ذلك ماذا صنع؟ .. فقد أغمى عليها بعد أن أصابها الرصاص.
    وبعد أن انتهى الدكتور من إجراء كل ما يلزم للمريض خرج من عنده ويده على فم جيبه وسار مسرعاً إلى مكتبه مسرعاً وأغلق الباب عليه ليتمكن من قراءة هذا الكتاب وجلس على المكتب وأخرج الكتاب والمسدس .. ونشر الكتاب وأخذ يقرأ فأبصر فيه قتيلاً آخر من غير الأسرة ولكن تردد في أن يكون هذا الفتى (حامد) هو القاتل لأخته وهذا الصديق. وبعد أن أتمه وظهرت له في هذا الكتاب شخصية أخرى هي الضحية الثانية لهذه الجريمة بدأ يفكر في العثور على تلك الضحية عله يستطيع إنقاذها كما أنقذ الضحية الأولى (فاطمة).
    ذهب الدكتور حمدي إلى (حامد) عله يستطيع أن يحصل منه على بعض المعلومات التي تساعده على كشف تلك الخطة التي تسببت في هذه الكارثة التي أحاطت بهذه الأسرة. ولكن الدكتور وجد حامداً مازال على حاله .. يهدأ تارة .. ويثور تارة أخرى ويصيح بأعلى صوته:
    ـ أختي.. صديقي...
    ثم ينظر إلى من حوله ويصيح بهم:
    ـ أنا مجنون دعوني!
    وخرج الدكتور من غرفة المريض وكلماته تتردد في أذنيه (أختي .. صديقي) .. واتجه إلى مكتبه ويده اليمنى أمام عينه ينظر فيها وكأنه يريد أن يقرأ فيها الحل لهذه المشكلة، ولكنه وصل المكتب ولم يقرأ فيها شيئاً، فجلس على مكتبه وهو غارق في دوامة من التفكير ووضع جبهته في وسط كفه، ويده اليسرى على طرف المكتب، وبقي على هذه الحالة خمس دقائق ثم رفع رأسه وقال للممرضة:
    ـ سأذهب إلى المريضة فاطمة.
    وذهب مسرعاً إليها في غرفتها .. ولما دخل قالت له في تكلف وحياء:
    ـ صباح الخير يا دكتور.
    فرد التحية بأطيب منها .. ثم تناول كرسياً فوضعه قريباً من طرف السرير، وجلس عليه ووجهه إلى الباب، وقال:
    ـ فاطمة!، أريد أن أسألك ولكن لا تكذبي عليَّ .. وقبل أن أسألك يجب أن تعرفي أن أمرك وأمر أخيك أمسى هو الشغل الشاغل لتفكيري .. فلا تكتمي شيئاً.
    قالت:
    ـ ماذا تريد مني يا دكتور؟!
    قال:
    ـ اقسمي لي بأن تخبريني بما أسألك عنه، وأنا أقسم لك بأني لن أفشي ذلك لأحد من الناس.
    قالت:
    ـ سل يا دكتور فلن أكتمك شيئاً.
    قال:
    ـ هل كان لأخيك حامد صديق خاص؟ وهل كان كثير الزيارة لكم؟ وهل كان يأتي في غيبة حامد؟
    قالت:
    ـ نعم كان لأخي صديق خاص كثير الزيارة، ولكنه لم يكن يأتي في غيبة حامد.
    ـ وما اسمه؟
    ـ اسمه : طارق.
    ـ وأين هو الآن؟
    ـ لست أدري، فقد انقطعت زياراته لنا منذ شهر.
    قال الدكتور:
    ـ سأسألك حقاً الآن عما أريد؟
    ـ وماذا تريد؟
    ـ هل كان بينك وبين هذا صلة؟
    ـ وهل هذا معقول؟
    ـ لا تكتمي عني شيئاً. فوالله لن يطلع على ذلك غيري.
