فقال الدكتور حمدي:
ـ إنك واهم، لقد أعطيته الأمس من العنب الذي بعثت به إلينا .. وقلت له إن طارقاً بعث لك بهذا، وقلت إنه سيزورك وفاطمة غداً. فأكب على العنب يبكي حتى أغرقه بدموعه. وكان يقول وهو يبكي: إنه لكريم، بل إنه لهو الصديق المثالي الذي يجزي على السيئة بالحسنة. لقد كان يقدم لي مثل هذا في كل عام قبل أن أغدر به. وها هو الآن يقدم لي بعدما فعلت معه ما فعلت كم أنا غبي حقاً .. فما هي تلك الجريمة التي أجرمها في حقك؟ إنني لا أكاد أصدق أنه هو الذي أطلق على أخته الرصاص وأنه هو الذي كان يريد قتلك .. لقد وجدت الكتاب الذي قرأته منذ لحظات في جيبه حينما كنت أحاول إسعافه من وهدته التي ما كنا نظن أنه ينجو منها.
قال طارق:
ـ يا دكتور، إنه لم يجرم في حق وحدي، بل لقد جرَّ على نفسه وعلى جميع أسرته عاراً، كانوا منه أبرياء. لقد قذفني وقذف أخته ثم حاول قتلنا، فهل بعد هذا من جريمة؟ وهل ترك لي من تلك الصداقة التي كنت أجلها في نفسي وأقدس رباطها؟ هل ترك لي من ذلك شيئاً يبيح لي زيارته؟ لا يا دكتور لن أزوره ولن أقف أمامه ليطلب مني الصفح والمسامحة .. أما فاطمة، فإن اتهامه لي يمنعني من زيارتها .. وأنا آسف على ذلك، ولكن ماذا أعمل؟ .. إن عدم زيارتي لها محافظة مني على كرامتنا وشرفنا وصيانة لهما عن أن تلوكهما ألسنة الأشرار. والذين لا يقيمون وزناً للكلام أولئك الذين لا يميزون الصدق من الكذب، بل إن عمل هذا الأحمق يجعل في نفس العاقل ريبة من هذه التهمة التي ما هي إلا جريمة سوء الظن. أراك تنظر وكأنك تريد أن تعيد الرجاء في زيارتهما. وإنك لعزيز عليَّ. ويجب أن لا أرد لك طلباً ولكن يا دكتور يجب أن تعرف أن لا فائدة في محاولتك. ويكفيك مني أنني اعترفت لك بكل شيء حتى حبي فاطمة.
كان الدكتور حمدي مطرقاً رأسه أثناء كلام طارق فلما انتهى من الكلام رفع رأسه ليقول شيئاً. فابتدره طارق قائلاً:
ـ غداً حين أزورك نعيد الحديث في هذا الموضوع فربما طرأ ما يغير نظرة أحدنا.
وجاءت الممرضة وهي تقول:
ـ دكتور إن حامد يصيح صيحات غريبة.
فانطلق إليه، ولما دخل عليه وجده ينتفض انتفاضة الطير المذبوح وهو يقول بصوت متهدج:
ـ أختي.. صديقي ماتا... لا بل قتلتهما أنا بيدي فلأمت جزعاً لموتهما.
وحاول الدكتور أن يقنعه بعدم موتهما. فأتى بأخته ولما رآها قال:
ـ لا، لا ليست هي ..إنها ميتة فلا تخدعوني!
وقبيل الفجر .. بينما كان الدكتور يجلس بجانبه على الكرسي سكت فجأة .. فنظر الدكتور إليه فرأى بصره شاخصاً وكأنه يريد أن يخترق السقف ليصعد إلى السماء .. فأخذ في فحصه ولكنه علم أن لا فائدة في الفحص ولا في العلاج. فالمسكين يعالج سكرات الموت فبقي واقفاً ليشيع تلك الروح التي كانت السبب في تلك الكارثة وعند آذان الصبح صعدت روح حامد إلى ربها وتركت جسمه على سريره ليتولى أهل الأرض دفنه.
واتجه الدكتور حمدي إلى غرفة فاطمة وكان قد أمر الممرضين أن لا يخبروها بموت أخيها. وبعد أن سأل فاطمة عن حالها خرج وعيناه تنظران إلى ناحية باب المستشفى عله يرى طارقاً، ولكن طارقاً لن يأتي في مثل هذه الساعة المبكرة، فذهب إلى عيادته بعد أن يئس من مجيء طارق.