    وأخذ يلح عليها فبكت بكاء شديداً. وكان ذلك عند الدكتور حمدي اعترافاً بالجريمة .. ولكنه لم يعرف أن مجرد المقابلة في هذه البلاد بين المرأة ورجل ليس بمحرم لها تعتبر جريمة في نظر ذلك المجتمع تستحق البكاء عليها خاصة من تلك الفتاة التي لم تتزوج بعد.
    وخرج الدكتور وهو يقول في نفسه "إنها دموع الاعتراف"، ولكن هل سأجد هذا الشاب الذي جنى على تلك الفتاة المسكينة؟
    ورجع إلى مكتبه فأخذ سماعة الهاتف واتصل بمدير الشرطة محاولاً معرفة منزل طارق.
    وبعد أن وضع السماعة بدت له فكرة أخرى. فاتجه إلى أحد المكاتب في المستشفى فاستعرض أسماء المرضى الذين راجعوا المستشفى في هذا الأسبوع فلم يجد اسمه فركب سيارته واتجه إلى عيادات الأطباء فسأل فيها الواحدة تلو الأخرى فلم يجد شيئاً ورجع من ذلك كله صفر اليدين فاضطر بعد ذلك إلى اللجوء إلى الأطباء الخصوصيين، بعد استقصاء الأخبار من العيادات الحكومية وبخاصة عيادات الجراحة .. فبدأ بطبيب جراح وكان صديقاً له فسأله عن اسم ذلك الشاب فقال له:
    ـ لم أسمع هذا الاسم مطلقاً ولكن هناك شاب أتى منذ ثلاثة أيام وفي عضده رصاصتان وثالثة في فخذه فأخرجتهن منه واسمه أحمد.
    قال حمدي:
    ـ ومتى يأتي إليك؟
    قال:
    ـ بعد قليل.
    فجلس حمدي ينتظره ..
    وبعد قليل أتي الشاب فسلم عليه حمدي سلام من يعرفه وبعد أن استقر به المجلس ودار بينهم حديث قصير حول النظام العلمي في هذه المدينة .. أخرج حمدي من جيبه ورقة وقدمها إلى الشاب. وقال له: أرجو أن تكتب لي كتاباً أريد أن أرفعه إلى جلالة الملك، فاعتذر بأنه لا يجيد القراءة والكتابة. فأسف حمدي على ذلك الوقت الذي ضيعه في انتظاره والجلوس معه ثم رد الورقة إلى جيبه وهو يقول له بلسان لا يكاد أن يبين:
    ـ معذرة كنت أتوقع ذلك.
    ثم قام إلى سيارته ليرجع إلى فاطمة علها تستطيع مساعدته بشيء آخر، أو لعل حامداً قد رجع إلى حالته الطبيعية فيكشف له عن سر هذا الكتاب وذلك المسدس.
    ولكن حامداً لم يعد إلى حالته الطبيعية ومادام على هذه الحال فلا يمكن الوثوق بما يقول.
    فرجع حمدي إلى فاطمة لعله يجد عندها ما ينير له السبيل في تتبع خيوط تلك الشبكة التي اصطادت هذه الأسرة المنكوبة. ومن يدري إن كان الله قد قدر خلاص بقيتها على يده واتجه إلى غرفتها.
    فلما دنا منها رأى امرأة طويلة القامة محكمة اللباس لا يمكن لأي إنسان أن يرى منها شيئاً تخرج من عند فاطمة وتتقدم إلى خارج المستشفى بخطوات سريعة .. فلم يعرها بالا، بل تقدم إلى باب الغرفة ففتحه ودخل فإذا هو بفاطمة تبكي فسألها عن سبب بكائها فقالت له إن تلك المرأة أخبرتها بأن أخيها مريض وإنه الآن في المستشفى.
    قال الدكتور:
    ـ نعم، هو مريض ولكن مرضه غير خطير.
    فقالت:
    ـ إنها تقول إن مرضه في عقله.
    فقال:
    ـ وهل تعرفين هذه المرأة؟
    قالت:
    ـ لا .. يا دكتور. ولكنها سألتني عنك فأخبرتها إنك القائم بمعالجتي فدعت لك.
    ثم ردت فاطمة يدها إلى الوسادة التي تحت رأسها وأخرجت كتاباً مغلقاً وقدمته إلى الدكتور وقالت له:
    ـ إنها أعطتني لك هذا الكتاب.
    فتناوله ووضعه في جيبه ثم جلس على الكرسي وقال:
    ـ يا فاطمة، أريد منك أن تساعديني على البحث عن القاتل.
    قالت:
    ـ القاتل؟!
    قال:
    ـ نعم.
    فانفجرت في البكاء فأخذ يلاطفها في الحديث ويقول لها:
    ـ لا تبكي، فالتوبة تمحو المعصية.
    قالت:
    ـ وأي معصية تقصدها؟
    قال:
    ـ إني سألتك بالأمس وقلت لك هل حصل بينك وبين طارق اتصال. فبكيت فأيقنت أن ذلك اعتراف منك؟
    قالت:
    ـ لا يا دكتور .. لم أقابله إلا مرتين ولم أجلس فيهما بل كنت واقفة .. أما هو فكان جالساً على كرسيه .. وكانت المقابلتان في المكتب الذي يذاكر فيه مع أخي.
    قال:
    ـ طيب، إذن لم يمس أحدكما الآخر.
    قالت:
    ـ ولا بالمصافحة.
    فقال:
    ـ الحمد لله ..ولكن هل يوجد لديك من كتابته شيء؟
    قالت:
    ـ لا، ولكن عندي له صورة وهو جالس مع أخي في المكتب.
    قال:
    ـ ومن أين أتتك؟
    قالت:
    ـ سرقتها من ملابس أخي.
    قال: وأين هي؟!، ألا يمكنني رؤيتها؟!
    قالت:
    ـ إنها في حقيبة ملابسي. ولكن ماذا تريد منها .. إنه لم يرتكب جريمة قط.
    وأخبرته بما جرى بينها وبينه في المقابلتين، فقال:
    ـ إن كنت صادقة فهو شاب نبيل حقاً.
    فأقسمت له على صدق ما قالته، فقال:
    ـ ولكن لابد من معرفته والاتصال به. أرجو أن تمنحيني هذه الصورة.
    قالت:
    ـ على شرط أن تردها لي بعد ذلك.
    قال:
    ـ إني أعدك صادقاً بردها.
    فقالت:
    ـ إذن سأرسل بإحضار حقيبة ملابسي إليَّ، ومتى جاءت فسوف تراها.
    فشكرها،وقال:
    ـ أرجو السرعة.
    (يتبع)


  20. #20
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: نشر رواية سعودية بعد خمسين سنة من كتابتها

    ثم خرج .. وفي أثناء سيره إلى المكتب أدخل يده في جيبه فأحس بالكتاب الذي أعطته إياه فأخرجه، ولما فتحه وجد فيه هذه العبارة «اخلص في معالجتها وسوف أجزيك بأحسن الجزاء» .. وقابل تلك الورقة بذلك الكتاب الذي وجده في جيب حامد .. فوجد الكتابة واحدة، وعرف أنها من كتابة شخص واحد!
    فانطلق إلى فاطمة وقال لها:
    ـ إذا أتتك هذه المرأة أخبريني قبل أن تذهب.
    قالت:
    ـ إنها لن تعود إلا بعد خروجي من المستشفى.
    قال:
    ـ وهل حدثتك عن طارق؟!!
    فقالت:
    ـ يا دكتور ليس هناك من يعرف ما بيننا سواك!
    فقال:
    ـ ليست تلك امرأة، وإنما هو طارق .. لقد عرفت ذلك من كتابته.
    قالت:
    ـ لو كان هو لأخبرني.
    قال:
    ـ المهم، لابد من حضور الصورة سريعاً .. سأبعث خادماً في سيارتي ليأتي بها .. فصفي له لون الحقيبة وفي أي غرفة هي.
    قالت:
    ـ إنها حمراء وهي في غرفتي تحت السرير.