وكانت عيادته دائماً ممتلئة بالمرضى، لأن إخلاصه في عمله جعل المرضى يتهافتون عليه تهافت الطير الجائعة على الحب المنثور.
مضت ساعات وهو يواصل عمله في جد ونشاط. وقد شغله ذلك الإخلاص عن طارق.
ولما جاء دور آخر مريض مراجع إذا هو بالممرضة تقول:
ـ إن طارقاً جاء وسأل عنك فقيل له إنك مشغول بالمراجعين.
فقال:
ـ وأين ذهب؟
قالت: لا أدري إلا أنه اتجه إلى باب المستشفى الذي كان واقفاً به بالأمس.
فانطلق الدكتور مسرعاً .. ولما خرج من الباب رآه من بعيد يركب سيارة أجرة فصاح به منادياً ولكن طارقاً لم يسمعه، فذهب الدكتور إلى سيارته، وانطلق بها كالسهم إثر السيارة التي ركب فيها طارق ومازال بها حتى تمكن من إيقافها بواسطة الاعتراض أمامها.
ووقفت السيارة، فنزل حمدي من سيارته فاستقبله سائق السيارة، وأمسك به وأخذ يؤنبه على اعتراضه في طريقه. وكان طارق يعرف ذلك السائق فتوسل إليه أن يسمح عنه فلم يرد شفاعته بل تركه وانصرف إلى سيارته. أما حمدي وطارق فاتجها إلى سيارة حمدي، ورجعا إلى المستشفى. وفي أثناء الطريق قال طارق للدكتور:
ـ لماذا تعجلت؟
ـ لقد كان في نيتي أن أعود إليك بعدما تنتهي من عملك.
فالتفت إليه الدكتور وقال:
ـ إن المسألة لا تحتمل الانتظار. لقد مات حامد وبقي لزاماً عليك أن تذهب لتعزي فاطمة. إنها لم تعلم إلى الآن بموت أخيها. لقد كتمنا ذلك عنها خوفاً من أن يؤثر على صحتها وهي لم تبرأ بعد من جروحها.
قال طارق:
ـ أخشى أن يكون أحد قد أخبرها. ولئن كان ذلك فإن زيارتي لها ستكون مبعث حزن جديد لها.
فقال الدكتور:
ـ اطمئن فإن أحداً لم يعلم بالخبر أساساً إلا أنا وأنت.
اتجه حمدي إلى فاطمة فوجدها تبكي. وقد تذكرت والديها فقال لها:
ـ نحن جميعاً بمثابة الوالدين. أما الإخوان الغلاظ فإن كل صديق يغني عنهم.
قالت:
ـ من تعني يا دكتور؟
قال:
ـ أعني مثل حامد، ذلك الذي أطاع شيطان الغضب واسترسل معه في اتهام أخته بأكبر تهمة توجه إلى الفتاة النزيهة .. وليته وقف عند هذا الحد، بل وجه إليك رصاص مسدسه فدفنه في جسمك الطاهر البريء.
قالت:
ـ دعه يا دكتور، فإن له ربا يحاسبه على ذلك ويجزيه بما يستحق.
فقال وهو يضغط على إحدى يديه بالأخرى:
ـ سامحيه يا فاطمة، فقد لقي جزاءه ممن لا يظلم مثقال حبة خردل.
قالت وهي تنظر إليه:
ـ ماذا تقول يا دكتور؟
قال:
ـ لقد مات حامد.
ثم قام من عندها وتركها مكبة على وسادتها تبكي .. وخرج وهو يحس أنه قد ألقى عن ظهره حملاً ثقيلا كان ينقضه، ثم بعث إليها بعض الممرضات ليحاولن التخفيف عنها، وكان لا يغيب عنها أكثر من ساعتين.
جاء إليها في صباح اليوم الثالث فوجدها جالسة على السرير وقد وضعت رأسها على يدها فناداها:
ـ فاطمة..
فانتبهت من تفكيرها على صوته ودهشت لمجيئه هذا الوقت لأنه لم تكن من عادته أن يأتي قبل الإفطار.
(يتبع)
المفضلات