    وخرج الدكتور، وبعد قليل جاء الخادم يحمل الحقيبة ووضعها بين يدي فاطمة ففتحتها ويداها ترتعشان ثم أمرت الخادم بأن يدعو الدكتور .. فجاء مسرعاً .. ولما دخل عليها رآها تقبلها وتقول:
    ـ لن يفرق بيننا إلا الموت.
    ثم دفعتها إلى الدكتور وهي تبكي، فنظر فيها نظرة فاحصة. فأبصر الشاب الذي رآه عند صديقه الجراح فانطلق مسرعاً إليه، ولكنه رجع من عنده صفر اليدين. فقد قال الشاب للجراح إنه سوف يسافر بعد أن تزود منه بالأدوية اللازمة.
    وفي اليوم التالي بينما كان حمدي يسير في المستشفى ذهاباًَ وإياباً وهو يفكر في أمر ذلك الشاب إذا هو بإحدى الممرضات قد أقبلت وفي يدها شيء ملفوف في لفافة خضراء وأحس بريبة من ذلك الشيء فترك الممرضة تسير بما معها وتبعها ببصره حتى رآها تدخل غرفة فاطمة .. فانتظر حتى خرجت الممرضة ثم دخل على فاطمة وقال لها:
    ـ ما هذا الذي أتاك؟
    قالت:
    ـ هو ما ترى!!
    ورفعت له منديلاً فيه زجاجتان من العطر الفاخر كتب على إحداهما هدية إلى سيدي الدكتور حمدي وعلى الأخرى هدية إلى سيدتي ... وثلاث نقط بعد ذلك، كما وجد معها منديلاً حريرياً حرّق بالنار في جميع جهاته، ومعه صندوق من العنب كتب عليه هذه هديتي من والدتي وأنا بدوري أهديها لكما.
    فابتسم الدكتور، وقال:
    ـ ينبغي أن لا يعلم أحد عن ذلك شيئاً في الوقت الحاضر.
    ثم أخذ الزجاجة التي عليها اسم فاطمة وأخذ المنديل وقال:
    ـ سأحفظه لك مع الصورة. وأما الصندوق فخذي منه ما شئت ودعي الباقي تحت السرير.
    وسحب منه الورقة التي كتبت فيها الهدية. ولما رفع المنديل سقط منه ظرف فأخذه .. وبعد ما فتحه قال:
    ـ ما أعظم إخلاصه لك!
    ثم أخرج منه نقوداً فعدها ألفاً، وقال:
    ـ أشهدك بأنها أمانة عندي له، ثم ردها في ظرفها وكتب عليها "طارق الشاب النبيل" .. فرفعت رأسها إليه وقالت:
    ـ وهل هذا من طارق؟!!
    فقال:
    ـ نعم.
    فسبقت يدها إلى القارورة وأخذتها، وصارت تقبلها حتى خشي الدكتور عليها من الإفراط في البكاء، فقال لها:
    ـ انظري إلى هذا العنب!
    فنزلت من السرير وانهمكت في الأكل منه، فكان في ذلك كمن يستجير من الرمضاء بالنار. فأسرع في سحب الصندوق من بين يديها، ونادى الخادم فأمره بأن يذهب به إلى مكتبه، وأخذ القارورة من يدها وقال:
    ـ سأحتفظ بها مع المنديل والصورة لأقدمهن لكما في ليلة الزفاف.
    فغطى وجهها غطاءٌ كثيفٌ من الخجل، وقالت في صوت متقطع:
    ـ دكتور!، لقد تجاوزت الحد معك، كان يجب أن لا أبكي أمامك ولا آكل ولا أصارحك كل المصارحة!
    فقال:
    ـ بل يجب أن تعتبريني أقرب قريب لك.
    فقالت:
    ـ لقد صارحتك بأشياء لم أصارح بها أمي ولا أبي!
    فقال:
    ـ ثقي بأنني أحرص عليك من كل إنسان. لا تسأليني عن سر اهتمامي بك. فسوف أخبرك به حينما أؤدي الأمانة التي اؤتمنت عليها .. إنها حبك لطارق، وحبه لك، ولسوف أسعى إلى تحقيق ذلك ما استطعتُ إليه سبيلا!
    وقبل أن يتم كلامه نظر إليها ورآها في موقف حرج فقال:
    ـ سأذهب إلى الممرضة التي أخذت منه اللفافة لتخبرني به إذا جاء وسألقي عليه القبض.
    وصحبت كلمةَ القبضِ ضحكةٌ كبيرةٌ لم تسمعها منه قبل ذلك.
    ثم خرج واتجه إلى حامد فدخل عليه وقال له:
    ـ إن أختك وصديقك سيزورانك غداً.
    فنظر إليه نظرة كلها ذعر وخوف وأمل ورجاء، وقال:
    ـ أختي وطارق؟!
    فقال الدكتور:
    ـ نعم!
    فأخذته هزة شديدة أغمى عليه بعدها .. وكانت تلك الإغماءة بدء رجوع حامد إلى حالته الطبيعية.
    وبعد أن أفاق قدم له الدكتور العنب وقال:
    ـ إن طارقاً بعث به إلينا جميعاً. ثم قدم له الورقة التي كانت مع الصندوق وقال له:
    ـ هل تعرف هذه الكتابة؟!
    فنظر إليها بعين لا تكاد تستقر عليها حتى تركها. ثم رفع رأسه إلى الدكتور وهو يقول:
    ـ إنها كتابة طارق .. ما أوفاه من صديق! لم ينسني من هدية أمه التي كان يعطيني منها كلما جاءت .. حتى بعد أن اقترفت في حقه جريمة ما كنت أظنه يغفرها لي ولن أظن ذلك!
    فقال الدكتور:
    ـ وأي جريمة؟
    فقال:
    ـ ليس الآن وقتها، فدعني.
    ثم خرج الدكتور وذهب إلى الممرضة وقال لها:
    ـ إذا أتى الشاب الذي أعطاك اللفافة لفاطمة فخبريني قبل أن تأخذي ما معه.
    ولما كان الغد جاء طارق يحمل لفافة في إبطه فرأته الممرضة قبل أن يراها. فانطلقت إلى الدكتور حمدي لتخبره بمجيء الشاب. ولما أخبرته نهض من مقعده سريعاً وكأنما سر بقدوم أقرب قريب طال به السفر، وقال للممرضة وهو يتجه إلى الباب:
    ـ تأني في الذهاب إليه قليلا.
    ثم خرج من أحد أبواب المستشفى واتجه إلى الباب الذي كان طارق واقفاً خارجه .. ورأى طارقاً واقفاً وعيناه متجهتان إلى داخل المستشفى، فأسرع في السير إليه وكأنه يخشى أن يفر من بين يديه ولو رآه طارق لهرب ولكن أنى له أن يراه وليس خارج المستشفى إلا جسمه .. أما عقله ففي الغرفة أمام فاطمة، وأما بصره فقد امتد إلى داخل المستشفى ليبحث عن الممرضة التي كان يجزل لها العطاء لحملها ما يبعث به إلى فاطمة في أمانة وإخلاص.
    وصل الدكتور حمدي إلى طارق فقبض على عضديه قبل أن ينتبه له فالتفت مذعوراً وقال في دهشة واضطراب:
    ـ الدكتور حمدي؟
    ـ نعم.
    وسأله الدكتور حمدي:
    ـ لماذا أنت واقف هنا؟!
    قال:
    ـ أنتظر صديقاً لي دخل المستشفى.
    قال حمدي:
    ـ تفضل معي أنا أجعل هنا من ينتظر صديقك ويأتي به إلينا.
    فقال:
    ـ شكراً يا دكتور، لا أستطيع الذهاب معك لأن ورائي مشاغل كثيرة.
    فقال الدكتور حمدي:
    ـ لا تفكر أني سأتركك تذهب قبل أن تشرب معي الشاي في مكتبي هنا داخل المستشفى.
    وكان الدكتور حمدي مازال قابضاً على عضده، فجذبه داخل المستشفى .. واستحي طارق، وترك المعارضة وسار معه إلى حيث شاء وذهب به الدكتور إلى غرفة خالية من كل شيء إلا من بعض المقاعد، فجلسا فيها ثم نادى حمدي خادماً من خدام المستشفى فأمره أن يأتي لهما بشاي .. وساد صمت طويل لم ينقذهما منه إلا الخادم حين أتى بالشاي.
    وكان طارق في أثناء هذا السكوت قد سبح في بحر من التكهنات عما دعاه الدكتور حمدي من أجله.
    أما الدكتور حمدي فكان يلاحظ طارقاً طوال ذلك الصمت، وكان يتلذذ بقراءة أفكاره على صفحة وجهه الذي أخذ يتلون بتلوَّن الأفكار التي كان يفكر فيها تلك الساعة. وأحضر الخادم الشاي فقال له الدكتور:
    ـ ضعه وانصرف.
    ثم قام وأغلق الباب .. ثم اتجه إلى حيث وضع الخادم الشاي وتناوله .. ثم اتجه إلى طارق وقال وهو يسكب الشاي في الفنجان:
    ـ أشكرك على هديتك ولكن هناك شيء واحد منها يضايقني.
    تنبه طارق عند سماع هذا الكلام وأخذ يحدث نفسه بهذا الحديث:
    ـ من هذا المشؤوم الذي أخبره بي؟!
    وأخذ يستعرض أسماء من يعرفهم الواحد تلو الآخر. ولكن الدكتور لم يتركه يطيل التفكير بل انتشله منه قائلاً:
    ـ لا داعي لبقاء الاسم المستعار.
    فرفع طارق رأسه وقال:
    ـ العفو يا سيدي! .. ولكن ما هو ذلك الشيء الذي يضايقك؟
    فقال الدكتور:
    ـ إذا أنت وعدتني بإزالته أخبرتك به.
    قال طارق:
    ـ إني أعدك بذلك.
    ورفع الدكتور الفنجان ورشف منه قليلاً ثم نظر إلى طارق وقال:
    ـ بالله عليك لماذا تستعير أمامي اسم أحمد .. إني أعرفك .. إنك طارق؛ صديق حامد، وحبيب فاطمة.
    فقال طارق:
    ـ أبدا يا دكتور ..إن الذي قال لك هذا واهم بلا شك.
    فرد عليه:
    ـ لا تحاول الإنكار، فقد أودعتني فاطمة ذلك السر الذي كان بينكما بعد أن عاهدتها على أن لا أفشيه لأحد غيرك.
    فتلفت طارق يميناً وشمالاً، ثم أطرق برأسه، وكان يريد أن يبحث في الأرض عن كلام يرد به على الدكتور ولكن حمدي كفاه عناء البحث فقدم له صورته ومعها الكتاب الذي كتبه لحامد حينما أراد قتله فبهت طارق ولم ير بُداً من الاعتراف بالواقع وقال:
    ـ وكيف حالها؟!
    فقال الدكتور حمدي:
    ـ إنها بخير، ولكنها مشغولة بك وبمستقبلك.
    فقال طارق:
    ـ وما يعنيها من ذلك؟!
    فقال له:
    ـ إنها لا تريد الزواج من غيرك، فهل أنت مثلها لا تريد الزواج من غيرها؟
    فنظر طارق إلى الدكتور حمدي وعلى وجهه سحابة من الخجل حاول إخفاءها بقوله:
    ـ ولكن هل هذا ممكن؟! لا أظن ذلك.
    ثم انحدرت من عينه دمعة حارة على خده الذي أذبله الحزن.
    ولم يكن حمدي في حاجة إلى تلك الدمعة لتستميل عاطفته نحوهما. ومع ذلك فقد أحس بها تلسع قلبه لسعاً شديداً يكاد يذيب حشاشته .. فمدّ يده إلى طارق وقال:
    ـ لقد أقسمت أمام فاطمة .. وها أنا الآن أقسم أمامك على أن لا أترككما حتى تتزوجا!
    ثم أخذ بيده وقال:
    ـ سأذهب بك الآن إلى فاطمة، ثم إلى حامد!
    فقال: ولكنه لا يريد رؤيتي.
    (يتبع)


+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •